دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > الفقه > متون الفقه > زاد المستقنع > كتاب الشهادات

 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #5  
قديم 14 ربيع الثاني 1432هـ/19-03-2011م, 02:17 PM
الصورة الرمزية ساجدة فاروق
ساجدة فاروق ساجدة فاروق غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 6,511
افتراضي الشرح الممتع على زاد المستقنع / للشيخ ابن عثيمين رحمه الله

كِتَابُ الشَّهَادَاتِ
..........................................................................
قوله: «الشهادات» جمع شهادة، وأصلها من شهد يشهد الشيء إذا حضره، ونظر إليه بعينه، قال الله تعالى: {{إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}} [الزخرف: 86] ، فلا بد من علم.
واصطلاحاً: إخبار الإنسان بما على غيره لغيره بلفظ أشهد ونحوها، فيرون أنه لا بد من إخبار بلفظ أشهد، وقد يكون الإخبار بما علمه مطلقاً، كشاهد الهلال ـ مثلاً ـ بلفظ أشهد.
وقيل: إن الشهادة إخبار الإنسان بما يعلمه مطلقاً، سواء بلفظ أشهد أو بدونه؛ ولهذا لما قيل للإمام أحمد رحمه الله: إن علي بن المديني ـ فيما أظن ـ يقول: أقول: إن العشرة بالجنة ولا أشهد، قال: إذا قال ذلك فقد شهد، فالصحيح أن الشهادة أن يخبر الإنسان بما يعلمه، سواء بلفظ أشهد أو بغيره.
والشهادة أمرها عظيم وخطرها جسيم؛ ولهذا لما قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» فذكر الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، فقال: «ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور» ، وكررها حتى قالوا: ليته سكت[(242)]، وهي خطيرة في التحمل وفي الأداء، أما التحمل فيجب ألا يتحمل الإنسان شهادة إلا وقد علمها علم اليقين، حتى إنه روي عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: أنه قال لرجل: «ترى الشمس؟» قال: نعم، قال: «على مثلها فاشهد أو دع» [(243)]، أي: على مثل الشمس، حتى لو وَجَدْتَ قرائن تدل على الأمر، لا تشهد به، لكن اشهد بالقرائن التي رأيت، أما أن تشهد بما تقتضيه هذه القرائن فهذا لا يجوز؛ لأن الشهادة لا بد أن تكون عن علم، ومع الأسف أن شهادة الزور كثرت في هذا الزمن، حتى أصبحت رخيصة، يجد الإنسان في السوق من يشهد له بعشرة ريالات، بل بأقل، وأحياناً ربما يقول: كم مقدار الدعوى التي تدعي؟ فإن قال: أدعي مليون ريال، قال: مليون ريال كثيرة، أشهد بألف ريال، وإذا قال: مائة ألف، قال: يكفيني مائة ريال، على حسب الدعوى، كِبَرها من صغرها، وكل هذا ـ والعياذ بالله ـ تلاعب، وظلم، وعدوان.
والشهادة نوعان: تحمُّل، وأداء، التحمُّل معناه التزام الإنسان بالشهادة، والأداء أن يشهد بها عند الحاكم، وكل منهما صعب؛ لأن التحمل لا بد أن يكون عن علم، وتأتي ـ إن شاء الله ـ أنواع طرق العلم، والأداء لا بد أن يكون عن ذكر مع العلم، والذي يرد على التحمل الجهل، والذي يرد على الأداء النسيان، وكلاهما يجب على الإنسان أن يحترز منه، أما تحملها فيقول المؤلف:

تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ فِي غَيْرِ حَقِّ اللهِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ إِلاَّ مَنْ يَكْفِي تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، وَأَدَاؤُهَا فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى مَنْ تَحَمَّلَهَا، مَتَى دُعِيَ إِلَيْهِ، ..........................................
«تحمل الشهادة في غير حق الله فرض كفاية» تحمل الشهادة الالتزام بها، وهو في غير حق الله فرض كفاية، فإذا طلب منك شخص أن تشهد على إقرار زيد بحق له فالشهادة فرض كفاية، إن قام بها من يكفي سقطت عنه وإلا وجب عليه؛ ولهذا قال:
«وإن لم يوجد إلا من يكفي تعين عليه» دعاك شخص لتشهد على إقرار زيد بحق له، وليس في المكان غيرك فيجب أن تجيب؛ لأنه لا يوجد من يقوم بالكفاية، أو دعوته إلى أن يشهد معك وليس معك إلا شاهد واحد، فيجب عليه، فالفرق بين تحمل الشهادة وأدائها أن التحمل لم يلتزم به الإنسان ولا يلزم به إلا إذا لم يوجد سواه، أما الأداء فقد التزم بها الإنسان أوّلاً وتحملها فيلزمه الأداء. فإذا قال: معك شاهد، فقل: نعم، لكن الشاهد ما يكفي، فإذا قال لك: الشاهد مع يمينك كافٍ، فماذا تقول؟ فقل:
أولاً: هذه مسألة فيها خلاف، وأخشى أن نتحاكم إلى قاضٍ لا يرى هذا الرأي فيضيع حقي.
الثاني: أن اليمين الذي يُحكم به لا يكون إلا عند الضرورة، فإذا وجد من يشهد فلا حاجة لليمين.
أو دعاك لتشهد له، فقلت: هذا أبوك عندك، يشهد لك، نقول: ما تقبل شهادته له.
إذن يتعين عليك هذا في حقوق الآدميين.
أما في حقوق الله فلا يتعين التحمل، فلو دعاك شخص وقال: تعال اشهد على فلان أنه يشرب الخمر، فإنه لا يجب عليك أن تتحمل الشهادة؛ لأن هذا حق لله ـ عزّ وجل ـ وبإمكانك أن تقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون أن تَشْهد، لكن لو فرض أن امتناعك يتضمن ضرراً على هذا الذي دعاك، فربما نقول: يجب؛ دفعاً للضرر، أما إذا لم يكن ضرر فإن تحملها في حق الله ليس بواجب؛ لأن هذا لا يضيع حق آدمي، إنما هو من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والسِّتر على فاعل المحرم أو على العاصي قد يكون أفضل من إظهاره وإعلانه، وهذا يختلف بحسب الحال.
