سيره معاذ لن جبل رضى الله عنه
هل سبق وقيل لك أحبك؟؟
يا ترى ما شعورك لو كان هذا القائل رجل له مكانة وجاه ومنصب وذو شأن وشأو وقال لك يا فلان أني أحبك؟؟
أتوقع أنك ستطرب لكلامه ؛ وتفرح لعباراته وترقص على نغماته
[أرى استبدال هذه العبارة في مثل هذا المقام]
فكيف يكون حالك لو كان القائل رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى بك وقال لك يا فلان أني أحبك ؟؟
أظن لن تجد العبارات للإعراب عما ينتابك من شعور الفرح والسرور؛ وقد علتك مشاعر الدهشة والعجب ؛ وتخاف أن تصدق الخبر فيسارع لسانك متسائلا مستفهما مستفسرا ..يا رسول الله أتقصدني أنا ؟؟؟؟
فيقول نعم يا فلان أني أحبك.....حينها لا تتمالك نفسك إلى [إلا] بالهوي بسجدة شكر لله عزوجل
فهل بعد هذه المرتبة من مرْتبة ؟ وهل من أعظم منها ؟ أنْ يُحِبَّك رسول الله ، ورسول الله لا ينْطق عن الهوى ،.. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء؛. قوم اختارهم الله عزوجل لصحبة نبيه والتعلم على يديه ؛ وأكرمهم بنصرة دينه والدب عنه.....بل مما زادهم شرفا محبة النبي صلى الله عليه وسل لهم ..قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يا معاذ، والله إنِّي لأحبُّك، والله إنِّي لأحبُّك،...) صحيح أنها كلمة من حرفين! لكن معانيها عظيمة ومدلولاتها جزلة قوية، كما قيل : “ليس الشأن أن تُحب إنما الشأن أن تُحَب“.
معاذ بن جبل -رضي الله عنه- الأنصاري الخزرجي المدني البدري أسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة، وشهد العقبة مع السبعين وبدرًا والمشاهد كلها مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ، كانت له منزلة علية عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخصه بمزيد قرب فكان كان- صلى الله عليه وسلم- يردفه وراءه.. . وبعثه إلى اليمنبعد غزوة تبوكمبلغا عنه؛ داعيا ؛ومعلما؛، ومفقها ، ومفتيا ، وقاضيا وحاكما؛ وشيعه ماشيًا في مخرجه وهو راكب. وقال له حين ودَّعه: " حفظك الله من بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك ومن فوقك ومن تحتك، ودرأ عنك شرور الجن والإنس"..وعاد في خلافة أبي بكر وولاه عمر على الشام بعد أبي عبيدة.
- معاذ بن جبل -رضي الله عنه- من علماء الأنصار و كان ممن يفتون على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ..لشهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- له بالعلم والفقه والدين .
وروي فيه أنه أعلم الأمة بالحلال والحرام ، وأنه يحشر أمام العلماء برتوة - أي بخطوة - .
عن أنس قال: قال رسول الله: "- - صلى الله عليه وسلم- :" أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل" .
-عن عمر بن الخطاب مرفوعا: (يأتي معاذ بين يدي العلماء رتوة)
-خَطَبَ عُمَرُ النَّاسَ بِالجَابِيَةِ، فَقَالَ: مَنْ أَرَادَ الفِقْهَ، فَلْيَأْتِ مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ (أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.)
-وخصه رسول الله بشيء من العلم.."فَقَالَ: يَا مُعَاذُ! أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللّهِ عَلَى الْعِبَادِ وما حقُّ العبادِ عَلَى الله؟ قَالَ قُلْتُ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «فَإِنَّ حَقَّ اللّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوا اللّهِ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً. وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً» قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ! أَفَلاَ أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: «لاَ تُبَشِّرْهُمْ. فَيَتَّكِلُوا».
