المجموعة الثانية:
1: حرر القول في:المراد بالملكين.
المراد من الملكين اختلف المفسرون فيه على أقوال بُنيت: على القراءات ، و على الاستدلال بعدد من الآثار الواردة من الصحابة و التابعين ،هي من الإسرائليات كما بين ابن كثير في تفسيره، و هذا الاختلاف ارتبط بمن هما ( هاروت و ماروت) المذكوران في الآية.
- القول الأول: على القراءة (المَلَكين) بالفتح و هي قراءة الجمهور، و قال الزجاج أن هذه القراءة أثبت في الرواية و في التفسير:
و على هذه القراءة اختلف لمفسرين على قولين:
1- أنهما (جبريل وميكائل)، قاله عطية في رواية لابن أبي حاتم كما ذكر ابن كثير، و ذكره ابن عطية و لم يسنده، و ذكره ابن جرير، والقرطبي (و اختاره) كما ذكر ابن كثير في تفسيره.
و قد علل ابن جرير و القرطبي هذا القول: لأن اليهود زعمت أن الله أنزل السحر على لسان جبريل و ميكائيل عليهما السلام إلى سليمان و هذه الآية نزلت فيها تبرئة لهم من هذا الافتراء و رد لمزاعم اليهود.
و هاروت و ماروت ملكان تعلما السحر من الشياطين، و هما ترجمة عن الناس.
2- أنهما كانا ملكين من السماء( هاروت و ماروت)، قاله علي روى ذلك عنه ابن جرير( و اختاره) و حكاه عنه القرطبي كما ذكر ابن كثير في تفسيره، و قاله عبد الله بن عمر رواه عنه أحمد مرفوعا، و حكاه عنه القرطبي، ذكر ذلك عنهم ابن كثير، ،قاله ابن مسعود و ابن عباس و الكلبي، حكى ذلك عنهم القرطبي كما ذكر ابن كثير، و رواه عبد الرزاق عن عبيد الله بن عبد الله، وقاله السدي، حكى ذلك عنه القرطبي و ابن كثير،و قاله مجاهد ذكر ذلك عنه ابن كثير و قاله كعب الأحبار ،الحسن البصري ذكر ذلك عنهم ابن كثير.
و يعترض ذلك عصمة الملائكة من عصيان أمر الله و لكن ابن كثير بين ذلك فقال ( وعلى هذا فيكون الجمع بين هذا وبين ما ثبت من الدّلائل على عصمة الملائكة أنّ هذين سبق في علم اللّه لهما هذا، فيكون تخصيصًا لهما، فلا تعارض حينئذٍ، كما سبق في علمه من أمر إبليس ما سبق، وفي قولٍ: إنّه كان من الملائكة، لقوله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى} [طه: 116]، إلى غير ذلك من الآيات الدّالّة على ذلك. مع أنّ شأن هاروت وماروت -على ما ذكر- أخفّ ممّا وقع من إبليس لعنه اللّه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله على الآثار التي يستند لها في هذا الراي: وهذا القصص يزيد في بعض الروايات وينقص في بعض، ولا يقطع منه بشيء، فلذلك اختصرته.
و قد ذكر ابن كثير الروايات التي رويت في هذا القول و عقب عليها فقال ما ملخصه : حديثٌ بن عمر المرفوع غريبٌ من هذا الوجه، ورجاله كلّهم ثقاتٌ من رجال الصّحيحين، إلّا موسى بن جبيرٍ هذا، و ذكره ابن أبي حاتم في كتابه الجرح و التعديل و لم يذكر فيه شيء ، مستور الحال وقد تفرّد به عن نافعٍ مولى ابن عمر، عن ابن عمر عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم. وروي له متابعٌ من وجهٍ آخر عن نافعٍ، كما روى ابن مردويه، و ذكر ابن كثير رواية عن ابن عمر مرفوعة من طريق نافع أيضًا و لكن بألفاظ أخرى، لكنه عقب أن الروايتين غريبتين و أنهما قد يكونان عن ابن عمر عن كعب الأحبار، و استدل برواية عن عبد الرزاق في تفسيره قريبة للروايتين، رواهما من طريق ابن عمر عن كعب الأحبار، و هذه لرواية رواها ابن جرير من طريقين عن عبد الرزاق و رواها ابن أبي حاتم من طريق سفيان الثوري.