وقوله: «وإن لم يوجد إلا من يكفي تعيَّن عليه» لقول الله تعالى: {{وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}} [البقرة: 282] ، وهذه الآية قد يعارض فيها معارض يقول: هذا في الأداء واضح؛ لأن الرجل المدعو شاهد لا شك، ولكن قد يقول قائل ـ كما استدل به الأصحاب ـ: إن الشهيد هنا يشمل من شهد بالفعل، ومن دعي ليشهد؛ لأنه دعي للشهادة، ولنا أن نثبت هذا ـ أيضاً ـ بالقياس؛ لأن الله تعالى قال: {{وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ}} [البقرة: 282] ، وأيهما أشد الكاتب أم الشاهد؟ الكاتب؛ لأنه يحتاج إلى تعب وعمل، وهذا ما يحتاج إلى تعب ولا عمل، بل غاية ما هنالك أن يطلع فيضبط الشهادة.
قوله: «وأداؤها فرضُ عينٍ على من تحملها متى دعي إليه» الأداء إثبات الشهادة عند القاضي، فإذا تحمل الشهادة وجب عليه أن يشهد لقوله تعالى: {{وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}} [البقرة: 283] ، فحكم الله ـ عزّ وجل ـ بإثم قلب الإنسان الذي كتم، وأضاف الإثم إلى القلب؛ لأن شهادته لا يعلمها إلا الله عزّ وجل؛ إذ من الجائز أن ينكر، فلما كان إنكار الشهادة ـ وهو يعلم أنه شاهد ـ محله القلب قال: {{وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}}. فلما كانت الشهادة محفوظة في القلب، والكتمان إنما يكون في القلب أضاف الله تعالى الإثم إلى القلب الذي هو محل حفظ الشهادة.
وقال بعض العلماء: أداؤها فرض كفاية، ويظهر أثر الخلاف فيما لو أشهد عشرة وتحملوا الشهادة وتحاكم مع خصمه للقاضي، فذهب إلى اثنين من العشرة وقال: إني حاكمت خصمي، فاذهبا معي لأداء الشهادة، على رأي المؤلف يتعين أن يذهبا معه، وعلى القول بأنه فرض كفاية لا يتعين، لأنهما يقولان له: اذهب إلى الثمانية الآخرين، واطلب اثنين منهم، ولكن الصحيح ما ذهب إليه المؤلف، أنه إذا دُعي إليها وجب عليه عيناً أن يشهد؛ لأننا لو قلنا بجواز أن يحوِّل الشهادة إلى الآخرين، وذهب إلى اثنين من الثمانية قالا: معنا ستة باقون، فذهب لاثنين قالا: الباقي أربعة، فذهب لاثنين فقالا: الباقي اثنان فذهب للاثنين، فقالا: ولماذا تسلطت علينا؟! فيضيع حق المسكين!
فالصواب أنه إذا تحمل ودعي وجب عليه عيناً أن يؤدي الشهادة، ولو لم يكن فيها إلا قوله تعالى: {{وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}} [البقرة: 283] .
مسألة: وهل تتساقط البيِّنتان إذا كانت إحداهما مؤرخة أو كانتا مؤرختين؟ نعم إذا كانتا مؤرختين وعرفنا تأخر تاريخ إحداهما على الأخرى فإنه يحكم بآخرهما تأريخا والحكم بتساقطهما فيما إذا كان تعارضهما من كل وجه.
وقوله: «وأداؤها فرض عين على من تحملها» لكن بشروط، قال:
قوله: «متى دعي إليها» هذا هو الشرط الأول، أن يدعى إلى أدائها فإن لم يدعَ إليها لم يلزمه الأداء، ولكن لو أدى بدون أن يدعى إليها، فهل هذا محمود أو هو مذموم؟
اختلف العلماء في ذلك، فمنهم من قال: إنه مذموم لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يأتي قوم يشهدون ولا يُستشهدون» [(244)]، وفي رواية: «يشهدون قبل أن يستشهدوا» [(245)]، فقالوا: إن هذا ذم لمن يشهد قبل أن يستشهد؛ وعللوا ذلك ـ أيضاً ـ بأن الإنسان الذي يبادر إلى الشهادة قبل أن يستشهد قد يتهم، ويظن أن معه تحيُّزاً للمشهود له، أو للمشهود عليه، وإلا فما الذي جعله يشهد قبل أن تطلب منه الشهادة؟!
وقال بعض العلماء: بل الأفضل أن يشهد، وإن لم يستشهد لقول النبي ـ عليه الصلاة والسلام: «ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها» [(246)]، وهذا يدل على فضيلة من شهد قبل أن يستشهد.
والصحيح أن في ذلك تفصيلاً: فإن كان المشهود له لا يعلم بالشهادة فإن الشاهد يؤديها وإن لم يسألها، مثل أن يكون الشاهد قد استمع إلى إقرار المشهود عليه، من غير أن يعلم به المشهود له، فيكون قد أقر عنده في مجلس بأن فلاناً يطلبني كذا وكذا، أو بأن العين التي في يدي لفلان، أو ما أشبه ذلك، والمشهود له لم يعلم، فهنا إذا علم الإنسان أن المسألة وصلت إلى المحكمة، فالواجب عليه أن يشهد ويبلغ؛ لئلا يفوت حق المشهود له، أما إذا كان المشهود له عالماً وذاكراً فإنه لا يشهد حتى تطلب منه الشهادة؛ لأنه إذا تعجل فقد يتهم في شدة محاباته للمشهود له، أو معاداته للمشهود عليه، وأما الحديث في ذم قوم يشهدون ولا يستشهدون، فإنه لا يتعين أن يكون المراد به أداء الشهادة، إذ يحتمل أن المعنى يشهدون دون أن يتحملوا الشهادة، فيكون هذا وصفاً لهم بشهادة الزور، ولا شك أن شهادة الزور من أكبر الكبائر، وهذا هو المتعين في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «يشهدون ولا يستشهدون» ، وأما قوله صلّى الله عليه وسلّم: «يشهدون قبل أن يستشهدوا» فتحمل على قوله صلّى الله عليه وسلّم: «يشهدون ولا يستشهدون» ، فالتفصيل الذي ذكرنا هو المتعين.

وَقَدِرَ بِلاَ ضَرَرٍ فِي بَدَنِهِ، أَوْ عِرْضِهِ، أَوْ مَالِهِ، أَوْ أَهْلِهِ، وَكَذَا فِي التَّحَمُّلِ، وَلاَ يَحِلُّ كِتْمَانُهَا، .......
قوله: «وقدر» هذا هو الشرط الثاني: أن يكون قادراً على الأداء، فإن كان عاجزاً فإنه لا يلزمه لقوله تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] ، وقوله: {{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}} [البقرة: 286] ، ومن القواعد المقررة المأخوذة من هذه الآية أنه لا واجب مع عجز، وعلى هذا فإذا كان عاجزاً عن أدائها فإنه لا يلزمه للعجز.
الشرط الثالث: انتفاء الضرر، ولهذا قال:
«بلا ضرر في بدنه» بأن خاف أن يضرب حتى يتضرر.
قوله: «أو عرضه» بأن خاف أن يغتابه المشهود عليه، أو ما أشبه ذلك.
قوله: «أو ماله» بأن خاف أن يحرق دكانه، أو يكسر زجاج سيارته، أو ما أشبه ذلك.
قوله: «أو أهله» بأن خاف أن يؤذى ولده أو زوجته، أو أباه، أو ما أشبه ذلك.
فإذا خاف الضرر فإنه لا يلزمه لا التحمل ولا الأداء في ظاهر كلام المؤلف، ونحن نقول: أما في البدن والمال والأهل فمسلَّم أنه إذا خاف الضرر في هذه الأشياء الثلاثة فإنه يسقط عنه واجب الشهادة تحملاً أو أداء؛ لما أشرنا إليه من الآية وهي: {{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}} [البقرة: 286] ، وقوله: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] .
وأما العِرْض، فينظر إذا كان الضرر من المشهود عليه حاصلاً أو غير حاصل؛ فإن الغالب أنه لا يتضرر به، حتى إذا اغتابه عند الناس فإن الناس لا يقيمون وزناً لغيبته؛ لأنه مشهود عليه فيقال: ما اغتابه إلا لأنه شهد عليه، أما إذا كان الضرر كبيراً بحيث يتأثر عرضه، وتسقط عدالته عند الناس، وما أشبه ذلك، فقد يسلم كلام المؤلف ـ رحمه الله ـ فالعرض إذاً فيه تفصيل: إذا كان الضرر محققاً وكبيراً، فهذا قد يسقط الواجب من أداء الشهادة أو تحملها، وإذا كان الضرر ليس كبيراً، أو قد لا يوجد ضرر أبداً، مثل أن يكون انتهاك العرض من المشهود عليه، فإن ذلك لا يمنع من وجوب الشهادة تحملاً أو أداء.
فالشروط إذاً ثلاثة: أن يدعى إليها، وأن يكون قادراً، وانتفاء الضرر.
قوله: «وكذا في التحمل» يعني أنه يشترط انتفاء الضرر، وهل يشترط القدرة في التحمل؟ نعم، يشترط فلو دعاك شخص لتشهد له وأنت لا تستطيع، أو أنت مريض، أو تخشى إن ذهبت أن يضيع مالك، أو ما أشبه ذلك، فلا يلزمك، لكن هل يشترط أن يدعى إليها في التحمل أو لا يشترط؟ يعني هل يشترط أن أدعوك وأقول: تعالَ اشهد على نطق فلان، أو على فعل فلان، أو لا يشترط، بحيث إنك إذا سمعت أو رأيت وجب عليك أن تتحمل؟ الظاهر الثاني، فالإنسان متى رأى أو سمع وجب عليه أن يحفظ ما سمعه أو شهده؛ من أجل أن يؤديه إذا دعي إلى ذلك.
قوله: «ولا يحل كتمانها» أي: الشهادة؛ لقوله تعالى: {{وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}} [البقرة: 283] .
فإن لم يمكن أداء الحق بدونها فإنه لا يحل كتمانها، مثل لو شهد شاهدان على زيد بحق، ثم أدى شاهد الشهادة، وطُلب من الثاني أن يشهد، فقال لصاحب الحق: يكفي يمينك مع الشاهد؛ لأنه يُقضى في المال بالشاهد واليمين، فهل يحل للشاهد الثاني أن يقول لصاحب الحق: عندك شاهد، واحلف معه، وسيقضى لك بيمينك؟ نقول: لا يحل له أن يمتنع عن الشهادة؛ لعموم قوله تعالى: {{وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}} [البقرة: 283] .
ويشترط ـ أيضاً ـ شرط لم يذكره المؤلف، وهو أن تكون الشهادة مقبولة لدى الحاكم، فإن لم تكن مقبولة لم يلزمه أن يشهد لا تحملاً ولا أداء، فلو طلب الأب من ابنه أن يشهد له بحق فإنه لا يلزمه أن يشهد له؛ لأن شهادته غير مقبولة عند الحاكم، فإن شهادة الولد لوالده لا تقبل، وكذلك العكس لو قال الولد لأبيه: تعال اشهد، فإنه لا يلزم الوالد أن يشهد؛ وذلك لأن شهادته غير مقبولة، فلا فائدة من الشهادة.
