دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > مجموعة المتابعة الذاتية > منتدى المستوى السابع (المجموعة الثانية)

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 13 جمادى الآخرة 1443هـ/16-01-2022م, 11:18 PM
هيئة التصحيح 11 هيئة التصحيح 11 غير متواجد حالياً
هيئة التصحيح
 
تاريخ التسجيل: Jan 2016
المشاركات: 2,525
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد العبد اللطيف مشاهدة المشاركة


بسم الله الرحمن الرحيم
فهرسة مسائل القسم الثاني من مقدمة تفسير التحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور (ت: 1393هـ)


الجزء الاول
المقدمة السابعة: قصص القرآن


- بيان الغرض من قصص القرآن ودليله

أن القصص القرآنية لم تسق مساق الإحماض وتجديد النشاط، وما يحصل من استغراب مبلغ تلك الحوادث من خير أو شر؛ لأن غرض القرآن أسمى وأعلى من هذا، ولو كان من هذا لساوى كثيرا من قصص الأخبار الحسنة الصادقة فما كان جديرا بالتفضيل على كل جنس القصص. دليل ذلك ما علم من لفظة "أحسن" في قوله تعالى {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين} .

- بيان معنى القصة في اللغة و القرآن

القصة: الخبر عن حادثة غائبة عن المخبر بها. جمع القصة قصص بكسر القاف، وأما القصص بفتح القاف فاسم للخبر المقصوص، وهو مصدر سمي به المفعول، يقال: قص علي فلان إذا أخبره بخبر. ليس ما في القرآن من ذكر الأحوال الحاضرة في زمن نزوله قصصا مثل ذكر وقائع المسلمين مع عدوهم.

- بيان مميزات القصص القرآني

ليس الغرض من سوقها قاصرا على حصول العبرة والموعظة مما تضمنته القصة من عواقب الخير أو الشر، ولا على حصول التنويه بأصحاب تلك القصص في عناية الله بهم أو التشويه بأصحابها فيما لقوه من غضب الله عليهم.

إن في تلك القصص لعبرا جمة وفوائد للأمة؛ ولذلك نرى القرآن يأخذ من كل قصة أشرف مواضيعها ويعرض عما عداه ليكون تعرضه للقصص منزها عن قصد التفكه بها.

لم تأت القصص في القرآن متتالية متعاقبة في سورة أو سور كما يكون كتاب تاريخ، بل كانت مفرقة موزعة على مقامات تناسبها، لأن معظم الفوائد الحاصلة منها لها علاقة بذلك التوزيع، هو ذكر وموعظة لأهل الدين فهو بالخطابة أشبه.

أسلوب القرآن خاص هو الأسلوب المعبر عنه بالتذكير وبالذكر فكان أسلوبه قاضيا للوطرين وكان أجل من أسلوب القصاصين في سوق القصص لمجرد معرفتها لأن سوقها في مناسباتها يكسبها صفتين: صفة البرهان وصفة التبيان.

من مميزات قصص القرآن نسج نظمها على أسلوب الإيجاز ليكون شبهها بالتذكير أقوى من شبهها بالقصص، مثال ذلك قوله تعالى في سورة القلم: {فلما رأوها قالوا إنا لضالون بل نحن محرومون قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون} فقد حكيت مقالته هذه في موقع تذكيره أصحابه بها لأن ذلك محز حكايتها ولم تحك أثناء قوله: {إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين} وقوله: {فتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين}.

من مميزاتها طي ما يقتضيه الكلام الوارد كقوله تعالى في سورة يوسف: {واستبقا الباب} فقد طوي ذكر حضور سيدها وطرقه الباب وإسراعهما إليه لفتحه، فإسراع يوسف ليقطع عليها ما توسمه فيها من المكر به لتري سيدها أنه أراد بها سوءا. وإسراعها هي لضد ذلك لتكون البادئة بالحكاية فتقطع على يوسف ما توسمته فيه من شكاية. فدل على ذلك ما بعده من قوله: {وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا} الآيات،
منها أن القصص بثت بأسلوب بديع إذ ساقها في مظان الاتعاظ بها مع المحافظة على الغرض الأصلي الذي جاء به القرآن من تشريع وتفريع.

- فوائد أسلوب القرآن في القصص

الفائدة الأولى: اشتمال القرآن على تلك القصص التي لا يعلمها إلا الراسخون في العلم من أهل الكتاب تحديا عظيما لأهل الكتاب، وتعجيزا لهم بقطع حجتهم على المسلمين.

الفائدة الثانية: أن من أدب الشريعة معرفة تاريخ سلفها في التشريع من الأنبياء بشرائعهم فكان اشتمال القرآن على قصص الأنبياء وأقوامهم تكليلا لهامة التشريع الإسلامي بذكر تاريخ المشرعين، ومن أسلوب القرآن في هذا الغرض أنه لا يتعرض إلا إلى حال أصحاب القصة في رسوخ الإيمان وضعفه وفيما لذلك من أثر عناية إلهية أو خذلان. وفي هذا الأسلوب لا تجد في ذكر أصحاب هذه القصص بيان أنسابهم أو بلدانهم إذ العبرة فيما وراء ذلك من ضلالهم أو إيمانهم.

الفائدة الثالثة: ما فيها من فائدة التاريخ من معرفة ترتب المسببات على أسبابها في الخير والشر والتعمير والتخريب لتقتدي الأمة وتحذر، قال تعالى: {فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا} وما فيها من فائدة ظهور المثل العليا في الفضيلة وزكاء النفوس أو ضد ذلك.

الفائدة الرابعة: ما فيها من موعظة المشركين بما لحق الأمم التي عاندت رسلها، وعصت أوامر ربها حتى يرعووا عن غلوائهم، ويتعظوا بمصارع نظرائهم وآبائهم، وكيف يورث الأرض أولياءه وعباده الصالحين قال تعالى: {فاقصص القصص لعلهم يتفكرون} وقال {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب}.

الفائدة الخامسة: أن في حكاية القصص سلوك أسلوب التوصيف والمحاورة وذلك أسلوب لم يكن معهودا للعرب فكان مجيئه في القرآن ابتكار أسلوب جديد في البلاغة العربية شديد التأثير في نفوس أهل اللسان، وهو من إعجاز القرآن.

الفائدة السادسة: أن العرب بتوغل الأمية والجهل فيهم أصبحوا لا تهتدي عقولهم إلا بما يقع تحت الحس، أو ما ينتزع منه ففقدوا فائدة الاتعاظ بأحوال الأمم الماضية وجهلوا معظمها وجهلوا أحوال البعض الذي علموا أسماءه فأعقبهم ذلك إعراضا عن السعي لإصلاح أحوالهم بتطهيرها مما كان سبب هلاك من قبلهم، فكان في ذكر قصص الأمم توسيع لعلم المسلمين بإحاطتهم بوجود الأمم ومعظم أحوالها، قال مشيرا إلى غفلتهم قبل الإسلام: {وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم}.

الفائدة السابعة: تعويد المسلمين على معرفة سعة العالم وعظمة الأمم والاعتراف لها بمزاياها حتى تدفع عنهم وصمة الغرور كما وعظهم قوله تعالى عن قوم عاد: {وقالوا من أشد منا قوة} فإذا علمت الأمة جوامع الخيرات وملائمات حياة الناس تطلبت كل ما ينقصها مما يتوقف عليه كمال حياتها وعظمتها.

الفائدة الثامنة: أن ينشئ في المسلمين همة السعي إلى سيادة العالم كما ساده أمم من قبلهم ليخرجوا من الخمول الذي كان عليه العرب إذ رضوا من العزة باغتيال بعضهم بعضا فكان منتهى السيد منهم أن يغنم صريمة، ومنتهى أمل العامي أن يرعى غنيمة، وتقاصرت هممهم عن تطلب السيادة حتى آل بهم الحال إلى أن فقدوا عزتهم فأصبحوا كالأتباع للفرس والروم.

الفائدة التاسعة: معرفة أن قوة الله تعالى فوق كل قوة، وأن الله ينصر من ينصره، وأنهم إن أخذوا بوسيلتي البقاء: من الاستعداد والاعتماد؛ سلموا من تسلط غيرهم عليهم. وذكر العواقب الصالحة لأهل الخير، وكيف ينصرهم الله تعالى كما في قوله: {فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين}.

الفائدة العاشرة: أنها يحصل منها بالتبع فوائد في تاريخ التشريع والحضارة وذلك يفتق أذهان المسلمين للإلمام بفوائد المدنية كقوله تعالى: {كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله} في قراءة من قرأ {دين} بكسر الدال، أي في شرع فرعون يومئذ، فعلمنا أن شريعة القبط كانت تخول استرقاق السارق.

- بيان فائدة تكرار القصة الواحدة في القرآن

إن قصص القرآن أشبه بالخطب والمواعظ منه بالتآليف. وفوائد القصص تجتلبها المناسبات فتذكر القصة كالبرهان على الغرض المسوقة هي معه، فلا يعد ذكرها مع غرضها تكريرا لها لأن سبق ذكرها إنما كان في مناسبات أخرى. كما لا يقال للخطيب في قوم، ثم دعته المناسبات إلى أن وقف خطيبا في مثل مقامه الأول فخطب بمعان تضمنتها خطبته السابقة إنه أعاد الخطبة، بل إنه أعاد معانيها ولم يعد ألفاظ خطبته. وهذا مقام تظهر فيه مقدرة الخطباء فيحصل من ذكرها هذا المقصد الخطابي. ثم تحصل معه مقاصد أخرى:

أحدها: رسوخها في الأذهان بتكريرها.

الثاني: ظهور البلاغة، فإن تكرير الكلام في الغرض الواحد من شأنه أن يثقل على البليغ فإذا جاء اللاحق منه إثر السابق مع تفنن في المعاني باختلاف طرق أدائها من مجاز أو استعارات أو كناية. وتفنن الألفاظ وتراكيبها بما تقتضيه الفصاحة وسعة اللغة باستعمال المترادفات مثل: {ولئن رددت}. {ولئن رجعت}. وتفنن المحسنات البديعية المعنوية واللفظية ونحو ذلك كان ذلك من الحدود القصوى في البلاغة، فذلك وجه من وجوه الإعجاز.

الثالث: أن يسمع اللاحقون من المؤمنين في وقت نزول القرآن ذكر القصة التي كانت فاتتهم مماثلتها قبل إسلامهم أو في مدة مغيبهم، فإن تلقي القرآن عند نزوله أوقع في النفوس من تطلبه من حافظيه.

الرابع: أن جمع المؤمنين جميع القرآن حفظا كان نادرا بل تجد البعض يحفظ بعض السور فيكون الذي حفظ إحدى السور التي ذكرت فيها قصة معينة عالما بتلك القصة. كعلم من حفظ سورة أخرى ذكرت فيها تلك القصة.

الخامس: أن تلك القصص تختلف حكاية القصة الواحدة منها بأساليب مختلفة ويذكر في بعض حكاية القصة الواحدة ما لم يذكر في بعضها الآخر وذلك لأسباب.

- أسباب اختلاف أساليب ذكر القصة الواحدة

منها تجنب التطويل في الحكاية الواحدة فيقتصر على موضع العبرة منها في موضع وبذكر آخر في موضع آخر فيحصل من متفرق مواضعها في القرآن كمال القصة أو كمال المقصود منها، وفي بعضها ما هو شرح لبعض.

ومنها أن يكون بعض القصة المذكور في موضع مناسبا للحالة المقصودة من سامعيها، ومن أجل ذلك تجد ذكرا لبعض القصة في موضع وتجد ذكرا لبعض آخر منها في موضع آخر لأن فيما يذكر منها مناسبة للسياق الذي سيقت له، فإنها تارة تساق إلى المشركين، وتارة إلى أهل الكتاب، وتارة تساق إلى المؤمنين، وتارة إلى كليهما، وقد تساق للطائفة من هؤلاء في حالة خاصة، ثم تساق إليها في حالة أخرى. وبذلك تتفاوت بالإطناب والإيجاز على حسب المقامات، ألا ترى قصة بعث موسى كيف بسطت في سورة طه، وسورة الشعراء. وكيف أوجزت في آيتين في سورة الفرقان {ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا} ومنها أنه قد يقصد تارة التنبيه على خطأ المخاطبين فيما ينقلونه من تلك القصة، وتارة لا يقصد ذلك.

المقدمة الثامنة في اسم القرآن وآياته وسوره وترتيبها وأسمائها


- بيان موضوع علم التفسير

موضوع علم التفسير هو القرآن لتبيان معانيه وما يشتمل عليه من إرشاد وهدى وآداب وإصلاح حال الأمة في جماعتها وفي معاملتها مع الأمم التي تخالطها: بفهم دلالته اللغوية والبلاغية.

- بيان التعريف بالقرآن

القرآن هو الكلام الذي أوحاه الله تعالى كلاما عربيا إلى محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل على أن يبلغه الرسول إلى الأمة باللفظ الذي أوحي به إليه للعمل به ولقراءة ما يتيسر لهم أن يقرأوه منه في صلواتهم وجعل قراءته عبادة

وجعله كذلك آية على صدق الرسول في دعواه الرسالة عن الله إلى الخلق كافة بأن تحدى منكريه والمترددين فيه من العرب وهم المخاطبون به الأولون بأنهم لا يستطيعون معارضته، ودعاهم إليها فلم يفعلوا. دعاهم أول الأمر إلى الإتيان بعشر سور مثله فقال: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله} سورة هود. ثم استنزلهم إلى أهون من ذلك عليهم فقال: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه} سورة يونس ثم جاء بأصرح من ذلك وأنذرهم بأنهم ليسوا بآتين بذلك فقال في سورة البقرة: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار} الآية. وقال: {ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين} {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} سورة العنكبوت وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: ((ما من الأنبياء نبي إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة))

اسم القرآن على وزن فعلان وهي زنة وردت في أسماء المصادر مثل غفران، وشكران وبهتان، ووردت زيادة النون في أسماء أعلام مثل عثمان وحسان وعدنان، واسم قرآن صالح للاعتبارين لأنه مشتق من القراءة لأن أول ما بدئ به الرسول من الوحي {اقرأ باسم ربك} الآية. وقال تعالى: {وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا}.همزة قرآن أصلية ووزنه فعلان ولذلك اتفق أكثر القراء على قراءة لفظ قرآن مهموزا حيثما وقع في التنزيل ولم يخالفهم إلا ابن كثير قرأه بفتح الراء بعدها ألف على لغة تخفيف المهموز وهي لغة حجازية، والأصل توافق القراءات في مدلول اللفظ المختلف في قراءته. وقيل هو قرآن بوزن فعال، من القرن بين الأشياء أي الجمع بينها لأنه قرنت سوره بعضها ببعض وكذلك آياته وحروفه وسمي كتاب الله قرآنا كما سمي الإنجيل الأنجيل، وليس مأخوذا من قرأت، ولهذا يهمز قرأت ولا يهمز القرآن فتكون قراءة ابن كثير جارية على أنه اسم آخر لكتاب الله على هذا الوجه. ومن الناس من زعم أن قران جمع قرينة أي اسم جمع، إذ لا يجمع مثل قرينة على وزن فعال في التكثير فإن الجموع الواردة على وزن فعال محصورة ليس هذا منها، والقرينة العلامة، قالوا لأن آياته يصدق بعضها بعضا فهي قرائن على الصدق.

- بيان التعريف بأسماء القرآن

اسم القرآن هو الاسم الذي جعل علما على الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يسبق أن أطلق على غيره قبله، وهو أشهر أسمائه وأكثرها ورودا في آياته وأشهرها دورانا على ألسنة السلف.

وله أسماء أخرى هي في الأصل أوصاف أو أجناس أنهاها في الإتقان إلى نيف وعشرين. والذي اشتهر إطلاقه عليه منها ستة: التنزيل، والكتاب، والفرقان، والذكر، والوحي، وكلام الله.

- بيان معنى تسمية القرآن - الفرقان

الفرقان في الأصل اسم لما يفرق به بين الحق والباطل وهو مصدر، وقد وصف يوم بدر بيوم الفرقان وأطلق على القرآن في قوله تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} وقد جعل هذا الاسم علما على القرآن بالغلبة مثل التوراة على الكتاب الذي جاء به موسى والإنجيل على الوحي الذي أنزل على عيسى قال تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات} إلى قوله: {وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان} فوصفه أولا بالكتاب وهو اسم الجنس العام ثم عبر عنه باسم الفرقان عقب ذكر التوراة والإنجيل وهما علمان ليعلم أن الفرقان علم على الكتاب الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم

ووجه تسميته الفرقان أنه امتاز عن بقية الكتب السماوية بكثرة ما فيه من بيان التفرقة بين الحق والباطل، فإن القرآن يعضد هديه بالدلائل والأمثال ونحوها، وحسبك ما اشتمل عليه من بيان التوحيد وصفات الله مما لا تجد مثله في التوراة والإنجيل كقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} وأذكر لك مثالا يكون تبصرة لك في معنى كون القرآن فرقانا وذلك أنه حكى صفة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الواردة في التوراة والإنجيل بقوله: {والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} الآيات من سورة محمد[1] فلما وصفهم القرآن قال: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} الآية آل عمران فجمع في هاته الجملة جميع أوصاف الكمال. وأما إن افتقدت ناحية آيات أحكامه فإنك تجدها مبرأة من اللبس وبعيدة عن تطرق الشبهة، وحسبك قوله: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا} فإنك لا تجد في التوراة جملة تفيد هذا المعنى بله ما في الإنجيل. وهذا من مقتضيات كون القرآن مهيمنا على الكتب السالفة في قوله تعالى: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه} وسيأتي بيان هذا في أول آل عمران.

- بيان معنى تسمية القرآن - التنزيل

التنزيل فهو مصدر نزل، أطلق على المنزل باعتبار أن ألفاظ القرآن أنزلت من السماء قال تعالى: {تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون} وقال: { تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين}.

- بيان معنى تسمية القرآن- الكتاب

الكتاب أصله اسم جنس مطلق ومعهود. وباعتبار عهده أطلق على القرآن كثيرا قال تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه} وقال: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب} وإنما سمي كتابا لأن الله جعله جامعا للشريعة فأشبه التوراة لأنها كانت مكتوبة في زمن الرسول المرسل بها، وأشبه الإنجيل الذي لم يكتب في زمن الرسول الذي أرسل به ولكنه كتبه بعض أصحابه وأصحابهم، ولأن الله أمر رسوله أن يكتب كل ما أنزل عليه منه ليكون حجة على الذين يدخلون في الإسلام ولم يتلقوه بحفظ قلوبهم. وفي هذه التسمية معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم بأن ما أوحي إليه سيكتب في المصاحف قال تعالى: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها} وقال {وهذا كتاب[2] مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون}. وغير ذلك، ولذلك اتخذ النبيء صلى الله عليه وسلم من أصحابه كتابا يكتبون ما أنزل إليه؛ من أول ما ابتدئ نزوله، ومن أولهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان. وقد وجد جميع ما حفظه المسلمون في قلوبهم على قدر ما وجدوه مكتوبا يوم أمر أبو بكر بكتابة المصحف.

- بيان معنى تسمية القرآن - الذكر

قال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} أي لتبينه للناس، وذلك أنه تذكير بما يجب على الناس اعتقاده والعمل به.

- بيان معنى تسمية القرآن- الوحي

قال تعالى: {قل إنما أنذركم بالوحي} ووجه هذه التسمية أنه ألقي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة الملك وذلك الإلقاء يسمى وحيا لأنه يترجم عن مراد الله تعالى فهو كالكلام المترجم عن مراد الإنسان، ولأنه لم يكن تأليف تراكيبه من فعل البشر.

- بيان تسمية القرآن- كلام الله

سُمي القرآن كلام الله فقال تعالى {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله}.

- بيان تسمية الصحابة القرآن بالمصحف

أن أبا بكر رضي الله عنه لما أمر بجمع القرآن وكتابته كتبوه على الورق فقال للصحابة: التمسوا اسما، فقال بعضهم سموه إنجيلا فكرهوا ذلك من أجل النصارى، وقال بعضهم سموه السفر فكرهوه من أجل أن اليهود يسمون التوراة السفر. فقال عبد الله ابن مسعود: رأيت بالحبشة كتابا يدعونه المصحف فسموه مصحفا يعني أنه رأى كتابا غير الإنجيل.

آيات القرآن


- بيان المراد بالآية القرآنية

الآية: هي مقدار من القرآن مركب ولو تقديرا أو إلحاقا، فقولي ولو تقديرا لإدخال قوله تعالى: {مدهامتان} إذ التقدير هما مدهامتان، ونحو {والفجر} إذ التقدير أقسم بالفجر. وقولي أو إلحاقا: لإدخال بعض فواتح السور من الحروف المقطعة فقد عد أكثرها في المصاحف آيات ما عدا: آلر، وآلمر، وطس، وذلك أمر توقيفي وسنة متبعة ولا يظهر فرق بينها وبين غيرها. وتسمية هذه الأجزاء آيات هو من مبتكرات القرآن، قال تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات} وقال: {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت}.

