ورأيت أهل العلم فى زماننا قد حصلوا حزبين وانقسموا الى فرقتين أصحاب حديث وأثر ، وأهل فقه ونظر ، وكل واحدة منهما لا تتميز عن أختها فى الحاجة ولا تستغنى عنها فى درك ما تنحوه من البغية والإرادة ، لأن الحديث بمنزلة الأساس الذى هو الأصل ، والفقه بمنزلة البناء الذى هو له كالفرع، وكل بناء لم يوضع على قاعدة وأساس فهو منهار ، وكل أساس خلا عن بناء وعمارة فهو قفر وخراب.
ووجدت هذين الفريقين على ما بينهم من التدانى فى المحلين والتقارب المنزلتين وعموم الحاجة من بعضهم الى بعض وشمول الفاقة اللازمه لكل منهم إلى صاحبه إخوانا متهاجرين وعلى سبيل الحق بلزوم التناصر والتعاون غير متظاهرين.
- فأما هذه الطبقة الذين هم أهل الأثر والحديث فإن الأكثرين منهم إنما وكْدُهم الروايات وجمع الطرق، وطلب الغريب والشاذ من الحديث الذى أكثره موضوع أو مقلوب، لا يراعون المتون ولا يتفهمون المعانى، ولا يستنبطون سيرها ولا يستخرجون ركازها وفقهها، وربما عابوا الفقهاء وتناولوهم بالطعن، وادعوا عليهم مخالفة السنن، ولا يعلمون أنهم عن مبلغ ما أوتوه من العلم قاصرون، وبسوء القول فيهم آثمون .
- وأما الطبقة الأخرى وهم أهل الفقه والنظر فإن أكثرهم لا يعرجون من الحديث الا على أقله، ولا يكادون يميزون صحيحه من سقيمه، ولا يعرفون جيده من رديئه، ولا يعبَؤون بما بلغهم منه أن يحتجوا به على خصومهم إذا وافق مذاهبهم التى ينتحلونها ووافق آرائهم التى يعتقدونها، وقد اصطلحوا على مواضعة بينهم فى قبول الخبر الضعيف والحديث المنقطع إذا كان ذلك قد اشتهر عندهم، وتعاورته الألسن فيما بينهم من غير ثبت فيه أو يقين علم به؛ فكان ذلك ضلة من الرأي وغبنا.
وهؤلاء -وفقنا الله واياهم - لو حكى لهم عن واحد من رؤساء مذاهبهم وزعماء نحلهم قول يقوله باجتهاد من قِبَل نفسه طلبوا فيه الثقة واستبرؤا له العهدة.
فتجد أصحاب مالك لا يعتمدون من مذهبه الا ما كان من رواية ابن القاسم والأشهب وضربائهم من تلاد أصحابه؛ فإذا جاءت رواية عبد الله بن عبد الحكم وأضرابه لم تكن عندهم طائلا.
وترى أصحاب أبى حنيفة لا يقبلون من الرواية عنه إلا ما حكاه أبو يوسف ومحمد بن الحسن والعِلية من أصحابة والأجلة من تلامذته؛ فإن جاءهم عن الحسن بن زياد اللؤلؤى وذويه روايةُ قولٍ بخلافه لم يقبلوه ولم يعتمدوه.
وكذلك تجد أصحاب الشافعى انما يعولون فى مذهبه على رواية المزنى والربيع بن سليمان المرادى؛ فاذا جاءت رواية حرملة والجيزي وأمثالهما لم يلتفتوا اليها ولم يعتدوا بها فى أقاويله.
وعلى هذا عادة كل فرقة من العلماء فى إحكام مذاهب أئمتهم وأستاذِيهم.
فإذا كان هذا دأبهم وكانوا لا يقنعون فى أمر هذه الفروع وروايتها عن هؤلاء الشيوخ إلا بالوثيقة والثبت؛ فكيف يجوز لهم أن يتساهلوا فى الأمر الأهمّ والخطب الأعظم؟!! وأن يتواكلوا الرواية والنقل عن إمام الأئمة ورسول رب العزة الواجبِ حكمه اللازمة طاعته، الذى يجب علينا التسليم لحكمه والانقياد لأمره من حيث لا نجد فى أنفسنا حرجا مما قضاه ولا فى صدورنا غلا من شئ مما أبرمه وأمضاه؟!!
- أرأيتم إذا كان للرجل أن يتساهل في أمر نفسه ويتسامح عن غرمائه فى حقه فيأخذ منهم الزيف ويغضى لهم عن العيب هل يجوز له أن يفعل ذلك فى حق غيره إذا كان نائباً عنه كولي الضعيف ووصي اليتيم ووكيل الغائب؟!!
- وهل يكون ذلك منه إذا فعله إلا خيانة للعهد وإخفارا للذمة؟!!
فهذا هو ذاك إما عيان حس وإما عيان مثل، ولكن أقواما عساهم استوعروا طريق الحق واستطالوا المدة فى درك الحظ وأحبوا عجالة النيل؛ فاختصروا طريق العلم واقتصروا على نتف وحروف منتزعة عن معانى أصول الفقه سموها عللا، وجعلوها شعارا لأنفسهم فى الترسّم برسم العلم، واتخذوها جنة عند لقاء خصومهم، ونصبوها دريئة للخوض والجدال، يتناظرون بها ويتلاطمون عليها، وعند التصادر عنها قد حكم للغالب بالحذق والتبريز فهو الفقيه المذكور فى عصره والرئيس المعظم فى بلده ومصره .
هذا وقد دسّ لهم الشيطان حيلة لطيفة وبلغ منهم مكيدة بليغة؛ فقال لهم: هذا الذى فى أيديكم علم قصير وبضاعة مزجاة لا تفى بمبلغ الحاجة والكفاية؛ فاستعينوا عليه بالكلام، وصلوه بمقطّعات منه، واستظهروا بأصول المتكلمين يتسع لكم مذهب الخوض ومجال النظر ، فصدّق عليهم ظنّه وأطاعه كثيرٌ منهم واتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين.
فيا للرجال والعقول! أنَّى يذهب بهم؟!! وأنى يختدعهم الشيطان عن حظهم وموضع رشدهم؟!! والله المستعان .
وقد انتهيت أكرمكم الله إلى ما دعوتم إليه بجهدى، وأتيت من مسألتكم بقدر ما تيسرت له، ورجوت أن يكون الفقيه إذا ما نظر إلى ما أثبته فى هذا الكتاب من معانى الحديث ونهجته من طرق الفقه المتشعبة عنه دعاه ذلك الى طلب الحديث وتتبع علمه.
وإذا تأمّله صاحب الحديث رغَّبه فى الفقه وتعلمه، والله الموفق له، وإليه أرغب فى أن يجعل ذلك لوجهه وأن يعصمنى من الزلل فيه برحمته.
واعلموا رحمكم الله أن كتاب السنن لأبى داود كتاب شريف لم يصنف فى علم الدين كتاب مثله، وقد رزق القبول من الناس كافة؛ فصار حكما بين فرق العلماء وطبقات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم؛ فلكل فيه ورد، ومنه شرب، وعليه معوّل أهل العراق، وأهل مصر وبلاد المغرب، وكثير من مدن أقطار الأرض.
فأما أهل خراسان فقد أولع أكثرهم بكتاب محمد بن إسمعيل ومسلم بن الحجاج ومن نحا نحوهما فى جمع الصحيح على شرطهما فى السبك والانتقاد، إلا أن كتاب أبى داود أحسن رصفا وأكثر فقها، وكتاب أبى عيسى أيضا كتاب حسن، والله يغفر لجماعتهم، ويحسن على جميل النية فيما سعوا له مثوبتهم برحمته.
ثم اعلموا أن الحديث عند أهله على ثلاثة أقسام: حديث صحيح، وحديث حسن، وحديث سقيم .
- فالصحيح عندهم ما اتصل سنده وعدلت نقلته.
- والحسن منه ما عرف مخرجه واشتهر رجاله، وعليه مدار أكثر الحديث، وهو الذى يقبله أكثر العلماء، ويستعمله عامة الفقهاء.
وكتاب أبى داود جامع لهذين النوعين من الحديث.
- فأما السقيم منه فعلى طبقات: شرها الموضوع ثم المقلوب، أعنى ما قلب إسناده، ثم المجهول، وكتاب أبى داود خليٌّ منها برئ من جملة وجوهها.
فإن وقع فيه شئ من بعض أقسامها لضرب من الحاجة تدعوه إلى ذكره؛ فإنه لا يألوا أن يبين أمره، ويذكر علته، ويخرج من عهدته.
وحُكي لنا عن أبى داود أنه قال: (ما ذكرت فى كتابى حديثاً اجتمع الناس على تركه).
وكان تصنيف علماء الحديث قبل زمان أبى داود: الجوامع والمسانيد ونحوهما؛ فتجمع تلك الكتب إلى ما فيها من السنن والاحكام أخبارا وقصصا ومواعظ وآدابا.
فأما السنن المحضة فلم يقصد واحد منهم جمعها واستيفائها ولم يقدر على تخليصها واختصار مواضعها من أثناء تلك الأحاديث الطويلة ومن أدلة سياقها على حسب ما اتفق لأبى داود، ولذلك حلّ هذا الكتاب عند أئمة الحديث وعلماء الأثر محلّ العجب؛ فضربت فيه أكباد الإبل ودامت اليه الرحل.
- أخبرنى أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد صاحب أبى العباس أحمد بن يحيى قال: قال إبراهيم الحربى لما صنّف أبو داود هذا الكتاب: (أُلين لأبى داود الحديث كما ألين لداود الحديد).
- وحدثنى عبد الله بن محمد المكّي، قال: حدثنى أبو بكر بن جابر خادم أبى داود قال: كنت معه ببغداد فصلينا المغرب إذ قرع الباب ففتحته فإذا خادم يقول: هذا الأمير أبو أحمد الموفق يستأذن؛ فدخلتُ إلى أبى داود فأخبرته بمكانه فأذن له؛ فدخل وقعد ثم أقبل عليه أبو داود وقال: ما جاء بالأمير فى مثل هذا الوقت؟
فقال: خلال ثلاث.
فقال: وما هي؟
قال: تنتقل إلى البصرة فتتخذها وطنا ليرحل اليك طلبة العلم من أقطار الأرض فتعمر بك فإنها قد خربت وانقطع عنها الناس لما جرى عليها من محنة الزنج.
فقال: هذه واحدة، هات الثانية.
قال: وتروي لأولادي كتاب السنن.
فقال: نعم، هات الثالثة.
قال: وتفرد لهم مجلسا للرواية فإنَّ أولاد الخلفاء لا يقعدون مع العامة.
فقال: أما هذه فلا سبيل إليها لأن الناس شريفهم ووضيعهم فى العلم سواء.
قال ابن جابر فكانوا يحضرون بعد ذلك ويقعدون في [كم حيرى] ويضرب بينهم وبين الناس ستر؛ فيسمعون مع العامة.
وسمعت ابن الأعرابى يقول ونحن نسمع منه هذا الكتاب فأشار إلى النسخة وهى بين يديه: (لو أن رجلا لم يكن عنده من العلم إلا المصحف الذى فيه كتاب الله ثم هذا الكتاب لم يحتج معهما إلى شئ من العلم بتة).
قال أبو سليمان: وهذا كما قال، لا شك فيه لأن الله تعالى أنزل كتابه تبيانا لكل شيء، وقال: {ما فرطنا فى الكتاب من شئ}؛ فأخبر سبحانه انه لم يغادر شيئا من أمر الدين لم يتضمن بيانه الكتاب إلا أن البيان على ضربين:
- بيان جلي تناوله الذكر نصاً.
- وبيان خفي اشتمل عليه معنى التلاوة ضمناً.
فما كان من هذا الضرب كان تفصيل بيانه موكولا إلى النبى صلى الله عليه وسلم، وهو معنى قوله سبحانه: {لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون}
فمن جمع بين الكتاب والسنة فقد استوفى وجهي البيان.
وقد جمع أبو داود فى كتابه هذا من الحديث فى أصول العلم وأمهات السنن وأحكام الفقه ما لا نعلم متقدما سبقه إليه، ولا متأخرا لحقه فيه، وقد كتبت لكم فيما أمليت من تفسيرها، وأوضحته من وجوهها ومعانيها، وذكر أقاويل العلماء واختلافهم فيها علما جماً؛ فكونوا به سعداء نفعنا الله تعالى وإياكم برحمته). [معالم السنن:3-13]