دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > دورات برنامج إعداد المفسّر > رسائل التفسير

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 18 محرم 1442هـ/5-09-2020م, 10:00 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي رسالة في تفسير قول الله تعالى: {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أوّل العابدين}

رسالة في تفسير قول الله تعالى: {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أوّل العابدين}

في هذه الآية ردٌّ بديعٌ على طوائف من اليهود والنصارى والمشركين الذين ادّعوا لله ولداً – سبحان الله عمّا يصفون – بأسلوب شرط ونفي لم يعهدوه بمثل هذا البيان من قبل، دلَّ على بطلان دعواهم الشنيعة أن لله ولداً، ثم على بطلان الشرك كلّه؛ فبطل ما كانوا يعبدون من دون الله، وقام الدليل الواضح، والبرهان الساطع على وجوب توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة.
قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82)}.
فذكر جزاء المجرمين بتفصيل يخلع قلوبهم لو كانوا يسمعون أو يعقلون، ويبين عن عدلٍ تامّ منه عزَّ وجلَّ، وظلم بيّن منهم لأنفسهم، وأنه تبارك وتعالى قد أحاط علمُه بما أسرّوا وما أعلنوا، وما قالوا وما فعلوا، ثمّ قال بعد هذه التهيئة العجيبة: {قل إن كان للرحمن ولدٌ فأنا أوّل العابدين}.
وقد اشتمل هذا التركيب البديع على ألوان من الحجج البالغة الظاهرة التي تأتلف ولا تختلف، وتتظاهر ولا تتناقض، وكلُّ حجّة منها وافية بالمطلوب، كافية في كشفِ ما يلبسون، وإبطال ما يزعمون.
ولتفاوت الأفهام في استخراج تلك الحجج والمعاني أخذ كلّ واحد من المفسّرين بما ظهر له منها، ففهم الآية به، وأبان عنه بحجته.
وأكثر ما ذكروه من الأقوال والحجج قد يُحتاجُ فيه إلى شرح وتقريب، وتهذيب وترتيب، لتظهرَ صحَّته، ويتجلَّى حسنه، وكم من قول صحيح تبادر إلى بعض الأذهان أنه خطأ، لضعف تصوّره، واستعجال ردّه؛ فإذا ما أعطي حقه من النظر والتأمل تبيَّن ما فيه من الصواب بإذن الله.

والذي تحصَّل لي من أقوال السلف في تفسير هذه الآية خمسة أقوال حِسان:
القول الأول: قل يا محمّد لهؤلاء المشركين إن كان للرحمن ولدٌ – كما تقولون أيّها الكاذبون – فأنا أوَّل مَن ينبغي أن يعبده، ولا ينبغي لكم العلم بذلك قبل رُسُلِ الله فإنَّه لا سبيل لكم إلى معرفة ذلك إلا عن طريق الرسل.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم أوَّل وأولى من يعلَم شرعه ويمتثل أمره، وباقي المكلَّفين إنما تصلهم أحكام الشريعة عن طريقه.
فلمَّا يكن من النبي صلى الله عليه وسلم عبادةٌ لغير الله تعالى دلَّ ذلك دلالة بيّنة على أنّه ليس لله ولدٌ فيُعبَد.
وإقامة الشرط على مشروط معدوم أو محالٍ لغرض بيان الامتناع كثير في القرآن وفي كلام الفصحاء البلغاء، قال الله تعالى: {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً} وقال تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} وقال تعالى: {فإن كنت في شكّ مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك} وقال تعالى: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطنَّ عملك}.
وكذلك في هذه الآية على هذا القول، المشروط معدوم، ولا يخفى على المتلقي أن الشرط سيق لتأكيد نفيه بدلالة ظاهرة بيّنة، وهي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يعبد إلا الله، ولم يعبد من دونه ولداً، وهو أمر ظاهر يعرفونه تمام المعرفة من حاله ودعوته وما ينادي به ليلاً ونهاراً حتى تيقّنوا أن عنوان دعوته وأصلها الذي ترجع إليه عبادة الله وحده لا شريك له.
وتعليق جزاء ظاهر على شرط معدوم أسلوب واضح الدلالة في تأكيد النفي، ومنه قول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)} فهذا الشرط خرج مخرج تأكيد النفي بتعليقه بجواب ظاهر يعلم عدم تحققه.
وقوله تعالى: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين}.
والتقدير: إن كنتم صادقين في دعواكم أنه مفترى فأتوا بسورة مثله، وافتروا مثل هذا الافتراء، وادعوا لإعانتكم على هذا الافتراء من استطعتم من دون الله.
فلمّا لم يأتوا بسورة مثله مع التحدي المعلَن المتكرر في مقام المحاجَّة دلَّ ذلك على أنهم كانوا غير صادقين في دعواهم أن القرآن مفترى من دون الله؛ فهم إما مقرّون به في قرارة أنفسهم ويعلمون أنه غير مفترى، كما قال الله تعالى: {فإنهم لا يكذّبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون}.
وإما غير مقرّين بسبب إعراضهم واتباعهم لأهوائهم فهم يريدون دفع الحقّ بأي وسيلة عناداً واستكباراً، ولو أنّهم عقلوا ما خاطبهم الله به وقصدوا الإنابة إلى الله لأبصروا الحقّ وعرفوه وسعدوا به.
والمقصود أنه تعالى علَّق الشرط المعدوم وهو صدق دعواهم على أن القرآن مفترى بجزاء ظاهر لا يستطيعون فعله وهو الإتيان بمثل هذا القرآن، وربط التلازم الشرطيّ بينهما؛ فأقام انتفاء الجزاء دليلاً على انتفاء صدق الدعوى.
وهذا أسلوب بالغ الأثر في الكشف عن بطلان دعواهم وإقامة الحجّة عليهم، كما قال تعالى في موضع آخر: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)}.
فجعل هذه الحجّة دليلاً بيّنا موجباً للعلم بأن هذا القرآن منزَلٌ بعلم الله، وأنه برهان ظاهر الدلالة على توحيد الله جلَّ وعلا؛ فلم يبق إلا اختيار الإسلام أو الكفر.
فهذا شرح القول الأوّل وبيان معناه، وهو قول السدي، واختيار ابن جرير الطبري.
- قال أسباط، عن السّدّيّ في تفسير قول الله تعالى: {قل إن كان للرّحمن ولدٌ فأنا أوّل العابدين} قال: (لو كان له ولدٌ كنت أوّل من عبده بأنّ له ولدًا، ولكن لا ولد له). رواه ابن جرير.