- بيان اسباب تسمية الآية بذلك الاسم

إنما سميت آية لأنها دليل على أنها موحى بها من عند الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنها تشتمل على ما هو من الحد الأعلى في بلاغة نظم الكلام، ولأنها لوقوعها مع غيرها من الآيات جعلت دليلا على أن القرآن منزل من عند الله وليس من تأليف البشر إذ قد تحدى النبيء به أهل الفصاحة والبلاغة من أهل اللسان العربي فعجزوا عن تأليف مثل سورة من سوره.

- بيان سبب عدم تسمية جمل التوراة والانجيل آيات

لا يحق لجمل التوراة والإنجيل أن تسمى آيات إذ ليست فيها هذه الخصوصية ( تحدي أهل الفصاحة والبلاغة) في اللغة العبرانية والآرامية. وأما ما ورد في حديث رجم اليهوديين اللذين زنيا من قول الراوي فوضع الذي نشر التوراة يده على آية الرجم فذلك تعبير غلب على لسان الراوي على وجه المشاكلة التقديرية تشبيها بجمل القرآن، إذ لم يجد لها اسما يعبر به عنها.

- بيان علم تحديد مقادير الآيات وأدلته

تحديد مقادير الآيات مروي عن النبيء صلى الله عليه وسلم وقد تختلف الرواية في بعض الآيات وهو محمول على التخيير في حد تلك الآيات التي تختلف فيها الرواية في تعيين منتهاها ومبتدأ ما بعدها. فكان أصحاب النبيء صلى الله عليه وسلم على علم من تحديد الآيات.
في الحديث الصحيح أن فاتحة الكتاب السبع المثاني أي السبع الآيات. وفي الحديث ((من قرأ العشر الخواتم من آخر آل عمران)) الحديث. وهي الآيات التي أولها {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} إلى آخر السورة.
كان المسلمون في عصر النبؤة وما بعده يقدرون تارة بعض الأوقات بمقدار ما يقرأ القارئ عددا من الآيات كما ورد في حديث سحور النبيء صلى الله عليه وسلم أنه كان بينه وبين طلوع الفجر مقدار ما يقرأ القارئ خمسين آية.
قال أبو بكر ابن العربي وتحديد الآية من معضلات القرآن، فمن آياته طويل وقصير، ومنه ما ينقطع ومنه ما ينتهي إلى تمام الكلام، وقال الزمخشري الآيات علم توقيفي.

- بيان علاقة فواصل القرآن بمقدار الآيات

لا يبعد أن يكون تعيين مقدار الآية تبعا لانتهاء نزولها وأمارته وقوع الفاصلة. أن الفواصل هي الكلمات التي تتماثل في أواخر حروفها أو تتقارب، مع تماثل أو تقارب صيغ النطق بها وتكرر في السورة تكررا يؤذن بأن تماثلها أو تقاربها مقصود من النظم في آيات كثيرة متماثلة، تكثر وتقل، وأكثرها قريب من الأسجاع في الكلام المسجوع. والعبرة فيها بتماثل صيغ الكلمات من حركات وسكون وهي أكثر شبها بالتزام ما لا يلزم في القوافي. وأكثرها جار على أسلوب الأسجاع.
أن تلك الفواصل كلها منتهى آيات ولو كان الكلام الذي تقع فيه لم يتم فيه الغرض المسوق إليه، وأنه إذا انتهى الغرض المقصود من الكلام ولم تقع عند انتهائه فاصلة لا يكون منتهى الكلام نهاية آية إلا نادرا كقوله تعالى: {ص * والقرآن ذي الذكر} فهذا المقدار عد آية وهو لم ينته بفاصلة، ومثله نادر. فإن فواصل تلك الآيات الواقعة في أول السورة أقيمت على حرف مفتوح بعده ألف مد بعدها حرف، مثل: شقاق، مناص، كذاب، عجاب. وفواصل بنيت على حرف مضموم مشبع بواو. أو على حرف مكسور مشبع بياء ساكنة، وبعد ذلك حرف، مثل {أنتم عنه معرضون} {إذ يستمعون} {نذير مبين} {من طين}. فلو انتهى الغرض الذي سيق له الكلام وكانت فاصلة تأتي بعد انتهاء الكلام تكون الآية غير منتهية ولو طالت، كقوله تعالى: {قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك} إلى قوله: {وخر راكعا وأناب} فهذه الجمل كلها عدت آية واحدة.

- بيان إن الفواصل من مقاصد الإعجاز في القرآن

أن هذه الفواصل من جملة المقصود من الإعجاز لأنها ترجع إلى محسنات الكلام وهي من جانب فصاحة الكلام فمن الغرض البلاغي الوقوف عند الفواصل لتقع في الأسماع فتتأثر نفوس السامعين بمحاسن ذلك التماثل، كما تتأثر بالقوافي في الشعر وبالأسجاع في الكلام المسجوع. فإن قوله تعالى: {إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون} آية {في الحميم ثم في النار يسجرون} آية {ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون} آية {من دون الله} إلى آخر الآيات. فقوله: {في الحميم} متصل بقوله: {يسحبون} وقوله: {من دون الله} متصل بقوله: {تشركون} وينبغي الوقف عند نهاية كل آية منها.وقوله تعالى: {واشهدوا أني بريء مما تشركون} آية. وقوله: {من دونه} ابتداء الآية بعدها في سورة هود. ألا ترى أن من الإضاعة لدقائق الشعر أن يلقيه ملقيه على مسامع الناس دون وقف عند قوافيه فإن ذلك إضاعة لجهود الشعراء، وتغطية على محاسن الشعر، وإلحاق للشعر بالنثر. وأن إلفاء السجع دون وقوف عند أسجاعه هو كذلك لا محالة. ومن السذاجة أن ينصرف ملقي الكلام عن محافظة هذه الدقائق فيكون مضيعا لأمر نفيس أجهد فيه قائله نفسه وعنايته. والعلة بأنه يريد أن يبين للسامعين معاني الكلام، فضول، فإن البيان وظيفة ملقي درس لا وظيفة منشد الشعر، ولو كان هو الشاعر نفسه.

- بيان أن الوقوف على رؤوس الآي سنة

ورد في "الإتقان" عن أبي عمرو قال بعضهم: الوقف على رؤوس الآي سنة. وفيه عن البيهقي في شعب الإيمان: الأفضل الوقف على رؤوس الآيات وان تعلقت بما بعدها اتباعا لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، وفي سنن أبي داود عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ قطع قراءته آية آية يقول: {بسم الله الرحمن الرحيم} ثم يقف. {الحمد لله رب العالمين} ثم يقف { الرحمن الرحيم} ثم يقف.

- بيان ضوابط تحديد الآيات وأدلتها

وجوب اتباع المأثور من تحديد الآي كما قال ابن العربي والزمخشري ولكن ذلك لا يصدنا عن محاولة ضوابط تنفع الناظر وإن شذ عنها ما شذ.
أن بعض الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور قد عد بعضها آيات مثل. {الم}. {المص}. {كهيعص}. {عسق}. {طسم}. {يس}. {حم}. {طه}. ولم تعد الر. المر. طس. ص. ق. ن. آيات.

آيات القرآن متفاوتة في مقادير كلماتها فبعضها أطول من بعض ولذلك فتقدير الزمان بها في قولهم: مقدار ما يقرأ القارئ خمسين آية مثلا، تقدير تقريبي، وتفاوت الآيات في الطول تابع لما يقتضيه مقام البلاغة من مواقع كلمات الفواصل على حسب ما قبلها من الكلام.

أن أطول آية قوله تعالى: {هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام} إلى قوله: {وكان الله بكل شيء عليما} في سورة الفتح، وقوله: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} إلى قوله: {لو كانوا يعلمون} في سورة البقرة ودونهما قوله تعالى: { حرمت عليكم أمهاتكم} إلى قوله: {إن الله كان غفورا رحيما} في سورة النساء.وأقصر آية في عدد الكلمات قوله تعالى: {مدهامتان}. في سورة الرحمن وفي عدد الحروف المقطعة قوله: {طه}.

- بيان عدم إرتباط وقوف القرآن مع نهايات الآيات

وأما وقوف القرآن فقد لا تساير نهايات الآيات، ولا ارتباط لها بنهايات الآيات فقد يكون في آية واحدة عدة وقوف كما في قوله تعالى: {إليه يرد علم الساعة} وقف {وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه} وقف {ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منا من شهيد} وقف ومنتهى الآية في سورة فصلت.

- بيان اختلاف السلف في عدد آيات القرآن

فأما ما اختلف السلف فيه من عدد آيات القرآن بناء على الاختلاف في نهاية بعضها، فقد يكون بعض ذلك عن اختلاف في الرواية كما قدمنا آنفا، وقد يكون بعضه عن اختلاف الاجتهاد. قال أبو عمرو الداني في كتاب العدد: أجمعوا على أن عدد آيات القرآن يبلغ ستة آلاف آية، واختلفوا فيما زاد على ذلك، فمنهم من لم يزد، ومنهم من قال ومائتين وأربع آيات، وقيل وأربع عشرة، وقيل وتسع عشرة، وقيل وخمسا وعشرين، وقيل وستا وثلاثين، وقيل وستمائة وست عشرة. قال المازري في شرح البرهان: قال مكي بن أبي طالب: قد أجمع أهل العدد من أهل الكوفة والبصرة والمدينة والشام على ترك عد البسملة آية في أول كل سورة، وإنما اختلفوا في عدها وتركها في سورة الحمد لا غير، فعدها آية الكوفي والمكي ولم يعدها آية البصري ولا الشامي ولا المدني. وفي الإتقان كلام في الضابط الأول من الضوابط غير محرر وهو آيل إلى ما قاله المازري، ورأيت في عد بعض السور أن المصحف المدني عد آيها أكثر مما في الكوفي، ولو عنوا عد البسملة لكان الكوفي أكثر. وكان لأهل المدينة عددان، يعرف أحدهما بالأول ويعرف الآخر بالأخير، ومعنى ذلك أن الذين تصدوا لعد الآي بالمدينة من أئمة القراء هم: أبو جعفر يزيد بن القعقاع، وأبو نصاح شيبة بن نصاح، وأبو عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي، وإسماعيل بن جعفر بن كثير الأنصاري، وقد اتفق هؤلاء الأربعة على عدد وهو المسمى بالعدد الأول، ثم خالفهم إسماعيل بن جعفر بعدد انفرد به وهو الذي يقال له العدد الثاني، وقد رأيت هذا ينسب إلى أيوب ابن المتوكل البصري المتوفي سنة 200. ولأهل مكة عدد واحد، وربما اتفقوا في عدد آي السورة المعينة، وربما اختلفوا، وقد يوجد اختلاف تارة في مصاحف الكوفة والبصرة والشام، كما نجد في تفسير المهدوي وفي كتب علوم القرآن، ولذلك تجد المفسرين يقولون في بعض السور عدد آيتها في المصحف الفلاني كذا. وقد كان عدد آي السور معروفا في زمن النبيء صلى الله عليه وسلم: وروى محمد بن السائب عن ابن عباس أنه لما نزلت آخر آية وهي قوله تعالى: {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله} الآية قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم ضعها في رأس ثمانين ومائتين من سورة البقرة، واستمر العمل بعد الآي في عصر الصحابة، ففي صحيح البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام {قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم} الآية.

ترتيب الآي


- بيان حكم ترتيب الآي بعضها عقب بعض

ترتيب الآي بعضها عقب بعض هو بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم حسب نزول الوحي، ومن المعلوم أن القرآن نزل منجما آيات فربما نزلت عدة آيات متتابعة أو سورة كاملة، كما سيأتي قريبا، وذلك الترتيب مما يدخل في وجوه إعجازه من بداعة أسلوبه كما سيأتي في المقدمة العاشرة، فلذلك كان ترتيب آيات السورة الواحدة على ما بلغتنا عليه متعينا بحيث لو غير عنه إلى ترتيب آخر لنزل عن حد الإعجاز الذي امتاز به، فلم تختلف قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في ترتيب آي السور على نحو ما هو في المصحف الذي بأيدي المسلمين اليوم، وهو ما استقرت عليه رواية الحفاظ من الصحابة عن العرضات الأخيرة التي كان يقرأ بها النبيء صلى الله عليه وسلم في أواخر سني حياته الشريفة، وحسبك أن زيد بن ثابت حين كتب المصحف لأبي بكر لم يخالف في ترتيب آي القرآن. وعلى ترتيب قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات الجهرية وفي عديد المناسبات حفظ القرآن كل من حفظه كلا أو بعضا، وليس لهم معتمد في ذلك إلا ما عرفوا به من قوة الحوافظ، ولم يكونوا يعتمدون على الكتابة، وإنما كان كتاب الوحي يكتبون ما أنزل من القرآن بأمر النبيء صلى الله عليه وسلم، وذلك بتوقيف إلهي. ولعل حكمة الأمر بالكتابة أن يرجع إليها المسلمون عندما يحدث لهم شك أو نسيان ولكن ذلك لم يقع.

لما جمع القرآن في عهد أبي بكر لم يؤثر عنهم أنهم ترددوا في ترتيب آيات من إحدى السور ولا أثر عنهم إنكار أو اختلاف فيما جمع من القرآن فكان موافقا لما حفظته حوافظهم، قال ابن وهب: سمعت مالكا يقول: إنما ألف القرآن على ما كانوا يسمعونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن الأنباري: كانت الآية تنزل جوابا لمستخبر يسأل ويوقف جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم على موضع الآية.

أن اتساق الحروف واتساق الآيات واتساق السور كله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلهذا كان الأصل في آي القرآن أن يكون بين الآية ولاحقتها تناسب في الغرض. أو في الانتقال منه أو نحو ذلك من أساليب الكلام المنتظم المتصل، ومما يدل عليه وجود حروف العطف المفيدة الاتصال مثل الفاء ولكن وبل ومثل أدوات الاستثناء، على أن وجود ذلك لا يعين اتصال ما بعده بما قبله في النزول، فإنه قد اتفق على أن قوله تعالى: {غير أولي الضرر} نزل بعد نزول ما قبله وما بعده من قوله: {لا يستوي القاعدون} إلى قوله: {وأنفسهم} قال بدر الدين الزركشي قال بعض مشايخنا المحققين قد وهم من قال لا تطلب للآي الكريمة مناسبة والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول شيء عن كونها مكملة لما قبلها أو مستقلة، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها ففي ذلك علم جم.

أنه يندر أن يكون موقع الآية عقب التي قبلها لأجل نزولها عقب التي قبلها من سورة هي بصدد النزول فيؤمر النبي بأن يقرأها عقب التي قبلها، وهذا كقوله تعالى: {وما نتنزل إلا بأمر ربك} عقب قوله: {تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا} في سورة مريم، فقد روي أن جبريل لبث أياما لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بوحي، فلما نزل بالآيات السابقة عاتبه النبيء، فأمر الله جبريل أن يقول: {وما نتنزل إلا بأمر ربك} فكانت وحيا نزل به جبريل، فقرئ مع الآية التي نزل بأثرها، وكذلك آية {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها} عقب قوله تعالى: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات} إلى قوله: {وهم فيها خالدون} في سورة البقرة: إذ كان ردا على المشركين في قولهم: أما يستحي محمد أن يمثل بالذباب وبالعنكبوت? فلما ضرب لهم الأمثال بقوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} تخلص إلى الرد عليهم فيما أنكروه من الأمثال. على أنه لا يعدم مناسبة ما، وقد لا تكون له مناسبة ولكنه اقتضاه سبب في ذلك المكان كقوله تعالى: {لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه} فهذه الآيات نزلت في سورة القيامة في خلال توبيخ المشركين على إنكارهم البعث ووصف يوم الحشر وأهواله، وليست لها مناسبة بذلك ولكن سبب نزولها حصل في خلال ذلك. روى البخاري عن ابن عباس قال: كان رسول الله إذا نزل جبريل بالوحي كان مما يحرك به لسانه وشفتيه يريد أن يحفظه فأنزل الله الآية التي في: {لا أقسم بيوم القيامة} اهـ، فذلك يفيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرك شفتيه بالآيات التي نزلت في أول السورة.

- بيان حكم المناسبة بين الآية والتي قبلها

أنه قد لا يكون في موقع الآية من التي قبلها ظهور مناسبة فلا يوجب ذلك حيرة للمفسر؛ لأنه قد يكون سبب وضعها في موضعها أنها قد نزلت على سبب وكان حدوث سبب نزولها في مدة نزول السورة التي وضعت فيها فقرئت تلك الآية عقب آخر آية انتهى إليها النزول، وهذا كقوله تعالى: {حافظوا على الصلوات} إلى قوله: {ما لم تكونوا تعلمون} بين تشريعات أحكام كثيرة في شؤون الأزواج والأمهات، وقد ذكرنا ذلك عند هذه الآية في التفسير.
وقد تكون الآية ألحقت بالسورة بعد تمام نزولها بأن أمر الرسول بوضعها عقب آية معينة كما تقدم آنفا عن ابن عباس في آية: {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله} وكذلك ما روي في صحيح مسلم عن ابن مسعود أن أول سورة الحديد نزل بمكة، ولم يختلف المفسرون في أن قوله تعالى: {وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله} إلى آخر السورة نزل بالمدينة فلا يكون ذلك إلا لمناسبة بينها وبين آي تلك السورة والتشابه في أسلوب النظم، وإنما تأخر نزول تلك الآية عن نزول أخواتها من سورتها لحكمة اقتضت تأخرها ترجع غالبا إلى حدوث سبب النزول كما سيأتي قريبا.

لما كان تعيين الآيات التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعها في موضع معين غير مروي إلا في عدد قليل، كان حقا على المفسر أن يتطلب مناسبات لمواقع الآيات ما وجد إلى ذلك سبيلا موصلا وإلا فليعرض عنه ولا يكن من المتكلفين.

- بيان اسباب عدم لزوم تسلسل آيات القرآن

إن الغرض الأكبر للقرآن هو إصلاح الأمة بأسرها. فإصلاح كفارها بدعوتهم إلى الإيمان ونبذ العبادة الضالة واتباع الإيمان والإسلام، وإصلاح المؤمنين بتقويم أخلاقهم وتثبيتهم على هداهم وإرشادهم إلى طرق النجاح وتزكية نفوسهم ولذلك كانت أغراضه مرتبطة بأحوال المجتمع في مدة الدعوة، فكانت آيات القرآن مستقلا بعضها عن بعض، لأن كل آية منه ترجع إلى غرض الإصلاح والاستدلال عليه، وتكميله وتخليصه من تسرب الضلالات إليه فلم يلزم أن تكون آياته متسلسلة، ولكن حال القرآن كحال الخطيب يتطرق إلى معالجة الأحوال الحاضرة على اختلافها وينتقل من حال إلى حال بالمناسبة ولذلك تكثر في القرآن الجمل المعترضة لأسباب اقتضت نزولها أو بدون ذلك؛ فإن كل جملة تشتمل على حكمة وإرشاد أو تقويم معوج، كقوله: {وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار - إلى قوله:- قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم} فقوله: {قل إن الهدى هدى الله} جملة معترضة.

وقوف القرآن


- بيان المراد بالوقف في القرآن

الوقف هو قطع الصوت عن الكلمة حصة يتنفس في مثلها المتنفس عادة.

- بيان علاقة الوقف بمعنى الكلام

الوقف عند انتهاء جملة من جمل القرآن قد يكون أصلا لمعنى الكلام فقد يختلف المعنى باختلاف الوقف مثل قوله تعالى: (وكأين من نبيء قُتل معه ربيون كثير) فإذا وقف عند كلمة (قتل) كان المعنى أن أنبياء كثيرين قتلهم قومهم وأعداؤهم. ومع الأنبياء أصحابهم فما تزلزلوا لقتل أنبيائهم فكان المقصود تأييس المشركين من وهن المسلمين على فرض قتل النبي صلى الله عليه وسلم في غزوته. على نحو قوله تعالى في خطاب المسلمين: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} الآية، وإذا وصل قوله: (قتل) عند قوله: {كثير} كان المعنى أن أنبياء كثيرين قتل معهم رجال من أهل التقوى فما وهن من بقي بعدهم من المؤمنين وذلك بمعنى قوله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا} إلى قوله: {ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.

كذلك قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به} الآية، فإذا وقف عند قوله: {إلا الله} كان المعنى أن المتشابه الكلام الذي لا يصل فهم الناس إلى تأويله وأن علمه مما اختص الله به مثل اختصاصه بعلم الساعة وسائر الأمور الخمسة وكان ما بعده ابتداء كلام يفيد أن الراسخين يفوضون فهمه إلى الله تعالى، وإذا وصل قوله: {إلا الله} بما بعده كان المعنى أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه في حال أنهم يقولون آمنا به.
كذلك قوله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن} فإنه لو وقف على قوله: {ثلاثة أشهر} وابتدأ بقوله: {واللائي لم يحضن} وقع قوله: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} معطوفا على {اللائي لم يحضن} فيصير قوله {أجلهن أن يضعن حملهن}. خبرا عن {اللائي لم يحضن وأولات الأحمال} ولكنه لا يستقيم المعنى إذ كيف يكون لللاء[3] لم يحضن حمل حتى يكون أجلهن أن يضعن حملهن.