خصه بتلك الكلمات لما علم منه من قوة إيمان و توكل على الله وأنه ليس ممن يتكلون عليها " قال ابن حجر:" وقد سمعها معاذ فلم يزدد إلا اجتهادا في العمل وخشية الله عز وجل، فأما من لم يبلغ منزلته فلا يؤمن أن يقصر اتكالا على ظاهر هذا الخبر، ...." الفتح
وكان رضي الله عنه ذا خلق حسن ومحب لإخوانه مدافع عن أعراضهم فلما تخلف كعب بن مالك عن غزوة توبك [تبوك] قال رجل من بني سَلمَة: حَبسه يَا رَسُول الله برْدَاهُ وَالنَّظَر فِي عطفيه..فَقَالَ لَهُ معَاذ بن جبل: بئْسَمَا قلت وَالله يَا رَسُول الله مَا علمنَا عَلَيْهِ إِلَّا خيرا..
-ومما زاد معاذا شرفا ورفعا ما حباه الله عزوجل من مزيد عناية بكتاب الله واهتمامه به تلاوة و حفظا وتدبرا وتفهما وعملا وتطبيقا لأوامره واجتنابا لنواهيه ووقوفا عند حدوده وحذرا من زواجره ..حتى صار يعرف به مع نفر من الصحابة ولذلك شهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بذلك ؛وتلك تزكية منه - صلى الله عليه وسلم- لهم ؛ عن عبد الله بن عمرو قال سمعت :رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: خذوا القرآن من أربعة من ابن مسعود وأبي ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة ( رضي الله عنهم
وعن أَنَسُ بنُ مَالِكٍ:" جَمَعَ القُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَرْبَعَةٌ، كُلُّهُم مِنَ الأَنْصَارِ: أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ، وَمُعَاذُ بنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ، أَحَدُ عُمُوْمَتِي ".
وكانت له -رضي الله عنه- عناية ببيان قراءات القران
فقد أخرج الْحَاكِم وَصَححهُ وَالطَّبَرَانِيّ وَابْن مرْدَوَيْه عَن عبد الرَّحْمَن بن غنم قَالَ: سَأَلت معَاذ بن جبل عَن قَول الحواريين {هَل يَسْتَطِيع رَبك} أَو تَسْتَطِيع رَبك فَقَالَ أَقْرَأَنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (هَل تَسْتَطِيع رَبك) بِالتَّاءِ
ولم يكتف معاذ بحفظ القران والاعتناء بحروفه وترتيله وتجويده بل كانت له عناية بتعلم معانيه و أحكامه وتعليمه للناس
ففي قَوْله {هدى لِلْمُتقين} .َ فقد أخرج ابْن أبي حَاتِم عَن معَاذ بن جبل قَالَ: يُحبَسُ النَّاس يَوْم الْقِيَامَة بَقِيع وَاحِد فينادي منادٍ: أَيْن المتقون فَيقومُونَ فِي كنف الرَّحْمَن لَا يحتجب الله مِنْهُم وَلَا يسْتَتر.
وفي قوله تعالى : {فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها} فقد أخرج ابن أبي حاتم. عَن معَاذ بن جبل قَالَ:}قال: {لا انفصام لها}يعني: لا انقطاع لها- مرتين- دون دخول الجنة)
وفي قَوْله تَعَالَى: {وَفتحت أَبْوَابهَا}
-أخرج أَحْمد وَالْبَزَّار عَن معَاذ بن جبل رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَفَاتِيح الْجنَّة شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله
وكذلك أهل القران ؛ اعتنوا بكلام ربهم فظهرت آثاره عليهم ؛ ظهرت آثار علمهم وعملهم بكتاب الله؛ من محكم منطق وحُجَّةٍ ووقارٍ ومهابَةٍ ونورٍ ومكانةٍ وسُمْعةٍ و حسن السمت والخلق مع الناس حتى أصبحوا قدوة و إسوة للناس يقتدون بهم ويقتفون أثرهم..فقد كان لمعاذ بن جبل نصيب وافر
-فعن الشعبي ، حدثني فروة بن نوفل الأشجعي قال : قال ابن مسعود:إن معاذاكان أمة قانتا لله حنيفا " ، فقلت في نفسي : غلط أبو عبد الرحمن، إنما قال الله عز وجل" : إن إبراهيم كان أمة قانتا لله"الآية ، قال : أتدري ما الأمة ؟ وما القانت ؟ فقلت : الله أعلم ، قال : الأمة : الذي يعلم الخير ، والقانت : المطيع لله ولرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكذلك كان معاذ بن جبل كان معلم الخير وكان مطيعا لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم .
-و قد كانت له هَيْبَة حتى مع أصْحاب النبيصلى الله عليه وسلم..
-فعن شهر بن حوشب قال:" كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تَحَدَّثوا وفيهم معاذ، نظروا إليه هيبة له.( أخرجه أبو نعيم في " الحلية ")
وكذلك الأتقياء الأنقياء الذين علموا وأدركوا عظيم فضل الله عليهم وعظيم حقه عليهم؛لم يستقر في قلبهم إلا الذل لربهم والخضوع له بل خالط شغاف قلبهم مشاعر أنهم ما قدروا الله حقه فزادهم ذلك حبا للرحيم الكريم وطاعة و خوفا من العلي الجليل وخشية له ولم يؤثر فيهم ثناء الناس و ما لهم من فضائل و مناقب ..
فقد كان معاذا رضي الله عنه من أشد الناس خشية لله عزوجل فكان من دعائه إذا تهجد ن الليل :" اللَّهُمَّ، نامت العيون، وغارت النجوم، وأنت حي قيوم، اللَّهُمَّ، طلبي الجنة بطيء، وهربي من النار ضعيف، اللَّهُمَّ، اجعل لي عندك هدى ترده إلي يَوْم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد"..
-وعن ابن عمر قال مر عمر بمعاذ وهو يبكي فقال ما يبكيك قال حديث سمعته من رسول الله ﷺ يقول ( إن أدنى الرياء شرك وأحب العبيد إلى الله الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا شهدوا لم يعرفوا أولئك مصابيح العلم وأئمة الهدى.. ( أخرجه الحاكم وصححه .
وعرف رضي الله بكثرة ذكره لله عزوجل قال رضي الله عنه ..: " ما عَمِلَ آدَمِيٌّ عَمَلاً أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللهِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ..
قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! وَلاَ الجِهَادُ فِي سَبِيْلِ اللهِ؟
قَالَ: وَلاَ، إِلاَّ أَنْ يَضْرِبَ بِسَيْفِهِ حَتَّى يَنْقَطِعَ، لأَنَّ اللهَ -
تَعَالَى - يَقُوْلُ فِي كِتَابِهِ: {وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ} .
ومن مواعظه أَيُّهَا النَّاسُ! أَرْبَعُ خِلاَلٍ، مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ تُدْرِكَهُ.
قَالُوا: مَا هِيَ؟
قَالَ: يَأْتِي زَمَانٌ يَظْهَرُ فِيْهِ البَاطِلُ، وَيَأْتِي زَمَانٌ يَقُوْلُ الرَّجُلُ: وَاللهِ مَا أَدْرِي مَا أَنَا، لاَ يَعِيْشُ عَلَى بَصِيْرَةٍ، وَلاَ يَمُوْتُ عَلَى بَصِيْرَةٍ (طبقات ابن سعد) .
و لما حضرت معاذا الوفاة بكى وقال :" ..اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر».
مات في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة .وهو في عز شبابه ابْنُ ثَلاَثٍ، أَوْ أَرْبَعٍ وَثَلاَثِيْنَ سَنَةً.
وكما قيل :" ..العُمْرُ أَتْفَهُ ما فيه طولُهُ ، وأعْظم ما فيه الأعمال الجليلة التي عمِلَها .