القول الثاني: المعنى: قل إن كان للرحمن ولد في قولكم وزعمكم فأنا أوَّل العابدين لله تعالى الموحدين له.
وتقريب المعنى: إن كنتم تزعمون أن للرحمن ولد فأنا بريء منكم ومما تزعمون من الاعتقاد الفاسد، مشتغل بإمامة العابدين لله تعالى ممن يطيعني ويتّبعني على ما أمرني الله به، وهذا قول مجاهد، وقال به أبو إسحاق الزجاج، ونصره أبو منصور الأزهري.
- قال معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: (يقول: إن كان لله ولد في قولكم فأنا أوَّل من عبد الله ووحَّده وكذَّبكم بما تقولون). رواه عبد الرزاق وابن جرير.
وفي رواية عند ابن جرير من طريق ابن داية عيسى بن ميمون وورقاء كلاهما عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: ({قل إن كان للرّحمن ولدٌ} كما تقولون {فأنا أوّل العابدين} المؤمنين باللّه، فقولوا ما شئتم).
- وقال البخاري في صحيحه عن مجاهد تعليقاً: ({أوَّل العابدين} أوَّل المؤمنين).

- وقال أبو إسحاق الزجاج: (معناه: إن كنتم تزعمون أن للرحمن ولدا, فأنا أول الموحّدين؛ لأن من عبد الله عزّ وجلّ, واعترف بأنه إلهه, فقد دفع أن يكون له ولد.
والمعنى: أن كان للرحمن ولد في قولكم، كما قال: {أين شركائي الّذين كنتم تشاقّون فيهم}: أي في قولكم, واللّه واحد لا شريك له).

- قال أبو جعفر النحاس: (وقول مجاهد بيّن، أي: إن كان للرحمن ولد على زعمكم وقولكم كما قال تعالى: {أين شركائي}؛ فأنا أول من خالفكم، ووحَّد الله جلَّ وعزَّ).
- وقال أبو منصور الأزهري: (ومما يزيده وضوحا أن الله جل وعز قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قل} يا محمد للكفار {إن كان للرحمن ولد} في زعمكم {فأنا أول العابدين} إلهَ الخلق أجمعين الذي لم يلد ولم يولد، وأول الموحدين للرب الخاضعين المطيعين له وحده؛ لأن من عبد الله واعترف بأنه معبوده وحده لا شريك له فقد دفع أن يكون له ولد. والمعنى: إن كان للرحمان ولد في دعواكم فالله جلَّ وعزَّ واحدٌ لا شريك له، وهو معبودي الذي لا ولد له ولا والد).
زاد أبو منصور: (وإلى هذا ذهب إبراهيم بن السري وجماعة من ذوي المعرفة، وهو القول الذي لا يجوز عندي غيره).

