حرّر القول في واحدة من المسألتين التاليتين:
2: المراد بالتوفّي في قوله تعالى: {إني متوفّيك ورافعك إليّ}.
ذكر في المراد بالتوفي أقوال:
الأول: هي وفاة نومٍ. وهو قول الربيع, والحسن. ذكره ابن جرير, وابن عطية, وعزاه ابن كثير لأكثر أهل العلم.
وكان معنى الكلام على مذهبهم: إنّي منيمك، ورافعك في نومك.
واستدل له بقوله تعالى: {وهو الّذي يتوفّاكم باللّيل ويعلم ما جرحتم بالنّهار}, وقوله تعالى: {اللّه يتوفّى الأنفس حين موتها والّتي لم تمت في منامها فيمسك الّتي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجلٍ مسمًّى إنّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكّرون}.
وبقوله صلّى اللّه عليه وسلّم يقول -إذا قام من النّوم-: "الحمد للّه الّذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النّشور".
و بقول الحسن: قال رسول اللّه لليهود: إنّ عيسى لم يمت، وإنّه راجعٌ إليكم قبل يوم القيامة.
الثاني: إنّي قابضك من الأرض، فرافعك إليّ.وهو قول مطر الوراق, والحسن, وابن جريج, وكعب الأحبار, وجعفر بن الزبير, وابن زيد. أخرجه ابن جرير, وذكره ابن عطية.
قالوا: ومعنى الوفاة: القبض، لما يقال: توفّيت من فلانٍ ما لي عليه، بمعنى: قبضته واستوفيته، قالوا: فمعنى قوله: {إنّي متوفّيك ورافعك} أي قابضك من الأرض حيًّا إلى جواري، وآخذك إلى ما عندي بغير موتٍ، ورافعك من بين المشركين وأهل الكفر بك.
واستدل له بأنّ كعب الأحبار قال: ما كان اللّه عزّ وجلّ ليميت عيسى ابن مريم، إنّما بعثه اللّه داعيًا ومبشّرًا يدعو إليه وحده، فلمّا رأى عيسى قلّة من اتّبعه وكثرة من كذّبه، شكا ذلك إلى اللّه عزّ وجلّ، فأوحى اللّه إليه: {إنّي متوفّيك ورافعك إليّ} وليس من رفعته عندي ميّتًا، وإنّي سأبعثك على الأعور الدّجّال، فتقتله، ثمّ تعيش بعد ذلك أربعًا وعشرين سنة، ثمّ أميتك ميتة الحيّ قال كعب الأحبار: وذلك يصدّق حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حيث قال: كيف تهلك أمّةٌ أنا في أوّلها، وعيسى في آخرها؟.
الثالث: وفاة موتٍ. وهو قول ابن عباس, ووهب بن منبه, وابن إسحاق. أخرجه ابن جرير, وذكره ابن عطية, وابن كثير.
الرابع: من المقدّم والمؤخّر، تقديره: إنّي رافعك إليّ ومتوفّيك، يعني بعد ذلك. وهو قول قتادة, والفراء. ذكره الزجاج وعزاه لأكثر النحويين, وابن عطية, وابن كثير.
الخامس: متقبل عملك. وهو قول مكي. ذكره ابن عطية وضعفه من جهة اللفظ.
الدراسة:
اختلف أهل العلم في المراد بالتوفي في قوله تعالى: {إني متوفّيك ورافعك إليّ} إلى عدة أقوال وذلك راجع إلى اختلاف معنى التوفي في اللغة إلى عدة معان, تكون هذه المعاني راجعة إلى السياق التي تكون فيه الكلمة.
وقد ذكر صاحب معجم اللغة العربية المعاصرة معنى التوفي في اللغة, وذكر كل معنى على حسب السياق الذي تكون فيه فقال:
توفى يتوفى، توف، توفيا، فهو متوف، والمفعول متوفى (للمتعدي)
• توفى جارنا اليوم: مات، استوفى أجله.
• توفى الله الشخص:
1 - أماته، قبض روحه "توفاه الله وهو في مقتبل العمر- {الله يتوفى الأنفس حين موتها} ".
2 - أنامه " {وهو الذي يتوفاكم بالليل} ".
3 - قبض روحه من الأرض بلا موت " {إني متوفيك ورافعك إلي} ".
• توفى الشخص حقه: استوفاه؛ أخذه كاملا لم ينقص منه شيء "توفى أرباحه من الشركة".
وقد وجه ابن عطية قول ابن عباس رضي الله عنه بأن التوفي المراد منه الموت؛ بأن ذلك يكون على إما على قول ابن منبه: توفاه الله بالموت ثلاث ساعات ورفعه فيها ثم أحياه الله بعد ذلك، عنده في السماء وفي بعض الكتب، سبع ساعات, وإما على قول الفراء: هي وفاة موت ولكن المعنى، إنّي متوفّيك في آخر أمرك عند نزولك وقتلك الدجال، ففي الكلام تقديم وتأخير.
ورجح ابن جرير القول الثاني فقال: وأولى هذه الأقوال بالصّحّة عندنا قول من قال: معنى ذلك: إنّي قابضك من الأرض ورافعك إليّ؛ لتواتر الأخبار عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الدّجّال ثمّ يمكث في الأرض مدّةٌ ذكرها اختلفت الرّواية في مبلغها، ثمّ يموت، فيصلّي عليه المسلمون ويدفنونه.
ثم ذكر بعض الأحاديث في ذلك, منها ما رواه عن ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمّد بن مسلمٍ الزّهريّ، عن حنظلة بن عليٍّ الأسلميّ، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: ليهبطنّ اللّه عيسى ابن مريم حكمًا عدلاً وإمامًا مقسطًا، يكسر الصّليب، ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ويفيض المال حتّى لا يجد من يأخذه، وليسلكّن الرّوحاء حاجًّا أو معتمرًا، أو لثنيين بهما جميعًا.
ثم قال ابن جرير في تأكيد ما ذهب إليه من ترجيح القول الثاني وتضعيف ما عداه من الأقوال: ومعلومٌ أنّه لو كان قد أماته اللّه عزّ وجلّ لم يكن بالّذي يميته ميتةً أخرى، فيجمع عليه ميتتين؛ لأنّ اللّه عزّ وجلّ إنّما أخبر عباده أنّه يخلقهم ثمّ يميتهم، ثمّ يحييهم، كما قال جلّ ثناؤه {اللّه الّذي خلقكم ثمّ رزقكم ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيءٍ}.
فتأويل الآية إذًا: قال اللّه لعيسى: يا عيسى إنّي قابضك من الأرض ورافعك إليّ، ومطهّرك من الّذين كفروا، فجحدوا نبوّتك.
والله أعلم