- بيان أحكام الوقف وأقسامه وعلاقته بالسكت

لا تجد في القرآن مكانا يجب الوقف فيه ولا يحرم الوقف فيه كما قال ابن الجزري في أرجوزته، ولكن الوقف ينقسم إلى أكيد حسن ودونه وكل ذلك تقسيم بحسب المعنى.

بعضهم استحسن أن يكون الوقف عند نهاية الكلام وأن يكون ما يتطلب المعنى الوقف عليه قبل تمام المعنى سكتا وهو قطع الصوت حصة أقل من حصة قطعه عند الوقف، فإن اللغة العربية واضحة وسياق الكلام حارس من الفهم المخطئ، فنحو قوله تعالى: {يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم} لو وقف القاري على قوله: {الرسول} لا يخطر ببال العارف باللغة أن قوله: {وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم} تحذير من الإيمان بالله، وكيف يخطر ذلك وهو موصوف بقوله: {ربكم} فهل يحذر أحد من الإيمان بربه.

كذلك قوله تعالى: {أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها} فإن كلمة {بناها} هي منتهى الآية والوقف عند {أم السماء} ولكن لو وصل القارئ لم يخطر ببال السامع أن يكون {بناها} من جملة {أم السماء} لأن معادل همزة الاستفهام لا يكون إلا مفردا.

- بيان التعدد في الوقف وعلاقته بتعدد وجوه القراءة

أن التعدد في الوقف قد يحصل به ما يحصل بتعدد وجوه القراءات من تعدد المعنى مع اتحاد الكلمات. فقوله تعالى: {ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا قوارير من فضة قدروها تقديرا} فإذا وقف على {قواريرا} الأول كان { قوارير} الثاني تأكيدا لرفع احتمال المجاز في لفظ {قواريرا}، واذا وقف على {قوارير} الثاني كان المعنى الترتيب والتصنيف، كما يقال: قرأ الكتاب بابا بابا، وحضروا صفا صفا. وكان قوله: {من فضة} عائدا إلى قوله: {بآنية من فضة}
بيان السبب في عدم اعتناء السلف بتحديد أوقاف القرآن.

لما كان القرآن مرادا منه فهم معانيه وإعجاز الجاحدين به وكان قد نزل بين أهل اللسان كان فهم معانيه مفروغا من حصوله عند جميعهم. فأما التحدي بعجز بلغائهم عن معارضته فأمر يرتبط بما فيه من الخصوصيات البلاغية التي لا يستوي في القدرة عليها جميعهم بل خاصة بلغائهم من خطباء وشعراء، وكان من جملة طرق الإعجاز ما يرجع إلى محسنات الكلام من فن البديع، ومن ذلك فواصل الآيات التي هي شبه قوافي الشعر وأزجاع النثر، وهي مرادة في نظم القرآن لا محالة كما قدمناه عند الكلام على آيات القرآن فكان عدم الوقف عليها تفريطا في الغرض المقصود منها.

لم يشتد اعتناء السلف بتحديد أوقافه لظهور أمرها، وما ذكر عن ابن النحاس من الاحتجاج لوجوب ضبط أوقاف القرآن بكلام لعبد الله بن عمر ليس واضحا في الغرض المحتج به فانظره في الإتقان للسيوطي. فكان الاعتبار بفواصله التي هي مقاطع آياته عندهم أهم لأن عجز قادتهم وأولي البلاغة والرأي منهم تقوم به الحجة عليهم وعلى دهمائهم، فلما كثر الداخلون في الإسلام من دهماء العرب ومن عموم بقية الأمم، توجه اعتناء أهل القرآن إلى ضبط وقوفه تيسيرا لفهمه على قارئيه، فظهر الاعتناء بالوقوف وروعي فيها ما يراعى في تفسير الآيات فكان ضبط الوقوف مقدمة لما يفاد من المعاني عند واضع الوقف.

- بيان المشهورين ممن تصدى لضبط وقوف القرآن

أشهر من تصدى لضبط الوقوف أبو محمد بن الانباري، وأبو جعفر بن النحاس، وللنكزاوي أو النكزوي كتاب في الوقف ذكره في الإتقان، واشتهر بالمغرب من المتأخرين محمد بن أبي جمعة الهبطي المتوفي سنة 930.


سور القرآن


- بيان المراد بالسورة من القرآن

السورة قطعة من القرآن معينة بمبدأ ونهاية لا يتغيران، مسماة باسم مخصوص، تشتمل على ثلاث آيات فأكثر في غرض تام ترتكز عليه معاني آيات تلك السورة، ناشئ عن أسباب النزول، أو عن مقتضيات ما تشتمل عليه من المعاني المتناسبة. وكونها تشتمل على ثلاث آيات مأخوذ من استقراء سور القرآن مع حديث عمر فيما رواه أبو داود عن الزبير قال جاء الحارث بن خزيمة هو المسمى في بعض الروايات خزيمة وأبا خزيمة بالآيتين من آخر سورة براءة فقال: أشهد أني سمعتهما من رسول الله. فقال عمر: وأنا أشهد لقد سمعتهما منه، ثم قال: لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة إلخ، فدل على أن عمر ما قال ذلك إلا عن علم بأن ذلك أقل مقدار سوره.

إن تسمية القطعة المعينة من عدة آيات القرآن سورة من مصطلحات القرآن، وشاعت تلك التسمية عند العرب حتى المشركين منهم. فالتحدي للعرب بقوله تعالى: {فأتوا بعشر سور مثله} وقوله: {فأتوا بسورة من مثله} لا يكون إلا تحديا باسم معلوم المسمى والمقدار عندهم وقت التحدي، فإن آيات التحدي نزلت بعد السور الأول، وقد جاء في القرآن تسمية سورة النور باسم سورة في قوله تعالى: {سورة أنزلناها} أي هذه سورة، وقد زادته السنة بيانا. ولم تكن أجزاء التوراة والإنجيل والزبور مسماة سورا عند العرب في الجاهلية ولا في الإسلام. ووجه تسمية الجزء المعين من القرآن سورة قيل مأخوذة من السور بضم السين وتسكين الواو وهو الجدار المحيط بالمدينة أو بمحلة قوم زادوه هاء تأنيث في آخره مراعاة لمعنى القطعة من الكلام، كما سموا الكلام الذي يقوله القائل خطبة أو رسالة أو مقامة. وقيل مأخوذة من السؤر بهمزة بعد السين وهو البقية مما يشرب الشارب بمناسبة أن السؤر جزء مما يشرب، ثم خففوا الهمزة بعد الضمة فصارت واوا، قال ابن عطية: وترك الهمز في سورة هو لغة قريش ومن جاورها من هذيل وكنانة وهوازن وسعد بن بكر، وأما الهمز فهو لغة تميم، وليست إحدى اللغتين بدالة على أن أصل الكلمة من المهموز أو المعتل، لأن للعرب في تخفيف المهموز وهمز المخفف من حروف العلة طريقتين، كما قالوا أجوه وإعاء وإشاح، في وجوه ووعاء ووشاح، وكما قالوا الذئب بالهمز والذيب بالياء. قال الفراء: ربما خرجت بهم فصاحتهم إلى أن يهمزوا ما ليس مهموزا كما قالوا رثأت الميت ولبأت بالحج وحلأت السويق بالهمز. وجمع سورة سور بتحريك الواو كغرف، ونقل في شرح القاموس عن الكراع أنها تجمع على سور بسكون الواو.

- بيان مبدأ تسوير القرآن و عدد السور عند الصحابة

تسوير القرآن من السنة في زمن النبيء صلى الله عليه وسلم، فقد كان القرآن يومئذ مقسما إلى مائة وأربع عشرة سورة بأسمائها، ولم يخالف في ذلك إلا عبد الله بن مسعود فإنه لم يثبت المعوذتين في سور القرآن، وكان يقول "إنما هما تعوذ أمر الله رسوله بأن يقوله وليس هو من القرآن، وأثبت القنوت الذي يقال في صلاة الصبح، على أنه سورة من القرآن سماها سورة الخلع والخنع. وجعل سورة الفيل وسورة قريش سورة واحدة. وكل ذلك استنادا لما فهمه من نزول القرآن. ولم يحفظ عن جمهور الصحابة حين جمعوا القرآن أنهم ترددوا ولا اختلفوا في عدد سوره، وأنها مائة وأربع عشرة سورة، روى أصحاب السنن عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت الآية يقول: ((ضعوها في السورة التي يذكر فيها كذا))، وكانت السور معلومة المقادير منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم محفوظة عنه في قراءة الصلاة وفي عرض القرآن، فترتيب الآيات في السور هو بتوقيف من النبيء صلى الله عليه وسلم، وكذلك عزا ابن عطية إلى مكي بن أبي طالب وجزم به السيوطي في الإتقان، وبذلك يكون مجموع السورة من الآيات أيضا توقيفيا، ولذلك نجد في الصحيح أن النبيء صلى الله عليه وسلم قرأ في الصلاة سورة كذا وسورة كذا من طوال وقصار، ومن ذلك حديث صلاة الكسوف، وفي الصحيح أن رجلا سأل النبيء صلى الله عليه وسلم أن يزوجه امرأة فقال له النبي: ((هل عندك ما تصدقها?)) قال: "لا"، فقال: ((ما معك من القرآن?)) قال: سورة كذا وسورة كذا لسور سماها، فقال: ((قد زوجتكها بما معك من القرآن)) وسيأتي مزيد شرح لهذا الغرض عند الكلام على أسماء السور.

- بيان فائدة تسوير القرآن

فائدة التسوير ما قاله صاحب الكشاف في تفسير قوله تعالى: {فأتوا بسورة من مثله} إن الجنس إذا انطوت تحته أنواع كان أحسن وأنبل من أن يكون ببانا واحدا، وأن القارئ إذا ختم سورة أو بابا من الكتاب ثم أخذ في آخر كان أنشط له وأهز لعطفه كالمسافر إذا علم أنه قطع ميلا أو طوى فرسخا.

- بيان ما جاء في ترتيب سور القرآن

في ترتيب السور بعضها إثر بعض، قال أبو بكر الباقلاني: يحتمل أن النبيء صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر بترتيبها كذلك، ويحتمل أن يكون ذلك من اجتهاد الصحابة، وقال الداني: كان جبريل يوقف رسول الله على موضع الآية وعلى موضع السورة.

في المستدرك عن زيد بن ثابت أنه قال: كنا عند رسول الله نؤلف القرآن من الرقاع قال البيهقي: تأويله أنهم كانوا يؤلفون آيات السور. ونقل ابن عطية عن الباقلاني الجزم بأن ترتيب السور بعضها إثر بعض هو من وضع زيد بن ثابت بمشاركة عثمان، قال ابن عطية: وظاهر الأثر أن السبع الطوال والحواميم والمفصل كانت مرتبة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من السور مالم يرتب فذلك هو الذي رتب وقت كتابة المصحف.

لا شك أن طوائف من سور القرآن كانت مرتبة في زمن النبيء صلى الله عليه وسلم على ترتيبها في المصحف الذي بأيدينا اليوم الذي هو نسخة من المصحف الإمام الذي جمع وكتب في خلافة أبي بكر الصديق ووزعت على الأمصار نسخ منه في خلافة عثمان ذي النورين فلا شك في أن سور المفصل كانت هي آخر القرآن ولذلك كانت سنة قراءة السور في الصلوات المفروضة أن يكون في بعض الصلوات من طوال المفصل وفي بعضها من وسط المفصل وفي بعضها من قصار المفصل. وأن طائفة السور الطولى الأوائل في المصحف كانت مرتبة في زمن النبيء صلى الله عليه وسلم أول القرآن. والاحتمال فيما عدا ذلك.

لا شك في أن زيد بن ثابت وعثمان بن عفان وهما من أكبر حفاظ القرآن من الصحابة، توخيا ما استطاعا ترتيب قراءة النبيء صلى الله عليه وسلم للسور، وترتيب قراءة الحفاظ التي لا تخفى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان زيد بن ثابت من أكبر حفاظ القرآن وقد لازم النبيء صلى الله عليه وسلم مدة حياته بالمدينة، ولم يتردد في ترتيب سور القرآن على نحو ما كان يقرؤها النبيء صلى الله عليه وسلم حين نسخ المصاحف في زمن عثمان. ذلك أن القرآن حين جمع في خلافة أبي بكر لم يجمع في مصحف مرتب وإنما جعلوا لكل سورة صحيفة مفردة ولذلك عبروا عنها بالصحف، وفي موطأ ابن وهب عن مالك أن ابن عمر قال "جمع أبو بكر القرآن في قراطيس". وكانت تلك الصحف عند أبي بكر ثم عند عمر ثم عند حفصة بنت عمر أم المؤمنين، بسبب أنها كانت وصية أبيها على تركته، فلما أراد عثمان جمع القرآن في مصحف واحد أرسل إلى حفصة فأرسلت بها إليه ولما نسخت في مصحف واحد أرجع الصحف إليها، قال في فتح الباري: وهذا وقع في رواية عمارة ابن غزية أن زيد بن ثابت قال: أمرني أبو بكر فكتبت في قطع الأديم والعسب فلما هلك أبو بكر وكان عمر كتبت ذلك في صحيفة واحدة فكانت عنده والأصح أن القرآن جمع في زمن أبي بكر في مصحف واحد.وقد يوجد في آي من القرآن ما يقتضي سبق سورة على أخرى مثل قوله في سورة النحل: {وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل} يشير إلى قوله: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر} الآية من سورة الأنعام فدلت على أن سورة الأنعام نزلت قبل سورة النحل، وكذلك هي مرتبة في المصحف، وقد ثبت أن آخر آية نزلت آية في سورة البقرة أو في سورة النساء أو في براءة، وثلاثتها في الترتيب مقدمة على سور كثيرة. فالمصاحف الأولى التي كتبها الصحابة لأنفسهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كانت مختلفة في ترتيب وضع السور.

- بيان اختلاف مصاحف الصحابة في ترتيب سور القرآن

ممن كان له مصحف عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب، وروي أن أول من جمع القرآن في مصحف سالم مولى أبي حذيفة. قال في الإتقان: إن من الصحابة من رتب مصحفه على ترتيب النزول أي بحسب ما بلغ إليه علمه وكذلك كان مصحف علي رضي الله عنه وكان أوله {اقرأ باسم}، ثم المدثر، ثم المزمل، ثم التكوير وهكذا إلى آخر المكي ثم المدني. ومنهم من رتب على حسب الطول والقصر وكذلك كان مصحف أبي وابن مسعود فكانا ابتدأ بالبقرة ثم النساء ثم آل عمران، وعلى هذه الطريقة أمر عثمان رضي الله عنه بترتيب المصحف المدعو بالإمام.

أخرج الترمذي وأبو داود عن ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتموهما في السبع الطوال، فقال عثمان: كان رسول الله مما يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ((ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا))، وكانت الأنفال من أوائل ما أنزلت بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها فقبض رسول الله ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم فوضعتهما في السبع الطوال. وهو صريح في أنهم جعلوا علامة الفصل بين السور كتابة البسملة ولذلك لم يكتبوها بين سورة الأنفال وسورة براءة لأنهم لم يجزموا بأن براءة سورة مستقلة، ولكنه كان الراجح عندهم فلم يقدموا على الجزم بالفصل بينهما تحريا.
وفي باب تأليف القرآن من صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود أنه ذكر النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأهن في كل ركعة فسئل علقمة عنها فقال: عشرون سورة من أول المفصل على تأليف ابن مسعود آخرها من الحواميم حم الدخان و{عم يتساءلون}، على أن الجمهور جزموا بأن كثيرا من السور كان مرتبا في زمن النبيء صلى الله عليه وسلم.

- بيان عدم لزوم الترتيب بين السور في القراءة

أن ظاهر حديث عائشة رضي الله عنها في صحيح البخاري في باب تأليف القرآن أنها لا ترى القراءة على ترتيب المصحف أمرا لازما فقد سألها رجل من العراق أن تريه مصحفها ليؤلف عليه مصحفه فقالت: وما يضرك أية آية قرأت قبل، إنما نزل أول ما نزل منه سورة فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام وفي صحيح مسلم عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالبقرة ثم بالنساء ثم بآل عمران في ركعة. قال عياض في الإكمال: "هو دليل لكون ترتيب السورة وقع باجتهاد الصحابة حين كتبوا المصحف وهو قول مالك رحمه الله وجمهور العلماء" وفي حديث صلاة الكسوف أن النبيء قرأ فيها بسورتين طويلتين ولما كانت جهرية فإن قراءته تينك السورتين لا يخفى على أحد ممن صلى معه، ولذلك فالظاهر أن تقديم سورة آل عمران على سورة النساء في المصحف الإمام ما كان إلا اتباعا لقراءة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما قرأها النبيء كذلك إما لأن سورة آل عمران سبقت في النزول سورة النساء التي هي من آخر ما أنزل، أو لرعي المناسبة بين سورة البقرة وسورة آل عمران في الافتتاح بكلمة الم، أو لأن النبيء صلى الله عليه وسلم وصفهما وصفا واحدا ففي حديث أبي أمامة أن النبيء قال: ((اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران)) وذكر فضلهما يوم القيامة أو لما في صحيح مسلم أيضا عن حديث النواس بن سمعان أن النبي قال: ((يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران، وضرب لهما ثلاثة أمثال)) الحديث.
ووقع في تفسير شمس الدين محمود الأصفهاني الشافعي، في المقدمة الخامسة من أوائله "لا خلاف في أن القرآن يجب أن يكون متواترا في أصله وأجزائه، وأما في محله ووضعه وترتيبه فعند المحققين من أهل السنة كذلك؛ إذ الدواعي تتوفر على نقله على وجه التواتر، وما قيل التواتر شرط في ثبوته بحسب أصله وليس شرطا في محله ووضعه وترتيبه فضعيف لأنه لو لم يشترط التواتر في المحل جاز أن لا يتواتر كثير من المكررات الواقعة في القرآن وما لم يتواتر يجوز سقوطه وهو يعنى بالقرآن ألفاظ آياته ومحلها دون ترتيب السور.

قال ابن بطال: "لا نعلم أحدا قال بوجوب القراءة على ترتيب السور في المصحف بل يجوز أن تقرأ الكهف قبل البقرة، وأما ما جاء عن السلف من النهي عن قراءة القرآن منكسا، فالمراد منه أن يقرأ من آخر السورة إلى أولها. قلت أو يحمل النهي على الكراهة.

- بيان معني الطولى والقصرى والمكي والمدني في سور القرآن

أن معنى الطولى والقصرى في السور مراعى فيه عدد الآيات لا عدد الكلمات والحروف. وأن الاختلاف بينهم في تعيين المكي والمدني من سور القرآن خلاف ليس بكثير. وأن ترتيب المصحف تخللت فيه السور المكية والمدنية. وأما ترتيب نزول السور المكية ونزول السور المدنية ففيه ثلاث روايات، إحداها رواية مجاهد عن ابن عباس، والثانية رواية عطاء الخراساني عن ابن عباس، والثالثة لجابر بن زيد ولا يكون إلا عن ابن عباس، وهي التي اعتمدها الجعبري في منظومته التي سماها تقريب المأمول في ترتيب النزول وذكرها السيوطي في الإتقان وهي التي جرينا عليها في تفسيرنا هذا.

- بيان ما جاء في أسماء سور القرآن

أسماء السور قد جعلت لها من عهد نزول الوحي، والمقصود من تسميتها تيسير المراجعة والمذاكرة، وقد دل حديث ابن عباس الذي ذكر آنفا أن النبيء صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا نزلت الآية ((ضعوها في السورة التي يذكر فيها كذا))، فسورة البقرة مثلا كانت تلقب بالسورة التي تذكر فيها البقرة. وفائدة التسمية أن تكون بما يميز السورة عن غيرها. وأصل أسماء السور أن تكون بالوصف كقولهم السورة التي يذكر فيها كذا، ثم شاع فحذفوا الموصول وعوضوا عنه الإضافة فقالوا سورة ذكر البقرة مثلا، ثم حذفوا المضاف وأقاموا المضاف إليه مقامه فقالوا سورة البقرة. أو أنهم لم يقدروا مضافا- وأضافوا السورة لما يذكر فيها لأدنى ملابسة. وقد ثبت في صحيح البخاري قول عائشة رضي الله عنها لما نزلت الآيات من آخر البقرة الحديث وفيه عن ابن مسعود قال قرأ رسول الله النجم. وعن ابن عباس أن رسول الله سجد بالنجم. وما روي من حديث عن أنس مرفوعا ((لا تقولوا سورة البقرة ولا سورة آل عمران ولا سورة النساء وكذلك القرآن كله ولكن قولوا السورة التي يذكر فيها آل عمران وكذا القرآن كله)) فقال أحمد بن حنبل: هو حديث منكر، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات، ولكن ابن حجر أثبت صحته. ويذكر عن ابن عمر أنه كان يقول مثل ذلك ولا يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ذكره البيهقي في شعب الإيمان، وكان الحجاج بن يوسف يمنع من يقول سورة كذا ويقول قل السورة التي يذكر فيها كذا، والذين صححوا حديث أنس تأولوه وتأولوا قول ابن عمر بأن ذلك كان في مكة حين كان المسلمون إذا قالوا: سورة الفيل وسورة العنكبوت مثلا هزأ بهم المشركون، وقد روي أن هذا سبب نزول قوله تعالى: {إنا كفيناك المستهزئين} فلما هاجر المسلمون إلى المدينة زال سبب النهي فنسخ، وقد علم الناس كلهم معنى التسمية. ولم يشتهر عن السلف هذا المنع ولهذا ترجم البخاري في كتاب فضائل القرآن بقوله: باب من لم ير بأسا أن يقول سورة البقرة وسورة كذا وسورة كذا وأخرج فيه أحاديث تدل على أنهم قالوا سورة البقرة، سورة الفتح، سورة النساء، سورة الفرقان، سورة براءة، وبعضها من لفظ النبيء صلى الله عليه وسلم، وعليه فللقائل أن يقول سورة البقرة أو التي يذكر فيها البقرة، وأن يقول سورة والنجم وسورة النجم، وقرأت النجم وقرأت والنجم، كما جاءت هذه الإطلاقات في حديث السجود في سورة النجم عن ابن عباس.