وهذا تحجير من أبي منصور عفا الله عنه، والأقوال الأخرى قال بها جماعة من علماء التفسير من السلف وأهل اللغة، ولها وجاهتها في الاستدلال والتقرير ولا يليق إهدارها.
وهذا القول شبيه بمعنى قول الله تعالى: {لكم دينكم ولي دين}، وقوله تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ}، وقوله تعالى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)}.
وفي هذا تقرير بطلان ما يعبدون من دون الله من الأوثان والأصنام من وجهين:
أحدهما: أنه صلى الله عليه وسلم أوّل العابدين من هذه الأمّة، والعابدون هم أتباعُه، والعبادة – على هذا القول - إنما هي العبادة المعتبرة شرعاً، وأما العبادة الشركية والبدعية فليست عبادة معتبرة؛ لأن الله تعالى لا يقبل إلا عبادة خالصة له جلَّ وعلا تؤدّى على ما شرع، ولأجل هذا فسّر بعض السلف قول الله تعالى: {وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون} إلا ليوحدون.
فمن لحظ هذا المعنى فسّر {أوّل العابدين} بأوّل الموحدين، وهذا فيه إخراج للمشركين من دائرة أهل العبادة الشرعية، وفيه دلالة بيّنة على بطلان عبادة جميع ما يُعبد من دون الله.
- قال ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن: (لما قال المشركون: لله ولد، ولم يرجعوا عن مقالتهم بما أنزله الله على رسوله عليه السلام من التبرّؤ من ذلك؛ قال الله سبحانه لرسوله عليه السّلام: {قُلْ} لهم: {إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} أي: عندكم في ادعائكم؛ {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أي: أول الموحدين، ومن وحّد الله فقد عَبَده، ومن جعل له ولدا أو ندّا، فليس من العابدين وإن اجتهد).
- وقال أبو جعفر النحاس: (ومعنى {العابدين} كمعنى: الموحدين؛ لأنه لا يقال عابد إلا لموحد).

والوجه الآخر: أن النبي صلى الله عليه وسلَّم لم يعبد من دون الله شيئاً، وقد علموا أنه يدعوهم إلى التوحيد بلسان حاله ومقاله ليلاً ونهاراً، وسرّا وجهاراً، ويُبدئ لهم ويعيد في حجج التوحيد، ويبيّن لهم بياناً جليّا أن الله تعالى قد أمر أن لا يُعبد إلا إياه، ومع ذلك لم يروه ولم يذكر لهم أنه يعبد لله ولداً - تعالى الله وتقدَّس – وما يعبدون من دون الله من الأوثان والأصنام لا تبلغ في المكانة ما يدّعونه لله من الولد؛ فكيف يعبدونها بعد ذلك؟!!
فنسفت هذه الحجَّة دعوى كلّ مشرك يتخذ إلها يعبده من دون الله كائن ما كان.
وقد يُقال في تقرير هذه الحجة من وجه آخر: إنَّكم وإن كنتم تدعون لله ولداً ؛ فإنّ الله تعالى قد أمر أن لا يُعبد إلا إياه؛ وهذه الأوثان التي تعبدونها من دون الله لا تبلغ أن تكون بمنزلة ما تدّعون لله من الولد في زعمكم ولم يشرع الله أن يُعبد أحدٌ من دونه كائناً ما كان؛ فيكيف يسوغ لكم أن تعبدوا هذه الأوثان التي هي في قولكم وزعمكم أقلّ قدراً وأهون شأناً.
وهذا استدلال مبني على طريقة نفي الأدنى بنفي الأعلى.

القول الثالث: "إن" نافية بمعنى "ما" النافية كما في قول الله تعالى: {قل إن أدري أقريب ما توعدون} وقوله تعالى: {إن عندكم من سلطان بهذا} وقوله تعالى: {وإن أدري لعله فتنة لكم} وقوله تعالى: {إن الكافرون إلا في غرور}.
فيكون المعنى: ما كان للرحمن ولد قطّ، ثم قوله: {فأنا أوّل العابدين} جملة مترتّبة عليها قائمة مقام الدليل على النفي، ولذلك رُوي عن ابن عباس تفسير العابدين في هذا الموضع بالشاهدين لملاحظة قصد الاستشهاد.
- قال معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ في قول الله تعالى: {قل إن كان للرّحمن ولدٌ فأنا أوّل العابدين} يقول: (لم يكن للرّحمن ولدٌ فأنا أوّل الشّاهدين).

والقائلون بأن "إن" في هذا الموضع حرف نفي جماعة من السلف وأهل اللغة.
- قال قتادة: (هذه كلمةٌ من كلام العرب {إن كان للرّحمن ولدٌ} أي إنّ ذلك لم يكن، ولا ينبغي). رواه ابن جرير.
- وقال عمرو بن أبي سلمة: سألت زهير بن محمّدٍ، عن قول اللّه: {إن كان للرّحمن ولدٌ} قال: (ما كان). رواه ابن جرير.
وزهير بن محمد بن قمير التميمي المروزي من العلماء الثقات العبّاد روى عن عبد الرزاق وسنيد وروح بن عبادة وغيرهم، ومات مرابطاً بطرسوس سنة 257هـ.
- قال أبو القاسم البغوي: (ما رأيت بعد أحمد بن حنبل أفضل من زهير بن قمير).
واستعمال "إن" النافية هنا مكان "ما" يفيد الدلالة على تأكيد النفي وتحميله معنى الإنكار المؤكَّد؛ فإنَّ "إن" المخففة فيها شوب معنى المثقَّلة من التأكيد، وهو هنا تأكيد النفي، ولذلك سمّاه بعض المفسرين إنكافاً أي إنكاراً لما يُستنكف من ذكره.
- قال عبد الرحمن بن زيدٍ بن أسلم: (هذا الإنكاف، ما كان للرّحمن ولدٌ، نكف اللّه أن يكون له ولدٌ، و"إنْ" مثلُ "ما"، إنّما هي: ما كان للرّحمن ولدٌ، ليس للرّحمن ولدٌ). رواه ابن جرير.

