بسم الله الرحمن الرحيم
التأصيل العلمي
إن الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتُنَّ إِلا وأنتم مسلمون }
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا}
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ، ومن يُطِع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما }
أما بعد :
فإن الله شرف أهل العلم بالفقه في الدين والدعوة إليه على بصيرة وتعليم الناس الخير وجعلهم أئمة يهدون بأمره، ويدعون إلى دينه، ويجاهدون في سبيله، ويبينون للناس ما نزل إليهم؛ فمن سلك سبيلهم واهتدى بهديهم صار منهم وحشر معهم وشَرُفَ بالنسبة إليهم، وصدقه الله وعده إذ وعد أهل العلم والإيمان بالرفعة والعزة والنصر والتمكين والفوز والفلاح في الدنيا والآخرة .
فلذلك كانت غاية طالب العلم أشرف الغايات، وكانت عبادة العلم أصل جميع العبادات، وتواترت الأدلة ببيان فضل العلم وأهله الذين يطلبونه ابتغاء وجه الله، وروى الأئمة الثقات في ذلك أحاديث كثيرة وآثاراً لا تحصر.
ومن أجمع ما صح من الأحاديث في فضل العلم وأهله ما رواه ابن أبي شيبة وأبو داوود والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن كثير بن قيس رحمه الله قال: كنت جالسا عند أبي الدرداء في مسجد دمشق فأتاه رجل فقال: يا أبا الدرداء أتيتك من المدينة مدينة رسول الله صلى الله عليه و سلم لحديث بلغني أنك تحدث به عن النبي صلى الله عليه و سلم.
قال: فما جاء بك تجارة؟
قال: لا
قال: ولا جاء بك غيره؟
قال: لا
قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن طالب العلم يستغفر له من في السماء والأرض حتى الحيتان في الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء هم ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر).
ولما كان هذا الطريق مفضياً إلى الخير العظيم في الدنيا والآخرة اشتد كيد الشيطان وحزبه في صد الناس وإغوائهم عنه وقعد للسالكين فيه مقاعد كثيرة وتفنن في أساليب الإغواء فمنهم من رده عن سلوكه من أول الطريق، ومنهم من أخذ به ذات اليمين وذات الشمال فزاغ عن المحجة وانحرف عن الصراط المستقيم والهدي القويم، لجهلهم وظلمهم وتفريطهم فيما وصاهم الله به.
وسارت فئة صابرة موقنة في طريق العلم معتصمين بالله تعالى لا تنطوي عليهم حبائل الشيطان وحزبه، ولا ينخدعون بزخرف قولهم وأمانيهم، قد جعلوا غايتهم نصب أعينهم ونظروا بنور الله فأبصروا الطريق المستقيم فسلكوه، وصبروا على ما أصابهم حتى بلغوا ما أمَّلوه؛ فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة ,إذ رفع الله ذكرهم، وجعل محبتهم في قلوب عباده، يحبونهم ويستغفرون لهم ويدعون لهم بخير وهم في عداد الأموات تجري عليهم الحسنات وترتفع بهم الدرجات فرحين بما آتاهم الله من فضله، وما أنجز لهم من وعده؛ فأولئك هم أئمة الدين ، وأولياء رب العالمين، تعلَّموا فأحسنوا التعلم، وعملوا فأحسنوا العمل، وعلَّموا فأحسنوا التعليم، وصبروا على ما أصابهم حتى لقوا ربهم وهو راض عنهم .
فنسأل الله العظيم من فضله وأن يجعلنا منهم، ويلحقنا بهم.
والمقصود بيان أن سلفنا الصالح من أهل العلم والإيمان قد سلكوا في طلب العلم والإيمان مسالك أوصلتهم فانتفعوا وارتفعوا، فمن سلك سبيلهم واهتدى بهديهم وصل وفاز وأفلح.
وقد سبرت سير بعض أولئك الأئمة الأعلام بعد الاهتداء بهدي القرآن العظيم الذي قال فيه ربنا جل وعلا: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}
وحذف المتعلق هنا لإرادة العموم، أي أقوم في كل شيء في العقائد والعبادات والأخلاق وغيرها .
قال الشافعي رحمه الله في الرسالة: (فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها).
وبعد تأمل هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي هديه أكمل الهدي وأحسنه، وهدي أصحابه أولي المناقب المشهورة، والفضائل المأثورة، فدلني ذلك فيما دلني إلى أن أتأمل سير أئمة أهل العلم والإيمان من الذين اتبعوهم بإحسان، ومن شهد له بالإمامة في فن من فنون العلم فحصلت من ذلك فوائد عظيمة ووصايا جليلة أرجو أن تكون نبراساً نهتدي به حتى نبلغ ما وعدناه بإذن الله تعالى.
وسأبيّنها بإذن الله تعالى في سلسلة موضوعات أنشرها لكم تباعاً لعل الله ينفعني وإياكم بها ويحقق لنا آمالنا وييسر بلوغها لنا.
والمقصود في هذا الموضوع التنبيه على أن لطلب العلم أصولاً من اعتنى بها أحسن تحصيله، وبلغ مأموله، ووفر على نفسه كثيراً من العناء، واستفاد خيراً كثيراً؛ فإن العلم يسير بتيسير الله لهذا الدين كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)
وطلب العلم من الدين، فهو يسير لمن يسره الله له فصدقت نيته وقويت عزيمته وأحسن طلبه، وتدرج في مدارج الطلب، ولم يتخبط فيه مع المتخبطين، وينقطع مع المنقطعين، وينحرف عنه ذات الشمال وذات اليمين.
معنى التأصيل العلمي:
التأصيل العلمي هو بناء الطالب تعلّمَه على أصول علمية متينة؛ فإنَّ البيت لا يقوم بغير عمد، والعلم لا يُحصَّل إذا ضُيعت أصوله، وهذا يفيدك بالتمثيل أن بناء العلم ينبغي أن يكون متكامل الأصول ، فمن قصر في تشييد بعض أصوله حصل عنده من الخلل بقدر ما فرط فيه من تلك الأصول، وبذل من الجهد والوقت أضعاف ما لو حصل ذلك الأصل من طريقه الصحيح.
وللتأصيل العلمي إطلاقان مشهوران:
فأما أحدهما: فالتأصيل في طلب العلم، ويراد به تأصيل طريقة الطلب، وتصحيح المنهج؛ بمراعاة أصول طلب العلم؛ بأن يأخذ العلم عن أهله، ويبدأ بدراسة المختصرات في العلوم المهمة؛ فيحسن دراستها وتفهّمها بإشراف علمي من عالم أو طلب علم متمكّن، ثم يتدرّج في دراسته على خطّة منهجية صحيحة.
وأما الآخر: فهو إطلاق خاصّ عند دراسة مسألة يحتاج إلى تنزيلها على أصولها العلمية ليصحّ تصوّرها، ويُعرف تكييفها، ويتبيّن حكمها.
وأكثر ما يرد هذا المعنى في المسائل النازلة والمشتبهة.
فالطالب المؤصّل هو يعرف ما يتصّل بالمسألة التي يدرسها من الأدلة والقواعد والضوابط ونحوها من الأصول العلمية.
فإذا كان هذا هو حال طالب العلم في غالب المسائل التي يدرسها حتى لو عرضت له مسألة نازلة عرف كيف يرجعها إلى أصولها فهو صاحب تأصيل علمي.
وهذا المعنى الخاص للتأصيل لا يتحقق إلا لمن حصل له المعنى العام.
وصيّة:
وينبغي أن يجتهد طالب العلم في تربية نفسه ورياضتها على الاتصاف بصفتين عظيمتين من أخذ بهما أحرز الإمامة في الدين ، وهما الصبر واليقين، وهاتان الخصلتان تعين إحداهما على الأخرى، ويحتاج إليهما طالب العلم حاجة عظيمة؛ فإنه إذا أيقن أنه سائر على الطريق الصحيح في طلبه للعلم، وأن هذا الطريق يفضي به بإذن الله إلى غايته المأموله من الأجر والفضل العظيم في الدنيا والآخرة حرص على الجد والاجتهاد فيه، ولم يشتغل بما يصرفه عنه من الصوارف، وأورثه ذلك من العزيمة على الصبر في طلب العلم والانتفاع به ما يزداد به يقيناً إلى يقينه حتى يبلغ في هاتين الصفتين مبلغاً عظيماً ويكون له من الإمامة في الدين بقدر ما يتصف به من هاتين الصفتين.
أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجعلني وإياكم من أهل العلم والإيمان، وأن يحفظنا بحفظه، ويتولانا برعايته، ويعصمنا من كيد الشيطان وحزبه، وأن يجعنا للمتقين إماماً، ويهدينا إليه صراطاً مستقيماً ، ويؤتينا من لدنه أجراً عظيماً في الدنيا والآخرة.