والظاهر أن الصحابة سموا بما حفظوه عن النبي صلى الله عليه وسلم أو أخذوا لها أشهر الأسماء التي كان الناس يعرفونها بها ولو كانت التسمية غير مأثورة، فقد سمى ابن مسعود القنوت سورة الخلع والخنع كما مر، فتعين أن تكون التسمية من وضعه، وقد اشتهرت تسمية بعض السور في زمن النبيء صلى الله عليه وسلم وسمعها وأقرها وذلك يكفي في تصحيح التسمية.

أن أسماء السور إما أن تكون بأوصافها مثل الفاتحة وسورة الحمد، وإما أن تكون بالإضافة لشيء اختصت بذكره نحو سورة لقمان وسورة يوسف وسورة البقرة، وإما بالإضافة لما كان ذكره فيها أوفى نحو سورة هود وسورة إبراهيم، وإما بالإضافة لكلمات تقع في السورة نحو سورة براءة، وسورة حم عسق، وسورة حم السجدة كما سماها بعض السلف، وسورة فاطر. وقد سموا مجموع السور المفتتحة بكلمة حم آل حم وربما سموا السورتين بوصف واحد فقد سموا سورة الكافرون وسورة الإخلاص المقشقشتين.

أن الصحابة لم يثبتوا في المصحف أسماء السور بل اكتفوا بإثبات البسملة في مبدأ كل سورة علامة على الفصل بين السورتين، وإنما فعلوا ذلك كراهة أن يكتبوا في أثناء القرآن ما ليس بآية قرآنية، فاختاروا البسملة لأنها مناسبة للافتتاح مع كونها آية من القرآن وفي الإتقان أن سورة البينة سميت في مصحف أبى سورة أهل الكتاب، وهذا يؤذن بأنه كان يسمي السور في مصحفه. وكتبت أسماء السور في المصاحف باطراد في عصر التابعين ولم ينكر عليهم ذلك. قال المازري في شرح البرهان عن القاضي أبي بكر الباقلاني: إن أسماء السور لما كتبت المصاحف كتبت بخط آخر لتتميز عن القرآن، وإن البسملة كانت مكتوبة في أوائل السور بخط لا يتميز عن الخط الذي كتب به القرآن.

- بيان ما جاء في ترتيب السور

آيات السور كانت منّجمة فإن التنجيم في النزول، وذلك في آياته وسوره فربما نزلت السورة جميعا دفعة واحدة كما نزلت سورة الفاتحة وسورة المرسلات من السور القصيرة، وربما نزلت نزولا متتابعا كسورة الأنعام، وفي صحيح البخاري عن البراء بن عازب قال: آخر سورة نزلت كاملة براءة، وربما نزلت السورة مفرقة ونزلت السورتان مفرقتان في أوقات متداخلة، روى الترمذي عن ابن عباس عن عثمان بن عفان قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد، أي في أوقات متقاربة فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من يكتب الوحي فيقول: ((ضعوا هؤلاء الآيات في السورة كذا)). ولذلك فقد تكون السورة بعضها مكيا وبعضها مدنيا. وكذلك تنهية كل سورة كان بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت نهايات السور معلومة، كما يشير إليه حديث ((من قرأ الآيات الخواتم من سورة آل عمران)) وقول زيد بن ثابت فقدت آخر سورة براءة. وقد توفي رسول الله والقرآن مسور سورا معينة، كما دل عليه حديث اختلاف عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم بن حزام في آيات من سورة الفرقان في حياة النبيء صلى الله عليه وسلم كما تقدم في المقدمة الخامسة. وقال عبد الله بن مسعود في سور بني إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء "هن من العتاق الأول وهن من

وقد جمع من الصحابة القرآن كله في حياة رسول الله زيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبو زيد، وأبي بن كعب، وأبو الدرداء، وعبد الله بن عمر، وعبادة بن الصامت، وأبو أيوب، وسعد بن عبيد، ومجمع بن جارية، وأبو موسى الأشعري، وحفظ كثير من الصحابة أكثر القرآن على تفاوت بينهم.
وفي حديث غزوة حنين لما انكشف المسلمون قال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: ((اصرخ يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة، يا أصحاب سورة البقرة)) فلعل الأنصار كانوا قد عكفوا على حفظ ما نزل من سورة البقرة لأنها أول السور النازلة بالمدينة، وفي أحكام القرآن لابن العربي عن ابن وهب عن مالك كان شعارهم يوم حنين يا أصحاب سورة البقرة.

وقد ذكر النحويون في الوقف على تاء التأنيث هاء أن رجلا نادى: يا أهل سورة البقرة بإثبات التاء في الوقف وهي لغة، فأجابه مجيب ما أحفظ منها ولا آية محاكاة للغته.

المقدمة التاسعة في أن المعاني التي تتحملها جمل القرآن، تعتبر مرادة بها


- بيان أساليب الكلام في لغة العرب

إن العرب أمة جبلت على ذكاء القرائح وفطنة الأفهام، فعلى دعامة فطنتهم وذكائهم أقيمت أساليب كلامهم، وبخاصة كلام بلغائهم، ولذلك كان الإيجاز عمود بلاغتهم لاعتماد المتكلمين على أفهام السامعين كما يقال لمحة دالة. لأجل ذلك كثر في كلامهم: المجاز، والاستعارة، والتمثيل، والكناية، والتعريض، والاشتراك والتسامح في الاستعمال كالمبالغة، والاستطراد ومستتبعات التراكيب، والأمثال، والتلميح، والتمليح، واستعمال الجملة الخبرية في غير إفادة النسبة الخبرية، واستعمال الاستفهام في التقرير أو الإنكار، ونحو ذلك. وملاك ذلك كله توفير المعاني، وأداء ما في نفس المتكلم بأوضح عبارة وأخصرها ليسهل اعتلاقها بالأذهان.

- بيان علاقة بلاغة أسلوب القرآن بكلام العرب

لقد كان القرآن وحيا من العلام سبحانه وقد أراد أن يجعله آية على صدق رسوله وتحدى بلغاء العرب بمعارضة أقصر سورة منه كما سيأتي في المقدمة العاشرة، فقد نسج نظمه نسجا بالغا منتهى ما تسمح به اللغة العربية من الدقائق واللطائف لفظا ومعنى بما يفي بأقصى ما يراد بلاغة إلى المرسل إليهم. فجاء القرآن على أسلوب أبدع مما كانوا يعهدون وأعجب، فأعجز بلغاء المعاندين عن معارضته ولم يسعهم إلا الإذعان، سواء في ذلك من آمن منهم مثل لبيد بن ربيعة وكعب بن زهير والنابغة الجعدي، ومن استمر على كفره عنادا مثل الوليد بن المغيرة. فالقرآن من جانب إعجازه يكون أكثر معاني من المعاني المعتادة التي يودعها البلغاء في كلامهم.

وهو لكونه كتاب تشريع وتأديب وتعليم كان حقيقا بأن يودع فيه من المعاني والمقاصد أكثر ما تحتمله الألفاظ، في أقل ما يمكن من المقدار، بحسب ما تسمح به اللغة الوارد هو بها التي هي أسمح اللغات بهذه الاعتبارات، ليحصل تمام المقصود من الإرشاد الذي جاء لأجله في جميع نواحي الهدى، فمعتاد البلغاء إيداع المتكلم معنى يدعوه إليه غرض كلامه وترك غيره والقرآن ينبغي أن يودع من المعاني كل ما يحتاج السامعون إلى علمه وكل ما له حظ في البلاغة سواء كانت متساوية أم متفاوتة في البلاغة إذا كان المعنى الأعلى مقصودا وكان ما هو أدنى منه مرادا معه لا مرادا دونه سواء كانت دلالة التركيب عليها متساوية في الاحتمال والظهور أم كانت متفاوتة بعضها أظهر من بعض ولو أن تبلغ حد التأويل وهو حمل اللفظ على المعنى المحتمل المرجوح. أما إذا تساوى المعنيان فالأمر أظهر، مثل قوله تعالى: {وما قتلوه يقينا} أي ما تيقنوا قتله ولكن توهموه، أو ما أيقن النصارى الذين اختلفوا في قتل عيسى علم ذلك يقينا بل فهموه خطأ، ومثل قوله: {فأنساه الشيطان ذكر ربه} ففي كل من كلمة ذكر وربه معنيان، ومثل قوله: {قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي} ففي لفظ رب معنيان. وقد تكثر المعاني بإنزال لفظ الآية على وجهين أو أكثر تكثيرا للمعاني مع إيجاز اللفظ وهذا من وجوه الإعجاز. ومثاله قوله تعالى: {إلا عن موعدة وعدها إياه} بالمثناة التحتية وقرأ الحسن البصري: (أباه)، بالباء الموحدة، فنشأ احتمال فيمن هو الواعد.

ولما كان القرآن نازلا من المحيط علمه بكل شيء، كان ما تسمح تراكيبه الجارية على فصيح استعمال الكلام البليغ باحتماله من المعاني المألوفة للعرب في أمثال تلك التراكيب، مظنونا بأنه مراد لمنزله، ما لم يمنع من ذلك مانع صريح أو غالب من دلالة شرعية أو لغوية أو توقيفية.

- بيان أن الأمة مأمورة بتدبر القرآن وفهم معانيه

لقد جعل الله القرآن كتاب الأمة كلها وفيه هديها، ودعاهم إلى تدبره وبذل الجهد في استخراج معانيه في غير ما آية كقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} وقوله: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} وقوله: {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم} وغير ذلك. على أن القرآن هو الحجة العامة بين علماء الإسلام لا يختلفون في كونه حجة شريعتهم وإن اختلفوا في حجية ما عداه من الأخبار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لشدة الخلاف في شروط تصحيح الخبر، ولتفاوتهم في مقدار ما يبلغهم من الأخبار مع تفرق العصور والأقطار، فلا مرجع لهم عند الاختلاف يرجعون إليه أقوى من القرآن ودلالته.

- بيان الأدلة في تأصيل استخراج المعاني من الآيات من السنة النبوية

يدل لتأصيلنا هذا ما وقع إلينا من تفسيرات مروية عن النبيء صلى الله عليه وسلم لآيات، فنرى منها ما نوقن بأنه ليس هو المعنى الأسبق من التركيب؛ ولكنا بالتأمل نعلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام ما أراد بتفسيره إلا إيقاظ الأذهان إلى أخذ أقصى المعاني من ألفاظ القرآن، مثال ذلك ما رواه أبو سعيد بن المعلى قال: دعاني رسول الله وأنا في الصلاة فلم أجبه فلما فرغت أقبلت إليه فقال: ((ما منعك أن تجيبني?)) فقلت: يا رسول الله كنت أصلي، فقال: ((ألم يقل الله تعالى {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم})) فلا شك أن المعنى المسوقة فيه الآية هو الاستجابة بمعنى الامتثال، كقوله تعالى: {الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح}، وأن المراد من الدعوة الهداية كقوله: {يدعون إلى الخير} وقد تعلق فعل دعاكم بقوله: {لما يحييكم} أي لما فيه صلاحكم، غير أن لفظ الاستجابة لما كان صالحا للحمل على المعنى الحقيقي أيضا وهو إجابة النداء حمل النبيء صلى الله عليه وسلم الآية على ذلك في المقام الصالح له، بقطع النظر عن المتعلق وهو قوله: {لما يحييكم} وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا، {كما بدأنا أول خلق نعيده})) إنما هو تشبيه الخلق الثاني بالخلق الأول لدفع استبعاد البعث، كقوله تعالى: {أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد} وقوله: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} فذلك مورد التشبيه، غير أن التشبيه لما كان صالحا للحمل على تمام المشابهة أعلمنا النبيء صلى الله عليه وسلم أن ذلك مراد منه، بأن يكون التشبيه بالخلق الأول شاملا للتجرد من الثياب والنعال.

وكذلك قوله تعالى: {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} فقد قال النبيء صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب لما قال له: لا تصل على عبد الله بن أبي بن سلول فإنه منافق وقد نهاك الله عن أن تستغفر للمنافقين، فقال النبيء: ((خيرني ربي وسأزيد على السبعين)) فحمل قوله تعالى: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} على التخيير مع أن ظاهره أنه مستعمل في التسوية، وحمل اسم العدد على دلالته الصريحة دون كونه كناية عن الكثرة كما هو قرينه السياق لما كان الأمر واسم العدد صالحين لما حملهما عليه فكان الحمل تأويلا ناشئا عن الاحتياط.

ومن هذا قول النبيء لأم كلثوم بنت عقبة بن معيط حين جاءت مسلمة مهاجرة إلى المدينة وأبت أن ترجع إلى المشركين فقرأ النبيء قوله تعالى: {يخرج الحي من الميت} فاستعمله في معنى مجازي هو غير المعنى الحقيقي الذي سيق إليه، وما أرى سجود النبيء صلى الله عليه وسلم في مواضع سجود التلاوة من القرآن إلا راجعا إلى هذا الأصل فإن كان فهما منه رجع إلى ما شرحنا تأصيله، وإن كان وحيا كان أقوى حجة في إرادة الله من ألفاظ كتابه ما تحتمله ألفاظه مما لا ينافي أغراضه.

- بيان الأدلة التي في تأصيل استخراج المعاني من الايات مما جاء عن الصحابة ومن بعدهم من الائمة

يدل على ذلك ما ورد عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من الأئمة مثل ما روي أن عمرو بن العاص أصبح جنبا في غزوة في يوم بارد فتيمم وقال: الله تعالى يقول: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} مع أن مورد الآية أصله في النهي عن أن يقتل الناس بعضهم بعضا.

ومن ذلك أن عمر لما فتحت العراق وسأله جيش الفتح قسمة أرض السواد بينهم قال: إن قسمتها بينكم لم يجد المسلمون الذين يأتون بعدكم من البلاد المفتوحة مثل ما وجدتم فأرى أن أجعلها خراجا على أهل الأرض يقسم على المسلمين كل موسم فإن الله يقول: {والذين جاءوا من بعدهم} وهذه الآية نزلت في فيء قريظة والنضير، والمراد بالذين جاءوا من بعد المذكورين هم المسلمون الذين أسلموا بعد الفتح المذكور.

وكذلك استنباط عمر ابتداء التاريخ بيوم الهجرة، من قوله تعالى: {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه} فإن المعنى الأصلي أنه أسس من أول أيام تأسيسه، واللفظ صالح لأن يحمل على أنه أسس من أول يوم من الأيام أي أحق الأيام أن يكون أول أيام الإسلام فتكون الأولية نسبية.

وقد استدل فقهاؤنا على مشروعية الجعالة ومشروعية الكفالة في الإسلام، بقوله تعالى في قصة يوسف: {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} كما تقدم في المقدمة الثالثة، مع أنه حكاية قصة مضت في أمة خلت ليست في سياق تقرير ولا إنكار، ولا هي من شريعة سماوية، إلا أن القرآن ذكرها ولم يعقبها بإنكار.
ومن هذا القبيل استدلال الشافعي على حجية الإجماع وتحريم خرقه بقوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} مع أن سياق الآية في أحوال المشركين، فالمراد من الآية مشاقة خاصة واتباع غير سبيل خاص ولكن الشافعي جعل حجية الإجماع من كمال الآية.

- بيان دليل استخراج المعاني من الآيات من اختلاف القراءات المتواترة

إن القراءات المتواترة إذا اختلفت في قراءة ألفاظ القرآن اختلافا يفضي إلى اختلاف المعاني لمما يرجع إلى هذا الأصل.

- بيان اختلاف المعاني على أساليب التركيب المحتملة

إن معاني التركيب المحتمل معنيين فصاعدا قد يكون بينهما العموم والخصوص فهذا النوع لا تردد في حمل التركيب على جميع ما يحتمله، ما لم يكن عن بعض تلك المحامل صارف لفظي أو معنوي، مثل حمل الجهاد في قوله تعالى: {ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه} في سورة العنكبوت على معنى مجاهدة النفس في إقامة شرائع الإسلام، ومقاتلة الأعداء في الذب عن حوزة الإسلام. وقد يكون بينها التغاير، بحيث يكون تعيين التركيب للبعض منافيا لتعيينه للآخر بحسب إرادة المتكلم عرفا، ولكن صلوحية التركيب لها على البدلية مع عدم ما يعين إرادة أحدها تحمل السامع على الأخذ بالجميع إيفاء بما عسى أن يكون مراد المتكلم، فالحمل على الجميع نظير ما قاله أهل الأصول في حمل المشترك على معانيه احتياطا. وقد يكون ثاني المعنيين متولدا من المعنى الأول، وهذا لا شبهة في الحمل عليه لأنه من مستتبعات التراكيب، مثل الكناية والتعريض والتهكم مع معانيها الصريحة،

ومن هذا القبيل ما في صحيح البخاري عن ابن عباس قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله?، فقال عمر: إنه من حيث علمتم، فدعاه ذات يوم فأدخله معهم قال: فما رئيت أنه دعاني إلا ليريهم، قال: ما تقولون في قول الله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح} فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا وسكت بعضهم فلم يقل شيئا، فقال لي: أكذلك تقول يا ابن عباس? فقلت: لا، فقال: فما تقول? قلت: هو أجل رسول الله أعلمه له، قال: {إذا جاء نصر الله والفتح} وذلك علامة أجلك {فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا} فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول.

وإنك لتمر بالآية الواحدة فتتأملها وتتدبرها فتنهال عليك معان كثيرة يسمح بها التركيب على اختلاف الاعتبارات في أساليب الاستعمال العربي. وقد تتكاثر عليك فلا تك من كثرتها في حصر ولا تجعل الحمل على بعضها منافيا للحمل على البعض الآخر إن كان التركيب سمحا بذلك.
فمختلف المحامل التي تسمح بها كلمات القرآن وتراكيبه وإعرابه ودلالته، من اشتراك وحقيقة ومجاز، وصريح وكناية، وبديع، ووصل، ووقف، إذا لم تفض إلى خلاف المقصود من السياق، يجب حمل الكلام على جميعها كالوصل والوقف في قوله تعالى: {لا ريب فيه هدى للمتقين} إذا وقف على {لا ريب} أو على {فيه}. وقوله تعالى: (وكأين من نبيء قُتل معه ربيون كثير) باختلاف المعنى إذا وقف على قوله: (قتل)، أو على قوله: {معه ربيون كثير}. وكقوله تعالى {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون} باختلاف المعنى عند الوقف على اسم الجلالة أو على قوله: {في العلم}، وكقوله تعالى: {قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك} باختلاف ارتباط النداء من قوله {يا إبراهيم} بالتوبيخ بقوله: {أراغب أنت} أو بالوعيد في قوله {لئن لم تنته لأرجمنك} وقد أراد الله تعالى أن يكون القرآن كتابا مخاطبا به كل الأمم في جميع العصور، لذلك جعله بلغة هي أفصح كلام بين لغات البشر وهي اللغة العربية، لأسباب يلوح لي منها: أن تلك اللغة أوفر اللغات مادة، وأقلها حروفا، وأفصحها لهجة، وأكثرها تصرفا في الدلالة على أغراض المتكلم، وأوفرها ألفاظا، وجعله جامعا لأكثر ما يمكن أن تتحمله اللغة العربية في نظم تراكيبها من المعاني، في أقل ما يسمح به نظم تلك اللغة، فكان قوام أساليبه جاريا على أسلوب الإيجاز؛ فلذلك كثر فيه ما لم يكثر مثله في كلام بلغاء العرب.

- بيان استعمال اللفظ المشترك في معاني متعددة

ومن أدق ذلك وأجدره بأن ننبه عليه في هذه المقدمة استعمال اللفظ المشترك في معنييه أو معانيه دفعة.

- بيان إستعمال اللفظ في المعاني الحقيقية والمجازية

إن استعمال اللفظ في معناه الحقيقي ومعناه المجازي معا. بله إرادة المعاني المكني عنها مع المعانى المصرح بها، وإرادة المعاني المستتبعات بفتح الباء من التراكيب المستتبعة بكسر الباء.

- بيان اختلاف العلماء في جواز استعمال المشترك في معنييه واستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه

هذا الأخير قد نبه عليه علماء العربية الذين اشتغلوا بعلم المعاني والبيان. وبقي المبحثان الأولان وهما استعمال المشترك في معنييه أو معانيه، واستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، محل تردد بين المتصدين لاستخراج معاني القرآن تفسيرا وتشريعا، سببه أنه غير وارد في كلام العرب قبل القرآن أو واقع بندرة، فلقد تجد بعض العلماء يدفع محملا من محامل بعض آيات بأنه محمل يفضي إلى استعمال المشترك في معنييه أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، ويعدون ذلك خطبا عظيما.

من أجل ذلك اختلف علماء العربية وعلماء أصول الفقه في جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى من مدلوله اختلافا ينبي عن ترددهم في صحة حمل ألفاظ القرآن على هذا الاستعمال. وقد أشار كلام بعض الأئمة إلى أن مثار اختلافهم هو عدم العهد بمثله عند العرب قبل نزول القرآن، إذ قال الغزالي وأبو الحسين البصري يصح أن يراد بالمشترك عدة معان لكن بإرادة المتكلم وليس بدلالة اللغة. وظني بهما أنهما يريدان تصيير تلك الإرادة إلى أنها دلالة من مستتبعات التراكيب لأنها دلالة عقلية لا تحتاج إلى علاقة وقرينة، كدلالة المجاز والاستعارة.

والحق أن المشترك يصح إطلاقه على عدة من معانيه جميعا أو بعضا إطلاقا لغويا، فقال قوم: هو من قبيل الحقيقة، ونسب إلى الشافعي وأبي بكر الباقلاني وجمهور المعتزلة. وقال قوم: هو المجاز، وجزم ابن الحاجب بأنه مراد الباقلاني من قوله في كتاب التقريب والإرشاد إن المشترك لا يحمل على أكثر من معنى إلا بقرينة، ففهم ابن الحاجب أن القرينة من علامات المجاز وهذا لا يستقيم لأن القرينة التي هي من علامات المجاز هي القرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي وهي لا تتصور في موضوعنا؛ إذ معاني المشترك كلها من قبيل الحقيقة وإلا لانتقضت حقيقة المشترك فارتفع الموضوع من أصله. وإنما سها أصحاب هذا الرأي عن الفرق بين قرينة إطلاق اللفظ على معناه المجازي وقرينة إطلاق المشترك على عدة من معانيه، فإن قرينة المجاز مانعة من إرادة المعنى الحقيقي وقرينة المشترك معينة للمعاني المرادة كلا أو بعضا.

وثمة قول آخر لا ينبغي الالتفات إليه وإنما نذكره استيعابا لآراء الناظرين في هذه المسألة، وهو صحة إطلاق المشترك على معانيه في النفي وعدم صحة ذلك في الإيجاب، ونسب هذا القول إلى برهان علي المرغيناني الفقيه الحنفي صاحب كتاب الهداية في الفقه، ومثاره في ما أحسب اشتباه دلالة اللفظ المشترك على معانيه بدلالة النكرة الكلية على أفرادها حيث تفيد العموم إذا وقعت في سياق النفي ولا تفيده في سياق الإثبات.

والذي يجب اعتماده أن يحمل المشترك في القرآن على ما يحتمله من المعاني سواء في ذلك اللفظ المفرد المشترك، والتركيب المشترك بين مختلف الاستعمالات، سواء كانت المعاني حقيقية أو مجازية، محضة أو مختلفة. مثال استعمال اللفظ المفرد في حقيقته ومجازه قوله تعالى: {ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس} فالسجود له معنى حقيقي وهو وضع الجبهة على الأرض ومعنى مجازي وهو التعظيم، وقد استعمل فعل يسجد هنا في معنييه المذكورين لا محالة. وقوله تعالى: {ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء} فبسط الأيدي حقيقة في مدها للضرب والسلب، وبسط الألسنة مجاز في عدم إمساكها عن القول البذيء وقد استعمل هنا في كلا معنييه. ومثال استعمال المركب المشترك في معنييه قوله تعالى: {ويل للمطففين} فمركب ويل له يستعمل خبرا ويستعمل دعاء، وقد حمله المفسرون هنا على كلا المعنيين.

- بيان طريقة ابن عاشور في الجمع بين المعاني والترجيح

على هذا القانون يكون طريق الجمع بين المعاني التي يذكرها المفسرون، أو ترجيح بعضها على بعض، وقد كان المفسرون غافلين عن تأصيل هذا الأصل فلذلك كان الذي يرجح معنى من المعاني التي يحتملها لفظ آية من القرآن، يجعل غير ذلك المعنى ملغى. ونحن لا نتابعهم على ذلك بل نرى المعاني المتعددة التي يحتملها اللفظ بدون خروج عن مهيع الكلام العربي البليغ، معاني في تفسير الآية. فنحن في تفسيرنا هذا إذا ذكرنا معنيين فصاعدا فذلك على هذا القانون. وإذا تركنا معنى مما حمل بعض المفسرين عليه في آيات من القرآن فليس تركنا إياه دالا على إبطاله، ولكن قد يكون ذلك لترجح غيره، وقد يكون اكتفاء بذكره في تفاسير أخرى تجنبا للإطالة، فإن التفاسير اليوم موجودة بين يدي أهل العلم لا يعوزهم استقراؤها ولا تمييز محاملها متى جروا على هذا القانون.

بسم الله الرحمن الرحيم
فهرسة مسائل القسم الثاني من مقدمة تفسير التحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور (ت: 1393هـ)


الجزء الثاني
المقدمة العاشرة في إعجاز القرآن


- بيان تفوق بلاغة القرآن على كل كلام بليغ
لقد سبق أن ألف علم البلاغة مشتملا على نماذج من وجوه إعجازه (القرآن) والتفرقة بين حقيقته ومجازه. إلا أنه باحث عن كل خصائص الكلام العربي البليغ ليكون معيارا للنقد أو آلة للصنع. ثم ليظهر من جراء ذلك كيف تفوق القرآن على كل كلام بليغ بما توفر فيه من الخصائص التي لا تجتمع في كلام آخر للبلغاء حتى عجز السابقون واللاحقون منهم عن الإتيان بمثله.

- بيان لمحات من إعجاز القرآن

قال أبو يعقوب السكاكي في كتاب المفتاح "واعلم أني مهدت لك في هذا العلم قواعد متى بنيت عليها أعجب كل شاهد بناؤها. واعترف لك بكمال الحذق في البلاغة أبناؤها- إلى أن قال ثم إذا كنت ممن ملك الذوق وتصفحت كلام رب العزة. أطلعتك على ما يوردك موارد العزة. وكشفت عن وجه إعجازه القناع"

فأما أنا فأردت في هذه المقدمة أن ألم بك أيها المتأمل إلمامة ليست كخطرة طيف. ولا هي كإقامة المنتجع في المربع حتى يظله الصيف.وإنما هي لمحة ترى منها كيف كان القرآن معجزا وتتبصر منها نواحي إعجازه وما أنا بمستقص دلائل الإعجاز في آحاد الآيات والسور، فذلك له مصنفاته وكل صغير وكبير مستطر.
ثم ترى منها بلاغة القرآن ولطائف أدبه التي هي فتح لفنون رائعة من أدب لغة العرب حتى ترى كيف كان هذا القرآن فتح بصائر، وفتح عقول، وفتح ممالك، وفتح أدب غض ارتقى به الأدب العربي مرتقى لم يبلغه أدب أمة من قبل. وكنت أرى الباحثين ممن تقدمني يخلطون هذين الغرضين خلطا، وربما أهملوا معظم الفن الثاني، وربما ألموا به إلماما وخلطوه بقسم الإعجاز وهو الذي يحق أن يكون البحث فيه من مقدمات علم التفسير، ولعلك تجد في هذه المقدمة أصولا ونكتا أغفلها من تقدموا ممن تكلموا في إعجاز القرآن مثل الباقلاني، والرماني، وعبد القاهر، والخطابي، وعياض، والسكاكي، فكونوا منها بالمرصاد، وافلوا عنها كما يفلى عن النار الرماد.

- بيان علاقة الإعجاز بعلم التفسير

إن علاقة هذه المقدمة بالتفسير هي أن مفسر القرآن لا يعد تفسيره لمعاني القرآن بالغا حد الكمال في غرضه ما لم يكن مشتملا على بيان دقائق من وجوه البلاغة في آيه المفسرة بمقدار ما تسمو إليه الهمة من تطويل واختصار، فالمفسر بحاجة إلى بيان ما في آي القرآن من طرق الاستعمال العربي وخصائص بلاغته وما فاقت به آي القرآن في ذلك حسبما أشرنا إليه في المقدمة الثانية لئلا يكون المفسر حين يعرض عن ذلك بمنزلة المترجم لا بمنزلة المفسر.

فمن أعجب ما نراه خلو معظم التفاسير عن الاهتمام بالوصول إلى هذا الغرض الأسمى إلا عيون التفاسير، فمن مقل مثل معاني القرآن لأبي إسحاق الزجاج، والمحرر الوجيز للشيخ عبد الحق بن عطية الأندلسي، ومن مكثر مثل الكشاف. ولا يعذر في الخلو عن ذلك إلا التفاسير التي نحت ناحية خاصة من معاني القرآن مثل أحكام القرآن، على أن بعض أهل الهمم العلية من أصحاب هذه التفاسير لم يهمل هذا العلق النفيس كما يصف بعض العلماء كتاب أحكام القرآن لإسماعيل بن إسحاق بن حماد المالكي البغدادي، وكما نراه في مواضع من أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي.

- بيان علاقة الإعجاز البلاغي بكون القرآن المعجزة الكبرى للنبي صلى الله عليه وسلم

إن العناية بما نحن بصدده من بيان وجوه إعجاز القرآن إنما نبعت من مختزن أصل كبير من أصول الإسلام وهو كونه المعجزة الكبرى للنبيء صلى الله عليه وسلم، وكونه المعجزة الباقية، وهو المعجزة التي تحدى بها الرسول معانديه تحديا صريحا. قال تعالى: {وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم} ولقد تصدى للاستدلال على هذا أبو بكر الباقلاني في كتاب له سماه أو سمي إعجاز القرآن وأطال،

وخلاصة القول فيه أن رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام بنيت على معجزة القرآن وإن كان قد أيد بعد ذلك بمعجزات كثيرة إلا أن تلك المعجزات قامت في أوقات وأحوال ومع ناس خاصة ونقل بعضها متواترا وبعضها نقل نقلا خاصا، فأما القرآن فهو معجزة عامة، ولزوم الحجة به باق من أول ورودها إلى يوم القيامة، وإن كان يعلم وجه إعجازه من عجز أهل العصر الأول عن الإتيان بمثله فيغني ذلك عن نظر مجدد، فكذلك عجز أهل كل عصر من العصور التالية عن النظر في حال عجز أهل العصر الأول، ودليل ذلك متواتر من نص القرآن في عدة آيات تتحدى العرب بأن يأتوا بسورة مثله، وبعشر سور مثله مما هو معلوم، ناهيك أن القرآن نادى بأنه معجز لهم، نحو قوله تعالى: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار} الآية فإنه سهل وسجل: سهل عليهم أن يأتوا بمثل سورة من سوره، وسجل عليهم أنهم لا يفعلون ذلك أبدا، فكان كما سجل، فالتحدي متواتر وعجز المتحدين أيضا متواتر بشهادة التاريخ إذ طالت مدتهم في الكفر ولم يقيموا الدليل على أنهم غير عاجزين، وما استطاعوا الإتيان بسورة مثله ثم عدلوا إلى المقاومة بالقوة.
قال الله تعالى: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار} الآية من سورة البقرة.
وقال: {قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين} سورة يونس وقال: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله} سورة هود فعجز جميع المتحدين عن الإتيان بمثل القرآن أمر متواتر بتواتر هذه الآيات بينهم وسكوتهم عن المعارضة مع توفر دواعيهم عليها.

- بيان اختلاف العلماء في تعليل العجز عن الإتيان بمثل القرآن

اختلف العلماء في تعليل عجزهم (المشركين) عن ذلك فذهبت طائفة قليلة إلى تعليله بأن الله صرفهم عن معارضة القرآن فسلبهم المقدرة أو سلبهم الداعي، لتقوم الحجة عليهم بمرأى ومسمع من جميع العرب. ويعرف هذا القول بالصرفة كما في المواقف للعضد والمقاصد للتفتزاني ولعلها بفتح الصاد وسكون الراء وهي مرة من الصرف وصيغ بصيغة المرة للإشارة إلى أنها صرف خاص فصارت كالعلم بالغلبة ولم ينسبوا هذا القول إلا إلى الأشعري فيما حكاه أبو الفضل عياض في الشفاء وإلى النظام والشريف المرتضى وأبي إسحاق الاسفرائيني فيما حكاه عنهم عضد الدين في المواقف، وهو قول ابن حزم صرح به في كتاب الفصل (ص 7 جز 3) (ص 184 جز 2) وقد عزاه صاحب المقاصد في شرحه إلى كثير من المعتزلة.

وأما الذي عليه جمهرة أهل العلم والتحقيق واقتصر عليه أيمة الأشعرية وإمام الحرمين وعليه الجاحظ وأهل العربية كما في المواقف، فالتعليل لعجز المتحدين به بأنه بلوغ القرآن في درجات البلاغة والفصاحة مبلغا تعجز قدرة بلغاء العرب عن الإتيان بمثله، وهو الذي نعتمده ونسير عليه في هذه المقدمة العاشرة.

- الدليل على أن عدم الإتيان بمثل القرآن هو علو بلاغته

وقد بدا لي دليل قوي على هذا( بلاغة القرآن) وهو بقاء الآيات التي نسخ حكمها وبقيت متلوة من القرآن ومكتوبة في المصاحف فإنها لما نسخ حكمها لم يبق وجه لبقاء تلاوتها وكتبها في المصاحف إلا ما في مقدار مجموعها من البلاغة بحيث يلتئم منها مقدار ثلاث آيات متحدى بالإتيان بمثلها مثال ذلك آية الوصية في سورة العقود.

- بيان السبب في وقوع التحدي بسورة

إنما وقع التحدي بسورة أي وإن كانت قصيرة دون أن يتحداهم بعدد من الآيات لأن من أفانين البلاغة ما مرجعه إلى مجموع نظم الكلام وصوغه بسبب الغرض الذي سيق فيه من فواتح الكلام وخواتمه، وانتقال الأغراض، والرجوع إلى الغرض، وفنون الفصل، والإيجاز والإطناب، والاستطراد والاعتراض، وقد جعل شرف الدين الطيبي هذا هو الوجه لإيقاع التحدي بسورة دون أن يجعل بعدد من الآيات.

- بيان جهات الإعجاز في القرآن

وإذ قد كان تفصيل وجوه الإعجاز لا يحصره المتأمل كان علينا أن نضبط معاقدها التي هي ملاكها، فنرى ملاك وجوه الإعجاز راجعا إلى ثلاث جهات:

الجهة الأولى: بلوغه الغاية القصوى مما يمكن أن يبلغه الكلام العربي البليغ من حصول كيفيات في نظمه مفيدة معاني دقيقة ونكتا من أغراض الخاصة من بلغاء العرب مما لا يفيده أصل وضع اللغة، بحيث يكثر فيه ذلك كثرة لا يدانيها شيء من كلام البلغاء من شعرائهم وخطبائهم.

الجهة الثانية: ما أبدعه القرآن من أفانين التصرف في نظم الكلام مما لم يكن معهودا في أساليب العرب، ولكنه غير خارج عما تسمح به اللغة.

الجهة الثالثة: ما أودع فيه من المعاني الحكمية والإشارات إلى الحقائق العقلية والعلمية مما لم تبلغ إليه عقول البشر في عصر نزول القرآن وفي عصور بعده متفاوتة، وهذه الجهة أغفلها المتكلمون في إعجاز القرآن من علمائنا مثل أبي بكر الباقلاني والقاضي عياض.

وقد عد كثير من العلماء من وجوه إعجاز القرآن ما يعد جهة رابعة هي ما انطوى عليه من الأخبار عن المغيبات مما دل على أنه منزل من علام الغيوب، وقد يدخل في هذه الجهة ما عده عياض في الشفاء وجها رابعا من وجوه إعجاز القرآن وهو ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب، فهذا معجز للعرب الأميين خاصة وليس معجزا لأهل الكتاب؛ وخاص ثبوت إعجازه بأهل الإنصاف من الناظرين في نشأة الرسول صلى الله عليه وسلم وأحواله، وليس معجزا للمكابرين فقد قالوا {إنما يعلمه بشر}.

- بيان المخاطبين في وجوه إعجاز القرآن

أعجاز القرآن من الجهتين الأولى والثانية متوجه إلى العرب، إذ هو معجز لفصحائهم وخطبائهم وشعرائهم مباشرة، ومعجز لعامتهم بواسطة إدراكهم أن عجز مقارعيه عن معارضته مع توفر الدواعي عليه هو برهان ساطع على أنه تجاوز طاقة جميعهم. ثم هو بذلك دليل على صدق المنزل عليه لدى بقية البشر الذين بلغ إليهم صدى عجز العرب بلوغا لا يستطاع إنكاره لمعاصريه بتواتر الأخبار، ولمن جاء بعدهم بشواهد التاريخ. فإعجازه للعرب الحاضرين دليل تفصيلي، وإعجازه لغيرهم دليل إجمالي.
ثم قد يشارك خاصة العرب في إدراك إعجازه كل من تعلم لغتهم ومارس بليغ كلامهم وآدابهم من أئمة البلاغة العربية في مختلف العصور، وهذا معنى قول السكاكي في المفتاح مخاطبا للناظر في كتابه متوسلا بذلك أي بمعرفة الخصائص البلاغية التي هو بصدد الكلام عليها إلى أن تتأنق في وجه الإعجاز في التنزيل منتقلا مما أجمله عجز المتحدين به عندك إلى التفصيل.

والقرآن معجز من الجهة الثالثة للبشر قاطبة إعجازا مستمرا على ممر العصور، وهذا من جملة ما شمله قول أئمة الدين: إن القرآن هو المعجزة المستمرة على تعاقب السنين، لأنه قد يدرك إعجازه العقلاء من غير الأمة العربية بواسطة ترجمة معانيه التشريعية والحكمية والعلمية والأخلاقية، وهو دليل تفصيلي لأهل تلك المعاني وإجمالي لمن تبلغه شهادتهم بذلك.

وهو من الجهة الرابعة عند الذين اعتبروها زائدة على الجهات الثلاث معجز لأهل عصر نزوله إعجازا تفصيليا، ومعجز لمن يجيء بعدهم ممن يبلغه ذلك بسبب تواتر نقل القرآن، وتعين صرف الآيات المشتملة على هذا الإخبار إلى ما أريد منها.

- بيان تفصيل الجهة الاولى من جهات الإعجاز

الجهة الأولى مرجعها إلى ما يسمى بالطرف الأعلى من البلاغة والفصاحة، وهو المصطلح على تسميته حد الإعجاز، فلقد كان منتهى التنافس عند العرب بمقدار التفوق في البلاغة والفصاحة، وقد وصف أئمة البلاغة والأدب هذين الأمرين بما دون له علما المعاني والبيان، وتصدوا في خلال ذلك للموازنة بين ما ورد في القرآن من ضروب البلاغة وبين أبلغ ما حفظ عن العرب من ذلك مما عد في أقصى درجاتها. وقد تصدى أمثال أبي بكر الباقلاني وأبي هلال العسكري وعبد القاهر والسكاكي وابن الأثير، إلى الموازنة بين ما ورد في القرآن وبين ما ورد في بليغ كلام العرب من بعض فنون البلاغة بما فيه مقنع للمتأمل، ومثل للمتمثل. وليس من حظ الواصف إعجاز القرآن وصفا جماليا كصنعنا ههنا أن يصف هذه الجهة وصفا مفصلا لكثرة أفانينها، فحسبنا أن نحيل في تحصيل كلياتها وقواعدها على الكتب المجعولة لذلك مثل دلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة، والقسم الثالث فما بعده من المفتاح، ونحو ذلك، وأن نحيل في تفاصيلها الواصفة لإعجاز آي القرآن على التفاسير المؤلفة في ذلك وعمدتها كتاب الكشاف للعلامة الزمخشري، وما سنستنبطه ونبتكره في تفسيرنا هذا إن شاء الله، غير أني ذاكر هنا أصولا لنواحي إعجازه من هذه الجهة وبخاصة ما لم يذكره الأئمة أو أجملوا في ذكره.

وحسبنا هنا الدليل الإجمالي وهو أن الله تعالى تحدى بلغاءهم أن يأتوا بسورة من مثله فلم يتعرض واحد إلى معارضته، اعترافا بالحق وربئا بأنفسهم عن التعريض بالنفس إلى الافتضاح، مع أنهم أهل القدرة في أفانين الكلام نظما ونثرا، وترغيبا وزجرا، قد خصوا من بين الأمم بقوة الذهن وشدة الحافظة وفصاحة اللسان وتبيان المعاني، فلا يستصعب عليهم سابق من المعاني، ولا يجمح بهم عسير من المقامات.

قال عياض في الشفاء: فلم يزل يقرعهم النبيء صلى الله عليه وسلم أشد التقريع ويوبخهم غاية التوبيخ ويسفه أحلامهم ويحط أعلامهم وهم في كل هذا ناكصون عن معارضته محجمون عن مماثلته، يخادعون أنفسهم بالتكذيب والإغراء بالافتراء، وقولهم: {إن هذا إلا سحر يؤثر} {سحر مستمر} و{إفك افتراه} و{أساطير الأولين}. وقد قال تعالى: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا} فما فعلوا ولا قدروا، ومن تعاطى ذلك من سخفائهم كمسيلمة كشف عواره لجميعهم. ولما سمع الوليد بن المغيرة قوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} الآية قال: والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق وإن أعلاه لمثمر وما هو بكلام بشر. وذكر أبو عبيدة أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ {فاصدع بما تؤمر} فسجد وقال: سجدت لفصاحته، وكان موضع التأثير في هذه الجملة هو كلمة اصدع في إبانتها عن الدعوة والجهر بها والشجاعة فيها، وكلمة {بما تؤمر} في إيجازها وجمعها. وسمع آخر رجلا يقرأ {فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا} فقال: أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام. وكون النبيء صلى الله عليه وسلم تحدى به وأن العرب عجزوا عن معارضته مما علم بالضرورة إجمالا وتصدى أهل علم البلاغة لتفصيله.

قال السكاكي في المفتاح: واعلم أن شأن الإعجاز عجيب يدرك ولا يمكن وصفه، كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها، أو كالملاحة. ومدرك الإعجاز عندي هو الذوق ليس إلا. وطريق اكتساب الذوق طول خدمة هذين العلمين المعاني والبيان نعم للبلاغة وجوه متلثمة ربما تيسرت إماطة اللثام عنها لتجلى عليك، أما نفس وجه الإعجاز فلا ا هـ.

قال التفتزاني يعني أن كل ما ندركه بعقولنا ففي غالب الأمر نتمكن من التعبير عنه، والإعجاز ليس كذلك لأنا نعلم قطعا من كلام الله أنه بحيث لا تمكن للبشر معارضته والإتيان بمثله ولا يماثله شيء من كلام فصحاء العرب مع أن كلماته كلمات كلامهم، وكذا هيئات تراكيبه، كما أنا نجد كلاما نعلم قطعا أنه مستقيم الوزن دون آخر، وكما أنا ندرك من أحد كون كل عضو منه كما ينبغي وآخر كذلك أو دون ذلك، لكن فيه شيء نسميه الملاحة ولا نعرف أنه ما هو، وليس مدرك الإعجاز عند المصنف سوى الذوق وهو قوة إدراكية لها اختصاص بإدراك لطائف الكلام ووجوه محاسنه الخفية، فإن كان حاصلا بالفطرة فذاك وإن أريد اكتسابه فلا طريق إليه سوى الاعتناء بعلمي المعاني والبيان وطول ممارستهما والاشتغال بهما، وإن جمع بين الذوق الفطري وطول خدمة العلمين فلا غاية وراءه، فوجه الإعجاز أمر من جنس البلاغة والفصاحة لا كما ذهب إليه النظام وجمع من المعتزلة أن إعجازه بالصرفة بمعنى أن الله صرف العرب عن معارضته وسلب قدرتهم عليها، ولا كما ذهب إليه جماعة من أن إعجازه بمخالفة أسلوبه لأساليب كلامهم من الأشعار والخطب والرسائل لا سيما في المقاطع مثل يؤمنون وينفقون ويعلمون قال السيد لا سيما في مطالع السور ومقاطع الآي أو بسلامته من التناقض قال السيد مع طوله جدا أو باشتماله على الإخبار بالمغيبات والكل فاسد.

وقال السيد: الجرجاني فهذه أقوال خمسة في وجه الإعجاز لا سادس لها. وقال السيد أراد المصنف أن الإعجاز نفسه وإن لم يمكن وصفه وكشفه بحيث يدرك به لكن الأمور المؤدية إلى كون الكلام معجزا أعني وجوه البلاغة قد تحتجب فربما تيسر كشفها ليتقوى بذلك ذوق البليغ على مشاهدة الإعجاز.
يريد السيد بهذا الكلام إبطال التدافع بين قول صاحب المفتاح: يدرك ولا يمكن وصفه إذ نفى الإمكان، وبين قوله نعم للبلاغة وجوه متلثمة ربما تيسرت إماطة اللثام عنها، فاثبت تيسر وصف وجوه الإعجاز، بأن الإعجاز نفسه لا يمكن كشف القناع عنه، وأما وجوه البلاغة فيمكن كشف القناع عنها.

- بيان الأدلة على من إعجاز القرآن خصوصيات بلاغته و دقائق معانيه

لا شك في أن خصوصيات الكلام البليغ ودقائقه مرادة لله تعالى في كون القرآن معجزا وملحوظة للمتحدين به على مقدار ما يبلغ إليه بيان المبين. وان إشارات كثيرة في القرآن تلفت الأذهان لذلك ويحضرني الآن من ذلك أمور:

أحدها ما رواه مسلم والأربعة عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تعالى: قسمت الصلاة أي سورة الفاتحة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين} قال الله تعالى: حمدني عبدي. وإذا قال: {الرحمن الرحيم}، قال الله تعالى أثنى علي عبدي. وإذ قال: {مالك يوم الدين}، قال: مجدني عبدي وقال مرة: فوض إلي عبدي فإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين}، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل)).
ففي هذا الحديث تنبيه على ما في نظم فاتحة الكتاب من خصوصية التقسيم إذ قسم الفاتحة ثلاثة أقسام. وحسن التقسيم من المحسنات البديعية. مع ما تضمنه ذلك التقسيم من محسن التخلص في قوله: ((فإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين}، قال: هذا بيني وبين عبدي)) إذ كان ذلك مزيجا من القسمين الذي قبله والذي بعده.

وفي القرآن مراعاة التجنيس في غير ما آية والتجنيس من المحسنات، ومنه قوله تعالى: {وهم ينهون عنه وينأون عنه}.

وفيه التنبيه على محسن المطابقة كقوله: {فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير}.

والتنبيه على ما فيه من تمثيل كقوله تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} وقوله: {ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون}.

- بيان أول وجوه الإعجاز - أساليب البلاغة

من أفانين الكلام الالتفات وهو نقل الكلام من أحد طرق التكلم أو الخطاب أو الغيبة إلى طريق آخر منها. وهو بمجرده معدود من الفصاحة، وسماه ابن جني شجاعة العربية لأن ذلك التغيير يجدد نشاط السامع فإذا انضم إليه اعتبار لطيف يناسب الانتقال إلى ما انتقل إليه صار من أفانين البلاغة وكان معدودا عند بلغاء العرب من النفائس، وقد جاء منه في القرآن ما لا يحصى كثرة مع دقة المناسبة في الانتقال.

كان للتشبيه والاستعارة عند القوم المكان القصي والقدر العلي في باب البلاغة، وبه فاق امرؤ القيس ونبهت سمعته، وقد جاء في القرآن من التشبيه والاستعارة ما أعجز العرب كقوله: {واشتعل الرأس شيبا} وقوله: {واخفض لهما جناح الذل} وقوله: {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار} وقوله تعالى: {ابلعي ماءك} وقوله: {صبغة الله} إلى غير ذلك من وجوه البديع.

من محاسن التشبيه عندهم كمال الشبه، ورأيت وسيلة ذلك الاحتراس وأحسنه ما وقع في القرآن كقوله تعالى: {فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين} احتراس عن كراهة الطعام {وأنهار من عسل مصفى} احتراس عن أن تتخلله أقذاء من بقايا نحله.
وانظر التمثيلية في قوله تعالى: {أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار} الآية. ففيه إتمام جهات كمال تحسين التشبيه لإظهار أن الحسرة على تلفها أشد. وكذا قوله تعالى: {مثل نوره كمشكاة} إلى قوله: {يكاد زيتها يضيء} فقد ذكر من الصفات، والأحوال ما فيه مزيد وضوح المقصود من شدة الضياء، وما فيه تحسين المشبه وتزيينه بتحسين شبهه، وأين من الآيتين قول كعب:
شجت بذي شبم من ماء محنية = صاف بأبطح أضحى وهو مشمول
تنفي الرياح القذى عنه وأفرطه = من صوب سارية بيض يعاليل

إن نظم القرآن مبني على وفرة الإفادة وتعدد الدلالة، فجمل القرآن لها دلالتها الوضعية التركيبية التي يشاركها فيها الكلام العربي كله، ولها دلالتها البلاغية التي يشاركها في مجملها كلام البلغاء ولا يصل شيء من كلامهم إلى مبلغ بلاغتها.
ولها دلالتها المطوية وهي دلالة ما يذكر على ما يقدر اعتمادا على القرينة، وهذه الدلالة قليلة في كلام البلغاء وكثرت في القرآن مثل تقدير القول وتقدير الموصوف وتقدير الصفة. ولها دلالة مواقع جمله بحسب ما قبلها وما بعدها، ككون الجملة في موقع العلة لكلام قبلها، أو في موقع الاستدراك، أو في موقع جواب سؤال، أو في موقع تعريض أو نحوه. وهذه الدلالة لا تتأتى في كلام العرب لقصر أغراضه في قصائدهم وخطبهم بخلاف القرآن، فإنه لما كان من قبيل التذكير والتلاوة سمحت أغراضه بالإطالة، وبتلك الإطالة تأتى تعدد مواقع الجمل والأغراض. مثال ذلك قوله تعالى: {وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون} بعد قوله: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} فإن قوله: {وخلق الله السماوات والأرض} إلى آخره مفيد بتراكيبه فوائد من التعليم والتذكير، وهو لوقوعه عقب قوله: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات} واقع موقع الدليل على أنه لا يستوي من عمل السيئات مع من عمل الصالحات في نعيم الآخرة.

إن للتقديم والتأخير في وضع الجمل وأجزائها في القرآن دقائق عجيبة كثيرة لا يحاط بها وسننبه على ما يلوح منها في مواضعه إن شاء الله. وإليك مثلا من ذلك يكون لك عونا على استجلاء أمثاله. قال تعالى: {إن جهنم كانت مرصادا للطاغين مآبا} إلى قوله: {إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا} إلى قوله: {وكأسا دهاقا لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا} فكان للابتداء بذكر جهنم ما يفسر المفاز في قوله: {إن للمتقين مفازا} أنه الجنة لأن الجنة مكان فوز. ثم كان قوله: {لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا} ما يحتمل لضمير فيها من قوله: {لا يسمعون فيها} أن يعود إلى {كأسا دهاقا} وتكون في للظرفية المجازية أي الملابسة أو السببية أي لا يسمعون في ملابسة شرب الكأس ما يعتري شاربيها في الدنيا من اللغو واللجاج، وأن يعود إلى {مفازا} بتأويله باسم مؤنث وهو الجنة وتكون في للظرفية الحقيقية أي لا يسمعون في الجنة كلاما لا فائدة فيه ولا كلاما مؤذيا. وهذه المعاني لا يتأتى جميعها إلا بجمل كثيرة لو لم يقدم ذكر جهنم ولم يعقب بكلمة {مفازا}. ولم يؤخر {وكأسا دهاقا} ولم يعقب بجملة {لا يسمعون فيها لغوا} إلخ.

- بيان وجوب مراعاة خصوصية آيات القرآن في طلب مقتضى للأساليب البلاغية فيها

مما يجب التنبيه له أن مراعاة المقام في أن ينظم الكلام على خصوصيات بلاغية هي مراعاة من مقومات بلاغة الكلام وخاصة في إعجاز القرآن، فقد تشتمل آية من القرآن على خصوصيات تتساءل نفس المفسر عن دواعيها وما يقتضيها فيتصدى لتطلب مقتضيات لها ربما جاء بها متكلفة أو مغصوبة، ذلك لأنه لم يلتفت إلا إلى مواقع ألفاظ الآية، في حال أن مقتضياتها في الواقع منوطة بالمقامات التي نزلت فيها الآية، مثال ذلك قوله تعالى في سورة المجادلة: {أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون} ثم قوله: {أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون} فقد يخفى مقتضى اجتلاب حرف التنبيه في افتتاح كلتا الجملتين فيأوي المفسر إلى تطلب مقتضه ويأتي بمقتضيات عامة مثل أن يقول: التنبيه للاهتمام بالخبر، ولكن إذا قدرنا أن الآيتين نزلتا بمسمع من المنافقين والمؤمنين جميعا علمنا أن اختلاف حرف التنبيه في الأولى لمراعاة إيقاظ فريقي المنافقين والمؤمنين جميعا، فالأولون لأنهم يتظاهرون بأنهم ليسوا من حزب الشيطان في نظر المؤمنين إذ هم يتظاهرون بالإسلام فكأن الله يقول قد عرفنا دخائلكم، وثاني الفريقين وهم المؤمنون نبهوا لأنهم غافلون عن دخائل الآخرين فكأنه يقول لهم تيقظوا فإن الذين يتولون أعداءكم هم أيضا عدو لكم لأنهم حزب الشيطان والشيطان عدو الله وعدو الله عدو لكم واجتلاب حرف التنبيه في الآية الثانية لتنبيه المنافقين إلى فضيلة المسلمين لعلهم يرغبون فيها فيرعوون عن النفاق، وتنبيه المسلمين إلى أن حولهم فريقا ليسوا من حزب الله فليسوا بمفلحين ليتوسموا أحوالهم حق التوسم

- بيان الاعجاز في الاساليب البلاغية - النكت البلاغية

مرجع هذا الصنف من الإعجاز إلى ما يسمى في عرف علماء البلاغة بالنكت البلاغية فإن بلغاءهم كان تنافسهم في وفرة إيداع الكلام من هذه النكت، وبذلك تفاضل بلغاؤهم، فلما سمعوا القرآن انثالت على كل من سمعه من بلغائهم من النكت التي تفطن لها ما لم يجد من قدرته قبلا بمثله. وأحسب أن كل بليغ منهم قد فكر في الاستعانة بزملائه من أهل اللسان فعلم ألا مبلغ بهم إلى التظاهر على الإتيان بمثل القرآن فيما عهده كل واحد من ذوق زميله، هذا كله بحسب ما بلغت إليه قريحة كل واحد ممن سمع القرآن منهم من التفطن إلى نكت القرآن وخصائصه. ووراء ذلك نكت لا يتفطن إليها كل واحد، وأحسب أنهم تآمروا وتدارسوا بينهم في نواديهم أمر تحدي الرسول إياهم بمعارضة القرآن وتواصفوا ما اشتملت عليه بعض آياته العالقة بحوافظهم وأسماعهم من النكت والخصائص وأوقف بعضهم بعضاً على ما لاح له من تلك الخصائص، وفكروا وقدروا وتدبروا فعلموا أنهم عاجزون عن الإتيان بمثلها إن انفردوا أو اجتمعوا، ولذلك سجل القرآن عليهم عجزهم في الحالتين فقال تارة: {فأتوا بسورة من مثله} وقال لهم مرة: {لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} فحالة اجتماعهم وتظاهرهم لم تكن مغفولا عنها بينهم ضرورة أنهم متحدون بها.

- بيان أن الاعجاز البلاغي أقوى نواحي الاعجاز القرآني

هذه الناحية من هذه الجهة من الإعجاز هي أقوى نواحي إعجاز القرآن وهي التي يتحقق بها إعجاز أقصر سورة منه. وفي هذه الجهة ناحية أخرى وهي ناحية فصاحة اللفظ وانسجام النظم وذلك بسلامة الكلام في أجزائه ومجموعه مما يجر الثقل إلى لسان الناطق به، ولغة العرب لغة فصيحة وأهلها مشهورون بفصاحة الألسن. قال فخر الدين الرازي في مفاتيح الغيب: إن المحاسن اللفظية غير مهجورة في الكلام الحكمي، والكلام له جسم وهو اللفظ وله روح وهو المعنى وكما أن الإنسان الذي نور روحه بالمعرفة ينبغي أن ينور جسمه بالنظافة، كذلك الكلام، ورب كلمة حكيمة لا تؤثر في النفوس لركاكة لفظها..
وكان مما يعرض لشعرائهم وخطبائهم ألفاظ ولهجات لها بعض الثقل على اللسان، فأما ما يعرض للألفاظ فهو ما يسمى في علم الفصاحة بتنافر حروف الكلمة أو تنافر حروف الكلمات عند اجتماعها مثل: مستشزرات والكنهبل في معلقة امرئ القيس، وسفنجة والخفيدد في معلقة طرفة، وقول القائل وليس قرب قبر حرب قبر.
وقد سلم القرآن من هذا كله مع تفننه في مختلف الأغراض وما تقتضيه من تكاثر الألفاظ، وبعض العلماء أورد قوله تعالى: {ألم أعهد إليكم} وقوله: {وعلى أمم ممن معك} وتصدى للجواب، والصواب أن ذلك غير وارد كما قاله المحققون لعدم بلوغه حد الثقل، ولأن حسن دلالة اللفظ على المعنى بحيث لا يخلفه فيها غيره مقدم على مراعاة خفة لفظه.
فقد اتفق أئمة الأدب على أن وقوع اللفظ المتنافر في أثناء الكلام الفصيح لا يزيل عنه وصف الفصاحة، فإن العرب لم يعيبوا معلقة امرئ القيس ولا معلقة طرفة. قال أبو العباس المبرد: وقد يضطر الشاعر المفلق والخطيب المصقع والكاتب البليغ فيقع في كلام أحدهم المعنى المستغلق واللفظ المستكره فإذا انعطفت عليه جنبتا الكلام غطتا على عواره وسترتا من شينه.

وأما ما يعرض للهجات العرب فذلك شيء تفاوتت في مضماره جياد ألسنتهم وكان المجلى فيها لسان قريش ومن حولها من القبائل المذكورة في المقدمة السادسة وهو مما فسر به حديث: ((أنزل القرآن على سبعة أحرف))، ولذلك جاء القرآن بأحسن اللهجات وأخفها وتجنب المكروه من اللهجات، وهذا من أسباب تيسير تلقي الأسماع له ورسوخه فيها. قال تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر}.

ومما أعده في هذه الناحية صراحة كلماته باستعمال أقرب الكلمات في لغة العرب دلالة على المعاني المقصودة، وأشملها لمعان عديدة مقصودة بحيث لا يوجد في كلمات القرآن كلمة تقصر دلالتها عن جميع المقصود منها في حالة تركيبها، ولا تجدها مستعملة إلا في حقائقها مثل إيثار كلمة حرد في قوله تعالى: {وغدوا على حرد قادرين} إذ كان جميع معاني الحرد صالحا للإرادة في ذلك الغرض، أو مجازات أو استعارات أو نحوها مما تنصب عليه القرائن في الكلام، فإن اقتضى الحال تصرفا في معنى اللفظ كان التصرف بطريق التضمين وهو كثير في القرآن مثل قوله تعالى: {ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء} فجاء فعل {أتوا} مضمنا معنى مروا فعدي بحرف على؛ لأن الإتيان تعدى إلى اسم القرية والمقصود منه الاعتبار بمآل أهلها، فإنه يقال أتى أرض بني فلان ومر على حي كذا. وهذه الوجوه كلها لا تخالف أساليب الكلام البليغ بل هي معدودة من دقائقه ونفائسه التي تقل نظائرها في كلام بلغائهم لعجز فطنة الأذهان البشرية عن الوفاء بجميعها.

- بيان تفصيل الجهة الثانية من وجوه الإعجاز - أساليب الكلام

الجهة الثانية وهى ما أبدعه القرآن من أفانين التصرف في أساليب الكلام البليغ وهذه جهة مغفولة من علم البلاغة، فاعلم أن أدب العرب نوعان شعر ونثر، والنثر خطابة وأسجاع كهان، وأصحاب هذه الأنواع وإن تنافسوا في ابتكار المعاني وتفاوتوا في تراكيب أدائها في الشعر فهم بالنسبة إلى الأسلوب قد التزموا في أسلوبي الشعر والخطابة طريقة واحدة تشابهت فنونها فكادوا لا يعدون ما ألفوه من ذلك حتى إنك لتجد الشاعر يحذو حذو الشاعر في فواتح القصائد وفي كثير من تراكيبها، فكم من قصائد افتتحت بقولهم بانت سعاد للنابغة وكعب بن زهير، وكم من شعر افتتح ب،:
يا خليلي اربعا واستخبرا
وكم من شعر افتتح بـ:
يا أيها الراكب المزجي مطيته
وقال امرؤ القيس في معلقته:
وقوفا بها صحبي على مطيهم = يقولون لا تهلك أسى وتحمل
فقال طرفة في معلقته بيتا مماثلا له سوى أن كلمة القافية منه "وتجلد".

وكذلك القول في خطبهم تكاد تكون لهجة واحدة وأسلوبا واحدا فيما بلغنا من خطب سحبان وقس بن ساعدة. وكذلك أسجاع الكهان وهي قد اختصت بقصر الفقرات وغرابة الكلمات. إنما كان الشعر الغالب على كلامهم، وكانت الخطابة بحالة ندور لندرة مقاماتها. قال عمر كان الشعر علم القوم ولم يكن لهم علم أصح منه فانحصر تسابق جياد البلاغة في ميدان الكلام المنظوم، فلما جاء القرآن ولم يكن شعرا ولا سجع كهان، وكان من أسلوب النثر أقرب إلى الخطابة، ابتكر للقول أساليب كثيرة بعضها تتنوع بتنوع المقاصد، ومقاصدها بتنوع أسلوب الإنشاء، فيها أفانين كثيرة فيجد فيه المطلع على لسان العرب بغيته ورغبته، ولهذا قال الوليد بن المغيرة لما استمع إلى قراءة النبيء صلى الله عليه وسلم "والله ما هو بكاهن، ما هو بزمزمته ولا سجعه، وقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه، وقريضه ومبسوطه، ومقبوضه ما هو بشاعر". وكذلك وصفه أنيس بن جنادة الغفاري الشاعر أخو أبي ذر حين انطلق إلى مكة ليسمع من النبيء صلى الله عليه وسلم ويأتي بخبره إلى أخيه فقال "لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعته على أقراء الشعر فلم يلتئم، وما يلتئم على لسان واحد بعدي أنه شعر" ثم أسلم. وورد مثل هذه الصفة عن عتبة بن ربيعة والنضر بن الحرث، والظاهر أن المشركين لما لم يجدوا بدا من إلحاق القرآن بصنف من أصناف كلامهم ألحقوه بأشبه الكلام به فقالوا إنه شعر تقريبا للدهماء بما عهده القوم من الكلام الجدير بالاعتبار من حيث ما فيه من دقائق المعاني وأحكام الانتظام والنفوذ إلى العقول، فإنه مع بلوغه أقصى حد في فصاحة العربية ومع طول أغراضه وتفنن معانيه وكونه نثرا لا شعرا ترى أسلوبه يجري على الألسنة سلسا سهلا لا تفاوت في فصاحة تراكيبه، وترى حفظه أسرع من حفظ الشعر. وقد اختار العرب الشعر لتخليد أغراضهم وآدابهم لأن ما يقتضيه من الوزن يلجئ إلى التدريب على ألفاظ متوازنة فيكسبها ذلك التوازن تلاؤما، فتكون سلسة على الألسن، فلذلك انحصر تسابق جياد البلاغة في الكلام المنظوم، وفحول الشعراء مع ذلك متفاوتون في سلاسة الكلام مع تسامحهم في أمور كثيرة اغتفرها الناس لهم وهي المسماة بالضرورات. بحيث لو كان لواحد من البشر أن يتكلف فصاحة لما يقوله من كلام ويعاود تنقيحه وتغيير نظمه بإبدال الكلمات أو بالتقديم لما حقه التأخير، أو التأخير لما حقه التقديم، أو حذف أو زيادة، لقضى زمنا مديدا في تأليف ما يقدر بسورة من متوسط سور القرآن، ولما سلم مع ذلك من جمل يتعثر فيها اللسان. ولم يدع مع تلك الفصاحة داع إلى ارتكاب ضرورة أو تقصير في بعض ما تقتضيه البلاغة، فبنى نظمه على فواصل وقرائن متقاربة فلم تفته سلاسة الشعر ولم ترزح تحت قيود الميزان، فجاء القرآن كلاما منثورا ولكنه فاق في فصاحته وسلاسته على الألسنة وتوافق كلماته وتراكيبه في السلامة من أقل تنافر وتعثر على الألسنة. فكان كونه من النثر داخلا في إعجازه، وقد اشتمل القرآن على أنواع أساليب الكلام العربي وابتكر أساليب لم يكونوا يعرفونها وإن لذلك التنويع حكمتين داخلتين في الإعجاز: أولاهما ظهور أنه من عند الله؛ إذ قد تعارف الأدباء في كل عصر أن يظهر نبوغ نوابغهم على أساليب مختلفة كل يجيد أسلوبا أو أسلوبين. والثانية أن يكون في ذلك زيادة التحدي للمتحدين به بحيث لا يستطيع أحد أن يقول إن هذا الأسلوب لم تسبق لي معالجته ولو جاءنا بأسلوب آخر لعارضته.

نرى من أعظم الأساليب التي خالف بها القرآن أساليب العرب أنه جاء في نظمه بأسلوب جامع بين مقصديه وهما: مقصد الموعظة ومقصد التشريع، فكان نظمه يمنح بظاهره السامعين ما يحتاجون أن يعلموه وهو في هذا النوع يشبه خطبهم، وكان في مطاوي معانيه ما يستخرج منه العالم الخبير أحكاما كثيرة في التشريع والآداب وغيرها، وقد قال في الكلام على بعضه: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم} هذا من حيث ما لمعانيه من العموم والإيماء إلى العلل والمقاصد وغيرها.

ومن أساليبه ما أسميه بالتفنن وهو بداعة تنقلاته من فن إلى فن بطرائق الاعتراض والتنظير والتذييل والإتيان بالمترادفات عند التكرير تجنبا لثقل تكرير الكلم، وكذلك الإكثار من أسلوب الالتفات المعدود من أعظم أساليب التفنن عند بلغاء العربية فهو في القرآن كثير، ثم الرجوع إلى المقصود فيكون السامعون في نشاط متجدد بسماعه وإقبالهم عليه، ومن أبدع أمثلة ذلك قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمي فهم لا يرجعون. أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير} بحيث كان أكثر أساليب القرآن من الأساليب البديعة العزيز مثلها في شعر العرب وفي نثر بلغائهم من الخطباء وأصحاب بدائه الأجوبة. وفي هذا التفنن والتنقل مناسبات بين المنتقل منه والمنتقل إليه هي في منتهى الرقة والبداعة بحيث لا يشعر سامعه وقارئه بانتقاله إلا عند حصوله. وذلك التفنن مما يعين على استماع السامعين ويدفع سآمة الإطالة عنهم، فأن من أغراض القرآن استكثار أزمان قراءته كما قال تعالى: {علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرأوا ما تيسر من القرآن} فقوله: {ما تيسر} يقتضي الاستكثار بقدر التيسر، وفي تناسب أقواله وتفنن أغراضه مجلبة لذلك التيسير وعون على التكثير، نقل عن أبي بكر بن العربي أنه قال في كتابه سراج المريدين ارتباط آي القرآن بعضها مع بعض حتى تكون كالكلمة الواحدة متسعة المعاني منتظمة المباني، علم عظيم ونقل الزركشي عن عز الدين بن عبد السلام المناسبة علم حسن ويشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره فإن وقع على أسباب مختلفة لم يقع فيه ارتباط، والقرآن نزل في نيف وعشرين سنة في أحكام مختلفة شرعت لأسباب مختلفة، وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض.
وقال شمس الدين محمود الأصفهاني في تفسيره نقلا عن الفخر الرازي أنه قال إن القرآن كما أنه معجز بسبب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه هو أيضا معجز بسبب ترتيبه ونظم آياته، ولعل الذين قالوا إنه معجز بسبب أسلوبه أرادوا ذلك.

إن بلاغة الكلام لا تنحصر في أحوال تراكيبه اللفظية، بل تتجاوز إلى الكيفيات التي تؤدي بها تلك التراكيب. فإن سكوت المتكلم البليغ في جملة سكوتا خفيفا قد يفيد من التشويق إلى ما يأتي بعده ما يفيده إبهام بعض كلامه ثم تعقيبه ببيانه، فإذا كان من مواقع البلاغة نحو الإتيان بلفظ الاستئناف البياني، فإن السكوت عند كلمة وتعقيبها بما بعدها يجعل ما بعدها بمنزلة الاستئناف البياني، وإن لم يكنه عينه، مثاله قوله تعالى: {هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى} فإن الوقف على قوله: {موسى} يحدث في نفس السامع ترقبا لما يبين حديث موسى، فإذا جاء بعده {إذ ناداه ربه} إلخ حصل البيان مع ما يحصل عند الوقف على كلمة موسى من قرينة من قرائن الكلام لأنه على سجعة الألف مثل قوله: {طوى}، {طغى}، {تزكى} إلخ.

وقد بينت عند تفسير قوله تعالى {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} أنك إن وقفت على كلمة {ريب} كان من قبيل إيجاز الحذف أي لا ريب في أنه الكتاب فكانت جملة {فيه هدى للمتقين} ابتداء كلام وكان مفاد حرف في استنزال طائر المعاندين أي إن لم يكن كله هدى فإن فيه هدى. وإن وصلت {فيه} كان من قبيل الإطناب وكان ما بعده مفيدا أن هذا الكتاب كله هدى.

ومن أساليب القرآن العدول عن تكرير اللفظ والصيغة فيما عدا المقامات التي تقتضي التكرير من تهويل ونحوه، ومما عدل فيه عن تكرير الصيغة قوله تعالى {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} فجاء بلفظ قلوب جمعا مع أن المخاطب امرأتان فلم يقل قلباكما تجنبا لتعدد صيغة المثنى.
ومن ذلك قوله تعالى: {وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا} فروعي معنى ما الموصولة مرة فأتى بضمير جماعة المؤنث وهو خالصة، وروعي لفظ ما الموصولة فأتى بمحرم مذكرا مفردا.

إن المقام قد يقتضي شيئين متساويين أو أشياء متساوية فيكون البليغ مخيرا في أحدهما وله ذكرهما تفننا وقد وقع في القرآن كثير من هذا:
من ذلك قوله: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا} بواو العطف في سورة البقرة وقوله في الأعراف: {فكلا} بفاء التفريع وكلاهما مطابق للمقام فإنه أمر ثان وهو أمر مفرع على الإسكان فيجوز أن يحكى بكل من الاعتبارين، ومنه قوله في سورة البقرة: {وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها} وفي سورة الأعراف: {وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها} فعبر مرة بـ {ادخلوا} ومرة بـ {اسكنوا} وعبر مرة بواو العطف ومرة بفاء التفريع. وهذا التخالف بين الشيئين يقصد لتلوين المعاني المعادة حتى لا تخلو إعادتها عن تجدد معنى وتغاير أسلوب، فلا تكون إعادتها مجرد تذكير.
قال في الكشاف في تفسير قوله تعالى {قال ربي يعلم القول في السماء والأرض} في سورة الأنبياء "ليس بواجب أن يجاء بالآكد في كل موضع ولكن يجاء بالوكيد تارة وبالآكد أخرى كما يجاء بالحسن في موضع وبالأحسن في غيره ليفتن الكلام افتنانا".

ومنها اتساع أدب اللغة في القرآن. لم يكن أدب العرب السائر فيهم غير الشعر، فهو الذي يحفظ وينقل ويسير في الآفاق، وله أسلوب خاص من انتقاء الألفاظ وإبداع المعاني، وكان غيره من الكلام عسير العلوق بالحوافظ، وكان الشعر خاصا بأغراض وأبواب معروفة أشهرها وأكثرها النسيب والحماسة والرثاء والهجاء والفخر، وأبواب أخر لهم فيها شعر قليل وهي الملح والمديح. ولهم من غير الشعر الخطب، والأمثال، والمحاورات: فأما الخطب فكانت تنسى بانتهاء المقامات المقولة فيها فلا يحفظ من ألفاظها شيء، وإنما يبقى في السامعين التأثر بمقاصدها زمانا قليلا للعمل به فتأثر المخاطبين بها جزئي ووقتي. وأما الأمثال فهي ألفاظ قصيرة يقصد منها الاتعاظ بمواردها، وأما المحاورات فمنها عادية لا يهتمون بما تتضمنه إذ ليست من الأهمية بحيث تنقل وتسير، ومنها محاورات نواد وهي المحاورات الواقعة في المجامع العامة والمنتديات وهي التي أشار إليها لبيد بقوله:
وكثيرة غرباؤها مجهولة = ترجى نوافلها ويخشى ذامها
غلب تشذر بالذحول كأنها = جن البدي رواسيا أقدامها
أنكرت باطلها ويؤت بحقها = عندي ولم يفخر علي كرامها
وتلك مثل مجامعهم عند الملوك وفي مقامات المفاخرات وهي نادرة الوقوع قليلة السيران وحيدة الغرض؛ إذ لا تعدو المفاخر والمبالغات فلا يحفظ منها إلا ما فيه نكتة أو ملحة أو فقرات مسجوعة مثل خطاب امرئ القيس مع شيوخ بني أسد. فجاء القرآن بأسلوب في الأدب غض جديد صالح لكل العقول، متفنن إلى أفانين أغراض الحياة كلها معط لكل فن ما يليق به من المعاني والألفاظ واللهجة: فتضمن المحاورة والخطابة والجدل والأمثال أي الكلم الجوامع والقصص والتوصيف والرواية.

وكان لفصاحة ألفاظه وتناسبها في تراكيبه وترتيبه على ابتكار أسلوب الفواصل العجيبة المتماثلة في الأسماع وإن لم تكن متماثلة الحروف في الأسجاع، كان لذلك سريع العلوق بالحوافظ خفيف الانتقال والسير في القبائل، مع كون مادته ولحمته هي الحقيقة دون المبالغات الكاذبة والمفاخرات المزعومة، فكان بذلك له صولة الحق وروعة لسامعيه، وذلك تأثير روحاني وليس بلفظي ولا معنوي.

وقد رأيت المحسنات في البديع جاءت في القرآن أكثر مما جاءت في شعر العرب، وخاصة الجناس كقوله: {وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا}.
والطباق كقوله: {كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير}.
وقد ألف ابن أبي الإصبع كتابا في بديع القرآن. وصار لمجيئه نثرا أدبا جديدا غضا ومتناولا لكل الطبقات. وكان لبلاغته وتناسقه نافذ الوصول إلى القلوب حتى وصفوه بالسحر وبالشعر {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون}.

مبتكرات القرآن


- بيان مبتكرات القرآن - اختلاف أسلوبه عن الشعر

أنه جاء على أسلوب يخالف الشعر لا محالة وقد نبه عليه العلماء المتقدمون. وأنا أضم إلى ذلك أن أسلوبه يخالف أسلوب الخطابة بعض المخالفة، بل جاء بطريقة كتاب يقصد حفظه وتلاوته، وذلك من وجوه إعجازه إذ كان نظمه على طريقة مبتكرة ليس فيها اتباع لطرائقها القديمة في الكلام.

وأعد من ذلك أنه جاء بالجمل الدالة على معان مفيدة محررة شأن الجمل العلمية والقواعد التشريعية، فلم يأت بعمومات شأنها التخصيص غير مخصوصة، ولا بمطلقات تستحق التقييد غير مقيدة، كما كان يفعله العرب لقلة اكتراثهم بالأحوال القليلة والأفراد النادرة. مثاله قوله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون} وقوله: {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} فبين أن الهوى قد يكون محمودا إذا كان هوى المرء عن هدى، وقوله: {إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا}.

- بيان مبتكرات القرآن - اسلوبه في التقسيم والتسوير

منها أن جاء على أسلوب التقسيم والتسوير وهي سنة جديدة في الكلام العربي أدخل بها عليه طريقة التبويب والتصنيف وقد أومأ إليها في الكشاف إيماء.

- بيان مبتكرات القرآن - أسلوبه القصصي في حكاية أحوال الآخرة

منها الأسلوب القصصي في حكاية أحوال النعيم والعذاب في الآخرة، وفي تمثيل الأحوال، وقد كان لذلك تأثير عظيم على نفوس العرب إذ كان فن القصص مفقودا من أدب العربية إلا نادرا، كان في بعض الشعر كأبيات النابغة في الحية التي قتلت الرجل وعاهدت أخاه وغدر بها، فلما جاء القرآن بالأوصاف بهت به العرب كما في سورة الأعراف من وصف أهل الجنة وأهل النار وأهل الأعراف {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار} إلخ وفي سورة الحديد {فضرب بينهم بسور} الآيات.

ومما يتبع هذا أن القرآن يتصرف في حكاية أقوال المحكي عنهم فيصوغها على ما يقتضيه أسلوب إعجازه لا على الصيغة التي صدرت فيها، فهو إذا حكى أقوالا غير عربية صاغ مدلولها في صيغة تبلغ حد الإعجاز بالعربية، وإذا حكى أقوالا عربية تصرف فيها تصرفا يناسب أسلوب المعبر مثل ما يحكيه عن العرب فإنه لا يلتزم حكاية ألفاظهم بل يحكي حاصل كلامهم، وللعرب في حكاية الأقوال اتساع مداره على الإحاطة بالمعنى دون التزام الألفاظ، فالإعجاز الثابت للأقوال المحكية في القرآن هو إعجاز للقرآن لا للأقوال المحكية.

ومن هذا القبيل حكاية الأسماء الواقعة في القصص فإن القرآن يغيرها إلى ما يناسب حسن مواقعها في الكلام من الفصاحة مثل تغيير شاول إلى طالوت، وتغيير اسم تارح أبي إبراهيم إلى آزر.

- بيان مبتكرات القرآن - الامثال

كذلك التمثيل فقد كان في أدب العرب الأمثال وهي حكاية أحوال مرموز لها بتلك الجمل البليغة التي قيلت فيها أو قيلت لها المسماة بالأمثال، فكانت تلك الجمل مشيرة إلى تلك الأحوال، إلا أنها لما تداولتها الألسن في الاستعمال وطال عليها الأمد نسيت الأحوال التي وردت فيها ولم يبق للأذهان عند النطق بها إلا الشعور بمغازيها التي تقال لأجلها.

أما القرآن فقد أوضح الأمثال وأبدع تركيبها كقوله تعالى: {مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف} وقوله: {ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق} وقوله: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن} إلى قوله: {فما له من نور} وقوله {والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه}.

- بيان مبتكرات القرآن - اختلاف الاساليب

لم يلتزم القرآن أسلوبا واحدا، واختلفت سوره وتفننت، فتكاد تكون لكل سورة لهجة خاصة، فإن بعضها بني على فواصل وبعضها ليس كذلك. وكذلك فواتحها منها ما افتتح بالاحتفال كالحمد، و{يا أيها الذين آمنوا}، و{الم * ذلك الكتاب}، وهي قريب مما نعبر عنه في صناعة الإنشاء بالمقدمات. ومنها ما افتتح بالهجوم على الغرض من أول الأمر نحو {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم} و{براءة من الله ورسوله}.

- بيان مبتكرات القرآن - الايجاز

من أبدع الأساليب في كلام العرب الإيجاز وهو متنافسهم وغاية تتبارى إليها فصحاؤهم، وقد جاء القرآن بأبدعه إذ كان مع ما فيه من الإيجاز المبين في علم المعاني فيه إيجاز عظيم آخر وهو صلوحية معظم آياته لأن تؤخذ منها معان متعددة كلها تصلح لها العبارة باحتمالات لا ينافيها اللفظ، فبعض تلك الاحتمالات مما يمكن اجتماعه، وبعضها وإن كان فرض واحد منه يمنع من فرض آخر فتحريك الأذهان إليه وإخطاره بها يكفي في حصول المقصد من التذكير به للامتثال أو الانتهاء. وقد أشرنا إلى هذا في المقدمة التاسعة. ولولا إيجاز القرآن لكان أداء ما يتضمنه من المعاني في أضعاف مقدار القرآن. وأسرار التنزيل ورموزه في كل باب بالغة من اللطف والخفاء حدا يدق عن تفطن العالم ويزيد عن تبصره، {ولا ينبئك مثل خبير}.

إنك تجد في كثير من تراكيب القرآن حذفا ولكنك لا تعثر على حذف يخلو الكلام من دليل عليه من لفظ أو سياق، زيادة على جمعه المعاني الكثيرة في الكلام القليل، قال في الكشاف في سورة المدثر الحذف والاختصار هو نهج التنزيل قال بعض بطارقة الروم لعمر بن الخطاب لما سمع قوله تعالى: {ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون} قد جمع الله في هذه الآية ما أنزل على عيسى من أحوال الدنيا والآخرة. ومن ذلك قوله تعالى: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} الآية، جمع بين أمرين ونهيين وبشارتين، ومن ذلك قوله: {ولكم في القصاص حياة} مقابلا أوجز كلام عرف عندهم وهو القتل أنفى للقتل، ومن ذلك قوله تعالى: {وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي} ولقد بسط السكاكي في المفتاح آخر قسم البيان نموذجا مما اشتملت عليه هذه الآية من البلاغة والفصاحة، وتصدى أبو بكر الباقلاني في كتابه المسمى إعجاز القرآن إلى بيان ما في سورة النمل من الخصائص فارجع إليهما.

وأعد من أنواع إيجازه إيجاز الحذف مع عدم الالتباس، وكثر ذلك في حذف القول، ومن أبدع الحذف قوله تعالى: {في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر} أي يتذاكرون شأن المجرمين فيقول من علموا شأنهم سألناهم فقلنا ما سلككم في سقر. قال في الكشاف قوله: {ما سلككم في سقر} ليس ببيان للتساؤل عنهم وإنما هو حكاية قول المسؤولين، أي أن المسئولين يقولون للسائلين قلنا لهم {ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين} اهـ.

ومنه حذف المضاف كثيرا كقوله تعالى: {ولكن البر من آمن بالله} وحذف الجمل التي يدل الكلام على تقديرها نحو قوله تعالى: {فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق} إذ التقدير: فضرب فانفلق. ومن ذلك الإخبار عن أمر خاص بخبر يعمه وغيره لتحصل فوائد: فائدة الحكم العام، وفائدة الحكم الخاص، وفائدة أن هذا المحكوم عليه بالحكم الخاص هو من جنس ذلك المحكوم عليه بالحكم العام.

وقد تتبعت أساليب من أساليب نظم الكلام في القرآن فوجدتها مما لا عهد بمثلها في كلام العرب، مثال ذلك قوله تعالى: {قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات} فإبدال {رسولا} من {ذكرا} يفيد أن هذا الذكر ذكر هذا الرسول، وأن مجيء الرسول هو ذكر لهم، وأن وصفه بقوله: {يتلو عليكم آيات الله} يفيد أن الآيات ذكر. ونظير هذا قوله: {حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة} الآية وليس المقام بسامح لإيراد عديد من هذا. ولعله يأتي في أثناء التفسير.

ومن بديع الإيجاز في القرآن وأكثره ما يسمى بالتضمين، وهو يرجع إلى إيجاز الحذف، والتضمين أن يضمن الفعل أو الوصف معنى فعل أو وصف آخر ويشار إلى المعنى المضمن بذكر ما هو من متعلقاته من حرف أو معمول فيحصل في الجملة معنيان.

ومن هذا الباب ما اشتمل عليه من الجمل الجارية مجرى الأمثال، وهذا باب من أبواب البلاغة نادر في كلام بلغاء العرب، وهو الذي لأجله عدت قصيدة زهير في المعلقات فجاء في القرآن ما يفوق ذلك كقوله تعالى: {قل كل يعمل على شاكلته} وقوله: {طاعة معروفة} وقوله {ادفع بالتي هي أحسن}.

- بيان مبتكرات القرآن - الاطناب

وسلك القرآن مسلك الإطناب لأغراض من البلاغة ومن أهم مقامات الإطناب مقام توصيف الأحوال التي يراد بتفصيل وصفها إدخال الروع في قلب السامع وهذه طريقة عربية في مثل هذا كقول ابن زيابة:
نبئت عمرا غارزا رأسه = في سنة يوعد أخواله
فمن آيات القرآن في مثله تعالى: {كلا إذا بلغت التراقي * وقيل من راق * وظن أنه الفراق * والتفت الساق بالساق} وقوله: {فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون} وقوله: {مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم}.

- بيان مبتكرات القرآن - أساليبه المنفرد بها

من أساليب القرآن المنفرد بها التي أغفل المفسرون اعتبارها أنه يرد فيه استعمال اللفظ المشترك في معنيين أو معان إذا صلح المقام بحسب اللغة العربية لإدارة ما يصلح منها، واستعمال اللفظ في معناه الحقيقي والمجازي إذا صلح المقام لإرادتهما، وبذلك تكثر معاني الكلام مع الإيجاز وهذا من آثار كونه معجزة خارقة لعادة كلام البشر ودالة على أنه منزل من لدن العليم بكل شيء والقدير عليه. وقد نبهنا على ذلك وحققناه في المقدمة التاسعة.

ومن أساليبه الإتيان بالألفاظ التي تختلف معانيها باختلاف حروفها أو اختلاف حركات حروفها وهو من أسباب اختلاف كثير من القراءات مثل (وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن إناثا) قرئ (عند) بالنون دون ألف وقرئ {عباد} بالموحدة وألف بعدها، ومثل (إذا قومك منه يصُدون) بضم الصاد وكسرها. وقد أشرنا إلى ذلك في المقدمة السادسة.

أن مما يندرج تحت جهة الأسلوب ما سماه أئمة نقد الأدب بالجزالة، وما سموه بالرقة وبينوا لكل منهما مقاماته وهما راجعتان إلى معاني الكلام، ولا تخلو سورة من القرآن من تكرر هذين الأسلوبين، وكل منهما بالغ غايته في موقعه، فبينما تسمعه يقول: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم}.
ويقول: {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا} إذ تسمعه يقول: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} قال عياض في الشفا: إن عتبة بن ربيعة لما سمع هذه الآية أمسك بيده على فم النبيء صلى الله عليه وسلم وقال له: ناشدتك الله والرحم إلا ما كففت.

عادات القرآن


- بيان المراد بعادات القرآن

يحق على المفسر أن يتعرف عادات القرآن من نظمه وكلمه.

- بيان ما جاء عن السلف في عادات القرآن

وقد تعرض بعض السلف لشيء منها، فعن ابن عباس: كل كاس في القرآن فالمراد بها الخمر. وذكر ذلك الطبري عن الضحاك أيضا.

وفي صحيح البخاري في تفسير سورة الأنفال قال ابن عيينة: ما سمى الله مطرا في القرآن إلا عذابا، وتسميه العرب الغيث كما قال تعالى: {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا}. وعن ابن عباس أن كل ما جاء من {يا أيها الناس} فالمقصود به أهل مكة المشركون.

وقال الجاحظ في البيان وفي القرآن معان لا تكاد تفترق، مثل الصلاة والزكاة، والجوع والخوف، والجنة والنار، والرغبة والرهبة، والمهاجرين والأنصار، والجن والإنس قلت: والنفع والضر، والسماء والأرض.

وذكر صاحب الكشاف وفخر الدين الرازي أن من عادة القرآن أنه ما جاء بوعيد إلا أعقبه بوعد، وما جاء بنذارة إلا أعقبها ببشارة. ويكون ذلك بأسلوب الاستطراد والاعتراض لمناسبة التضاد، ورأيت منه قليلا في شعر العرب كقول لبيد:
فاقطع لبانة من تعرض وصله = فلشر واصل خلة صرامها
واحب المجامل بالجزيل وصرمه = باق إذا ظلعت وزاغ قوامها

وفي الكشاف في تفسير قوله تعالى: {فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قال قائل منهم إني كان لي قرين} الآية: جيء به ماضيا على عادة الله في أخباره. وقال فخر الدين في تفسير قوله تعالى: {يوم يجمع الله الرسل} من سورة العقود عادة هذا الكتاب الكريم أنه إذا ذكر أنواعا كثيرة من الشرائع والتكاليف أتبعها إما بالإلهيات وإما بشرح أحوال الأنبياء وأحوال القيامة ليصير ذلك مؤكدا لما تقدم ذكره من التكاليف والشرائع.

- ذكر بعض الأمثلة التي جاء بها ابن عاشور في عادات القرآن

وقد استقريت بجهدي عادات كثيرة في اصطلاح القرآن سأذكرها في مواضعها، ومنها أن كلمة هؤلاء إذا لم يرد بعدها عطف بيان يبين المشار إليهم فإنها يراد بها المشركون من أهل مكة كقوله تعالى: {بل متعت هؤلاء وآباءهم} وقوله: {فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين} وقد استوعب أبو البقاء الكفوي في كتاب الكليات في أوائل أبوابه كليات مما ورد في القرآن من معاني الكلمات، وفي الإتقان للسيوطي شيء من ذلك.

وقد استقريت أنا من أساليب القرآن أنه إذا حكى المحاورات والمجاوبات حكاها بلفظ قال دون حروف عطف، إلا إذا انتقل من محاورة إلى أخرى، انظر قوله تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} إلى قوله: {أنبئهم بأسمائهم}.

- بيان تفصيل الجهة الثالثة من إعجاز القرآن - المعاني الحكمية والإشارات العلمية

وأما الجهة الثالثة من جهات الإعجاز وهي ما أودعه من المعاني الحكمية والإشارات العلمية فاعلموا أن العرب لم يكن لهم علم سوى الشعر وما تضمنه من الأخبار: قال عمر بن الخطاب كان الشعر علم القوم ولم يكن لهم علم أصح منه.

- بيان أنواع الاعجاز العلمي

إن العلم نوعان علم اصطلاحي وعلم حقيقي،

فأما الاصطلاحي فهو ما تواضع الناس في عصر من الأعصار على أن صاحبه يعد في صف العلماء، وهذا قد يتغير بتغير العصور ويختلف باختلاف الأمم والأقطار، وهذا النوع لا تخلو عنه أمة.

وأما العلم الحقيقي فهو معرفة ما بمعرفته كمال الإنسان، وما به يبلغ إلى ذروة المعارف وإدراك الحقائق النافعة عاجلا وآجلا،

وكلا العلمين كمال إنساني ووسيلة لسيادة أصحابه على أهل زمانهم، وبين العلمين عموم وخصوص من وجه. وهذه الجهة خلا عنها كلام فصحاء العرب، لأن أغراض شعرهم كانت لا تعدو وصف المشاهدات والمتخيلات والافتراضات المختلفة ولا تحوم حول تقرير الحقائق وفضائل الأخلاق التي هي أغراض القرآن، ولم يقل إلا صدقا كما أشار إليه فخر الدين الرازي.

- بان إشتمال القرآن على النوع الأول من أنواع الاعجاز العلمي

وقد اشتمل القرآن على النوعين، فأما النوع الأول فتناوله قريب لا يحتاج إلى كد فكر ولا يقتضي نظرا فإن مبلغ العلم عندهم يومئذ علوم أهل الكتاب ومعرفة الشرائع والأحكام وقصص الأنبياء والأمم وأخبار العالم، وقد أشار إلى هذا القرآن بقوله: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة} وقال: {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا} ونحو هذا من محاجة أهل الكتاب. ولعل هذا هو الذي عناه عياض بقوله في الشفاء ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة والأمم البائدة والشرائع الداثرة مما كان لا يعلم القصة منه إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب الذي قضى عمره في تعليم ذلك فيورده النبيء صلى الله عليه وسلم على وجهه فيعترف العالم بذلك بصحته وصدقه كخبر موسى مع الخضر، ويوسف وإخوته، وأصحاب الكهف، وذي القرنين، ولقمان إلخ كلامه، وإن كان هو قد ساقه في غير مساقنا بل جاء به دليلا على الإعجاز من حيث علمه به صلى الله عليه وسلم مع ثبوت الأمية، ومن حيث محاجته إياهم بذلك. فأما إذا أردنا عد هذا الوجه في نسق وجوه الإعجاز فذلك فيما نرى من جهة أن العرب لم يكن أدبهم مشتملا على التاريخ إلا بإرشادات نادرة، كقولهم درع عادية، ورمح يزنية، وقول شاعرهم:
أحلام عاد وأجسام مطهرة
وقول آخر:
تراه يطوف الآفاق حرصا = ليأكل رأس لقمان بن عاد
ولكنهم لا يأبهون بذكر قصص الأمم التي هي مواضع العبرة، فجاء القرآن بالكثير من ذلك تفصيلا كقوله: {واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف} وكقوله: {فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} ولهذا يقل في القرآن التعرض إلى تفاصيل أخبار العرب لأن ذلك أمر مقرر عندهم معلوم لديهم، وإنما ذكر قليل منه على وجه الإجمال على معنى العبرة والموعظة بخبر عاد وثمود وقوم تبع، كما أشرنا إليه في المقدمة السابعة في قصص القرآن.

- بيان إشتمال القرآن على النوع الثاني من أنواع الاعجاز العلمي

0 وأما النوع الثاني من إعجازه العلمي فهو ينقسم إلى قسمين: قسم يكفي لإدراكه فهمه وسمعه، وقسم يحتاج إدراك وجه إعجازه إلى العلم بقواعد العلوم فينبلج للناس شيئا فشيئا انبلاج أضواء الفجر على حسب مبالغ الفهوم وتطورات العلوم.

- بيان دلالة قسمي النوع الثاني من أقسام الاعجاز العلمي على أن القرآن من عند الله

كلا القسمين دليل على أنه من عند الله لأنه جاء به أمي في موضع لم يعالج أهله دقائق العلوم، والجائي به ثاو بينهم لم يفارقهم. وقد أشار القرآن إلى هذه الجهة من الإعجاز بقوله تعالى في سورة القصص: {قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم} ثم إنه ما كان قصاراه مشاركة أهل العلوم في علومهم الحاضرة، حتى ارتقى إلى ما لم يألفوه وتجاوز ما درسوه وألفوه.

قال ابن عرفة عند قوله تعالى: {تولج الليل في النهار} في سورة آل عمران كان بعضهم يقول إن القرآن يشتمل على ألفاظ يفهمها العوام وألفاظ يفهمها الخواص وعلى ما يفهمه الفريقان ومنه هذه الآية فإن الإيلاج يشمل الأيام التي لا يدركها إلا الخواص والفصول التي يدركها سائر العوام أقول: وكذلك قوله تعالى: {أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما}.

من طرق إعجازه العلمية أنه دعا للنظر والاستدلال، قال في الشفاء ومنها جمعه لعلوم ومعارف لم تعهد للعرب، ولا يحيط بها أحد من علماء الأمم، ولا يشتمل عليها كتاب من كتبهم فجمع فيه من بيان علم الشرائع، والتنبيه على طرق الحجة العقلية، والرد على فرق الأمم ببراهين قوية وأدلة كقوله: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} وقوله: {أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم}.

ولقد فتح الأعين إلى فضائل العلوم بأن شبه العلم بالنور وبالحياة كقوله {لينذر من كان حيا} وقوله: {يخرجهم من الظلمات إلى النور} وقال: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} وقال: {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}.

وهذا النوع من الإعجاز هو الذي خالف به القرآن أساليب الشعر وأغراضه مخالفة واضحة.

- بيان الرد على الشاطبي في عدم حمل معاني القرآن على غير ما هو متعارف عند العرب

قال الشاطبي في الموافقات: إن القرآن لا تحمل معانيه ولا يتأول إلا على ما هو متعارف عند العرب ولعل هذا الكلام صدر منه في التفصي من مشكلات في مطاعن الملحدين اقتصادا في البحث وإبقاء على نفيس الوقت، وإلا فكيف ينفي إعجاز القرآن لأهل كل العصور، وكيف يقصر إدراك إعجازه بعد عصر العرب على الاستدلال بعجز أهل زمانه إذ عجزوا عن معارضته، وإذ نحن نسلم لهم التفوق في البلاغة والفصاحة، فهذا إعجاز إقناعي بعجز أهل عصر واحد ولا يفيد أهل كل عصر إدراك طائفة منهم لإعجاز القرآن. وقد بينت نقض كلام الشاطبي في أواخر المقدمة الرابعة.

- بيان حجة تعلق الجهة الثالثة بالإعجاز

وقد بدت لي حجة لتعلق هذه الجهة الثالثة بالإعجاز ودوامه وعمومه وهي قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((ما من الأنبياء نبيء إلا أوتي أو أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي وإني أرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة)) ففيه نكتتان غفل عنهما شارحوه: الأولى أن قوله ((ما مثله آمن عليه البشر)) اقتضى أن كل نبيء جاء بمعجزة هي إعجاز في أمر خاص كان قومه أعجب به وأعجز عنه فيؤمنون على مثل تلك المعجزة. ومعنى آمن عليه أي لأجله وعلى شرطه، كما تقول على هذا يكون عملنا أو اجتماعنا، الثانية أن قوله: ((وإنما كان الذي أوتيت وحيا)) اقتضى أن ليست معجزته من قبيل الأفعال كما كانت معجزات الرسل الأولين أفعالا لا أقوالا، كقلب العصا وانفجار الماء من الحجر، وإبراء الأكمه والأبرص، بل كانت معجزته ما في القرآن من دلالة على عجز البشر عن الإتيان بمثله من جهتي اللفظ والمعاني، وبذلك يمكن أن يؤمن به كل من يبتغي إدراك ذلك من البشر ويتدبره ويفصح عن ذلك تعقيبه بقوله: فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا إذ قد عطف بالفاء المؤذنة بالترتب، فالمناسبة بين كونه أوتي وحيا وبين كونه يرجو أن يكون أكثرهم تابعا لا تنجلي إلا إذا كانت المعجزة صالحة لجميع الأزمان حتى يكون الذين يهتدون لدينه لأجل معجزته أمما كثيرين على اختلاف قرائحهم فيكون هو أكثر الأنبياء تابعا لا محالة، وقد تحقق ذلك لأن المعني بالتابع التابع له في حقائق الدين الحق لا اتباع الادعاء والانتساب بالقول. ولعل الرجاء متوجه إلى كونه أكثر من جميعهم تابعا أي أكثر أتباعا من أتباع جميع الأنبياء كلهم، وقد أغفل بيان وجه التفريع في هذا اللفظ النبوي البليغ.

وهذه الجهة من الإعجاز إنما تثبت للقرآن بمجموعه أي مجموع هذا الكتاب إذ ليست كل آية من آياته ولا كل سورة من سوره بمشتملة على هذا النوع من الإعجاز، ولذلك فهو إعجاز حاصل من القرآن وغير حاصل به التحدي إلا إشارة نحو قوله: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}.

وإعجازه من هذه الجهة للعرب ظاهر: إذ لا قبل لهم بتلك العلوم كما قال الله تعالى: {ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا} وإعجازه لعامة الناس أن تجيء تلك العلوم من رجل نشأ أميا في قوم أميين، وإعجازه لأهل الكتاب خاصة إذ كان ينبئهم بعلوم دينهم مع كونه أميا، ولا قبل لهم بأن يدعوا أنهم علموه لأنه كان بمرأى من قومه في مكة بعيدا عن أهل الكتاب الذين كان مستقرهم بقرى النضير وقريظة وخيبر وتيماء وبلاد فلسطين، ولأنه جاء بنسخ دين اليهودية والنصرانية، والإنحاء على اليهود والنصارى في تحريفهم فلو كان قد تعلم منهم لأعلنوا ذلك وسجلوا عليه أنه عقهم حق التعليم.

- بيان الجهة الرابعة من جهات الإعجاز

- وأما الجهة الرابعة وهي الإخبار بالمغيبات فقد اقتفينا أثر من سلفنا ممن عد ذلك من وجوه الإعجاز اعتدادا منا بأنه من دلائل كون القرآن منزلا من عند الله، وإن كان ذلك ليس له مزيد تعلق بنظم القرآن ودلالة فصاحته وبلاغته على المعاني العليا، ولا هو كثير في القرآن، وسيأتي التنبيه على جزئيات هذا النوع في تضاعيف هذا التفسير إن شاء الله. وقد جاء كثير من آيات القرآن بذلك منها قوله: {الم * غلبت الروم} الآية روى الترمذي في تفسيرها عن ابن عباس قال: كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان، وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم لأنهم أهل كتاب فذكره أبو بكر لرسول الله فنزل قوله تعالى: {الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين} فخرج أبو بكر يصيح بها في نواحي مكة، فقال له ناس من قريش أفلا نراهنك على ذلك? قال: بلى وذلك قبل تحريم الرهان، فلما كانت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس وأسلم عند ذلك كثير من قريش. وقوله: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا} وقوله: {لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون} فما حدث بعد ذلك من المراكب منبأ به في هذه الآية. وقوله: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} نزلت قبل فتح مكة بعامين. وقوله: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون} وأعلن ذلك الإعجاز بالتحدي به في قوله تعالى في شأن القرآن: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله} إلى قوله: {ولن تفعلوا} فسجل أنهم لا يفعلون ذلك أبدا وكذلك كان، كما بيناه آنفا في الجهة الثالثة.

- بيان خلاصة الحكم بعدم قدرة البشر على الإتيان بمثل القرآن

وكأنك بعد ما قررناه في هذه المقدمة قد صرت قديرا على الحكم فيما اختلف فيه أئمة علم الكلام من إعجاز القرآن للعرب هل كان بما بلغه من منتهى الفصاحة والبلاغة وحسن النظم وما احتوى عليه من النكت والخصوصيات التي لا تقف بها عدة، ويزيدها النظر مع طول الزمان جدة، فلا تخطر ببال ناظر من العصور الآتية نكتة أو خصوصية إلا وجد آيات القرآن تتحملها بحيث لا يمكن إيداع ذلك في كلام إلا لعلام الغيوب وهو مذهب المحققين، أو كان الإعجاز بصرف الله تعالى مشركي العرب عن الإتيان بمثله وأنه لولا أن الله سلبهم القدرة على ذلك لأمكن أن يأتوا بمثله لأنه مما يدخل تحت مقدور البشر، ونسب هذا إلى أبي الحسن الأشعري وهو منقول في شرح التفتزاني على المفتاح عن النظام وطائفة من المعتزلة، ويسمى مذهب أهل الصرفة، وهو الذي قال به ابن حزم في كتابه في الملل والنحل.

والأول هو الوجه الذي اعتمده أبو بكر الباقلاني في كتابه إعجاز القرآن، وأبطل ما عداه بما لا حاجة إلى التطويل به، وعلى اعتباره دون أئمة العربية علم البلاغة، وقصدوا من ذلك تقريب إعجاز القرآن على التفصيل دون الإجمال، فجاءوا بما يناسب الكامل من دلائل الكمال.


التقويم: د+

نفس الملاحظة على فهرسة القسم الأول، وهذا يقلل كثيرًا من استفادتك من فهرستك لهذه المقدمة.

بارك الله فيكم ونفع بكم.

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
المجلس, السابع

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 09:17 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir