أما الحديث الثاني , ففيه وعيد الذي يحلف وهو كاذب ؛ وذلك لأنه لم يعظم أسماء الله ، ولم يحترمها ، ولم يعرِف قدر الربِّ تعالى , ولم يكن في قلبه قدر لربه سبحانه وتعالى , فتهاون باسم الله , وحلف وهو كاذب ، ومع ذلك مع فجوره وكذبه أخذ شيئا بغير حق , أخذ مالا بغير حق ، بل ظلما بسبب هذه اليمين الكاذبة , من اقتطع .. ((من حلف على يمين صبر)) . سميت يمين صبركأنه صبر نفسه على هذا الكذب , ((حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرىء مسلم)). يقطع المال: يعني يأخذه بغير حق , لقي الله وهو عليه غضبان .
ذكر الأشعث بن قيس أنه تخاصم هو ورجل من كندة , في أرض كانت في حضرموت , فقال النبي صلى الله عليه وسلم للأشعث ((ألك بينة)) ؟ قال: لا . فقال: ((فلك يمينه)) .ليس لك إلا أن يحلف , فقال: إنه رجل فاجر لا يبالي بالكذب ولا يبالي بالحلف , عند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرىء مسلم لقي الله وهو عليه غضبان)) . وفي رواية: ((من اقتطع مال امرىء مسلم بيمين هو فيها كاذب لقي الله وهو عليه غضبان)) .
أنزل الله في ذلك قول الله تعالى في سورة آل عمران: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} يشترون بعهد الله أي ميثاقة وأيمانهم ثمنا قليلا , أي: عرضا من الدنيا , توعدهم بخمسة أشياء , لا خلاق لهم , أي: لا حظ لهم ولا نصيب عند الله تعالى، ولا يكلمهم الله , يعني كلام رضا ، ولا ينظر إليهم , أي: نظر رحمة ، ولا يزكيهم , أي: يطهرهم ويتوب عليه ، ولهم عذاب أليم ، خاتمة الأمر أنهم مستحقون للعذاب .
وهذا يؤكد أن المسلم يبتعد عن الحلف الكاذب ، أو عن الحلفِ المشكوكِ فيه , سواء حصل له به نفع: وجود مال أو نحوه ، أو حصل له دفع شر أو ضررٍ أو ما أشبه ذلك , حتى لا يتهاون بأسماء الله ، وحتى لا يأخذ مالا يستحقه من مال أخيه المسلم بهذه اليمين الفاجرة التي عظم فيها الله تعالى ، ولم يحترم هذا الاسم , عظمه وهو كاذب فاجر .
وقد ذم الله تعالى الفجور ، وجعل الفجار مقابلين للأبرار {إن الفجار لفي جحيم} , {إن كتاب الفجار لفي سجين} ، فمن الفجورالفجور في الحلف , يعني أن يحلف وهو فاجر , ويدخل في ذلك أيضا أن يحلف كاذبا عند البيع . وقد ورد أيضا ذم الذي لا يبيع ولا يشترى إلا بيمينه ، أو الذي عرض سلعة بعد العصر , فحلف أنه أعطي فيها كذا وكذا وهو كاذب ، فجعله النبي صلى الله عليه وسلم مع المعذبين الذين يستحقون العذاب ؛ وما ذاك إلا أنه كذب في حلفه وفجر، ثم مع ذلك ظلم أولئك الذين عرض عليهم تلك السلع , وصدقوه في كذبه وفي حلفه ، وأخذ منهم ما لا يستحقه , يعني حلف أن هذه السلعة تساوي مائة ، وهي لا تساوي إلا ثمانين مثلا , أو حلف أنه باع جنسها إلا بعشرة وهو كاذب , ماباعها إلا بثمانية مثلا , أو حلف أنها قد بُذل له فيها مائة وهو كاذب أو ما أشبه ذلك .
فيجمع بين الاستهانة بأسماء الله تعالى ، وبين الكذب , وبين أخذ المال بغير استحقاق , فيدخل فيمن اشترى بآيات الله وبيمينه ثمنا قليلا ؛ لأن المصالح الدنيوية كلها تعتبرثمنا قليلا , حتى ولو أثرى , ولو كثر ماله بسبب كثرة الحلف , فإنه مآله إلى الخسار ومآله إلى الكل وإلى الذل ، أو أنه ولو حصل له ما حصل , فإن عاقبته أن يعاقبه الله تعالى ، ويحاسبه على هذا المال الذي اكتسبه بهذه الأيمان الكاذبه .
القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين . قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:
عن الأشعثِ بن قيسٍ رضي الله عنه , قال: كان بيني وبين رجل خصومة في بئر , فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((شاهداك أو يمينه)) . قلت: إذن يحلف ولا يبالي . فقالرسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حلف على يمين صبر , يقتطع بها مال امرىء مسلم , هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان)) .
وعن ثابت بن الضحاك الأنصاري رضي الله عنه , أنه بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة , وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبا متعمدا فهو كما قال . ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة . وليس على رجل نذر فيما لا يملك)) . وفي رواية:((لعن المؤمن كقتله)) . وفي رواية: ((من ادعى دعوى كاذبة ليستكثر بها لم يزده الله إلا قلة)) .
الشيخ: تتعلق هذه الأحاديث بالأيمان والنذور ، حديث الأشعث فيه هذه القصة , القضية التي حدثت وهو أنه كان له بئر في حضرموت , فاعتدى عليها حضرمي , ومد يده إليها واستولى عليها , فتخاصما عند النبي صلى الله عليه وسلم , الأشعث يدعي أنها ملكه وملك أبيه وأبي أبيه ، والحضرمي يدعي أنها في يده ، وأنه يتصرف فيها، فالأشعث هو الخارج ، والحضرمي هو الداخل , هو الذي في يده الأرض والبئر .
والقاعدة أن على الداخل اليمين ، وعلى الخارج البينة , فطلب النبي صلى الله عليه وسلم من الأشعث بينة: شاهدان يشهدان بأن البئر له ولأبيه من قبله , ولم يكن عنده بينة , فلم يكن إلا أن رد على الحضرمي , وطلب منه الحلف . اتهمه الأشعث بأنه لا يبالي ، وأنه لا يخاف من مغبة الحلف وسوف يحلف ، ويقتطعها ويتملكها . قبل أن يحلف ،وعظهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر عاقبة هذا الحلف , الحلف الكاذب , فذكر أن الذي يحلف على يمين , يعني على حلف , الحلف يسمى يمينا ؛ لأنهم كانوا عند التحالف يتقابضون بالأيمان , فلذلك سمي القسم يمينا- هو فيها فاجر , حالف بالله معظم له , وهو مع ذلك كاذب وفاجر في يمينه , وليس له قصد إلا أن يقتطع مال امرىء مسلم , يأخذ مالا بغير حق , فإنه يلقى الله تعالى وهوعليه غضبان ، ويكتب الله له بها غضبه حيث تهاون:
أولا: باسم الله . ثانيا: استعمل الكذب . ثالثا استحل المال الحرام بغير حق .
ذكر أن الله تعالى أنزل في ذلك آية من كتاب الله في سورة آل عمران: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم و لهم عذاب أليم} , وسبب ذلك أنهم اشتروا بآيات الله وبعهده وبأيمانهم ثمنا قليلا . الثمن القليل: هو عرض الدنيا , فإن الدينا عرض حاضر , يأكل منها البر والفاجر . عرضا:يعني شيئا عارضا معترضا ، يعني عرضا من الدنيا . أخذ من الدنيا شيئا فانيا قليلا مضمحلا ، وبذل في ذلك دينه ويمينه ، وتعظيم ربه وصدقه , كل ذلك بذله , فكان في ذلك خاسرا ؛ حيث استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.