فوائد:
-اكتفي بفائدة واحدة لكن كان لها كبير أثر علي..كنت أفكر ما الذي اختص به معاذ حتى خاطبه النبيصلى الله عليه وآله وسلم بذلك الأسلوب الفريد من نوعه " يا معاذ، والله إنِّي لأحبُّك "...صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أصحابه وصرح بمحتبه لبعض منهم لكن لم يخاطب أحدا منهم بهذا الخطاب الفريد من نوعه؛ يقسم أنه يحبه..ما الذي يجبر النبيصلى الله عليه وآله وسلم على القسم وهو الصادق المصدوق و لماذا يخاطب معاذا بالقسم ويؤكد له ويكرر أنه يحبه...ألا يخاف عليه من العجب والكبر وغيرها..
فطفقت أقرأ سيرته باهتمام وتمعن وأخذت منى وقتا.. أحاول النظر فيم أقرا وتقليب الكلام والبحث في طياته .عسى أن اظفر بشيء.يجيب عن السؤال المعلق المطروح ويزيل الدهشة التي علت النفس
..إلى أن وصلت عبارة كانت المفتاح
قال راوي الحديث في وصف معاذ لما اشتدد عليه الألم في طاعون عمواس : ....: فَإِذَا سُرِّيَ عَنْهُ، قَالَ: رَبِّ! غُمَّ غَمَّكَ، فَإِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ.
وعَنِ الحَارِثِ بنِ عُمَيْرَةَ، قَالَ:..إِنِّي لَجَالِسٌ عِنْدَ مُعَاذٍ وَهُوَ يَمُوْتُ، وَهُوَ يُغْمَى عَلَيْهِ وَيُفِيْقُ، فَقَالَ:
اخْنُقْ خَنْقَكَ، فَوَعِزَّتِكَ إِنِّي لأُحِبُّكَ...
يا ألله.. يا ألله "غُمَّ غَمَّكَ، فَإِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ " كررتها كثيرا كثيرا لما كان لها كبير أثر على نفسي ؛ هي المحبة؛ هي المحبة ؛ وكذلك تفعل المحبة بالعبد إذا استولت على القلب...فروحت أبحث في نفسي هل أنا أحب الله فعلا و هل أقدر أن أقول بملأ فمي أحب الله ...بل هل أقدر أن أخاطب الله و أقول له إني أحبك...عند المحك يبتلى المرء
أما قوله :" ، فَوَعِزَّتِكَ إِنِّي لأُحِبُّكَ" فهذه لم اقدر أنطقها وأكررها عظمت عظمت فلم يقدر اللسان يتكلم بها . يقسم بعزة الله أنه يحبه ؛ بل يتكلم مع ربه ويقسم له أنه يحبه . يا الله ... كما أقسم النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحبه و إنما الجزاء من جنس العمل
" فَوَعِزَّتِكَ إِنِّي لأُحِبُّكَ" يالله ما هذه الثقة و ما هذا الإيمان القوي ...وما هذى المحبة العظيمة ..وما هذا الإخلاص ا لذي طرد معه كل رياء أو سمعة ...
وكذلك تفعل المحبة بالعبد كل فعل إذا خالطت شغاف القلب ..
فأصبح معاذ لا يرى ما يصيبه من أقدار ومصائب إلا بعين المحب الراضى فلما أصابه طاعون عمواس قال الرواي : فَطُعِنَ فِي أُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ، فَكَانَ يَقُوْلُ:.مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا حُمُرَ النَّعَمِ
وقال : فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ نَصِيْبَ آلِ مُعَاذٍ الأَوْفَرَ.
. فالمحبة هي محركة العبد تحرك جوارحه للعمل فلا يشعر بالتعب ولا يتضجر من خدمه وعبادة محبوبه؛ والمحبة ترضى القلب و تسكت قلقله وتذهب خوفه وفزعه وضجره ؛ فلا يرى في فعل المحبوب إلا خيرا وجمالا وحكمة و هدى وصلاحا...
ربنا رزقنا محبتك محبة ترضى بها عنا ؛ محبة تبلغنا جوارك في الجنة