و ذكر ابن كثير ما رواه ابن جريرٍ عن سالمٌ أنّه سمع عبد اللّه يحدّث، عن كعب الأحبار، فذكره.
ختم ابن كثير الكلام في هذه الروايات أن الرواية الأخيرة التي فيها سالم أصح و أثبت ، فسالم أثبت في أبيه من مولاه نافع ، و عليه فمدار الحديث عن كعب الأحبار و ليس مرفوعًا للرسول صلى الله عليه و سلم و هو من كتب بني إسرائيل.
و قال بعد أن أورد روايات عن التابعين : وقد روى في قصّة هاروت وماروت عن جماعةٍ من التّابعين، كمجاهدٍ والسّدّيّ والحسن [البصريّ] وقتادة وأبي العالية والزّهريّ والرّبيع بن أنسٍ ومقاتل بن حيّان وغيرهم، وقصّها خلقٌ من المفسّرين من المتقدّمين والمتأخّرين، وحاصلها راجعٌ في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل، إذ ليس فيها حديثٌ مرفوعٌ صحيحٌ متّصل الإسناد إلى الصّادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمال القصّة من غير بسطٍ ولا إطنابٍ فيها، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده اللّه تعالى، واللّه أعلم بحقيقة الحال.
- القراءة بكسر اللام الملِكين :
ذكر ابن كثير ما رواه ابن أبي حاتمٍ بإسناده، و ما حكاه القرطبي أنها قراءة الضّحّاك بن مزاحمٍ و أن القرطبي حكى عن ابن عبّاسٍ وابن أبزى والحسن البصري: أنهم قرؤوا: "وما أنزل على الملكين" بكسر اللّام ، و قد رد هذه القراءة ابن جرير.
و يكون المراد إما:
1- داود و سليمان، قاله ابن أبزي روى ذلك عنه ابن أبي حاتم كما ذكر ابن كثير، و ذكر ذلك عنه أيضًا ابن عطية .
و ذكر ابن كثير رواية لابن أبي حاتم عن عبد الرّحمن بن أبزى أنه كان يقرؤها: "وما أنزل على الملكين داود و سليمان
يمان".
و هنا ما نافية كما قال ابن عطية.
2- (هما علجان من أهل بابل) قاله الحسن ذكر ذلك عنه ابن عطية ، و قاله الضحاك بن مزاحم ، روى ذلك عنه ابن أبي حاتم بإسناده كما ذكر ابن كثير.
و ذكر ابن كثير وجه هذا القول أن الإنزال بمعنى الخلق و ليس الإيحاء، و استدل بنظائر للآية } كما قال تعالى: {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواجٍ} [الزّمر: 6]، {وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديدٌ}[الحديد: 25]، {وينزل لكم من السّماء رزقًا}[غافر: 13]. وفي الحديث: «ما أنزل اللّه داءً إلّا أنزل له دواءً». وكما يقال: أنزل اللّه الخير والشّرّ.
و ينظر في هذا التعليل، إن كان المراد أن الفعل يتضمن معنى الخلق، فلا يوجد ما يشير لذلك في الآية ، كما أن خلق فعل لازم و لا يتعدى بحرف جر.
و إذا نظرنا لتفسير الإنزال في قوله تعلى(وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواجٍ،) فسر ابن جرير الإنزال بجعل لكم و ليس خلق لكم.
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوي:
وَلَفْظُ " النُّزُولِ " حَيْثُ ذُكِرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فَسَّرُوا النُّزُولَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ مَا هُوَ مَعْنَاهُ الْمَعْرُوفُ لِاشْتِبَاهِ الْمَعْنَى فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ وَصَارَ ذَلِكَ حُجَّةً لِمَنْ فَسَّرَ نُزُولَ الْقُرْآنِ بِتَفْسِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ. فَمِنْ الْجَهْمِيَّة مَنْ يَقُولُ: أَنْزَلَ بِمَعْنَى خَلَقَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} أَوْ يَقُولُ: خَلَقَهُ فِي مَكَانٍ عَالٍ ثُمَّ أَنْزَلَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ
و قال في تفسير هذه الآية: وَلَا حَاجَةَ إلَى إخْرَاجِ اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ الْمَعْرُوفِ لُغَةً؛ فَإِنَّ الْأَنْعَامَ تَنْزِلُ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهَا وَمِنْ أَصْلَابِ آبَائِهَا تَأْتِي بُطُونَ أُمَّهَاتِهَا وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: قَدْ أَنْزَلَ الْمَاءَ وَإِذَا أَنْزَلَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ مَعَ أَنَّ الرَّجُلَ غَالِبُ إنْزَالِهِ وَهُوَ عَلَى جَنْبٍ إمَّا وَقْتَ الْجِمَاعِ وَإِمَّا بِالِاحْتِلَامِ فَكَيْفَ بِالْأَنْعَامِ الَّتِي غَالِبُ إنْزَالِهَا مَعَ قِيَامِهَا عَلَى رِجْلَيْهَا وَارْتِفَاعِهَا عَلَى ظُهُورِ الْإِنَاثِ وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَسْتَعْمِلْ النُّزُولَ فِيمَا خَلَقَ مِنْ السُّفْلَيَاتِ فَلَمْ يَقُلْ أَنَزَلَ النَّبَاتَ وَلَا أَنْزَلَ الْمَرْعَى وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلَ فِيمَا يُخْلَقُ فِي مَحَلٍّ عَالٍ وَأَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ كَالْحَدِيدِ وَالْأَنْعَامِ.
و قال ابن عطية أن ما هنا ليست نافية
3- القول الثالث على القراءة بالكسر أنهما ( هاروت و ماروت)، قاله الأسود الدؤلي كما ذكر ذلك عنه ابن عطية و قال أنه يعود لقول الحسن.
و ذكر ابن عطية أن الأسود الدؤلي قرأ بالكسر.
قال ابن عطية: هاروت وماروت بدل من الملكين على قول من قال: هما ملكان، ومن قرأ «ملكين» بكسر اللام وجعلهما داود وسليمان أو جعل الملكين جبريل وميكائل، جعل هاروت وماروت بدلا من الشّياطين في قوله: {ولكنّ الشّياطين}، وقال: هما شيطانان )
و نخلص مما سبق إلى:
1- القراءة التي يبنى عليها التفسير التي بالفتح لأنها ما عليه الجمهور، و باعتبار رد ابن جرير لقراءة الفتح ، و قال الزجاج و{المَلَكَيْنِ} أثبت في الرواية والتفسير جميعاً,.
2- القول أن المراد بالملكين هاروت و ماروت مبني على آثار أخبر ابن عطية أنه لا يقطع بصحة أي منها، و أرجعها ابن كثير إلى كعب الأحبار و هي مرويات من الإسرائليات، و لم يصح فيها حديث متصل الإسناد للرسول صلى الله عليه و سلم، ينظر فيها بالقواعد المتبعة : لا نصدق و لا نكذب ، و نقف عند ما أخبرنا الله به في القرآن، فالقصة وردت مجملة لحكمة عند الله.
3- القول أن المراد بهما جبريل و ميكائيل :
رده ابن جرير برده تفسير أن ما هي النافية و ترجيحه القول أن الملكين هما هاروت و ماروت،. و ما في (ما أنزل..) عند ابن جرير بمعنى الذي، و ليست نافية، و عقب ابن كثير على حججه التي أطال الحديث فيها أن الذي سلكه غريب جدًا.
رجحه القرطبي و قال لا ينظر لغيره.
و باستبعاد الأقوال السابقة يتبقى هذا القول، و قد بحثت عن أصله في كتاب السيرة لابن هشام، الذهبي،ابن كثير و قصص الأنبياء لابن كثير، و في صحيح البخاري ،فلم أصل، لعل الأمر يحتاج إلى مزيد وقت .
س2- فسّر قول الله تعالى:
{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ}.
هذه الآية من الآيات التي تفضح ما في قلوب اليهود و هو سبب جحودهم و نكرانهم للخير، الذي كانوا يرجون ان يكون لهم ( كانوا يستفتحون ...9) فلما نزل في نسل إسماعيل كبر عليهم و و أعمى الحقد و الحسد أعينهم و قلوبهم ، فأعرضوا و بارزوا المسلمين العداوة خفاءًا و جهارًا، قال تعالى عنهم ( ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب و المشركين ـن ينزل ...) كرهوا أن ينزل الخير على المسلمين، و تمنوا أن من آمن منهم أن يعود للكفر( ود كثير من أهل الكتاب) عبر الله على ما قام في قلوبهم ب( ود) من الود ليبين أن ما قام في قلوبهم من كره الخير يظهر على سلوكهم، فيفضحهم، قال( كثير من أهل الكتاب) قيل كعب الأشراف و قيل يحي الأخطل و أخوه و و هو متضمن للأتباع، كثير منهم و قليل منهم من كان محبًا لما جاء به النبي صلى الله عليه و سلم، هم أهل الكتاب( التوراة) هي حجة عليهم ، علموا أن هذا هو الحق مصدقًا لها، لكنهم ما عملوا بما عملوا، بل من بغضهم و كبرهم تمنوا أن من آمن بالله و وحده و صدق بالحق، و اتبع ما جاء به النبي الأمي الذي كانوا يظنونه منهم، تمنوا لو عاد كافرًا جاحدًا لما تبين له، أن يترك النور و يعود لظلمات الشرك و الكفر، ( يردونكم من بعد إيمانكم) ، يردونكم : أي أن يكون لهم يدًا و يكونوا سببًا في هذه الردة، سعوا لذلك بالقول و الفعل و بالباطل، و ذلك كله يغذيه ما قام في قلوبهم من حسد و كره الخير و تمني زواله عن المسلمين( حسدا) و (من عند أنفسهم) الأمارة بالسوء المظلمة بظلمة الكفر، لم يكتب في التوراة و لم يأمر به الله، بل هي أنفسهم الضالة المضلة ، ( من بعد ما تبين لهم الحق) يا لسوء عملهم، تبين لهم صدق ما جاء به النبي صلى الله عليه و سلم و أنه الحق و لكنهم ما استسلموا له و ما اتبعوه، عنادًا منهم و كبرًا عن الحق.
و كما كانت معصية إبليس عن كبر و حسد كان فعل اليهود، فالحذر الحذر من الإعراض عن الحق لمرض في القلب يغفل عنه الإنسان.
أجب عما يلي:
ما المراد بملك سليمان في قوله تعالى: {واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان}؟
المعنى مرتبط بالمراد من ( اتبعوا) و معنى حرف الجر على:
1- على أن المراد من الاتباع الانقياد يكون المراد:
أ. القول الأول: عهد ملك سليمان ، قاله السدي، ذكر ذلك عنه ابن كثير ،و قاله الزجاج، و ابن عطية.
و على هذا القول:
يكون المراد من ( تتلو) تتحدث و تروي و تتضمن معنى تكذب لذا عدى بعلى ، و على تكون على ذاتها ، و قد استحسن هذا المعنى ابن كثير، و يكون المعنى على عهد ملك سليمان،
أو أن على بمعنى في ، و هذا قول ابن جرير و اختياره، فعلى و في يأتيان مكان بعض في لغة العرب، و يكون المعنى في عهد ملك سليمان.
ب. القول الثاني: في ملك سليمان بمعنى في قصصه وصفاته وأخباره، ذكره ابن عطية .
و هنا على بمعنى في، ويرجع هذا القول للمعنى الأول ( عهد ملك سليمان) فما في عهده قصص و أخبار و صفات.
2- على أن المعنى المراد من الاتباع التفضيل ( قاله ابن جرير) :
فيكون المعنى المراد؛ اتّبعوا بمعنى فضلوا، وعلى ملك سليمان أي: على شرعه ونبوته وحاله، ذكره ابن عطية عن ابن جرير.
و هذا المعنى يعود للمعنى الأول، فاتباع أمر من أمرين يصاحبه ترك أمر منهما، كما أن ما كان في عهد ملك سليمان من أخبار و حال و صفات و قصص تتعلق بشرعه و نبوته و حاله.
فالقول الثاني و الثالث جزء من المعنى العام عهد ملك سليمان.
ب: المراد بالذي سئله موسى من قبل.
سئل موسى عليه السلام أن يرى الله جهرة ، قاله مجاهد، السدي،قتادة ،ذكر ذلك عنهم ابن كثير، و قاله ابن عطية.
و يحمل هذا التشبيه تعريض بحال اليهود من العناد و التكذيب و ذم لهم.