القول الرابع: {إن} نافية، و{أوّل العابدين} أوّل الآنفين المنكرين لهذه الدعوى الباطلة الآثمة.
واستعمال لفظ العابدين بمعنى الآنفين غضباً واستنكافاً معروف في لسان العرب، وأصلها من عَبِدَ يعبَد فهو عَبِدٌ وعَابِد، مثلُ أَنِفٍ وآنِف.
فيكون لفظ "عابد" مشترك لفظي بين العابد فاعل العِبادة، والعَبِد الآنِفِ الغاضِب.
قال المرقّش الأصغر:
أفاطــــــــــــــــم لو أنَّ النساءَ ببلـــــــدة ... وأنتِ بأخـــــرى لاتَّبَعْـــــــــتُك هائـــــمـــــــــا

متى ما يشأ ذو الودّ يصرم خليله ... ويَعْبَــــــــــــــــدْ علــيه لا محـــالــة ظـــــــــــــــــــالما

ومما نسب إلى الفرزدق قوله:
وإنَّ حـــــراماً أن أســــــــــبَّ مقاعــساً ... بآبائي الشــمِّ الكـــــــــرام الخضـــــــــــارم
ولكنَّ نِصْفـــــــــــاً لو سَبَبَتُ وسبَّني ... بنو عبد شمـــــس من منـــــاف وهاشم
أولئك قومٌ إن هجــــوني هجـــوتُهم... وأعبَدُ أن أهجــــــــــــــــــــــو كلـــــيباً بدارم

النِّصف والنَّصَف اسما مصدر بمعنى الإنصاف والعدل.
يقول: إنه يستنكف أن يهجو من ليس قومه بكفء لقومه بني دارم؛ لأن المهاجي يعرّض قومه وآباءه للسبّ بما يأتي من سبّ آباء خصمه وقومه.
(وأن أهجو) رفع الفعل بعد أن على قصد إهمال عملها، واختلف فيه؛ فالكوفيون يرونها بمعنى "ما" النافية، والبصريون يقولون: هي مخففة من الثقيلة؛ فجاز دخولها على الفعل وإعمالها وإهمالها.
والوجهان واردان في توجيه قراءة [لمن أراد أن يتمُّ الرضاعة ] بضمّ "الميم"، وهي قراءة مروية عن مجاهد وابن محيصن.
وقال جرير بن عطيّة ابن الخطَفَى:
يرى المتعبّدون عليَّ دوني ... حياضَ الموتِ واللُّجَجَ الغِمَارا

- وقال ابن وهب: حدّثني ابن أبي ذئبٍ، عن أبي قسيط، عن بعجة بن زيدٍ الجهنيّ؛ أنّ امرأةً منهم دخلت على زوجها -وهو رجلٌ منهم أيضًا- فولدت له في ستّة أشهرٍ، فذكر ذلك زوجها لعثمان بن عفّان رضي اللّه عنه؛ فأمر بها أن تُرجم؛ فدخل عليه عليّ بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنه، فقال: إنّ اللّه يقول في كتابه: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا}، وقال {وفصاله في عامين}، قال: (فواللّهِ ما عَبِدَ عثمان رضي اللّه عنه أن بَعَث إليها: تردّ).
- قال ابن وهبٍ: (عَبِدَ: استنكف). رواه ابن جرير.
- قال ابن السكّيت في إصلاح المنطق: (والعَبَد: مصدر عَبِدَ من الشيء يَعْبَدُ عَبَدًا وعَبَدةً، إذا أَنِفَ منه، ومنه قوله عز وجل: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}).
- وقال الخليل بن أحمد في العين: (العَبَدُ: الأنفة والحميّة من قول يُسْتَحْيَ منه، ويُسْتَنْكَفُ، ومنه: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ} أي: الأَنِفين من هذا القول، ويُقْرَأ[العَبِدِينَ] مقصورة، على عَبِدَ يَعْبَدُ)ا.هـ.
وهذه القراءة أنكرها أبو منصور الأزهري في تهذيب اللغة فقال: (القول الذي ذكره الليث أولاً فهو قول أبي عبيدة، على أني ما علمت أحدا قرأ: [فأنا أول العَبِدين] ولو قرئ مقصورا كان ما قاله أبو عبيدة محتملا، وإذ لم يقرأ به قارئ مشهور لم يُعبأ به)ا.هـ.
قلت: الليث هو ابن المظفَّر بن نصر بن سيار صاحب الخليل وراوي كتابه "العين"، وأبو منصور يعزو ما في "العين" إليه؛ لأن الخليل ابتدأ تأليف كتاب "العين" ومات ولم يكمله ولم يهذّبه، فعُني الليث بن المظفّر بإكماله وتهذيبه على ما فهمه مما سمعه من الخليل، ثمَّ رواه عنه، وقد دخل عليه الغلط في مواضع؛ فكان أبو منصور يتعقَّبه في كتابه "تهذيب اللغة"، وينسب ما صحَّ عنده في كتاب "العين" إلى الليث، وذكر أنَّه لا ينبغي أن يترك كثير صوابه لقليل غلطه.
وقول أبي منصور: (وإذ لم يقرأ به قارئ مشهور لم يعبأ به) لا يُقبل لأمرين:
أحدهما: أن عدم ثبوت هذه القراءة بالإسناد لا يقتضي بطلان هذا القول لأنَّ العابد لغةٌ في العَبِد كالآنِف والأَنِف، والحاذر والحَذِر.
نعم لو صحَّ إسناد قراءة القصر [العَبِدين] لكانت برهاناً جلياً على صحة هذا التفسير، لكن عدم ثبوت القراءة لا يقتضي بطلان التفسير إذا كان له مستند غيرها.
وجماعة من علماء اللغة والقراءات كالكسائي وأبي عبيدة معمر بن المثنى وأبي عمرو الشيباني وأبي زيد الأنصاري فيما حكاه عنهما أبو عبيد القاسم بن سلام وأبو سعيد السكّري.
وكذلك ابن الأعرابي وابن السكيت وابن قتيبة وأبو عمر الزاهد غلام ثعلب وأبو البركات ابن الأنباري وغيرهم، كلّ هؤلاء ذكروا تفسير "العابدين" بالمدّ بالآنفين والغاضبين والجاحدين من غير ذكر للقراءة الأخرى.
فهو قول مشهور عند أهل اللغة، ومنهم من لم يذكر غيره في تفسير هذه الآية.
- قال الكسائي: (قال بعضهم: {إن كان} أي ما كان للرحمان ولد؛ {فأنا أول العابدين} الآنفين، رجل عابد وعَبِد، وآنِفٌ وأَنِف).
- وروى أبو العباس ثعلب عن ابن الأعرابي في قوله: {فأنا أول العابدين} قال: (أي الغِضَاب الآنفين).
- وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: ({أول العابدين} أي: الكافرين بذلك، والجاحدين لما قلتم، وهي من عَبِدَ يَعْبَدُ عَبَداً).
والأمر الآخر: أنَّا قد نخرّج بعض أقوال السلف إذا صحَّت عنهم على بعض الأحرف المتروكة.
وغير مستبعدٍ أن يكون الخليل حكى هذه القراءة على ما بلغه من الأحرف التي تُركت القراءة بها أو اختار القراء غيرها.

وهذا القول مشهور معروف عند السلف وعلماء اللغة، فلا يُلتفت إلى قول من وصمه بالشذوذ والمخالفة.
ذكره البخاري في صحيحه أحد قولين في تفسير هذه الآية، وذكره ابن جرير أيضاً في تفسيره لكنَّه استشكله من وجه آخر يأتي بيانه إن شاء الله، وذكره أبو إسحاق الزجاج ولم يتعقبه، وذكره أبو جعفر النحاس وأورد عليه إيراداً يأتي جوابه، وذكره أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي في كتاب الغريبين ونقل عن نفطويه اعتراضاً عليه.
- قال البخاري في صحيحه: ({أول العابدين}: أي ما كان، فأنا أول الآنفين، وهما لغتان رجل عابد وعَبِد).
قال: (ويقال: {أول العابدين}: الجاحدين، من عَبِدَ يَعْبَد).
قلت: القولان متلازمان يؤولان إلى معنى واحد؛ فإنّ الأنفة والاستنكاف لا يكونان إلا عن جحد.

لكن مما أشكل على بعض العلماء معنى الفاء على هذا القول؛ وذلك أنّه إذا قيل: إن "إن" نافية، و{أوّل العابدين} أي: الآنفين المنكرين؛ فما المعنى الذي تؤديه "الفاء" في قوله تعالى: {فأنا أوّل العابدين}؟
- قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: ("الفاء" مجازها مجاز "الواو": ما كان للرحمن ولدـ وأنا أول العابدين).
- وقال أبو علي الفارسي في "شرح الأبيات المشكلة الإعراب": (ما كان للرحمن ولدٌ، كقوله تعالى: {مَا كَانَ للهِ أَن يَتّخِذَ مِن وَلَدٍ} ، {فَأَنَاْ أَوّلُ الْعَابِدِينَ} تكون "الفاء" عاطفة جملة على جملة)ا.هـ.
و"الفاء" تفيد قوة الارتباط بين الجمل؛ كما في قول الله تعالى: {إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون} ، وقوله تعالى: وقوله تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجرٌ غير ممنون}.

- وقال القسطلاني في شرح صحيح البخاري: "الفاء" سببية.
والقول بأنّ "الفاء" للسببيَّة لا يخلو من أحد وجهين:
الوجه الأول: أن تكون في جواب النفي، كما في قول الله تعالى: {لا يقضى عليهم فيموتوا}.
وهذا فيه ضعف، وهو سبب الإشكال.
والوجه الثاني: أن تكون جواباً للأمر في {قل} فيكون مرجع الضمير في {أنا} إلى الله جلَّ وعلا، أي: أن الله هو أوّل الآنفين المنكرين نسبة الولد إليه تعالى الله عمّا يقولون.
ولا ريب أنه لا يتقدّم اللهَ أحدٌ في إنكار هذه الدعوى الباطلة؛ فيكون المعنى: قل لهم يا محمد: ما كان للرحمن ولد، فأنا أوّل المنكرين الآنفين.
ثم الملائكة بعد منكرون، والأنبياء والصالحون، بل حتى السموات والأرض والجبال كما قال الله تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً . لقد جئتم شيئاً إدا . تكاد السموات يتفطّرن منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدا . أن دعوا للرحمن ولداً}.

وذِكْرُ تقدّم الله عزّ وجلّ وتصديق من يشاء من خلقه وشهادتهم على ما شهد الله به واتباعهم ما أحبَّ الله قد تكرر في القرآن، ومنه قول الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}.
وقوله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167)}.
وقوله تعالى: { وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)}.

ولا ريب أن هذا المعنى له أثر بالغ في شدة نفي هذه الدعوى الآثمة، والفرية الشنيعة، وأن يكون استناد النبي صلى الله عليه وسلم في نفيها وإنكارها استناداً قوياً محكماً؛ فأوّل المنكرين لها هو الله تعالى وكفى بالله عليماً.
وهذا يدلّ على أنّ هذه المقالة قد شاعت في هذه الطوائف على مرّ القرون حتى نشأ على اعتقادها أجيال بعد أجيال.
ونفي ما ترسّخ في قلوبهم وعقولهم اعتقاده والقول به ينبغي أن يكون من منطلق قويّ محكم لا تردد فيه ولا ضعف.
والتعبير بأوّل العابدين على هذا التوجيه يحتمل أمرين في التركيب اللغوي:
- أحدهما: أن يكون أوّل الآنفين نظير أرحم الراحمين، وأحسن الخالقين، وأكرم الأكرمين، ويكون الاشتراك في أصل معنى الصفة لا يقتضي التشبيه كما هو متقرر.
والأمر الآخر: أن تكون الأولية على غير قصد دخول الأول في الفئة، وإنما هي على معنى التأييد لما في لفظ الأولية من معنى السبق والإمامة.

القول الخامس: {إن} شرطية، و{أوّل العابدين} أي: الآنفين كما تقدَّم.
والمعنى: إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أوّل الجاحدين المنكرين لذلك.
وهذا القول ذكره أبو عبيدة معمر بن المثنى في مجاز القرآن فقال: (وقال آخرون : مجازها: إن كان في قولكم للرحمن ولد؛ فأنا أول العابدين، أي: الكافرين بذلك والجاحدين لما قلتم، وهي من عَبِدَ يَعْبَدُ عَبَداً").
- قال ابن كثير: (وهذا القول فيه نظرٌ؛ لأنّه كيف يلتئم مع الشّرط فيكون تقديره: إن كان هذا فأنا ممتنعٌ منه؟ هذا فيه نظرٌ، فليتأمّل). قلت: الإنكار لزعمهم، أي: إن كنتم تزعمون أنّ للرحمن ولداً فأنا أوّل المنكرين لذلك.
وهذه الأقوال الخمسة قد جمعت شرطي قبول القول في التفسير وهما: صحّة المعنى في نفس، وصحّة دلالة الآية عليه بطريق من طرق الاستدلال الصحيح.

- قال أبو الفتح ابن جني: (وروينا عن قطرب أن العابد: العالم، والعابد: الجاحد، والعابد: الأَنِف الغَضبَان، قال: ومعنى هذه الآية يحتمل كل هذه المعاني).
- وذهب إلى الجمع بين هذه المعاني ابن عاشور في تفسيره.

ومن بدائع بيان القرآن تعدّد معانيه وتوافقها، وقد ترد الآية بقراءتين أو أكثر تدلّ كلّ قراءة على معنى غير التي دلّت عليه الأخرى من غير تناقض ولا تعارض، وتكون هذه المعاني مرادة لا يجوز لعالمٍ ردّ شيء منها، فإذا كان ذلك متقرراً في القراءات فتقرره في مشترك المفردات والأساليب من باب أولى.

وهذه القاعدة تحلّ بها كثير من إشكالات الجمع والترجيح بين أقوال المفسّرين، ويتّسع بها نظر المفسّر فلا يحمله اختياره لقول من الأقوال على ردّ ما في الأقوال الأخرى من الصواب والحق.

فإذا وقف على قول له علّة توجب ردَّه فيردّ؛ إما لأنّ المعنى الذي يؤديه ذلك القول يخالف نصّاً أو إجماعاً أو يدلّ على معنى فاسد أو ضعيف واهٍ، وإمّا أن يكون الاستدلال على ذلك المعنى غير صحيح؛ فيكون الردّ للخطأ في الاستدلال، وردّ ما قبله لبطلان المدلول.
ومثال ذلك في تفسير هذه الآية ما حكاه الخليلُ بن أحمد أو الليث بن مظفرّ في كتاب "العين" قولاً آخر في تفسير هذه الآية، وهو غريب لا يصحّ فقال: (ويقال: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ} أي: كما أنه ليس للرحمن ولد فلست بأوّل من عَبَدَ الله مِنْ أهلِ مكّة).
- قال أبو منصور الأزهري: (روي عن ابن عيينة أنه سئل عن هذه الآية فقال: معناه: {قل إن كان للرحمان ولد فأنا أول العابدين} ، يقول: فكما أني لست أولَ من عبد الله فكذلك ليس لله ولد، وهذا القول يقارب ما قاله الليث آخرا، وأضافه إلى بعض المفسرين).
- وشرحه أبو البركات ابن الأنباري فقال: (وقيل: المعنى كما أني لست أول من عبد الله فكذلك ليس لله ولد، كما يقال: إن كنت كاتبا فأنا حاسب، يريد أنك لست بكاتب ولا أنا حاسب).
وهذا القول ضعيف جداً؛ ومخالف للإجماع المفسرين على أنّ الآية في إثبات الأولية لا نفيها، ومن الظاهر البيّن أن الآية لم تسق لنفي كون النبي صلى الله عليه وسلم أوّل من عبد الله بمكّة، حتى يُجعل نفي الدعوى الآثمة دليلاً على ذلك، ولم يكن ذلك موضع نزاع؛ فقد كان إسماعيل عليه السلام بمكّة، وبعده الحنفاء من ذريته وغيرهم.
على أنّ الأولية تطلق على ما يناسب السياق؛ فكلّ رسول هو أوّل المؤمنين من أمّته، وقد قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قل إني أمرت أن أكون أوَّل من أسلم ولا تكونن من المشركين}.
وقال موسى عليه السلام لما صعق ثم أفاق: {قال سبحانك تبت إليك وأنا أوّل المؤمنين}.
وقال السحرة لما آمنوا: {إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أوَّل المؤمنين}، أي: من أهل ذلك الموقف أو من أتباع موسى.

إشكالات وأجوبتها:
- قال ابن جرير: ({إن} لا تعدو في هذا الموضع أحد معنيين: إمّا أن يكون الحرف الّذي هو بمعنى الشّرط الّذي يطلب الجزاء، أو تكون بمعنى الجحد، وهب إذا وجّهت إلى الجحد لم يكن للكلام كبير معنًى، لأنّه يصير بمعنى: قل ما كان للرّحمن ولدٌ، وإذا صار بذلك المعنى أوهم أهل الجهل من أهل الشّرك باللّه أنّه إنّما نفى بذلك عن اللّه عزّ وجلّ أن يكون كان له ولدٌ قبل بعض الأوقات، ثمّ حدّث له الولد بعد أن لم يكن، مع أنّه لو كان ذلك معناه، لقدر الّذين أمر اللّه نبيّه محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم أن يقول لهم: ما كان للرّحمن ولدٌ، فأنا أوّل العابدين أن يقولوا له صدقت، وهو كما قلت، ونحن لم نزعم أنّه لم يزل له ولدٌ وإنّما قلنا: لم يكن له ولدٌ، ثمّ خلق الجنّ فصاهرهم، فحدث له منهم ولدٌ، كما أخبر اللّه عنهم أنّهم كانوا يقولونه، ولم يكن اللّه تعالى ذكره ليحتجّ لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم على مكذّبيه من الحجّة بما يقدرون على الطّعن فيه)ا.هـ.
وهذا الاستشكال مستغرب صدوره من مثل ابن جرير رحمه الله على إمامته في التفسير وسعة معرفته، والجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أن هذا الإيراد وارد على آيات كثيرة كما في قول الله تعالى: {وكان الله عزيزاً حكيماً} {وكان الله على كلّ شيء مقتدراً}
وهذا الأسلوب لا ينبغي أن يُفهم منه معنى الانقضاء، بل هو على معنى التأكيد، والاستدلال بثبوت الصفة في الأزل على ثبوتها في الأبد.
- وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما لرجل سأله عن مسائل في القرآن أشكلت عليه، ومنها قول الله تعالى: {وكان الله عزيزاً حكيماً} ونظائرها؛ قال: ما شأنه يقول: {وكان الله} يشير إلى أن (كان) لما مضى.
فقال له ابن عباس: (وأما قوله تعالى: {وكان الله}؛ فإن الله كان لم يزل كذلك، وهو كذلك عزيز حكيم قدير، لم يزل كذلك؛ فما اختلف عليك من القرآن فهو شِبْهُ ما ذكرت لك؛ فإنَّ الله لم يُنزِل شيئاً إلا وقد أصاب به الذي أراد، ولكن الناس لا يعلمون). رواه عبد الرزاق وابن أبي حاتم، وعلَّقه البخاري في صحيحه.
وهو أسلوب عربيّ معروف، قال الشنفرى:
وإن مدَّت الأيدي إلى الزاد لم أكن ... بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجَلُ
وما ذاك إلا بسطة عن تفضّـــــــــــل ... عليهم وكان الأفضلَ المتفــــــــــــضّلُ

والوجه الآخر: أن القائلون بأنّ "إن" نافية في تفسير هذه الآية جماعة من علماء السلف وكبار أهل اللغة، ولو كان هذا المعنى الباطل متبادراً إلى الذهن أو لازماً لهذا القول لم يستجيزوا القول به.

إشكال آخر:
- قال أبو جعفر النحاس: (أحسنها قول مجاهد لأن "إن" يبعد أن تكون ههنا بمعنى "ما"، لأن ذلك لا يكاد يستعمل إلا وبعد "إن" إلا).
- قلت: أجاب ابن هشام على هذا الإشكال في مغني اللبيب فقال في معاني "إن" المكسورة المخففة: (الثاني: أن تكون نافية وتدخل على الجملة الاسمية نحو:{إن الكافرون إلا في غرور}،{إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم}، ومن ذلك:{وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته}، أي: وما أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به، فحذف المبتدأ وبقيت صفته، ومثله:{وإن منكم إلا واردها}، وعلى الجملة الفعلية نحو: {إن أردنا إلا الحسنى}، {إن يدعون من دونه إلا إناثا}، {وتظنون إن لبثتم إلا قليلا}، {إن يقولون إلا كذبا}.
وقول بعضهم لا تأتي "إن" النافية إلا وبعدها "إلا" كهذه الآيات أو "لما" المشددة التي بمعناها كقراءة بعض السبعة:{إنْ كل نفس لما عليها حافظ} بتشديد "الميم"، أي: ما كل نفس إلا عليها حافظ : مردود بقوله تعالى:{إن عندكم من سلطان بهذا}، {قل إن أدري أقريب ما توعدون}، {وإن أدري لعله فتنة لكم}.
وخرج جماعة على "إن" النافية قوله تعالى: {إن كنا فاعلين}،{قل إن كان للرحمن ولد}، وعلى هذا فالوقف هنا). إلى آخر ما قال رحمه الله.

إشكال آخر:
- قال أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي(ت:401هـ) في كتاب الغريبين: (قوله تعالى:{فأنا أول العابدين} قيل: هو من عبَدَ يعْبُد، هو من عَبِدَ يَعْبَد إذا أنف أي من الآنفين.
قال ابن عرفة: إنما يقال عَبِدَ يَعْبَدُ فهو عَبِدٌ، وقلَّ ما يقال: عابِد، والقرآن لا يأتي بالقليل من اللغة ولا الشاذ، ولكن المعنى: فأول من يَعْبُد الله على أنه واحد لا ولد له).
- قلت: ابن عرفة هو إبراهيم بن محمد بن عرفة الواسطي(ت:323هـ) المعروف بنفطويه، وهو من ذريّة المهلّب بن أبي صفرة الأزدي.
وما ذكره قد ذكر مثله أبو جعفر النحاس فقال: (وأيضا فإن بعدها ألفا، وأكثر ما يقال إذا أنف الإنسان وغضب وأنكر الشيء: عَبِدَ فهو عَبِدٌ، كما يقال: حَذِرَ فهو حَذِرٌ).
والجواب: أن استعمال العابد في معنى العَبِد ليس بشاذّ ولا ضعيف، وإن كان قليل الاستعمال؛ فليست قلّة استعماله طاعنة في صحّته؛ وقد صحّ سماعًا وقياساً، وقال به جماعة من السلف وعلماء اللغة.
بل إيثار لفظ العابدين هنا لو لم يكن فيه إلا صلاحيته للمعنيين لكفى به حكمة.
هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
رسالة, في

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:09 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir