- عنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طَالِبٍ رضي اللهُ عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ (123).
__________________
(123) المَعْنى الإجْمالِيُّ:
سنَّ الشَّارِعُ النِّكاحَ لِقَصْدِ الاجْتِماعِ والدَّوامِ، والأُلْفَةِ، وبِناءِ الأُسْرَةِ وتَكْوِينِها.
ولِذا كانَ أبْغَضَ الحَلالِ إلى اللهِ الطَّلاقُ؛ لِكَونِهِ هَدْمًا لِهذا البِناءِ الشَّرِيفِ.
وكُلُّ قَصْدٍ أو شَرْطٍ يُخالِفُ هَذهِ الحِكْمَةَ مِن النِّكاحِ، فَهُوَ باطِلٌ.
ومِن هُنا حُرِّمَ نِكاحُ ((المُتْعَةِ))، وهُوَ أنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ المَرْأَةَ إلى أَجَلٍ ، بَعدَ أنْ كانَ مُباحًا في أَوَّلِ الإسْلَامِ لِداعِي الضَّرورَةِ.
ولَكِنْ ما في هذا النِّكاحِ مِن المَفاسِدِ، مِن اخْتِلاطٍ في الأنْسابِ، واسْتِئْجارٍ للفُروجِ، ومُجافاةٍ للذَّوْقِ السَّليمِ، والطَّبِيعَةِ المُسْتَقيمَةِ، هذه المَفاسِدُ رَبَتْ على ما فيهِ مِن لَذَّةِ قَضاءِ الشَّهْوَةِ.
ما يُؤخَذُ مِن الحَديثِ:
1- تَحريمُ نِكاحِ المُتْعَةِ وبُطْلانُه، وعليه أَجْمَعَ العُلماءُ. قالَ ابْنُ دَقيقِ العِيدِ: وفُقَهاءُ الأمْصارِ كُلُّهمْ على المَنعِ، وأكْثَرُ الفُقَهاءِ على الاقْتِصارِ في التَّحريمِ على العَقْدِ المُؤَقَّتِ.
2- كانَ مُباحًا في أَوَّلِ الإسْلامِ للضَّرورَةِ فَقطْ، ثُمَّ جاءَ التَّأكيدُ والتَّأْبيدُ لِتَحريمِهِ، ولو عِندَ الضَّرورَةِ.
3- نَهَى الشَّارِعُ الحَكيمُ عنهُ، لِما يَتَرتَّبُ عليهِ مِن المَفاسِدِ، مِنها اخْتِلاطُ الأنْسابِ، واسْتِباحَةُ الفُروجِ بِغَيرِ نِكاحٍ صَحيحٍ.
4- النَّهْيُ عن أكْلِ لُحومِ الحُمُرِ الأهْلِيَّةِ, فَهِيَ رِجْسٌ، بِخِلافِ الحُمُرِ الوَحْشِيَّةِ، فَهِيَ حَلالٌ بالإجْماعِ.
فائِدَةٌ:
سُئِلَ شَيخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ تعالى عن رَجُلٍ يَسيرُ في البِلادِ، ويَخافُ أنْ يَقَعَ في المَعْصيةِ، فهَلْ لهُ أنْ يَتَزَوَّجَ في مُدَّةِ إقامَتِهِ في تِلكَ البَلْدَةِ، فإذا سَافَرَ طَلَّقَ مَن تَزَوَّجَها؟
فَأَجابَ بأنَّ لهُ أنْ يَتزَوَّجَ، ولَكِنْ على أنْ يَنْكِحَ نِكاحًا مُطْلَقًا، يُمَكِّنُهُ مِن إمْساكِها أو تَطْلِيقِها إنْ شاءَ، وإنْ نَوَى طَلَاقَها حَتْمًا عِندَ انْقِضاءِ سَفَرِهِ كُرِهَ في مِثلِ ذلكَ، وفي صِحَّةِ النِّكاحِ نِزاعٌ.
ثُمَّ بَيَّنَ رَحِمهُ اللهُ رَأْيَهُ في نِكاحِ المُتْعَةِ، فقالَ : إنْ قَصَدَ أنْ يَسْتَمتِعَ بها إلى المُدَّةِ، ثُمَّ يُفَارِقَها، مِثلَ المُسافِرِ إلى بَلَدٍ يُقيمُ بِهِ مُدَّةً، فَيَتزَوَّجُ، وفي نِيَّتِهِ إذا عادَ إلى وَطَنِهِ أنْ يُطَلِّقَها، ولكِنَّ النِّكاحَ عَقَدَهُ عَقْدًا مُطْلَقًا، فهذا فيهِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ في مَذْهَبِ أَحْمَدَ:
1- قيلَ: هُوَ نِكاحٌ جائِزٌ. وهُوَ اخْتيارُ المُوَفَّقِ، وقولُ الجُمْهُورِ.
2- وقيلَ: إنَّهُ نِكاحُ تَحليلٍ لا يَجُوزُ. ورُوِيَ عن الأَوْزَاعِيِّ، ونَصْرٍ القاضِي وأصْحابِهِ.
3- وقيلَ: مَكْروهٌ، ولَيْسَ بِمُحَرَّمٍ.
والصَّحيحُ أنَّ هذا لَيْسَ بِنِكاحِ مُتْعَةٍ, ولا يَحْرُمُ، وذلكَ أنَّهُ قاصِدٌ للنِّكاحِ، وراغِبٌ فيهِ ، بِخلافِ المُحَلِّلِ، لَكنْ لا يُريدُ دَوامَ المَرْأَةِ معهُ، وهذا ليْسَ بِشَرطٍ، فإنَّ دَوامَ المَرْأَةِ معهُ لَيْسَ بِواجِبٍ، بَلْ لهُ أنْ يُطَلِّقَها، فإذا قَصَدَ أنْ يُطَلِّقَها بَعدَ مُدَّةٍ فقدْ قَصَدَ أمرًا جائِزًا بِخِلافِ نِكاحِ المُتْعَةِ، فإنَّهُ مِثْلُ الإجارَةِ تَنْقَضي فيهِ بانْقِضاءِ المُدَّةِ، ولا مِلْكَ لَهُ علَيْها بَعدَ انْقِضاءِ الأجَلِ، وأمَّا هذا فَمُلْكُهُ ثابِتٌ مُطْلَقٌ، وقدْ تَتغيَّرُ نِيَّتُهُ فَيُمْسِكُها دائمًا، وذلكَ جائِزٌ لهُ ، كَما لو تَزَوَّجَ بِنِيَّةِ إمْساكِها دائِمًا، ثُمَّ بَدا لهُ طَلاقُها جازَ ذلكَ.
اخْتِلافُ العُلَماءِ:
أجْمعَ العُلَماءُ على تَحْريمِ هذا النِّكاحِ وبُطْلانِهِ.
واخْتَلَفوا في الوَقْتِ الَّذي حُرِّمَ فيهِ، تَبَعًا لِلآثارِ التي وَرَدَتْ في تَحْريمِهِ.
فَبَعضُهمْ يَرى أنَّ التَّحْريمَ كانَ يومَ ((خَيْبَرَ)) مُسْتَدِلًّا بِحَديثِ البابِ، ثُمَّ إِنَّها أُبيحَتْ، ثُمَّ حُرِّمتْ يَومَ فَتْحِ مَكَّةَ.
وبَعْضُهمْ يَرى أنَّها لم تُحَرَّمْ إلَّا يَومَ الفَتْحِ، وقَبْلَهُ كانَتْ مُباحَةً، ويَقولونَ : إنَّ عَلِيًّا رضي اللهُ عنه لم يُرِدْ في هذا الحَديثِ أنَّ تَحْريمَ المُتْعَةِ وقَعَ مع تَحْريمِ لُحُومِ الحُمُرِ الأهْلِيَّةِ يومَ ((خَيْبَرَ))، وإنَّما قَرَنَهُما جَميعًا رَدًّا على ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذي يُجِيزُ المُتعَةَ للضَّرورَةِ، ويُبيحُ لُحومَ الحُمُرِ الأهْلِيَّةِ. وهَذا القولُ أوْلَى.
قالَ النَّوَوِيُّ : الصَّوابُ أنَّ تَحْرِيمَها وإباحَتَها وَقَعا مَرَّتَينِ، فكانَتْ مُباحَةً قبْلَ خَيْبَرَ، ثُمَّ حُرِّمَتْ فيها، ثُمَّ أُبيحَتْ عامَ الفَتْحِ، وهُوَ عامُ أَوْطاسٍ، ثُمَّ حُرِّمَتْ تَحْريمًا مُؤَبَّدًا. قالَ : ولَا مانِعَ مِن تَكْريرِ الإباحَةِ.