وكذلك لو كان معروفاً بالفسق، وأن القاضي سيرد شهادته، كحالق اللحية ـ مثلاً ـ بحيث يُعرف هذا القاضي بردِّ شهادة حالق اللحية، وجاء إنسان وقال: تعال اشهد، فهل يلزمه أو لا؟ لا يلزمه، فإذا قال له صاحب الحق: تعال اشهد، قال: ما يلزمني؛ لأنني لو شهدت عند القاضي ما قبلني؛ لأني حالق اللحية، فقال له صاحب الحق: اشهد لعل الله يتوب عليك وتوفر لحيتك، فهل يلزمه حينئذٍ؟ الجواب: الاحتمال وارد، ونقول: يلزمه الإعفاء، سواء قبلت شهادته أم لم تقبل، لكن هذا الرجل غير معفٍ لحيته، فربما نقول: إذا كانت الشهادة فورية بحيث لو تاب الإنسان لم يبق للحيته وقت تتوافر فيه، فإنه لا يلزمه، أما إذا كانت القضية ربما تتأخر فقد يقال: بلزومها.
ولو دعي كافر إلى شهادة فهل يلزمه؟ الجواب: يلزمه لحق الآدمي؛ أليست حقوق الجار تلزم الكافر؟! نعم تلزمه فله حق الشفعة ـ مثلاً ـ على رأي بعض العلماء، فلو قال له الطالب للشهادة: اشهد ربما تُسْلِم؛ لأن الإنسان إذا تحمل الشهادة وهو كافر وأداها وهو مسلم تقبل منه، نقول: العبرة بالحال، وأما المستقبل فلا يحكم به؛ لأنه غير معلوم، فلا يجبر على الشهادة.

وَلاَ أَنْ يَشْهَدَ إِلاَّ بِمَا يَعْلَمُهُ بِرُؤْيَةٍ، أَوْ سَمَاعٍ، أَوْ بِاسْتِفَاضَةٍ فِيْمَا يَتَعَذَّرُ عِلْمُهُ بِدُونِهَا، كَنَسَبٍ، وَمَوْتٍ، وَمُلْكٍ مُطْلَقٍ، وَنِكَاحٍ، وَوقْفٍ، وَنَحْوِهَا، وَمَنْ شَهِدَ بِنِكَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ العُقُودِ فَلاَ بُدَّ مِنْ ذِكْرِ شُرُوطِهِ، ........
قوله: «ولا أن يشهد إلا بما يعلمه» هذه معطوفة على قوله: «كتمانها» يعني ولا يحل أن يشهد إلا بما يعلمه، والعلم إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً جازماً، فلا بد أن يكون قد أدرك ما شهد عليه، أو به إدراكاً جازماً.
وقوله: «إلا بما يعلمه» يعني ولمن يعلمه، وعلى من يعلمه، فبما يعلمه هذا المشهود به، ولمن يعلمه هذا المشهود له، وهو الطالب، وعلى من يعلمه هو المشهود عليه، وهو المطلوب، فهل يشترط العلم بالطالب أو لا يشترط؟ فلو شهد شخص بما يعلمه، ثم توفي وطالب الورثة، وقالوا: أنت تشهد لمورثنا، قال: أنا ما أعرف مورثكم، ولا أدري هل أنتم ورثته أم لا؟ لكن أنا أشهد لإنسان صفته، كَيْت، وكَيْت، فإنه تحصل الشهادة، ونقول: هذا علم بالوصف لا بالعين، والعلم بمن يشهد عليه يشترط باسمه، أو بوصفه إن كان يراه، أما أن يقال له ـ مثلاً ـ: اشهد على امرأة محجبة، وأتوا بامرأة وقالوا: هذه فلانة بنت فلان، فقال لها: هل أنت هي؟ قالت: نعم، فقال: هل عندك لفلان عشرة آلاف؟ قالت: نعم، قال: أشهد أن فلانة بنت فلان عندها لفلان عشرة آلاف ريال، فهذا لا يمكن؛ لأن أي إنسان يمكن أن يحضر امرأة محجبة، ويقول: هذه فلانة بنت فلان، ويشهدك عليها! إذن لا بد أن يكون عالماً بمن يشهد عليه، إما باسمه، أو وصفه.
كذلك ما يشهد به من المال أو الحق أو الدَّيْن، يعني كما سبق لنا في الدعاوي، لا يشهد إلا بما يعلمه، فلا يجوز أن يشهد بالقرينة، ولا يجوز أن يشهد بغلبة الظن، بل لا بد من العلم، فلو رأى شخصاً خرج من بيتٍ هارباً وآخر يلحقه يقول: هذا الرجل سرق مني، ردوا السارق، ردوا السارق، فهل يشهد بأن هذا الرجل سارق؟ لا يجوز أن تشهد بالسرقة؛ لأنك ما تعلم، ربما أن صاحب البيت دعاه، ولما دعاه أراد منه شيئاً فأبى، فهدده بالقتل، فهرب، إذن لا تشهد بأنه سارق، لكن هل تشهد بما رأيت، بأنك رأيته هارباً، وصاحب البيت وراءه، يقول: السارق السارق؟ نعم، هذا يجوز، ويبقى النظر للحاكم، فله أن يحكم بما تدل القرائن عليه.
قوله: «برؤية أو سماع» طرق العلم خمسة، ذكر المؤلف أكثرها وقوعاً، وهي الرؤية والسماع، وبقي من الحواس ثلاث: الشم، والذوق، واللمس، إذن قوله: «برؤية أو سماع» إنما خص هذين النوعين من الحواس؛ لأن الغالب هو هذا، وإلا فيجوز أن يشهد بما يعلمه عن طريق الشم، بأن يشهد بأن هذا طِيب طيِّب، أو طِيب رديء، أو أن هذا اللحم منتن متغير، أو غير متغير، مثلاً تخاصم البائع والمشتري في اللحم، فقال المشتري: هذا اللحم متغير مخنز، وقال البائع: لا، فشهد رجل عن طريق الشم بأنه متغير.
مثال الذوق: قال المشتري: هذا تمر عتيق متغير الطعم، وقال البائع: لا، بل هو تمر جديد غير متغير، فيمكن أن يشهد شخص عليه بالذوق، أو قال المشتري: هذا عنب لم ينضج فهو حامض، وقال البائع: بل هو ناضج حلو، بأي طريق نعلم؟ بالذوق. كما تجوز الشهادة باللمس أيضاً كأن يكون يابساً أو رطباً، ليناً أو خشناً.
على كل حال، لا يجوز أن يشهد إلا بما علمه بإحدى الحواس الخمسة، والدليل قوله تعالى: {{إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}} [الزخرف: 86] ، ولأن الشهادة خبر عن أمر واقع فلا بد أن يعلم هذا الأمر الواقع، فالشهادة خبر محض ليست حكماً حتى نقول: يجوز الحكم بالقرائن، فالحكم بالقرائن سبق لنا أنه يجوز، لكن الشهادة خبر محض، والخبر لا يجوز إلا إذا تيقن المخبر وقوع الخبر، أو صحة ما أخبر به
وهل يشترط علم المشهود عليه بوجود الشاهد؟ ما يشترط، فلو أن صاحب الحق أتى بالمطلوب في مكانه، وجعل شخصاً يشهد مختفياً فإنه يجوز؛ لأن هذا الذي عليه الحق، إذا كان منفرداً بصاحب الحق أقر له، وإذا كان عنده أحد أنكر، فتحيَّل صاحب الحق ودعاه ـ مثلاً ـ على قهوة، فلما حضر قال له: الآن لا نشاهد أحداً، أنت ما تذكر لما أقرضتك كذا وكذا، في يوم كذا وكذا، بالمكان الفلاني؟ قال: بلى، أذكر، ولكن اصبر علي، هذا بيني وبينك، قال له: لماذا إذا صار عندنا أحد تنكر؟ قال: أخاف أن تطالبني، ثم يسجنني القاضي فهذه الحيلة جائزة؛ لأن المقصود بها التوصل إلى الحق.
قوله: «أو باستفاضة» الاستفاضة من فاض الماء إذا ظهر، وبان، وانتشر في الأرض، فمعنى الاستفاضة أن يستفيض الخبر وينتشر، ولكن يقول المؤلف:
«فيما يتعذر علمه بدونها» فالاستفاضة خاصة في الأشياء التي يتعذر العلم بها بدون الاستفاضة في الغالب، أما ما يمكن العلم به مباشرة فلا يجوز تحمل الشهادة فيه بالاستفاضة.
قوله: «كنسب» فأنا مثلاً أشهد بأن فلان ابن فلان، فهل حضرت والده عند غشيان أمه، وأنها حملت به من هذا الوطء، وأنها ولدت به على فراشه؟!
الجواب: أبداً ما شهدت، لكن استفاض عند الناس أن هذا فلان ابن فلان، فأشهد أن هذا فلان ابن فلان، قال العلماء: ولا بد للاستفاضة أن تكون عن عدد يقع العلم بخبرهم، يعني بأن يشهد بها أربعة فأكثر، فلو أخبره شاهد بالاستفاضة فإنه لا يشهد بها، بل يكون فرعاً عن شهادة هذا الشاهد.
مثال ذلك: جاءني رجل وتكلم معي بكلام، ثم انصرف، وإلى جنبي رجل آخر، قلت: من هذا؟ قال: هذا فلان ابن فلان، الرجل الذي أخبرني بأن فلان ابن فلان شاهد بالاستفاضة، هل لي أنا أن أشهد بأن هذا الرجل فلان ابن فلان؟ على كلام المؤلف ما أشهد، لكني أشهد على شهادة الرجل، ولكن اختار شيخ الإسلام وجدّه المجد ـ رحمهما الله ـ: أنه يجوز أن يشهد بما طريقه الاستفاضة بخبر الواحد الثقة، فيقول: هذا فلان ابن فلان، وقد سبق لنا هذا في التعريف أن شيخ الإسلام رحمه الله يرى جواز التعريف بواحد.
قوله: «وموت» مرت جنازة قلت: من هذا؟ قالوا: هذا فلان ابن فلان، هل لي أن أشهد أن فلان ابن فلان مات؟ يجوز، فهل أنا حضرت هذا الرجل وهو يُحتَضَر حين خرجت روحه؟ لا، لكن عرفت بالاستفاضة.
قوله: «وملك مطلق» الملك نوعان: ملك مقيد، وملك مطلق، الملك المقيد بأن أشهد أن هذا ملك فلان، اشتراه من فلان، هذا ما يكفي فيه الاستفاضة، والملك المطلق أن أشهد بأن هذا ملك فلان، ومشهور أن هذا بيته، فهل أنا شاهد يوم يشتريه؟ أبداً يوجد احتمال أنه مستأجر، لكن مشتهر عند الناس كلهم، عند أهل الحي، وربما غيرهم، أن هذا البيت ملك فلان، فأشهد به حتى في المحكمة.
وكذلك ـ أيضاً ـ اليد التي على هذا البيت، مثلاً: إنسان في هذا البيت، له مدة يتصرف فيه تصرف الملاك في أملاكهم، يفتح باباً ويغلق باباً، يفتح طاقة ويغلق طاقة، يأتي بالعمال يصلحون فيه أشياء، يؤجره أحياناً، هل أشهد بأنه ملكه؟ الصحيح أن لي أن أشهد بأنه ملكه، وإن كان بعض العلماء قالوا: لا يشهد؟ وإنما يشهد باليد، فيقول: أشهد أن يده عليه، وأنه يتصرف فيه تصرف الملاك في أملاكهم، قالوا: لجواز أن يكون وكيلاً لا مالكاً، وأنت إذا شهدت باليد فهو أسلم وأبرأ لذمتك، لكن المذهب: يجوز أن تشهد بالملك.
قوله: «ونكاح» يشهد بالاستفاضة في النكاح، مررت بقصر من قصور الأفراح وإذا هو منار، قلت: من المتزوج الليلة؟ قالوا: فلان ابن فلان، فاشتهر أن فلان ابن فلان تزوج الليلة، هل أنت حضرت العقد؟ لا، لكن استفدت ذلك بالاستفاضة.
قوله: «ووقف» الوقف نوعان ـ أيضاً ـ:
الأول: وقف خاص، وهذا لا نشهد عليه بالاستفاضة، فلا أشهد بأن هذا البيت وقف على فلان؛ لأن هذا خاص.
الثاني: وقف مطلق بأن يعرف أن هذا البيت موقف لأعمال البر، موقف على تكفين الموتى، على أجرة القبور، على طلبة العلم، وما أشبه ذلك، فهذا الوقف يشهد الإنسان فيه بالاستفاضة.
كذلك ـ أيضاً ـ يشتهر بين الناس أن هذا المسجد بناه فلان ابن فلان، فأنا ما حضرت العقد الذي تم بين المقاول والرجل، لكن اشتهر عند الناس أن فلاناً هو الذي بنى هذا فيجوز أن أشهد، المهم ما كان طريق العلم به الاستفاضة فإنه يشهد فيه بالاستفاضة.
وهل إذا كان من عادات بعض القبائل أن القريب إذا شهد على قريبه حصلت قطيعة رحم، تكون الشهادة في هذه الحال واجبة عليه؟ أكثر العلماء أن الشهادة في هذه الحال غير واجبة عليه ولكن عندي فيها نظر، لأنه يجب عليه أداء الشهادة إذا كانت متعينة عليه؛ حتى لا تضيع الحقوق بامتناعه من الشهادة تحملاً وأداءاً.
وهل يعتبر التسجيل الصوتي بيِّنة على الخصم ضد إنكاره؟
إن كان صوته متميزاً فإنه يعد بينة وإقراراً، وإن كان غير متميز فلا يعد بينة ولا يحكم به ولكن يكون قرينة. وهذا التفصيل يكون أيضاً في الكتابة فما كان منها متميزاً فهو بينة وما كان منها غير متميز فلا يعمل بها إلا إذا أشهد عليها.
قوله: «ونحوها» [(247)].
قوله: «ومن شهد بنكاح أو غيره من العقود فلا بد من ذكر شروطه» هذه المسألة تكاد تكون مبنية على ما سبق في الدعوى، حيث ذكر المؤلف أنه إذا ادعى عقداً فلا بد من ذكر شروطه، وذكرنا هناك الخلاف في المسألة، فهذه تشبه تلك، فإذا شهد بعقد نكاح، يقول: أنا أشهد أن فلاناً عقد على بنت فلان، فلا بد أن يذكر الشروط، فيقول مثلاً: بولي، وشاهدين، ورضا معتبر، وتعيين، فلو قال: أشهد أن فلاناً عقد لفلان على ابنته فقط، ولم يذكر الشروط فإن الشهادة لا تقبل حتى يبين الشروط، لماذا؟ قالوا: لأنه قد يشهد بعقد نكاح يظنه صحيحاً، وهو فاسد، وعقد النكاح يحتاط له ولا يتهاون به، فلا بد من ذكر الشروط، كذلك ـ أيضاً ـ البيع، قال: أنا أشهد أن فلاناً باع على فلان بيته، فما تكفي هذه الشهادة، فلا بد أن يذكر جميع شروط البيع وهي سبعة، فإن لم يذكر الشروط السبعة فإن شهادته لا تقبل، وكذلك ـ أيضاً ـ لو شهد بوقف، بأن فلاناً وقف بيته، فلا بد من ذكر شروط الوقف الخمسة السابقة، فكل عقد لا بد فيه من هذه الشروط.
وهل يشترط ذكر انتفاء الموانع؟ لا يشترط، ففي النكاح ـ مثلاً ـ لا يشترط أن يقول: وهي ممن تحل له؛ لأن الأصل في العقد الصحة وعدم المانع، كذلك في البيع لا يشترط أن يقول: وأن هذا البيع لم يقع بعد نداء الجمعة الثاني، ولا في مسجد، ولا بيعاً على بيع أخيه، وما أشبه ذلك، ولو أننا قلنا: لا بد للشاهد من ذكر الشروط والموانع، لكانت الشهادة أحياناً تستوعب مجلدات؛ لأنه لا بد أن يذكر الشروط، وقد تكون كثيرة، والموانع قد تكون كثيرة أيضاً، فإذا قلنا باشتراط هذا وهذا لصَعُبَ على الناس.
وقال بعض أهل العلم: إنه لا يشترط ذكر الشروط، ولكن للمدعى عليه أن يبين إن كان هناك فوات شرط؛ وذلك لأن الأصل في العقود الصحة والسلامة، ويدل لهذا حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ في البخاري: أن قوماً قالوا: يا رسول الله إن قوماً يأتوننا باللحم، لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «سموا أنتم وكلوا»[(248)]، فحكم بحل الذبح مع عدم تحقق الشرط وهو التسمية؛ لأن الأصل صحة الفعل، فإن وجد فقد شرط، أو حصل مانع فإن للخصم أن يدعي ذلك وينظر فيه، فلو قال المدعى عليه البيع: إن البيع وقع على وجه مجهول في الثمن، أو المثمن، حينئذٍ نقول: ما نحكم بصحة البيع حتى ننظر في دعوى هذا المدعي أن هناك شرطاً من الشروط لم يتم، كذلك لو ادعى المدعى عليه أن البيع وقع بعد نداء الجمعة الثاني، ما نحكم بالشهادة حتى ننظر في دعوى المدعي، أنه وقع بعد نداء الجمعة الثاني ممن تجب عليه الجمعة، وهذا القول هو الراجح، ويدل لرجحانه حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ الذي أشرنا إليه، والتعليل ـ أيضاً ـ وهو أن الأصل في العقود السلامة والصحة حتى يوجد دليل الفساد، من فوات شرط، أو وجود مانع وهناك من العقود التي لم تذكر ففيه عقد الرهن والهبة والإجارة والمساقاة والمزارعة والشركات وغيرها، والمهم أن هذه القاعدة التي أشرنا إليها سارية في جميع العقود.

وإِنْ شَهِدَ بِرَضَاعٍ، أَوْ سَرِقَةٍ، أَوْ شُرْبٍ، أَوْ قَذْفٍ فَإِنَّهُ يَصِفُهُ، وَيَصِفُ الزِّنَا بِذِكْرِ الزَّمَانِ، وَالْمَكَانِ، وَالْمَزْنِي بِهَا،.......................
قوله: «وإن شهد برضاع» فلا بد من ذكر شروطه ووصفه أيضاً، فيقول: إن هذا الطفل رضع من هذه المرأة خمس رضعات فأكثر، في زمن الإرضاع، فإن قال: أشهد أنه رضع من هذه المرأة فقط، ولم يذكر شيئاً سوى ذلك، فإن الشهادة لا تقبل، وقيل: بل تقبل؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما ذكر له الرجل قول المرأة التي قالت عنه وعن زوجته: إني أرضعتكما، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «كيف وقد قيل؟!» [(249)] وفارقها الرجل وهي لم تزد على قولها: إني قد أرضعتكما، وعلى هذا فلا حاجة إلى ذكر الشروط إلا إذا علمنا أن هذا الإنسان يخفى عليه الشرط، أو غلب على ظننا أن الشروط تخفى عليه فإننا نستفصل، فإذا جاءت امرأة وقالت: إني أرضعت هذا الرجل وهذه المرأة، ونحن نعلم أو يغلب على ظننا أن مثل هذه المرأة يخفى عليها شروط الرضاعة فحينئذٍ لا بد أن نستفصل، وهذا لا ينافي ما سبق من قولنا: إن من شهد بعقد نكاح أو غيره فلا حاجة لذكر الشروط؛ وذلك لأنها إذا قالت: أرضعتكما، فالفعل يدل على مرة واحدة، فلهذا نقول: إذا علمنا، أو غلب على ظننا أن هذه المرأة لا تعرف شروط الرضاع المحرِّم، فلا بد من الاستفصال لما ذكرنا، وهو أن الأصل في الفعل الإفراد وعدم التعدد.
قوله: «أو سرقة» كذلك لو شهد بسرقة فلا بد أن يصفها، ويذكر الشروط، فيصف كيف سرق؟ ومتى سرق؟ ومن أي مكان سرق؟ وما الذي سرق؟ احتياطاً للحدود، والواقع أن هذا فيه ما يحتاط له من وجهين: من جهة الحدود، ومن جهة حقوق الآدمي؛ لأن السارق يترتب على سرقته شيئان: الأول: ضمان المال المسروق، الثاني: القطع، ولكن ينبغي أن يستفصل في هذا، فيقال: إذا شهد بالسرقة، بأن قال: أشهد أن فلاناً سرق من مال فلان كذا وكذا، أو سرق بعير فلان أو شاة فلان فإنه يحكم عليه بمجرد هذه الشهادة بدون أن يصف احتياطاً لحقوق الآدميين، ولكن لا نقيم عليه الحد حتى يصف هذه السرقة، وأنه سرقها من حرز ـ مثلاً ـ درءاً للحد بالشبهات.
قوله: «أو شرب» لو شهد ـ أيضاً ـ بشرب خمر، قال: أشهد أن فلاناً شرب خمراً، يقول المؤلف: لا بد أن يصف ذلك الخمر، فيقول: شرب من النوع الفلاني، شرب في المكان الفلاني، في الوقت الفلاني، المهم يصف كل ما يتعلق بهذه الشهادة، ولا يكفي أن يقول: أشهد أنه شرب الخمر.
والصواب أنه يكفي ذلك؛ لأن العقوبة مرتبة على مجرد شرب الخمر، فإن كان هناك مانع من العقوبة، كإكراه ـ مثلاً ـ فليدع ما شهد عليه.
لو قال قائل: يحتمل أن هذا الشاهد رآه يشرب الخمر، لكنه مكره، أو غير عالم بأنه خمر، نقول: الإكراه مانع وعدم العلم بأنه خمر مانع، فنحن نحكم بأنه شرب الخمر، ونحكم بمقتضى هذا الشرب، فإن ادعى الشارب ما يمنع هذه العقوبة، وقال: إنه مكره، أو إنه شرب هذا الشراب ولم يعلم أنه خمر، فحينئذٍ نسقط عنه العقوبة.
قوله: «أو قذف فإنه يصفه» كذلك لو شهد بقذف فلا بد من أن يصفه، والقذف هو الرمي بالزنا أو اللواط نسأل الله العافية، فيترتب عليه ثلاثة أشياء ذكرها الله في قوله: {{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}} هذا الأول، {{وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا}} هذا الثاني، {{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}} [النور: 4] هذا الثالث، فإذا شهد بقذف فلا بد أن يصفه؛ لأنه قد يظن ما ليس بقذف قذفاً، كأن يشهد أنه قال لفلان: أنت زانٍ، أنت لوطي، وما أشبه ذلك، أما إذا قال: إنه قذفه فقط فلا يكفي؛ لاحتمال أن يكون قذفه بغير الزنا، فلا بد من أن يذكر نوع القذف الذي وقع منه.
قوله: «ويصف الزنا بذكر الزمان والمكان والمزني بها» فيشترط ذكر ثلاثة أشياء، ذكر الزمان بأن يقول: إنه في الليل، في أول الليل، في النهار، في آخر النهار، وما أشبه ذلك، والمكان يقول: في البيت الفلاني في الحجرة الفلانية، وإذا كان في البر يقول: في النقرة الفلانية، في الوادي الفلاني، وما أشبه ذلك، والمزني بها يذكرها، ولكن كيف يذكرها؟ فهل يذكرها باسمها أو بوصفها؟ إن كان لا يعلم اسمها، فيذكرها بوصفها، وإن كان يعلم اسمها فباسمها؛ لأنه قد يجامع امرأته، فيظن الرائي أنها أجنبية، فيشهد بأنه زنا.
وقال بعض أهل العلم: إن الزنا فاحشة يعاقب عليه بالحد الشرعي، ولا ضرورة إلى ذكر المزني بها، فمتى ثبت الزنا فقد ثبتت الفاحشة، وعلى هذا فلا يشترط ذكر المزني بها، ولأن العلم بالمزني بها قد يعسر أو يتعذر، بخلاف الزاني، فإن العلم بالرجال أكثر من العلم بالنساء، وهذا القول أرجح.
ولا بد ـ أيضاً ـ أن يصف الزنا؛ لأنه حد من الحدود، فيقول ـ مثلاً ـ: إنه رأى ذكره في فرجها داخلاً، كما يدخل الميل في المكحلة، فإن شهد بأنه فوقها، وأنه يهزها ـ مثلاً ـ فهل يكفي ذلك أو لا؟ لا يكفي؛ لأن مثل هذا لا يثبت به حد الزنى، فلو أن شخصاً رأى إنساناً على امرأة، ورأى منه حركة تدل على الجماع، فإنه لا يشهد بالجماع، ولكن إذا اعتبرنا هذا الشرط في الشهادة بالزنا، فلا أظن أن زناً يثبت بشهادة، فمتى يمكن أن يشهد الإنسان بأن ذكر الرجل في فرج المرأة؟! ولهذا لما قيل للذين شهدوا على رجل في عهد عمر ـ رضي الله عنه ـ بالزنا: هل رأيت ذكره في فرجها؟ قال: نعم، قال المشهود عليه: والله لو كنت بين أفخاذنا ما شهدت هذه الشهادة، وهذا صحيح؛ لأن هذا فيه صعوبة؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في كتاب المنهاج في الرد على الرافضة، قال: لم يثبت في الإسلام الزنا بالشهادة على الفعل أبداً، إنما ثبت بالإقرار، لكن أن يأتي أربعة يشهدون بأن ذكره في فرجها بزناً واحد!! فهذا صعب جداً.
وعلى كل حال هذا القيد قد يكون فيه رحمة، وهو حفظ أعراض الناس حتى لا يجرؤ أحد على الشهادة بالزنا بدون أن يتحقق هذا التحقق العظيم.
وهل يجوز الوصف بالإشارة أو بالتصوير؟ الوصف بالإشارة، كأن يصف السرقة، فيغلق الباب، ويقف، ثم يقول: رأيت هذا، ثم يفتح الباب، ثم يدخل ويأخذ الدراهم، ويغلق الباب، ويخرج وما يتكلم؟ نقول: إذا كان من أخرس ربما تصلح بالإشارة كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وإذا كان من غير أخرس فنقول: تكلم، يجب أن تصرح، وكذلك لو وصف هذا بالتصوير، فهل تمكن الشهادة عن طريق التصوير؟ أما في بعض الدول فيمكن، لكنه التصوير المتحرك الذي يحكي الفعل، مثل الفيديو، وقد ذكر لي منذ قرابة سبع سنوات أنه اختُرِعَ جهاز إذا سلط على مكان الحادث قبل مضي عشر دقائق صور ما وقع، فإذا جاؤوا إلى مكان الحادث قبل أن يمضي عشر دقائق ووجهوا هذه الآلات إلى هذا المكان التقطت صور ما وقع، وهذا مستعمل في البلاد الغربية، على كل حال، لو جاءت هذه الآلة وصورت الواقع تقبل؛ لأن هذا أمر حسي معلوم؛ لأن الناس يشاهدونها تعرض على القاضي مثلاً، أو على الحاكم الذي يريد النظر في القضية وتثبت.

وَيَذْكُرُ مَا يُعْتَبَرُ لِلحُكْمِ، وَيَخْتَلِفُ بِهِ فِي الْكُلِّ.
قوله: «ويذكر ما يعتبر للحكم، ويختلف به في الكل» أي: في كل ما يشهد به، فلا بد أن يذكر من الأوصاف والشروط وما يختلف الحكم به، ويذكر كذلك كل ما يعتبر للحكم، كل هذا ذكره العلماء ـ رحمهم الله ـ تحرياً للشهادة، ولكن سبق لنا أن الأصل في الأشياء الواقعة من أهلها الصحة، فيكتفى فيها بالشهادة على الوقوع، ثم إن ادعي فَقْدُ شرط أو وجود مانع، فحينئذٍ ينظر في القضية من جديد.

[242] أخرجه البخاري في الشهادات/ باب ما قيل في شهادة الزور... (2654)، ومسلم في الإيمان/ باب بيان الكبائر وأكبرها (87) عن أبي بكرة رضي الله عنه.
[243] أخرجه الحاكم في المستدرك (4/110)، والبيهقي في شعب الإيمان (7/455)، وضعفه، وعزاه الحافظ إلى أبي نعيم في الحلية وابن عدي في الكامل، وفي إسناده محمد بن سليمان بن مسمول وهو ضعيف، يرويه عن عبيد الله بن سلمة وهو ضعيف أيضاً، قال البيهقي: لم يرو من وجه يعتمد عليه، والحديث صححه الحاكم، وتعقبه الذهبي فقال: بل هو ـ يعني محمد بن سليمان ـ واهي الحديث. انظر: التلخيص الحبير (4/198)، وخلاصة البدر المنير (2/439).
[244] أخرجه البخاري في الشهادات/ باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد (2651)، ومسلم في فضائل الصحابة/ باب فضل الصحابة رضي الله عنهم ثم الذين يلونهم... (2533) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[245] أخرجه مسلم في فضائل الصحابة/ باب فضل الصحابة رضي الله عنهم ثم الذين يلونهم... (2534) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[246] أخرجه مسلم في الأقضية/ باب بيان خير الشهود (1719) عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه.
[247] قال في الروض: كعتق وخلع وطلاق (7/587).
[248] أخرجه البخاري في البيوع/ باب من لم ير الوساوس ونحوها من الشبهات (2057) عن عائشة رضي الله عنها.
[249] أخرجه البخاري في العلم/ باب الرحلة في المسألة النازلة وتعليم أهله (88) عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه

 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الشهادات, كتاب

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:30 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir