دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > إدارة برنامج إعداد المفسر > الرسائل التفسيرية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 3 محرم 1438هـ/4-10-2016م, 10:05 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي كتاب كفاية الألمعي لابن الجزري

كفاية الألمعي في آية يا أرض ابلعي

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 3 محرم 1438هـ/4-10-2016م, 10:06 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي المقدمة

مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
قال شيخنا وسيدنا شيخ شيوخ الأنام، مؤيد الإسلام، مقتدى الأئمة الأعلام، عمدة العلماء الراسخين، قدوة الفقهاء والقرَّاء والمفسرين، خاتمة المجتهدين، وارث علوم الأنبياء والمرسلين، شمس الشريعة والتقوى والدين، محمد بن محمد بن محمد بن الجزري أبو الخير العربي الشافعي، خلد الله تعالى ظلال إفادته وإفاضته على المسلمين:

قال محمد بن محمد بن الجَزَري (ت: 833هـ): ( {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا} [الكهف: 18/ 1-2] ولم يعجل على عباده ليكون بين يدي نذره مقدمًا. نزله معجزًا مفحمًا، وفصله متشابهًا ومحكمًا، وفضله على الكتب، فجاء به آخرًا، أوجب له تقدمًا، منع سور سوره أن يستباح له حماه، وسطح نور آياته فلم يدع مظلمًا، فأنطق من خَرسَ، وأسمع من صَمِم وبصر من عمى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يقر بها من كان مسلمًا ويقر بها الإيمان، وأصله في الأرض وفرعه في السماء قد سما. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أفضل من تلقى عن ربه كتابًا محكمًا. أعجز الإنس والجن، فلم يقدروا على أن يأتوا بعشر كلمات مثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا، محكمًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، صلاة تزيد على السحاب إذا همى، والبحر إذا طما، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فبينا نحن في مجلس حافل اجتمع فيه زمرة من الأماثل، سلطان كامل، وجمع من العلماء والفضلاء، وطائفة من الأمراء والوزراء، أعز الله تعالى بهم الإسلام، وجمل بوجودهم الأيام، ونفع بسبب وجودهم الأنام.
مجلس حافلٌ بليل بهيم *** نورهم فاق فيه ضوء النهار
كيف والملك ذو العلم والفهـ *** ـم وحسن الإدراك والإدراك
فانجر الكلام إلى إعجاز كتاب الله العزيز، وما ذكر فيه من وجوه البلاغة والتعجيز، فذكر بعض الحاضرين قوله تعالى:
{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ ...} [هود 11/ 44] الآية وأن الإمام السكاكي بلغ فيها الغاية. فأشير إلي بالكلام عليها، فذكرت حينئذ ما فيه كفاية. وربما كثر البحث عن ذلك وطال، وكاد المجلس أن ينكد بالملال. قلت: نأتي غدًا إن شاء الله بتتمة المقال.
ثم بدا لي أن أكتب على هذه الآية الكريمة ما فتح الله تعالى عليَّ فيه من الفوائد، وما ادخر لي من الفرائد، التي يردى الصدر منها ألف وزائد، من نكت لا تعد، ولطائف لا تحصى كثرة ولا تحد.
فإن القرآن العظيم بحر محيط لا يدرك قراره، وبر بسيط لا يلحق غباره، لا تنقضي عجائبه، ولا تفنى غرائبه. كما في الحديث الذي أخبرنا به الشيخ الصالح السند أبو المحاسن يوسف بن محمد بن علي الدمشقي، قرأت عليه أنبأنا عيسى بن عبد الرحمن الصالحي، أنبأنا عبد الله بن عمر بن اللتي أنبأنا عبد الأول بن عيسى بن عمران السمرقندي، أنبأنا عبد الله بن عبد الرحمن الحافظ، أنبأنا محمد بن يزيد الرفاعي، حدثنا حسين الجعفي عن حمزة الزيات عن أبي المختار الطائي، عن ابن أخي الحارث عن الحارث.
قال: دخلت المسجد فإذا الناس يخوضون في أحاديث فدخلت على علي –رضي الله عنه-، وذكر الحديث وفيه:
«أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وساق الحديث وفيه: كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل، هو الذي من تركه من جبار قصمه الله (ومن) ابتغى الهدى في غيره أضله الله. وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، (ولا تفنى غرائبه، وهو الذكر الحكيم، والصراط المستقيم) الحديث بتمامه.
وهذا حديث جليل رواه الأئمة في كتبهم: الترمذي، وعبد بن حميد، والدارمي وغيرهم، وقد ذكرناه، وتكلمنا عليه في أول ما كتبنا من التفسير.
وذكرت أولًا كلام أكابر العلماء عليها، ثم أتبعته بما فتح الله عليّ من بديع معان أوصلني بفضله إليها لئلا نغترّ بقول القائل: ما ترك الأول (للآخر) بل القول الصحيح الظاهر: (كم ترك الأول للآخر),
ولله در الإمام أبي عبد الله محمد بن مالك حيث قال: «وإذا كانت العلوم منحًا إلهية ومواهب اختصاصية فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين».
وسميتها (كفاية الألمعي في آية يا أرض ابلعي).
ولما تم تأليفها، وانتهى تصنيفها وترصيفها. نظرت في من يصلح أن تكون باسمه، وتهدى إلى خزانته العالية برسمه، من ملوك زماننا العلماء، وسلاطين أواننا الفضلاء، فلم أجد مثل السلطان الأعلم الأكمل الأكرم، عالم ملوك عصره، وأفضل سلاطين وقته في دهره، السيد الحسيب النسيب/ سيد رضاكيا ابن السلطان الأعظم المرحوم سيد علي الحسيني أيّد الله تعالى به الدين، وأبد ملكه في العالمين وأباد بسيفه الملحدين، ونصر أنصاره، وقدر اقتداره. وإن كنت لم أره فقد سمعت صفاته الجميلة وخبره.
وإني امرؤٌ أحببته لفضائل *** سمعت بها والأذن كالعين تعشق
وقالت لي الآمال إن رضاكيا *** إن رمت مغناه فأنت الموفق
فأقول: قوله تبارك وتعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود 11/ 44].
قال العلامة الزمخشري في كشافه، الذي أخبرني به شيخي وأستاذي الإمام قاضي المسلمين، شرف الدين، أبو العباس أحمد بن الإمام المرحوم القاضي شهاب الدين الحسين بن سليمان بن فزاره الكفري، رحمه الله، مشافهة بعد أن قرأت عليه القرآن العظيم من أوله إلى آخره بالقراءات السبع، في سنة ثلاث وسبعين وأربع وسبعين وسبع مائة، بدمشق المحروسة، عن الشيخ الصالح المسند الأصيل أبي الفضل أحمد بن هبة الله بن أحمد بن عساكر الدمشقي. قال: أخبرتنا الشيخة الصالحة المسندة أم المؤيد زينب ابنة عبد الرحمن بن الحسين الشعرية في كتابها إلينا من نيسابور عن الإمام العلامة أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري: في قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} نداء الأرض والسماء بما ينادى به الحيوان المميز على لفظ التخصيص والإقبال عليهما بالخطاب من بين سائر المخلوقات، وهو قوله: (يا أرض) (ويا سماء) ثم أمرهما بما يؤمر (به) أهل التمييز والعقل في قوله: ابلعي ماءك وأقلعي -من الدلالة على الاقتدار العظيم- وأن السماوات والأضر وهذه الأجرام العظام منقادة لتكوين فيها ما يشاء، غير ممتنعة عليه كأنها عقلاء مميزون قد عرفوا عظمته، وجلاله وثوابه وعقابه وقدرته على كل مقدور. وتبينوا تحتم طاعته عليهم وانقيادهم له، وهم يهابونه، ويفزعون من التوقف دون الامتثال والنزول على مشيئته على الفور من غير (ريث) وكما ردّ عليهم أمره كان المأمور به (مفعولًا لا حبس ولا إبطاء).
والبلع عبارة عن النشف. والإقلاع الإمساك، يقال أقلع المطر وأقلعت الحمى.
«وغيض الماء»: من غاضه إذا نقصه.
وقضي الأمر: وأنجز ما وعد الله نوحًا من هلاك قومه.
واستوت: واستقرَّت السفينة.
(على الجودي): وهو جبلٌ بالموصل.
{وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} يقال: بَعُدَ بُعْدًا، وبعدًا إذا أرادوا البُعد البَعيد من حيث الهلاك والموت ونحو ذلك، ولذلك اختص بدعاء السوء ومجيء أخباره على الفعل المبني للمفعول، للدلالة على الجلالة والكبرياء، وأن تلك الأمور العظام لا تكون إلا بفعل فاعل قادر وتكوين مكون قاهر، وأن فاعلها فاعل واحد لا يشارك في أفعاله، فلا يذهب الوهم إلى أن يقول غيره: يا أرض ابلعي ويا سماء أقلعي، ولا أن يقضي ذلك الأمر الهائل غيره، ولا أن تستوي السفينة على متن الجودي وتستقر عليه غلا بتسويته وإقراره.
ولما ذكرنا من المعاني والنكت، استفصح علماء البيان هذه الآية ورقصوا لها رؤوسهم لا لتجانس الكلمتين وهما قوله «ابلعي» و«أقلعي» وذلك وإن كان لا يخلى الكلام من حسن فهو كغير المتلفت إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللب وما عداها قشور.
وعن قتادة: استقلت بهم السفينة لعشر خلون من رجب وكانت في الماء خمسين ومائة يوم. واستقرت بهم على الجودي شهرًا. وهبط بهم يوم عاشوراء.
وروي: أنها مرت بالبيت فطافت به سبعًا، وقد أعتقه الله من الغرق.
وروي: أن نوحًا عليه السلام صام يوم عاشورا الهبوط وأمر من معه فصاموا شكرًا لله تعالى» انتهى كلامه.
وفيه ما لا يخفى مما نبينه في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقد خالفه صاحب المفتاح، رحمه الله، في كونه جعل الماء في قوله: «وغيض الماء» يعمّ الماءين كما سيأتي. واختلف شرَّاح كلامه في أي القولين أصح. فرجَّح الطبي كلام صاحب المفتاح، ورجَّح صاحب الكشف قول الزمخشري، وسنذكر كلام كل منهما ونبين ما يظهر لنا من الصواب مع ما يتعقب على كلِّ منهما إن شاء الله تعالى.
قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير الذي أخبرنا به شيخنا العلامة جمال الدين أبو بكر محمد ابن الإمام كمال الدين أحمد ابن الإمام جمال الدين محمد (الشريشي) مشافهة بالمدرسة الإقبالية داخل دمشق المحروسة سنة ست وستين وسبع مائة عن الإمام العلامة قاضي القضاة شهاب الدين محمد ابن الإمام العلامة قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن الخليل الخوبي قال: أخبرنا والدي قال: أخبرنا الشيخ الإمام العلامة فخر الدين أبو الفضل محمد بن عمر بن الحسين الرازي بعد ذكر الآية أي قوله: «وقيل يا أرض ابلعي ...».
«اعلم أن المقصود من هذا الكلام وصف آخر واقعة الطوفان، وكان التقدير أنه لما انتهى أمر الطوفان قيل: كذا وكذا.
{يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ}، يقال: (بلع الماء يبلعه بلعًا إذا شربه) وابتلع الطعام وابتلاعًا إذا لم يمضغه.
وقال أهل اللغة: الصحيح بلع الماء بكسر اللام يبلع بفتحها.
{وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي}، يقال: أقلع الرجل عن علمه إذا كف عنه وأقلعت السماء بعد ما مطرت، إذا أمسكت.
{وَغِيضَ الْمَاءُ} يقال غاض الماء يغيض غيضًا ومغاضًا إذا نقص. وغضته أنا، وهذا من باب: فعل الشيء وفعلته أنا، ومثل جبر العظيم وجبرته أنا، وفغر الفم وفغرته أنا، ودلع اللسان ودلعته، ونقص الشيء ونقصته. (وقوله) «وغيض الماء» أي نقص وما بقي منه شيء.
واعلم أن هذه الآية مشتملة على ألفاظ كثيرة، كل واحد (منها) دالٌ على عظمة الله (تعالى) وعلو كبريائه.
فأولها: قوله: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} وذلك لأن هذا يدل على أنه سبحانه في الجلال والعلو والعظمة (بحيث) أنه متى قيل «قيل» لم ينصرف العقل إلا إليه، ولم (يتوجه) الفكر إلا إلى ذلك القائل، (وذلك الآمر) هو هو. وهذا تنبيه من هذا الوجه على أنه تقرر في العقول أنه لا حاكم في العالمين ولا متصرف في العالم العلوي (والعالم) السفلي إلا هو.
وثانيها قوله: (يا أرض ابلعي ماءك) و«يا سماء أقلعي» فإن الحس يدل على عظمة هذه الأجسام، وشدتها وقوتها، فإذا (شعر) العقل بوجود موجود قاهر لهذه الأجسام مستولٍ عليها، متصرف فيها كيف شاء وأراد، صار ذلك سببًا لوقوف القوَّة العقلية على كمال جلال الله (تعالى) وعلو قهره، (وكمال) قدرته ومشيئته.
وثالثها: أن السماء والأرض من الجمادات. فقوله: يا أرض ويا سماء، مشعر بحسب الظاهر (على) أن أمره وتكليفه نافذ في الجمادات، فعند هذا يحكم الوهم بأنه لما كان الأمر كذلك فلأن يكون أمره نافذًا في العقلاء كان أولى. وليس مرادي منه أنه (تعالى) يأمر (الجمادات) فإن ذلك باطل، بل المراد أن توجيه صيغة الأمر بحسب الظاهر على هذه الجمادات القوية الشديدة يقرر في الوهم نوع (عظمته) وجلاله تقريرًا كاملًا.
وأما قوله: «وقضي الأمر» فالمراد أن الذي قضى به وقدَّره في الأزل قضاءٌ جزمًا حتمًا فقد وقع، تنبيهًا على أن كل ما قضى به الله فهو واقع في وقته، وأنه لا دافع لقضائه ولا مانع من نفاذ حكمه (في أرضه) وسمائه فإن قيل: كيف يليق بحكمة الله (تعالى أن يغرق) الأطفال بسبب جرم الكفار؟ قلنا: الجواب عنه من (وجهين): الأول: (قال كثير من المفسِّرين) إن الله تعالى أعقم أرحام نسائهم (بأربعين سنة قبل الغرق) فلم يغرق إلا من بلغ سنه إلى الأربعين. ولقائل أن يقول: لو كان (الأمر) على ما ذكرتم لكان ذلك آية عجيبة قاهرة، ويبعد مع ظهورها استمرارهم على الكفر.؟ وأيضًا فهب أنكم ذكرتم ما ذكرتم فيما قولكم في إهلاك الطير والوحش مع أنه لا تكليف عليها (البتة).
والجواب الثاني: وهو الحق أنه لا اعتراض على الله تعالى في أفعاله {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ...}.
وأما المعتزلة فهم يقولون: إنه تعالى (أغرق) الأطفال والحيوان، وذلك يجري مجرى إذنه تعالى في ذبح هذه البهائم وفي استعمالها في الأعمال الشاقة الشديدة.
وأما قوله تعالى: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ}، فالمعنى: استوت السفينة على جبل بالجزيرة يقال له الجُودي وكان ذلك الجبل جبلًا منخفضًا، فكان استواء السفينة عليه دليلًا على انقطاع مادَّة الماء وكان ذلك الاستواء يوم عاشوراء.
وأما قوله تعالى: {وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ففيه وجهان: الأول: أنه من كلام الله تعالى قال لهم ذلك على سبيل اللعن والطرد. والثاني: أن يكون ذلك القول من كلام نوح –عليه السلام- وأصحابه لأن الغالب ممن يسلم من الأمر الهائل بسبب اجتماع قوم من الظلمة فإذا هلكوا ونجا منهم قال مثل هذا الكلام لأنه جار مجرى الدعاء عليهم. فجعله من كلام البشر أليق، والله تعالى أعلم». انتهى كلامه.
وفيه أيضًا تعقيبات ومواضع يحتاج إلى التنبيه عليها نذكرها إن شاء الله تعالى.
وقال الأستاذ السكاكي: والنظر في هذه الآية من أربع جهات، (من جهة) علم البيان (و) من جهة علم المعاني، وهما مرجعا البلاغة ومن جهة الفصاحة المعنويَّة، ومن جهة الفصاحة اللفظية.
أما النظر فيها من جهة علم البيان، وهو النظر ما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بها، فنقول: إنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى: أردنا أن نرد ما انفرج من الأرض إلى بطنها فارتدّ، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع، وأن يغيض الماء النازل من السماء، فغاض، وأن نقضي أمر نوح وهو إنجاز ما كنا وعدنا من إغراق قومه فقضي، وأن نُسوِّي السَّفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظَّلمة غرقى، بنى الكلام على تشبيه المراد بالمأمور الذي لا يتأتى منه لكمال هيبته العصيان، وتشبيه تكوينه المراد بالأمر الجزم النافذ في (تكوُّن) المقصود تصوريًا لاقتداره العظيم، وأن السماوات والأرض وهذه الأجرام العظام تابعة لإرادته إيجادًا وإعدامًا، ولمشيئته فيها تغييرًا وتبديلًا وكأنَّها عقلاء مميزون قد عرفوه حق معرفته وأحاطوا علمًا بوجوب الانقياد لأمره والإذعان لحكمه، وتحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، (وتصوروا) مزيد اقتداره، فعظُمتْ مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته كان المشار إليه مقدمًا، وكما يرد عليهم أمره كان المأمور متممًا لا تلقى فشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال، ثم بنى على تشبيهه هذا نظم الكلام، فقال جلّ وعلا: «قيل» على سبيل المجاز عن الإرادة الواقع بسببها قول القائل، وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد وهي: يا أرض ويا سماء، مخاطبًا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، ثم استعار لغور الماء في الأرض (البلع) الذي هو إعمالُ الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما، وهو الذهاب إلى مقرٍّ خفي، ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيهًا له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تَقَوِّي الأكل بالطعام.
وجعل قرينة الاستعارة لفظة (ابْلعي) لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء، ثم أمر على سبيل الاستعارة للشبه المقدم ذكره وخاطب في الأمر ترشحًا لاستعارة النداء.
ثم قال: «ماءك» بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيهًا لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك. واختار ضمير الخطاب لأجل الترشيح.
ثم استعار لاحتباس المطر (الإقلاع) الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان.
ثم أمر على سبيل الاستعارة وخاطب في الأمر قائلًا «أقلعي» لمثل ما تقدم في «ابلعي».
ثم قال: {وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا} فلم يصرح بمن غاض الماء، وبمن قضى الأمر وسوى السفينة، وقال (بُعْدًا) كما (لم) يصرح بقائل يا أرض ويا سماء في صدر الآية، سلوكًا في كل واحد من ذلك لسبيل الكناية. إن تلك الأمور العظام لا تتأتى إلا من ذي قدرة لا يكتنه، قهار لا يغالب، فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره جلت عظمته قائل: يا أرض ويا سماء، ولا غائض (مثل) ما غاض، ولا قاضٍ مثل ذلك الأمر الهائل أو أن (تكون) تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره وإقراره.
ثم ختم الكلام بالتعريض تنبيهًا لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل ظلمًا لأنفسهم لا غير، ختم إظهار لمكان السخط ولجهة استحقاقهم إياه، وأن قيامه الطوفان وتلك الصورة الهائلة ما كانت غلا لظلمهم.
وأما النظر فيها من جهة علم المعاني، وهو النظر في فائدة كل كلمة فيها وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها فذلك أنه اختير (يا) دون سائر أخواتها لكونها أكثر في الاستعمال، وأنها دالة على بعد المنادي الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة، وإبداء شأن العزة والجبروت، وهو تبعيد المنادي المؤذن بالتهاون به. ولم يقل: (يا أرض) –بالكسر- لإمداد التهاون. ولم يقل (يا أيتها الأرض) لقصد الاختصار، مع الاحتراز عما في «أيتها» من تكلف التنبيه غير المناسب للمقام واختير لفظ الأرض دون سائر أسمائها لكونه أخف وأدور، واختير لفظ السماء لمثل ما تقدم في الأضر، مع قصد المطابقة وستعرضها. واختير (لفظ) ابلعي) على (ابتلعي) لكونه أخصر، ولمجيء خط التجانس بينه وبين (اقلعي) أوفر. وقيل (ماءك) بالإفراد دون الجمع لما كان في الجمع من صورة الاستكثار المتأتي عنها مقام إظهار الكبرياء والجبروت، وهو الوجه في إفراد الأرض والسماء. وإنما لم يقل –ابلعي- بدون المفعول أن لا يستلزم تركه ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار، وساكنات الماء، بأسرهن نظرًا إلى مقام عظمة وكبرياء. ثم إذا بين المراد اختصر الكلام مع أقلعي احتراز عن الحشو المستغنى عنه، وهو الوجه في أن لم يقل: قيل يا أرض ابلعي ماءك، فبلعت ويا سماء اقلعي فأقلعت. واختير غيض على غيض –المشدد- لكونه أخصر، وقيل الماء (دون أني قال: ماء طوفان السماء، وكذا الأمر) دون أن يقال أمر نوح، وهو إنجاز ما كان الله وعد نوحًا من إهلاك قومه لقصد الاختصار، والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك، ولم يقل سُوَيت على الجودي بمعنى أُقرَّت على نحو: قيل وغيض وقضي في البناء للمفعول، اعتبارًا لبناء الفعل للفاعل مع السفينة في قوله: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ} [هود/ 42] مع قصد الاختصار في اللفظ. ثم قيل بعد للقوم دون أن يقال: ليبعد القوم طلبًا للتأكيد مع الاختصار، وهو نزل بعدًا منزلة (ليبعدوا بعدًا)، مع فائدة أخرى وهي استعمال –اللام- مع بعدًا الدال على معنى أن البعد حقٌّ لهم ثم أطلق الظلم ليتناول كل نوع، حتى يدخل فيه ظلمهم أنفسهم لزيادة التنبيه على فظاعة سوء اختيارهم في تكذيب الرسل، هذا من حيث النظر إلى تركيب الكلم.
وأما من حيث النظر إلى ترتيب الجمل فذلك أنه قدم النداء على الأمر فقيل {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} دون أن يقال –ابلعي يا أرض وأقلعي يا سماء- جريًا على مقتضى اللازم في من كان مأمورًا حقيقة من تقديم التنبيه ليتمكن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادي، قصدًا بذلك لمعنى الترشيح.
ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء، وابتدئ (به) لابتداء الطوفان منها ونزولها (لذلك في القصة) منزلة الأصل والأصل بالتقديم أولى.
ثم أتبعهما قوله: «وغيض الماء» لاتصاله بقصة الماء وأخذه بحجزتها، ألا ترى أن أصل الكلام (قيل يا أرض ابلعي ماءك» فبلعت ماءها، «ويا سماء أقلعي» (عن) إرسال الماء فأقلعت عن إرساله»، وغيض الماء النازل من السماء فغاض.
ثم أتبعه ما هو المقصود من القصة وهو قوله: «وقضي الأمر» أي أنجز الموعود من إهلاك الكفرة، وإنجاء نوح ومن معه في السفينة.
ثم أتبعه حديث السفينة وهو قوله: «واستوت على الجودي» ثم ختمت القصة بما ختمت. هذا كله نظر في الآية من جانب البلاغة.
وأما النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية فهي –كما ترى- نظم للمعاني لطيف، وتأدية لها ملخصة مبينة (لا تعقيد يعثر) الفكر في طلب المراد، ولا التواء (يشيك) الطريق إلى (المرتاد).
بل إذا جرَّبت نفسك عند استماعها وجدت ألفاظها تسابق معانيها، ومعانيها تسابق ألفاظها فما من لفظة (في) تركيب الآية ونظمها تسبق إلى أذنك إلا ومعناها أسبق إلى قلبك.
وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية، فألفاظها على ما ترى عربية مستعملة، جارية على قوانين اللغة، سليمة عن التنافر، بعيدة عن البشاعة، عذبة على العذبات سلسلة على الأسلات. ولله درّ شأن التنزيل لا يتأمل العالم آية من آياته إلا أدرك لطائف لا تسع الحصر. ولا تَظُنَنَّ الآية مقصورة على ما ذكرت فلعلَّ ما تركت أكثر مما ذكرت. لأن المقصود لم يكن إلا مجرد الإرشاد لكيفية اجتناء ثمرات علمي المعاني والبيان» انتهى.
وهو –كما ترى- كلام في غاية المتانة، وقول في غاية التحقيق والرصانة، اشتمل على أجوبة أسئلة مقدَّرة، وبيان وجوه من الإعجاز مقرَّرة، ولطائف من أسرار التنزيل محرّرة.
رحمه الله تعالى وضاعف غفرانه عليه ووالى، فلقد أحسن الصنيع وترك لنا كثيرًا مما نبيِّنه من المعاني والبيان وأنواع البديع ونكتًا لا بدَّ من ذكرها، ومطوي أسرار يجب التعريف بنشرها.
فنقول وبالله التوفيق: الكلام على هذه الآية ينحصر في أربعة أوجه:
الأول: على تفسيرها من حيث الجملة وما يتعلق به وينضم إليه، والتنبيه على ما ذكره الأئمة الثلاثة المتقدِّمون فيها وغيرهم، وبيان الصحيح من ذلك.
الثاني: في معاني كلماتها كلمة كلمة من حيث التفصيل في اللغة والإعراب.
الثالث: فيما ظهر لنا ولهم من الأسئلة الواردة عليها والأجوبة عن واحدٍ منها.
الرابع: فيما ظهر لنا فيها من المعاني والبيان وأنواع البديع سوى ما ذكره هؤلاء فيها.
وختمت ذلك بفصل في وجوه إعجاز القرآن العظيم). [كفاية الألمعي: 71-89]

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 3 محرم 1438هـ/4-10-2016م, 10:10 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي

قال محمد بن محمد بن الجَزَري (ت: 833هـ): (

الوجه الأول
إنه لما قصّ الله تبارك وتعالى قصة نوح في هذه السورة –سورة هود- عليه السلام، على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- على وجهٍ لم يذكره في غيرها من استيعاب وصفها، وإحكام أحكام ألفاظها ورصفها. فأخبر تعالى: أنه لما تناهى أمر الطوفان العام، وأغرق أهل الأرض إلا أصحاب السفينة، أمر الأرض أن تبلع ماءها، أي الذي نبع منها، وأمر السماء أن تقلع عن المطر النازل عنها أمرًا حقيقيًا، فبلعت الأرض الماء، الذي نبع منها، أي استردته، وأقلعت السماء عن المطر، أي أمسكت امتثالًا لأمر الله تعالى حقيقة، وغاض الماء السماوي، كما ذكره صاحب المفتاح وهو المختار أو ماء الأرض وماء السماء كما قدّره صاحب الكشَّاف.
وأهلك الله أهل الأرض قاطبةٌ، فلم يبق منهم أحدًا إجابة لدعوة نوح عليه السلام.
واستوت السفينة حينئذٍ على جبل الجودي، وقيل بعد ذلك (بُعْدًا) أي: هلاكًا ولعنًا للقوم الظالمين، أي قوم نوح الذين ظلموا نبيهم بتكذيبه وأنفسهم بالكفر بالله تعالى.
أما كون الطوفان عامًا: فلاجتماع الأمم وأهل الملل واتفاق العلماء والمفسِّرين، وللأدلة الواردة من الكتاب والسنة تلويحًا وتصريحًا.
قال تعالى حاكيًا عن نوح عليه السلام حين دعا ربه: {لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح 71/ 26] أي: ساكن دارٍ، أو من يدور.
قال المفسرون: فاستجاب الله له فأغرق ممن على وجه الأرض سوى أصحاب السفينة.
وقال تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [العنكبوت 29/ 15] وقوله: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} [الشعراء 26/ 119-120] أي: الذين بقوا فلم يركبوا السفينة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة حكاية عن نوح: «وكانت لي دعوة فدعوت بها على قومي»، وقومه أهل الأرض كما سيأتي، وهذا متَّفق عليه. وفي صحيح البخاري أيضًا عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجتمع المؤمنون يوم القيامة ..» الحديث وفيه: ائتوا نوحًا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض فيأتونه» وذكر تمام الحديث. وهذا أيضًا متفق عليه.
وقال شيخنا العلامة شيخ الإسلام، وحافظ الشام، أبو الفدا إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي، رحمه الله، في كتابه البداية والنهاية: «قال جماعة من المفسرين: ارتفع الماء على أعلى جبل في الأرض خمسة عشر ذراعًا، وهو الذي عند أهل الكتاب، وقيل ثمانين ذراعًا، وعم جميع الأرض طولها والعرض، سهلها وحزنها وجبالها وقفارها ورمالها، ولم يبق على وجه الأرض ممن كان بها من الأحياء عين تطرف، ولا صغير ولا كبير.
قال مالك بن أنس عن زيد بن أسلم: «كان أهل ذلك الزمان قد ملئوا السهل والجبل».
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لم تكن بقعةٌ في الأرض إلا ولها مالك وحائز. رواهما ابن أبي حاتم في تفسيره والتواريخ التي أرَّخت بها الأمم كلها مصحّحة على الطوفان.
فأولها: تأريخ الإسكندر، وهو اسكندر الثاني بن فيلقوس المقدوني الرومي اليوناني، أرَّخت به، والسريان ذكروا أنَّ بينه وبين الطوفان ألقي سنة وسبع مائة سنة واثنتين وتسعين سنة ومائة وثلاثة وتسعين يومًا.
وثانيها: تأريخ دقلطيانوس آخر ملوك القبط بمصر بينه وبين الطوفان ثلاثة آلاف سنة وسبعة وثمانون سنة وثلاث مائة وتسعة أيام.
وثالثها: تأريخ الهجرة وبينه وبين الطوفان ثلاثة آلاف سنة وسبعمائة.
ورابعها: تأريخ يزدجرد آخر ملوك الفرس وبينه وبين الطوفان ثلاثة آلاف سنة وسبعمائة سنة وخمسة وثلاثون سنة وثلاثمائة وثلاثة وعشرون يومًا.
فهذه التواريخ المصححة بالأرصاد وعليها العمل إلى قيام الساعة كما ذلك في كتابنا «الإعلام بتأريخ الإسلام». وكلها مُصَحَّحة على الطوفان، فدل على أنهم لا يشكون في عمومه مع تباين ما بينهم، والله أعلم.
ولو لم يكن الطوفان عامًا للأرض ومن عليها، لم يكن يحمل نوح عليه السلام معه في السفينة من كلٍّ من صنوف المخلوقات ذوات الأرواح زوجين اثنين، ذكر وأنثى كما أمره الله تعالى حتى قيل إنه حمل من النبات أيضًا.
وروي أنه أول ما أدخل معه من الطيور الدرَّة وآخر ما أدخل من الحيوانات الحمار، فدخل إبليس متعلقًا بذنبه.
وذكر أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، أنهم لم يستطيعوا أن يحملوا معهم الأسد حتى ألقيت عليه الحمى.
وروى ابن أبي حاتم بإسناد جيِّد عن زيد بن أسلم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما حمل نوح في السفينة من كل زوجين اثنين، قال أصحابه: وكيف نطمئن أو تطمئن المواشي ومعنا الأسد، فسلط الله عليه الحمى، فكانت أول حمى نزلت الأرض، الحديث.
وقد اجتمعت الأمم قاطبة على أن نوحًا عليه السلام هو الب الثاني، وأن بني آدم الموجودين اليوم في أقطار الأرض من ذريته من بنيه الثلاثة حام وسام ويافث كما هو مقرَّر بنص القرآن. قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات 37/ 77].
وإنما بسطنا الكلام في ذلك وإن كنا قد خرجنا عن المقصود، لأن بعض من كان من ملوك زماننا أنكر ذلك، فكتب له بعض الناس ما وافق رأيه رجمًا بالغيب، وطلبًا للقرب، ولبسط ذلك بحقه موضع غير هذا وسيجيء مما يحقق ذلك من نداء الأرض والسماء ما يفيد العموم، ومن طواف السفينة ما بين المشرق والمغرب مدة مائة وخمسين يومًا، ومن رفع البيت لئلا يصيبه الغرق، ومن طواف السفينة به وغير ذلك، والله أعلم.
وعلى ما قرّر يجيء السؤالان اللذان استشكلهما الإمام فخر الدين الرازي وغيره.
أحدهما: كيف يليق بحكمة الله تبارك وتعالى تغريق الأطفال بسبب جرام الكفار؟ ثم أجاب عنه بقول بعض المفسرين: إن الله (تعالى) أعقم أرحام نسائهم قبل (الغرق) بأربعين سنة، ثم أورد على ذلك: أنه (لو كان كذلك لكانت آية عجيبة) يبعد مع ظهورها استمرارهم على الكفر.
قلت: قد ذكر محيي السنة البغوي، رحمه الله، في تفسير قوله تعالى: {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح 71/ 27].
«قال محمد بن كعب ومقاتل والربيع يعني ابن أنس وغيرهم:
إنما قال نوح هذا حين أخرج الله تعالى كل مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم، و(أعقم) أرحام نسائهم، وأيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة، وقيل بتسعين سنة، وأخبر الله تعالى نوحًا أنهم لا يؤمنون ولا يلدون مؤمنًا، فحينئذٍ دعا عليهم نوح فأجاب الله دعاءه وأهلكهم كلهم، ولم يكن فيهم صبي وقت العذاب، لأن الله تعالى قال: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ} [الفرقان 25/ 37]، ولم يجد التكذيب من الأطفال» انتهى.
وهذا الذي ذكره البغوي عن هؤلاء المذكورين وغيرهم عندي فيه نظر لأنه لم يرد فيه عن النبي عليه السلام حديث يعتمد عليه، بل ورد ما يخالفه ويردُّه. فأخبرني شيخنا القاضي العالم أبو عبد الله محمد بن سليمان الأنصاري فيما شافهني به سنة ست وستين عن شيخه الإمام فخر الدين علي بن البخاري أنبأنا (داود بن محمد بن الفاخر) في كتابه. أخبرتنا أم البهاء فاطمة بنت محمّد بن أحمد بن الحسين البغدادية، أنبأنا أحمد بن الفضل الباطرقاني، أنبأنا عبد الله بن أحمد ابن عبد الوهاب، أنبأنا أبو عمرو أحمد بن محمد ابن الحكيم المدني، أنبأنا محمد بن أبي حاتم الحافظ قال: قرئ على يونس بن عبد الأعلى، أنبأنا ابن وهب، أخبرني شبيب بن سعيد عن أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو رحم الله من قوم نوح أحدًا لرحم امرأة لما رأت الماء حملت ولدها، صعدت الجبل، فلما بلغها الماء صعدت به منكبها، فلما بلغ الماء منكبها وضعت ولدها على رأسها، فلما بلغ رأسها، رفعت ولدها بيدها. فلو رحم الله منهم أحدًا لرحم هذه المرأة». هذا حديث متصل الإسناد كما تراه، ورجال إسناده ثقات.
وقد روينا نحوه من حديث عائشة رضي الله عنها، فيما أخبرنا الشيخ أبو العباس أحمد بن محمد بن الحسين البنا مشافهة في سنة سبعين وسبعمائة عن الإمام أبي الحسن علي بن أحمد المقدسي، أنبأنا الإمام أبو الفتوح(العجلي) في كتابه، أنبأنا أبو القاسم الطلحي الحافظ أنبأنا أحمد بن علي بن خلف أنبأنا أبو عبد الله محمد بن علي الحافظ، أنبأنا أبو النضر الفقيه ... أنبأنا عثمان بن سعيد (حدثنا سعيد) بن أبي مريم، أنبأنا موسى بن يعقوب (الزمعي)، حدثني فائد مولى عبيد الله بن علي بن أبي رافع: أن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي (ربيعة) أخبره أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنها أخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو رحم الله أحدًا من قوم نوح لرحم أم الصبي».
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان نوح عليه السلام مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم حتى كان آخر زمانه غرس شجرة فعظمت وذهبت كل مذهب، ثم قطعها ثم جعل (يعملها) سفينة، ويمرّون فيسألونه فيقول: أعملها سفينة، فيسخرون منه ويقولون: تعمل سفينة في البر كيف تجري!!؟ قال: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [هود 11/ 39]. فلما فرغ منها، فار التنور وكثر الماء في السكك، خشيت أم الصبي عليه وكانت تحبه حبًا شديدًا. فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء خرجت به حتى استوت على الجبل، فلما بلغ الماء رقبها رفعت بيدها حتى ذهب بهما الماء. فلو رحم الله منهم أحدًا لرحم أم الصبي». وهذا حديث حسن الإسناد أخرجه الحاكم في صحيحه وهذا لفظه. ورواه الإمامان أبو جعفر الطبري. وابن أبي حاتم في (تفسيريهما) من حديث موسى بن يعقوب.
وقد رويت قصة هذا الصبي وأمه أيضًا عن كعب الأحبار ومجاهد بن جبر وغيرهما من أهل التفسير، فظهر أن الإغراق كان للكافرين من قوم نوح وأولادهم صغارهم وكبارهم.
قلت: والجواب عن ذلك من أوجه:
أحدهما: أن الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين، وأنه علم أنهم يكونون كآبائهم كفارًا، كما ثبت من حديث ابن عباس أنه سئل عليه السلام عن ذراري المشركين، فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين.
والثاني: أن دعوة نوح عليه السلام بإهلاكهم كانت متقدمة إغراقهم بسنين عديدة، كما دلت عليه الأحاديث. وقد أخبر أنهم لا يلدون إلا فاجرًا كفارًا. ولا شك أن ذلك كان بإعلام من الله تعالى، فعلم منهم ما علم الخضر من الغلام فلا إشكال والله أعلم.
وأما ما حكاه بعض المفسرين من أنه «ما نجا من الغرق غير عوج بن عنق كان الماء إلى حجزته، وكان سبب نجاته أن نوحًا احتاج إلى خشب ساجٍ للسفينة فلم يمكنه (نقله فحمله) عوج إليه من الشام فنجاه الله تعالى من الغرق لذلك، وهذا كذب صراح.
والعجب من مثل البغوي كيف حكاه وهو مخالفٌ لنص القرآن، من مفتعلات الإسرائيليين ومختلقاتهم وتمسخراتهم المخالفة للعقل والنقل، وكم من حكاية يحكونها عن عوج هذا. وهل أبقى الله تعالى واحدًا من الكافرين؟ وهل خلق الله تعالى واحدًا بعد آدم عليه السلام أطول منه؟ مع صريح قوله صلى الله عليه وسلم «إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعًا ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن».
قال شيخنا العلامة ابن كثير في تأريخه: «والمقصود أن الله لم يبق من الكافرين ديَّارًا، فكيف يزعم بعض المفسِّرين أن عوج بن عنق، ويقال (ابن) عناق كان موجودًا قبل نوح إلى زمان موسى ويقولون كان كافرًا، متمردًا، جبَّارًا، عنيدًا، ويقولون كان لغير رشده ولدته أمه عنق بنت آدم، (من زنا وأنه) كان يأخذ من طوله السمك من قرار البحار، ويشويه في عين الشمس، وأنه كان يقول لنوح وهو في السفينة: ما هذه القصيعة التي لك؟ ويستهزئ به، ويذكرون أنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع، وثلاثمائة و(ثلاثة وثلاثين ذراعًا وثلثًا)، إلى غير ذلك من الهذيانات، التي لولا أنها مسطَّرة في كثيرٍ من كتب التفاسير وغيرها من التواريخ وأيام الناس لما تعرضنا لحكايتها، لسقاطتها وركاكتها، ثم أنها مخالفة للمعقول والمنقول.
أما العقل فكيف يسوغ فيه أن يهلك الله ولد نوح لكفره، وأبوه نبيُّ الأمة وزعيم أهل الإيمان، ولا يهلك عوج بن عنق، وهو أظلم وأطغى على ما ذكروا، وكيف لا يرحم الله منهم أحدًا ولا أم الصبي ولا الصبي ويترك هذا الدعي الجبار العنيد الفاجر الشديد؟.
وأما المنقول فقد قال الله تعالى: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ..} [الشعراء 26/ 66] وقال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح 71/ 26]، ثم هذا القول الذي ذكروه مخالف لما ثبت في الصحيحين «يعني الحديث المتقدم» انتهى.
والثالث: الذي أخبرنا به شيخ الفقهاء أبو بكر محمد بن محمد بن أحمد بن محمد (الشريشي) رحمه الله، فيما شافهني به بالمدرسة الإقباليَّة داخل دمشق المحروسة سنة ست وستين وسبعمائة عن أبي الفضل أحمد بن (هبة) الله بن عساكر، أخبرنا المؤيد بن (محمد) الطوسي في كتابه، أنبأنا عبد الجبار بن محمد أحمد الخواري، قرأت عليه وأنا أسمع أنبأنا الإمام أبو الحسن الواحدي، أنبأنا عبد الرحمن بن حمدان، حدثنا أبو بكر القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني (عثمان) ابن أبي شيبة، حدثنا محمد بن عثمان عن زاذان عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمنين وأولادهم في الجنة، وأن المشركين في النار» ثم قرأ {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} الآية. وهذا القول ينسب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره من الصحابة والتابعين.
والرابع: أن غاية إغراقهم وإغراق غيرهم من الطير والوحش هو الموت والموت كائنٌ على كل نفسٍ، فكان الطوفان عليهم قيامتهم، كما تقوم القيامة بموت كل مخلوق عند قيام الساعة والنفخ في الصور ولا إشكال في ذلك. وبهذا يندفع الإشكال الثاني، والله أعلم.
والخامس: قال أبو العالية (الرياحي) والحسن البصري: أهلكهم الله وأهلك ذريتهم وأطفالهم ولكن إهلاك أطفالهم لم يكن بعذاب الذنب، ولكن كان إماتة بسبب من أسباب الموت والله أعلم.
وأما استدلال الإمام فخر الدين على ضعف قول من قال إن الله أعقم أرحام نساء قوم نوح قبل الغرق بأربعين سنة بأنه لو كان ذلك لكان آية عجيبة قاهرة ويبعد مع وجودها استمرارهم على الكفر، فلا يخفى ما فيه، فإن الذين حقَّت عليهم كلمة الله تعالى بالكفر، لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية.
ألا ترى قوم فرعون كيف أرسل الله عليهم الطوفان والجراد والقمَّل والضفادع والدم آية بعد آية وهم يتضرعون إلى موسى عليه السلام بأن يدعو ربه الله يكشف وأنهم يؤمنون بالله ويرسلون بني إسرائيل وكذبوا في ذلك كله والله أعلم.
وأما نداؤه تعالى الأرض والسماء وأمره لهما بما أمر من بلع الماء وإمساك المطر مع كونهما من الجماد الذي لا يعقل ولا يصح أن يخاطب وأن ذلك حقيقة، خلافًا لمن زعم أنه مجاز (وأن بالحقيقة فيه باطل)، كما صرَّح به الإمام فخر الدين ودَلَّ عليه كلام الكشاف وغيره. فالدليل على ذلك من وجوه:
أحدها: أن القدرة صالحة لذلك فلا مانع كما سيأتي ذكر جوازه ووقوعه.
ثانيها: أنه أعظم في القدرة وأبلغ في العظمة، وأقوى في الحجة. والمقام يقتضي ذلك، وما كان كذلك فهو أولى بالترجيح وأحرى بالتصحيح.
ثالثها: أنه الظاهر ولا دليل يصرفه عن ظاهره، فالعمل بالحقيقة فيه هو الصواب. وقد صرَّح الناس قديمًا وحديثًا بأن الله تعالى لا يجوز أن يتكلم بشيء ويعني به خلاف ظاهره.
وقال الشافعي: «وكلام الله وكلام رسوله على ظاهره». وقال صاحب المحصَّل في الباب التاسع من أحكام اللغات «المسألة الثانية: لا يجوز أن يعني الله سبحانه وتعالى بكلامه خلاف ظاهره. قال: والخلاف فيه مع المرجئة لنا أن اللفظ بالنسبة إلى غير ظاهره مهمل، فالتكلّم به غير جائز على الله تعالى، ثمَّ أجاب عن شبهة المنازعين بأن قال: لو صحَّ ما ذكرتموه لم يبق لنا اعتماد على خبر من أخبار الله تعالى، ويحتمل أن يكون المراد به غير ظاهره وذلك ينفي الوثوق» انتهى.
رابعها: أن الحقيقة في الكلام هي الأصل فإذا تعارض المعنى الحقيقي والمجازي، فالحقيقة أولى، لأن المجاز خلاف الأصل كما هو مقرر عند أئمة الأصول. ولهذا لما اختلف الفقهاء في لفظ النكاح هل هو حقيقة في العقد مجاز في الوطء؟ كما ذهب إليه الشافعي أو بالعكس كما ذهب إليه غيره، فلو حلف على النكاح ولم ينو شيئًا فإنه يحمل على العقد عنده لأنه حقيقة لا على الوطء لأنه مجاز فيه. وكذا لو قال لزوجته: -أنت طالق يوم يقدم زيد- فقدم ليلًا فإنه لا يقع الطلاق على الصحيح، بل الصواب، لأن اليوم حقيقة ما بين الفجر والغروب.
ثم إنه ينبغي أن يُعلم أن من ادّعى صرف لفظ عن ظاهره وعيّن له مجازًا لم يتم له رعاية ذلك (إلا) بعد أربع مقدمات.
أحدها: بيان امتناع إرادة الحقيقة.
ثانيها: بيان صلاحية اللفظ للمعنى الذي عينه وإلا كان كاذبًا على اللغة.
ثالثها: بيان ذلك المجمل إن كان له عدّة مجازات.
رابعها: الجواب عن الدليل الموجب لإرادة الحقيقة فما لم يقم بهذه الأمور الأربعة. كانت دعواه صرف اللفظ عن ظاهره دعوى باطلة.
أحدهما: بيان الدليل على امتناع إرادة الظاهر.
وليعلم أن مدَّعي صرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته إلى مجازه يتضمّن دعواه الإخبار عن مراد المتكلم ومراد الواضع.
أما المتكلم فكونه أراد ذلك المعنى الذي عيَّنه الصارف.
وأما الواضع فكونه وضع اللفظ المذكور دالًا على هذا المعنى فإن لم تكن دعواه مطابقة كان كاذبًا على المتكلِّم والواضع بخلاف مدَّعي الحقيقة، فإنّها إذا تضمنت دعواه إرادة المتكلم للحقيقة وإرادة الواضع كان صادقًا. أما صدقه على الواضع فظاهر، وأما صدقه على المتكلِّم، فإن معرفة مراد المتكلم إنما تحصل لعادته من كلامه وأنه إنما يخاطب غيره للتفهيم والبيان، فمتى عرف ذلك من عادته وخاطبنا بما هو المفهوم من ذلك الخطاب علمنا أنه مراده. وهذا من الواضح الذي لا خفاء به والله أعلم.
وغاية ما احتج به من حمل الآية على المجاز، أن الأرض والسماء من الجماد والجماد لا يتوجه إليه خطاب ولا أمر لأنها لا تعقل، وهذا غلط ظاهر ممنوع بالكتاب والسنة وإجماع ما يعتدُّ به من علماء الأمة. قال تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 2/ 74].
قال مجاهد، وغيره من أئمة التفسير: كل حجر يفجر منه الماء أو يشقق عن ماءٍ أو تردى من رأس جبلٍ فهو من خشية الله، نزل به القرآن.
وقال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء 21/ 69].
قال ابن عباس ترجمان القرآن: لم يبقَ نار في الأرض إلا طفئت وقال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: لو لم يتبع بردها سلامًا لمات إبراهيم عليه السلام من بردها، فلم يبق يومئذٍ نار في الأرض إلا طفئت، ظنًا أنها تعنى.
وقد روينا معناه من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه: «أوحى الله إلى النار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم» ولوا أنه قال «وسلامًا» لآذاه البرد أو قتله، وكذا قال ابن عباس وأبو العالية وغير واحد من المفسرين.
وقال تعالى في شأن داود عليه السلام:
{وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} [الأنبياء 21/ 79].
قال أهل التفسير: إنه كان إذا وجد فترة أمر الجبال فسبحت حتى يشتاق هو فيسبح، وقال وهب بن منبه: كانت الجبال تجاوبه بالتسبيح، وإلى ذلك أشار بقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ 34/ 410].
وقال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا} [الأحزاب 33/ 72] الآية.
قال ابن عباس وغيره من الصحابة والتابعين: أراد بالأمانة الطاعة، والفرائض التي فرضها الله على عباده، عرضها على السماوات والأرض والجبال، على أنهم إن أدوها أثابهم، وإن ضيعوها عذّبهم. فقلن: لا يا رب نحن مسخرات لأمرك، لا نريد ثوابًا ولا عقابًا، وقلن ذلك خوفًا وخشية وتعظيمًا لدين الله تعالى أن لا يقوموا بها لا معصية ومخالفة. وكان العرض عليهن تخييرًا لا إلزامًا ولو ألزمهن لا يمتنعن من حملها.
قال علماء التفسير: والجمادات كلّها خاضعة لله مطيعة ساجدة له كما قال تعالى للسماوات والأرض: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت 41/ 11] وقال للحجارة {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة 2/ 74]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} [الحج 22/ 18] الآية.
وقال بعض أهل العلم ركب الله (عز وجل) فيهن العقل والفهم حين عرض الأمانة عليهن حتى عقلن الخطاب، وأجبن بما أجبن.
وقال بعضهم: المراد من العرض على السماوات والأرض (هو العرض على أهل السماوات والأرض) عرضها على من فيها من الملائكة:
وقيل على أهلها كلها دون أعيانها كقوله (تعالى): {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف 12/ 82] «أي أهل القرية والأول أصح». هذا لفظ الإمام محي السنة البغوي، فحكى في ذلك خلافًا وصحح المعنى الحقيقي، ولا شك عندنا أنه الصواب، والله أعلم.
قال الإمام الحجة محيي الدين النووي رحمه الله: وإنما كان العرض على أعيان هذه الأشياء، بأن ركَّبَ الله فيهن العقل وأفهمهن خطابه حتى فهمن وأنطقهن بالجواب، انتهى.
وهذا مذهب السلف قاطبة الذي لم يثبت عنهم غيره، وكيف يسع أحدًا إنكار حمل ذلك على الحقيقة مع ثبوته مشاهدةً ووقوعه عيانًا.
كما أخبرنا الشيخ الصالح أبو عبد الله محمد بن عبد الله (الصفوي) رحمه الله، قرات عليه في جم غفير، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن أبي العز الأنصاري، أنبأنا أبو عبد الله الزبيدي، أنبأنا أبو الوقت السجزي، أنبأنا أبو (الحسن) عبد الرحمن بن محمد الداوودي، أنبأنا عبد الله بن أحمد بن (حمويه) (حدثنا محمد بن بشار) حدثنا أبو أحمد الزبيري) حدثنا إسرائيل عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: «لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل» يعني عند النبي صلى الله عليه وسلم (عبد الله هذا هو عبد الله بن مسعود –من أعلم الصحابة وأجلّهم وأفضلهم وأفقههم). وهذا حديث صحيح أخرجه البخاري في صحيحه، والترمذي في جامعه وقال: حديث حسن صحيح.
وفي رواية: «كنا نأكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الطعام وهو يسمع تسبيحه»، وعن أنس بن مالك قال: «أخذ النبي صلى الله عليه وسلم كفًا من حصى فسبحن في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا التسبيح، ثم صبهن في يد أبي بكر فسبحن، ثم في يد عمر وعثمان رضي الله عنهما. وقال علي رضي الله عنه: كنا بمكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إلى بعض نواحيها فما استقبله شجرة ولا جبل إلا قال: السلام عليك يا رسول الله.
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم عليّ» يقال أنه الحجر الأسود، والظاهر أنه غيره والله أعلم.
وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما استقبلني جبرائيل عليه السلام بالرسالة جعلت لا أمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بحجر ولا شجر إلا سجد له.
وعن أنس قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان أُحُدًا فرجف بهم، فقال: أثبت أُحُد فإنما عليك نبيٌّ وصديق وشهيدان، ومثله عن أبي هريرة في جبل حراء وكان معه أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وطلحة والزبير ولفظه: «اسكن حراء فما عليك إلا نبيّ أو صديق أو شهيد».
قال الإمام شيخ الإسلام محيي الدِّين النووي رحمه الله تعالى في شرح صحيح مسلم بعد قوله صلى الله عليه وسلم: «إن أُحُدًا يُحبُّنا ونُحبُّهُ»: أن معناه: أن أُحدًا يحبنا حقيقة، جعل الله تعالى فيه تمييزًا يحبُّ به، كما قال سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة 2/ 74] وكما حن الجذع اليابس، وكما سبح الحصى، وما فر الحجر بثوب موسى عليه السلام وكما قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم عليَّ، وكما دعا الشجرتين المفترقتين فاجتمعتا، وكما رجف حراء فقال: «اسكن حراء فليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد» الحديث وكما كلمه ذراعُ الشّاة، وكما قال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء 17/ 44].
والصحيح في معنى هذه (الآية) أن كل شيء يسبح حقيقة بحسب حاله، ولكن لا نفقهه. قال: فهذا وما أشبهه شواهد لما اخترناه، واختاره المحققون في معنى الحديث. وقيل المراد: يحبنا أهله فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، والله أعلم.
قلت: حديث حنين الجذع مشهور متواتر متفق عليه، ورواه من الصحابة جماعة: منهم أبي بن كعب، وجابر بن عبد الله، وأنس بنمالك، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وسهل بن سعد، وأبو سعيد الخدري، وبريدة بن الحصيب والمطلب بن أبي وداعة، وأم سلمة. وأجمعت الأمة على قبول ذلك وعدم إنكاره. ولم ينقل عن أحد منهم أنه قال: إن ذلك على غير حقيقته. والله تعالى أعلم.
فإن قيل: فما نقول بالمراد بالسماء في قوله تعالى: {وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} هل هذه السماء التي فوقنا حقيقة أم السحاب أم المطر؟ فإن كلًّا من هذه الثلاثة يطلق عليه سماء، ويجوز تذكيره وتأنيثه.
قال تعالى: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} [المزمل 73/ 18]، وفي الحديث:
«صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثر سماءٍ من الليل» أي أثر مطر. ومنه قول العرب: ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم. وقول الفرزدق.
إذا نزل السماء بأرض قومٍ *** رعيناه وإن كانوا غضابا
قلت: اختلف في ذلك بعض المفسِّرين، والذي نختاره ونذهب إليه أن هذه السماء ذات البروج الجرم الكري الذي فوق الأرض حقيقة لوجوه منها:
أنه الظاهر.
والثاني: أنه قابلها بالأرض.
والثالث: ما رواه ابن أبي حاتم في تفسيره أن ابن الكواء سأل عليًّا عن المجرَّة، فقال: هي شرج السماء، ومنها: فتحت السماء بماء منهمر.
وروى ابن جريج عن ابن عباس في قوله: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} [القمر 24/ 11].
قال: كثير لم تمطر السماء قبل ذلك اليوم ولا بعده إلا من السحاب، وفتحت أبواب السماء بالماء من غير سحاب ذلك اليوم، {فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر 54/ 12].
قلت: وقد حمله بعضهم على حذف مضاف أي: ماء مطر السماء كما سيأتي. فإن قيل: فهل كانت رسالة نوح عليه السلام عامة؟
قلت: أما بعد الطوفان فلا خلاف في ذلك لأنه بدئ به الخلق ولم يكن نبي غيره حتى توفاه الله تعالى. وأما قبل الطوفان فقد حكى الإمام أبو الحسن الماوردي خلافًا في ذلك.
والصحيح بل الصواب عمومها أيضًا، قالوا: لعموم العقاب بالطوفان. وقال آخرون: كانت خاصة لقومه كما هو ظاهر القرآن.
وأقول: فلا يلزم من كونه بعث إلى قومه أن لا تكون رسالته عامة لأن قومه هم كفار ذلك الزمان، وهو أول رسول بعث إلى بني آدم كما في الأحاديث الصحيحة، وقوم كل نبي من أرسل إليهم.
وقد لبث فيهم يدعوهم إلى الإيمان ألف سنة إلا خمسين عامًا، فما آمن به إلا قليل. وعن ابن عباس: كانوا ثمانين نفسًا، وعلى هذا أكثر المفسرين. وعن كعب الأحبار: اثنين وسبعين، وقيل: عشرة، وقيل: بنوه الثلاثة: سام وحام ويافث ونساؤهم. فقومه هم الكافرون في ذلك الزمان.
ولم ينقل أنه –عليه السلام- كان في موضع مخصوص، ولا عند قوم مخصوصين وإنما أرسله الله تعالى إلى الكفار لينذرهم، وكان من على وجه الأرض إذ ذاك كفارًا، ولهذا عمَّ في الدعاء، فقال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح 71/ 26] كما تقدم. فاستجاب الله تعالى دعاءه، وأغرق من كان على وجه الأرض، ولم يسلم إلا من كان معه في السفينة، لأن الله تعالى لم يغرق منهم مؤمنًا ولا من لم تبلغه دعوة نوح عليه السلام.
ويبعد عقلًا أو يمتنع أن يلبث نبي قريب ألف سنة ينذر الكفار، وأهل الأرض كفار فلا تبلغهم دعوته سيما ذلك الزمان والبلاد محصورة، والناس على حالهم كما كانوا، وغاية ما يكون عامرًا من كرة الأرض يقطع في سنتين أو ثلاث أو نحو ذلك. ولهذا وقع التعميم في دعائه، وما كان ليدعو على من لا رآه ولا بلغته دعوته.
ومما يوضح ذلك اختلاف السلف من المفسرين في معنى التنور، وأين كان. فعن ابن عباس رضي الله عنهما: التنور وجه الأرض، وعنه أيضًا: عين بالهند، وعنه أيضًا: يريد التنور الذي نخبز فيه. وقاله الحسن أيضًا، وقال: كان تنورًا من حجارة، وكان لحواء حتى صار إلى نوح.
وقال مقاتل: كان ذلك تنور آدم عليه السلام.
وقيل: أراد التنانير التي هي مكان النار، صارت بفور الماء معجزة. قال شيخنا ابن كثير: وهذا قول جمهور السلف وعلماء الخلف.
وقال قتادة: عين بالجزيرة يقال لها عين الوردة، وقيل موضع بالشام من أرض البقاع يعرف إلى اليوم بالتنور. وقال مجاهد والشعبي: كان هذا التنور بالكوفة، حتى كان الشعبي يحلف بالله: «ما فار التنور إلا من ناحية الكوفة». وعن قتادة أيضًا: التنور أشرف موضع في الأرض وأعلى مكان فيها. وعن عليّ بن أبي طالب: فار التنور أي طلع الفجر ونور الصبح.
فاختلافهم في مكانه دليل على أن نوحًا عليه السلام لم يكن لقوم مخصوصين إذ كانوا ملة واحدة يعبدون الأصنام فهم في ذلك أمة واحدة.
نعم، لم تكن رسالته في العموم كرسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه أُرسل إلى الجن والإنس كافة على اختلاف أديانهم وتباين مللهم، وهذا واضح فليُتأمّل، والله تعالى أعلم.
فإن قيل: فمتى ركب نوح ومن معه السفينة؟ وكم لبثوا؟ ومتى نزلوا منها؟
قلت: قال قتادة وغيره من أئمة التفسير: ركبوا في عاشر شهر رجب فساروا مائة وخمسين يومًا، واستقرت بهم على الجودي شهرًا، وكان خروجهم من السفينة يوم عاشوراء من المحرم.
وقد أخبرنا شيخنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن قدامة الإمام المقدسي، قرأت عليه أنبأنا عليّ بن أحمد الحنبلي أنبأنا حنبل بن عبد الله أنبأنا هبة الله بن عبد الواحد بن الحصين أنبأنا ابن المذهب، أنبأنا أبو بكر بن مالك، حدثنا عبد الله ابن الإمام أحمد، حدثني أبي، حدثنا أبو جعفر، حدثنا عبد الصمد بن حبيب الأزدي عن أبيه حبيب بن عبد الله عن شبيل عن أبي هريرة، قال: مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بأناس من اليهود قد صاموا يوم عاشورا، فقال: ما هذا من الصوم؟ قالوا: هذا اليوم الذي نجّا الله فيه موسى وبني إسرائيل من الغرق وغرق فيه فرعون، وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي، فصام نوح وموسى عليه السلام شكرًا لله عز وجل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أنا أحق بموسى وأحق بصوم هذا اليوم» فصام وقال لأصحابه: «من كان أصبح منكم صائمًا فليتم صومه، ومن كان أصاب من غداء أهله فليتم بقية يومه».
قال شيخنا: «هذا حديث غريب من هذا الوجه، ولبعضه شاهد في الصحيح».
فإن قيل: فما يقولون في الحديث الوارد في أن السفينة بمن بها طافت بالبيت العتيق؟
قلت: أخبرنا به جماعة من الشيوخ الثقات عن الشيخ فخر الدِّين أبي الحسن علي بن البخاري أنبأنا الإمام أسعد بن أبي الفضائل الشافعي في كتابه، أنبأنا شيخنا أبو القاسم الحافظ، أنبأنا أبو بكر بن خلف أنبأنا محمد بن (علي) الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا الحسن بن علي بن عفان العامري، حدثنا أبو يحيى الحماني، حدثنا (النضر) أبو عمر الخزاز عن عكرمة، عن ابن عباس قال: «كان بين دعوة نوح وهلاك قومه ثلاثمائة سنة، وكان (قد) فار التنور بالهند، وطافت سفينة نوح بالكعبة أسبوعًا». أخرجه الحاكم في مستدركه على الصحيحين وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
وأخبرنا أبو حفص عمر بن الحسن شيخنا أنبأنا عن أبي الحسن بن أحمد، أنبأنا شيخ الشيوخ أبو أحمد بن سكينة، في كتابه، أنبأنا الإمام أبو عبد الله محمد بن الفضل الصاعدي أنبأنا الإمام أبو الحسن المفسر، أنبأنا أبو منصور بن أبي نصر الواعظ، حدثنا أبو سعيد عبد الله بن محمد القرشي حدثنا محمد بن أيوب الرازي، أنبأنا علي بن عثمان، حدثنا داود بن أبي الفرات، عن علباء بن أحمر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: «كان مع نوح ثمانون رجلًا معهم أهلوهم، وأنهم كانوا في السفينة مائة وخمسين يومًا، وأن الله وجَّه السفينة إلى مكة، فدارت بالبيت أربعين يومًا ثم وجهها الله تعالى إلى الجودي فاستقرّت، فبعث نوح الغراب ليأتيه بخبر الأرض، فذهب فوقع على الجيف، فأبطأ عليه. فبعث الحمامية فأتته بورق الزيتون ولطخت رجلها بالطين، فعرف نوح أن الماء قد نضب، فهبط إلى أسفل الجودي، فابتنى قرية وسمّاها ثمانين»). [كفاية الألمعي: 90-123]

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 3 محرم 1438هـ/4-10-2016م, 10:14 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي

قال محمد بن محمد بن الجَزَري (ت: 833هـ): (

الوجه الثاني
- في معاني كلماتها من جهة التفصيل لغةً وإعرابًا:-
فنقول: الواو الواقعة هنا حرف عطف، وهي لمطلق الجمع.
قال سيبويه: قولك مررت برجل وحمار، كأنك قلت مَرَرْتُ بهما. وليس في هذا دليل على أنه بدأ بشيء قبل شيء، ولا بشيء مع شيء.
وقال ابن مالك في التسهيل: وكونُها للمعيّةِ راجحٌ وللترتيب كثيرٌ، ولعكسه قليلٌ، انتهى.
وليس بمنافٍ لقول سيبويه كما توهمه بعضهم. فكونها للمعيَّة تعطف الشيء على مصاحبه، كقوله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} [العنكبوت 29/ 15].
وكونها للترتيب تعطف الشيء على سابقه كقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ} [الحديد 57/ 26]. ولعكسه تعطف الشيء على لاحقه كقوله: {يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} [الشورى 42/ 3]. وقد اجتمعا –أي السابق واللاحق- في قوله تعالى: {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب: 33/ 7]. إذ تقرر ذلك. فإذا قلت: قام زيدٌ وعمرو، احتمل المعية والترتيب وعكسه فقول بعضهم إنها للجمع المطلق غير جيد لتقييد الجمع بقيد الإطلاق، وإنما هي للجمع لا بقيد الإطلاق، لأن المطلق هو الذي لم يقيد بشيء فيدخل فيه صورة واحدة، قولك مثلًا: -قام زيد وعمرو- ولا يدخل فيه المقيد بالمعية ولا بالتقديم ولا بالتأخير لخروجها بالتقييد عن الإطلاق.
وأما مطلق الجمع فمعناه أي جمع كان، فحينئذ يدخل فيه الأربعة المذكورة، وهذا من دقيق العلم فليتأمل. وقل من رأيته تحققه، وإذا أردت تحقيقه ظهر من قولهم: الماء المطلق، ومطلق الماء.
وأما قول السيرافي: «إن النحويين واللغويين أجمعوا على أنها لا تفيد الترتيب» فليس بصحيح، إذ قال بإفادتها إياه: قطرب، والفراء، والربعي، وثعلب، وأبو عمرو الزاهد، وهشام، وكثير من الفقهاء. ونقل إمام الحرمين في البرهان عن بعض الحنفية أنها للمعية فعلى هذا «إذا قال في مرض موته: أعتقت بكرًا وخالدًا، وضاق الثلث عنهما، فإن قلنا بالترتيب تعيَّن الأول، وإن قلنا بعدمه، أقرع بينهما، أو عتق كل بحصته، على مقتضى ما نقل عن الحنفية، وقد يتجه تخريجه على قولي الشافعي فيما إذا قال لامرأته قبل الدخول: أنت طالق وطالق، فعلى الجديد يقع واحدة وعلى القديم اثنتان».
وقول من ردَّ كونها للترتيب بقوله تعالى: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [الأعراف 7/ 161] مع قوله في البقرة: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة 2/ 58] مردود بقوله في الأعراف: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ (ثُمَّ) لَأُصَلِّبَنَّكُمْ ...} [الأعراف/ 124] وليست واو الثمانية التي أثبتها بعض النحاة والأدباء والمفسرين خارجة عن واو العطف كما بيناه في غير هذا الموضع مبسوطًا، والله أعلم.
إذا عُلِمَ ذلك، قالوا: والواقعة هنا عاطفة جملة على جملة في الخمسة المواضع من هذه الآية، وهي فيها للترتيب عطف لاحق على سابق، وسيجيئ لهذا الكلام تتمة، وفوائد جليلة في السؤال (الرابع)، في وجه تقديم الأرض هنا على السماء، والله أعلم.
وأما –قيل: فهو فعلٌ ماضٍ بُني للمفعول مشتق مع القول وهو: اللفظ المركب من الحروف، المستعمل مفردًا كان أو جملة. وقال الراغب: المبرز بالنطق. وقولنا –اللفظ- يُغني عن ذلك، ولم يذكر الاستعمال ولا بدّ منه إذ المهمل لا يطلق عليه (قول). قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق 50/ 18] فالقول أخصّ من اللفظ ولهذا كان الأسد من حد الكلام اصطلاحًا هو: القول المفيد بالقصد. وهذا هو القول حقيقة.
وقد يطلق مجازًا على ما في النفس كقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة 58/ 8].
ويطلق على الاعتقاد نقول فلان يقول بقول الشافعي. ومنه حديث ابن المسيب، وقد قيل له: ما تقول في عثمان وعلي رضي الله عنهما، فقال: أقول ما قَوَّلَنِي الله، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر 59/ 10]، يقال: فَوَّلَنِي أي: علمني ما أقول، «كما في حديث علي رضي الله عنه وقد سمع امرأة تندب عمر رضي الله عنه وتثني عليه، فقال: أما والله ما قالته ولكن قَوِّلَتْهُ أي علمته ولقنته وأُلْقِيَ على لسانها، من جانب الإلهام أي حقيق بما قالت فيه».
وعلى الدلالة نحو: «امتلأ الحوض وقال قطني».
والعرب تجعل (القول) عبارة عن جميع الأفعال وتطلقه على غير الكلام واللسان، فتقول: قال بيده أي أخذ، وقال برجله أي مشى، وقالت له العينان سمعًا وطاعة أي: أومأت، و(قال) بالماء على يده أي قلب، وقال بثوبه أي رفعه. وكل ذلك على المجاز والاتساع.
ومقتضى قول الزمخشري ومن تبعه: حمله هنا على الإرادة مجازًا واتساعًا.
وهو مردود بما قدمنا، فقد أجمع من يعتد به من العلماء رحمهم الله على أن ما ورد من الأحاديث عنه عليه السلام: «من قال صبيحة كل يوم أو مساءه كذا فعله كذا، ومن قال كذا فله كذا، لا بدَّ من التلفظ به، فقالوا كل ذلك مشروع واجبًا كان أو مستحبًا، لا يعتد بشيء منه حتى يتلفظ به ويسمع نفسه.
فإن قيل: فما نقول في قوله صلى الله عليه وسلم: «فإذا كان يوم صيام أحدكم فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل إني صائم» يقوله بقلبه أو لسانه.
قلت: فيه قولان للعلماء، هما وجهان لأصحاب الشافعي. وقد جزم الشافعي بالأول فقال: قال الأئمة كذا وكذا ومعناه أنه يذكر نفسه بذلك لينزجر فإنه لا معنى لذكره باللسان إلا إظهار العبادة وهو رياء.
وقال الشيخ محيي الدين النووي في التحرير وفي الأذكار: أظهر الوجهين أنه يقول بلسانه وقال في شرح المهذب: إنه الأقوى. قال: فإن جمع بينهما فحسن، وقال: إنه يستحب تكراره مرتين أو ثلاثًا لأن ذلك أقرب إلى إمساك صاحبه عنه.
وحكى الروياني وجهًا (آخر) واستحسنه: وهو أنه إن كان صوم رمضان فيقوله بلسانه، وإن كان نفلًا فبقلبه.
أقول: سبب عدول من عدل هنا الحقيقة إلى المجاز خوف الوقوع في الرياء، وإذا حصل معنى ظاهر يرجِّح المجاز يجوز المصير إليه، وما ذكره الروياني من العمل بالحقيقة في صوم رمضان وبالمجاز في النفل وجه ظاهر، لأن الفرض مأمور به فلا يخشى الرياء في الإخبار به بخلاف النفل، والله تعالى أعلم.
وإذا عرف ذلك فنقول: أصل هذا الفعل (قَوَلَ) فلما فتحت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا، فلما بُنِيَ للمفعول هو وسائر أخواته من معتل العين الواوي واليائي، جرت للعرب في ذلك ثلاث لغات:
الأولى: كسر فاء الكلمة كسرًا خالصًا فتنقلب الألف ياءٌ فنقول: قِيلَ وبيع، وهذه لغة الحجازيين: قريش ومن جاورهم وربَّما قرأ بها أكثر القراء.
الثانية: إشمام الكسرة الضم: وهي لغة كثيرة من قيس وعامَّة أسد، وبها قرأ الكسائي وابن عامر في رواية هشام، ويعقوب في رواية (رويس).
الثالثة: إخلاص ضمة الفاء فتنقلب الألف واوًا، فنقول: (قُوْلَ) و(بُوعَ)، وهي لغة فقعس ودبير وهما من فصحاء بني أسد وموجودة في لغة هذيل.
فإن قيل: فما الباعث على حذف الفاعل في هذا الباب وإقامة المفعول مقامه؟
قلت: لذلك بواعث أوصلها المتأخرون من أهل العربية إلى أحد عشر، نظمها شيخ شيوخنا الأستاذ أثير الدين أبو حيان رحمه الله في أرجوزته فقال:
وحذفه للخوف والإبهام *** والوزن والتحقير والإعظام
والعلم والجهل والاختصار *** والسجع والوفاق والإيثار
وستأتي النكتة (في حذفه هنا) عند ذكر الأسئلة إن شاء الله تعالى.
وأمَّا (يا): فهي حرف موضوع لنداء البعيد حقيقةً أو حكمًا، وقد ينادي بها القريب توكيدًا وقيل هي مشتركة بين البعيد والقريب، وقيل بينهما وبين المتوسط، وهي أكثر أحرف النداء استعمالًا.
وذهب بعض النحاة إلى أنها وأخواتها أسماء أفعال تتحمَّل ضميرًا، مستكنًا فيها وأعملها استعمالًا.
والنداء إنشاء، وقيل: إن كان بالصفة فهو خبر نحو: يا عالم.
والمنادى منصوب لفظًا (أو) تقديرًا، وناصبه عند الجمهور فعل (مضمر) بعد الأداة، تقديره: أنادي وأدعو. وهو إنشاء مثل (أُقْسِمُ) في باب القسم.
وقيل: الناصب الأداة وهي اسم فعل.
وقيل: الحرف نفسه.
وقيل: الحرف بنيابته عن الفعل، وهذا مذهب أبي علي الفارسي.
والمنادى إن كان معربًا في الأصل بني على ما يُرفَعُ به. تقول: يا زيدُ، يا رجلُ، يا سماءُ، يا أرضُ، ويا زيدانِ، ويا زيدونَ على الصحيح فيهما، خلافًا لبعض الكوفيين في تشبيه المثنى والمجموع بالمضاف فنداؤهما بالياء يا زيدين، يا زيدين وحركة نحو: يا زيدُ ويا رجلُ، حركة بناء. خلافًا للكسائي والياشي حيث قالا: إنها حركة إعراب.
ثم ما كان علمًا نحو يا زيد، هل هو باقٍ على تعريفه بالعلمية؟ كما ذهب إليه ابن السراج وجماعة، أو يسلب تعريفه بالعلمية ويصير معرفة بالإقبال عليه والخطاب، كنداء النكرة غير الموصوفة حيث يصير معرفة بالاستقبال عليها نحو: يا رجل ويا سماء فيه خلاف، وإلى الثاني ذهب المبرد والفارسي والأكثرون.
وأما الأرض: فهي الجُرْمُ المقابل للسماء، وهي بجملتها كرية على الصواب بالبراهين القطعية.
ويطلق مجازًا على أسفل الشيء، كما تطلق السماء على أعلاه، وهي مؤنثة اسم جنس، فحق الواحدة منها أن يقال: ولكنَّه لم يسمع، وجمعوه أرَضَات وأرَضون بفتح الراء وربّما سكنت، وأراض وأراضي على غير قياس.
وأما (ابلغي): فهو أمرٌ من البلع، وهو الزرد، والابتلاع: الازدراد. يقال: بَلِعَ اللقمة وزَرِدَها بالكسر في كليهما: يبلع ويزرد، يريدون بذلك سرعة نزولها في الحلقوم، أي من غير توقف لمضغ ولا علك ولا غيره.
وقول الزمخشري ومن وافقه: البَلْعُ عبارة عن النشف، ليس بمستقيم في المعنى ولا صحيح في اللغة، وكذا تفسير الرازي له بالشُّرب.
ولقد أحسن في محاولة معناه صاحب المفتاح ما شاء كما سيأتي بيانه بحقِّه في السؤال الرابع من الأسئلة التي ظهرت لي في هذه الآية.
وأما الماء: فأصله –مَوَهٌ- بالتحريك، فقلبت الواو (ألفًا) لتحركها وانفتاح ما قبلها، ولذلك جمع على «أمواه» في القلة ومياه في الكثرة، كجمل و(أجمال) وجِمَال فالهمزة فيه بدل من الهاء، وتصغيره –مُوَيْه-.
والكاف في ماءك: ضمير جر متصل، كُسِرَ لأنه خطاب لمؤنث وهي الأرض كما تقدم. وماء الأرض: ما نفع منها فأضيف إليها إضافة اختصاص.
وأما السماء فهي حقيقة: الجرم الكُريّ المقابل للأرض ذات البروج والنجوم كما تقدّم. ويجمع على: سماوات وأسمية وتطلق مجازًا على السحاب وعلى المطر، وعلى كل ما علاك فأظلك. ولذلك قيل لسقف البيت سماء، ويقال لظهر الفرس أيضًا سماء لعلوِّه.
وقد اختار بعض المفسِّرين أن يكون نداء السماء هنا على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وان المراد مطر السماء كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ...} [يوسف 12/ 82] أي: أهل القرية.
وأما –أقلعي- فأمر عن الإقلاع وهو: الإمساك عن الشيء بذهابه والكفّ عن الشيء بزواله.
قال الهذلي:
بقرار قيعان سقاها صيب *** (واه) فأثجم برهة لا يقلع
ومنه أقلعت عنه الحُمَّي أي كفت وأمسكت. والعجب أن الرَّاغب لم يذكره في المفردات.
وأما غيض الماء: فهو مبني للمفعول من غاضه إذا أنقصه، وهو كما تقدم في كلام الإمام فخر الدين: من الأفعال التي تقع لازمة ومتعدية. يقال: غاض الشيء وغاضه غيره.
وقد جاء في القرآن العظيم، فمن المتعدي الواقع هنا لبنائه للمفعول. ومن اللازم قوله تعالى في سورة الرعد: {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} [الرعد 13/ 8].
قال المفسرون: غيض الحيض على الحمل، فإذا حاضت الحاملُ كان نُقصانًا في الولد، لأن دم الحيض غذاء الولد في الرحم، وإذا لم تَحِضْ يزداد الولد ويتم. وقيل غير ذلك في النقص والزيادة، وفي غيض من اللُّغات ما تقدم في قيل.
وأما (الـ) الداخلة على الماء: ويقال لها أداة التعريف وحرف تعريف، فهي نوعان: عهدية وجنسية.
فالعهدية على ثلاثة أقسام:
الأول: أن يكون مصحوبها معهودًا ذكريًا كقوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل 73/ 15 و16] {فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ} [النور 24/ 35].
وتعرف هذه بأن يسد الضمير مسدَّها مع مصحوبها.
الثاني: أن يكون معهودًا ذهنيًا، كقوله: {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح 48/ 18] {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة 9/ 40].
الثالث: أن يكون معهودًا حضوريًا ويقع بعد أسماء الإشارة، نحو: جاءني هذا الرجل، وفي النداء، نحو:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأحزاب 33/ 45]، وإذا الفجائية نحو: خَرَجْتُ فإذا الأسَد، وفي اسم الزمن الحاضر، نحو: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة 5/ 3].
والجنسية أيضًا على ثلاثة أقسام:
الأول: لاستغراق الأفراد: وهي التي يخلفها (كل) حقيقة، نحو: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر 103/ 2و 3] {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء 4/ 28] {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ} [الرعد 13/ 42] {وَيَقُولُ الْكَافِرُ} [النبأ 78/ 40].
الثاني: لاستغراق خصائص الأفراد وهي التي يخلفها (كل) مجازًا، نحو: زيد الرجل علمًا، أي الكامل في هذه الصفة. ومنه قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة 2/ 2].
الثالث: تعريف الماهية: وهي التي لا يخلفها كل لا حقيقة ولا مجازًا، نحو: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء 21/ 30]، ومنه ما ذكره الفقهاء في أنه لو حلف لا يتزوج النساء أو لا يلبس الثياب، أنه يقع الحِنْث بالوحدة منهما.
إذا علم ذلك بالألف واللام في «وَغِيْضَ المَاءُ» على قول صاحب المفتاح للمعهود الذهني، وعلى قول صاحب الكشّاف لاستغراق الأفراد.
والأول أولى لوجوده:
أحدها: أنه أبلغ في القدرة وأجلُّ في العظمة وأعلى في نفوذ الإرادة، حيث حصل بمجرَّد أمر القادر المقتدر النافذ تصرُّفه في الموجودات –وهو على كل شيء قدير- تمييز ماء الأرض من ماء السماء. فبلعت الأرض ماءها الذي نبع منها، وبقي ماء السماء الذي صدر عنها حتى غيض بقدرة الحكيم العليم العليِّ العظيم.
الثاني: وأشار إليه الطيبي: أنه لو حمل على العموم للزم ذهاب المياه كلَّها لورود الأمر وصدور الحكم الربَّاني.
الثالث: أشار إليه أيضًا: أنه بهذا ينتظم (غِيضَ الماء) في سلك (قيل) و(قُضِيَ)، فلا يكون تابعًا للأمرين، إذ يصير التقدير: (يا أرض ابلعي ماءك)، فبلعت، (يا سماء أقلعي) عن إرسال الماء فأقلعت (وعيض الماء) الذي نزل من السماء.
الرابع: أنه لو لم يحصل منهما الامتثال الحقيقي بحسب ما أُمِرا به لقيل (فَغِيْضَ) بالفاء لمجيئه جوابًا.
وما قدره صاحب الكشاف من قوله: «فامتثلا، وغيض الماء دليل (قلت) عليه لأنه لا يصح الامتثال الحقيقي منهما لابتلاع الأرض ماءها، وإقلاع السماء عن مطرها، والله تعالى أعلم.
فإن قيل: فما نقول في الألف واللام في «الأمر»؟ قلت: لم أر من تعرّض لذلك من المفسرين. والظاهر أنها للعهد الذكري المتقدِّم في هذه القصة وهو قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ} [هود 11/ 40]. ويحتمل أن يون ذهنيًا، أي: أمر هلاكهم.
وأما في «الجودي» فليست من هذا الباب، إذ فيه زيادة كما سيأتي، والله أعلم.
وأما الأداة في «الظالمين» من قوله {بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود 11/ 44] فتحتمل العهد وتحتمل الاستغراق، وكذا في (للقوم)، وسيأتي تحقيق ذلك.
وأما (قُضِيَ): فهو فعل ماض بني للمفعول من القضاء: وهو الفصل والحكم والبت والتمام.
قال الأزهري: «القضاء في اللغة على وجوه مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه. وكل ما أحكم عمله أو أتم أو ختم أو أُدِّيَ، أو أُوجِبَ، أو أُعْلِمَ، أو أُنْفِذَ، أو أمضي فقد قضي» انتهى. وأكثر هذه الوجوه محتملة هنا وترجع إلى الفصل والتمام.
قال الراغب: وقُضِيَ الأمر أي فصل تنبيهًا على أنه صار بحيث لا يمكن تلافيه.
فإن قيل: فما تقول في قولهم: «القضاء والقدر»، قلت: قال العلماء المحققون في «القضاء المقرون بالقدر. المراد بالقدر: (التقدير)، وبالقضاء: (الخلق)، قال تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت 41/ 12]، أي خلقهن. فالقضاء والقدر أمران متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، لأن أحدهما بمنزلة الأساس وهو القدر والآخر بمنزلة البناء وهو القضاء. فمن رام الفصل بينهما رام هدم البناء ونقضه وقيل: «القدر بمنزلة المعد للكيل والقضاء بمنزلة الكيل».
وأن القدر لو لم يكن قضاء –فمرجوٌّ أن يدفعه الله، فإذا قُضِيَ فلا مدفع له. قال تعالى: {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم 19/ 21] ومنه قوله تعالى: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} [هود 11/ 44] والله أعلم.
وأما الأمر فهو واحد الأمور، وهو لفظ عام يشمل الأقوال والأفعال قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران 3/ 154] {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [هود 11/ 123] ويطلق على الإبداع، قال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف 7/ 54]،
وذلك يختص بالله تعالى، وعليه حمل قوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء 17/ 85]، أي من إبداعه، وقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس 36/ 82]، إشارة إلى إبداعه فعبّر عنه بأقصر لفظ وأبلغ عبارة.
والأمر: التقدم بالشيء سواء كان بلفظ افعل أو ليفعل أو بإشارة أو نحو ذلك. ومنه الأمر هنا أي: قُضِيَ الأمر الذي تقدَّم به، وأمر من نجاة من نجا وهلاك من هلك، والله أعلم.
وأما استوت فمعناه استقرّت أي الفلك فعاد ضمير الفاعل إلى ما تقدم في هذه القصة من هذه السورة حيث قال: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود 11/ 37] {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} [هود 1!/ 38] {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا ...} [هود 11/ 40] –أي الفلك- {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود 11/ 41] {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ} [هود 11/ 42].
كل ذلك عائد إلى الفلك، وهي السفينة، والفلك تستعمل في الواحد والجمع، فهو في الواحد كبناء (قُفْل)، وفي الجمع كبناء (حُمر). قال تعالى: {وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} [الحج 22/ 65] و{حَتَّى (إِذَا كُنْتُمْ) فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس 10/ 22].
واستوى يُستعمل لمعان، تقول: استوى الرجل من اعوجاج، واستوى الشيء: اعتدل. قال تعالى: {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح 48/ 29]، واستوى زيد وعمرو: تساويا، قال تعالى: {لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة 9/ 19]، واستوى الرجل إذا انتهى شبابه. وإن عدي بـ (إلى) فمعناه: قصد، قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت 41/ 11].
وإن عدي بـ (على) فالمعنى استقر معتدلًا كما وقع هنا وكقوله تعالى {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف 43/ 13]، وقد تأتي بمعنى استولى.
وأما قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه 20/ 5]، ونحوه، فللناس فيه أقوال أسلمها قول أهل السنة. قال محيي السنة أبو محمد البغوي رحمه الله: فأما أهل السنة والجماعة فيقولون: الاستواء على العرش صفة الله تعالى بلا كيف يجب (على الرجل) الإيمان به وبكل العلم فيه إلى الله (عز وجل) وسأل رجل، مالك بن أنس رضي الله عنه عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، كيف استوى؟ فأطرق رأسه مليًا وعلاه الرحضاء، ثم قال: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أظنك إلا ضالًّا ثم أمر به فأخرج».
وأما (على) فحرف جر خلافًا لمن زعم أنها لا تكون إلا اسمًا ونسبه إلى سيبويه.
ولها تسعة معانٍ:
1- الاستعلاء: إما على المجرور وهو الغالب عليها كما هي هنا أو على ما يقرب: نحو {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه 20/ 10]. وقد يكون الاستعلاء معنويًا، نحو: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ} [الشعراء 26/ 14].
2- والمصاحبة: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة 2/ 177] أي: مع حبه.
3- والمجاوزة:
إذا رضيت علي بنو قشير *** لعمر الله أعجبني رضاها
أي (عَنِّي).
4- والتعليل: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 2/ 185].
5- والظرفية: أي بمعنى (في): {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ} [القصص 28/ 15].
6- وبمعنى من: {إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ} [المطففين 83/ 2].
7- وبمعنى الباء: {عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف 7/ 105] وهي في قراءة أُبَيّ بالباء.
8- وزائدة (للتعويض) ذكره ابن جني واستشهد بقول الشاعر:
إن الكريم وأبيك يعتمل *** إن لم يجد يومًا على من يتكل
أي: من يتكل عليه، فزاد (على) قبل الموصول تعويضًا.
9- والاستدراك والإضراب: تقول: فُلانٌ لا يدخل الجنة لسوء صنيعه.
وقد نظمت ذلك في بيت واحد وهو قولي:
استعل صاحب جاوزن علِّلًا *** كفي كمن كبا زد استدرك طلا
وأتيت بالطاء إشارة للعدد.
وأما الجودي: فهو الجبل المعروف المشهور بقرب الموصل. والألف واللام فيه زائدة كما سيأتي في السؤال السابع عشر، وهو جبل جزيرة ابن عمر المدينة المشهورة وأخطأ من قال غير ذلك. ومسجد نوح عليه السلام الذي لمَّا أن نزل من السفينة اتخذه مسجدًا أو صلى به هو باقٍ فيه إلى اليوم وبه أيضًا قرية الثمانين سميت بهذا الاسم وهي مشهورة إلى اليوم. خرج منها جماعة من العلماء ونسبوا إليها وإنما سميت بالثمانين لعدَّة من كان مع نوح الذين آمنوا به وركبوا معه في السفينة وبقي بعض خشب السفينة هناك حتى أدركه الإسلام.
والجودي: جَبَلٌ مبارك –بتشديد الياء، وقُرِئ في غير المشهور بتخفيفها.
قال الجوهري: وهو جائز للتخفيف، ويجوز أن يكون سُمِّي بفعل الأنثى مثل (حُطي) ثم أدخل عليه الألف واللام انتهى.
والصواب: أنه اسم، وتخفيف يائه لغةً.
قال مجاهد: «تشامخت الجبال يومئذ من الغرق وتطاولت، وتواضع هو لله فلم يغرق، واستوت عليه سفينة نوحٍ. استوت عليه شهرًا، يعني حتَّى نزلوا منها» انتهى.
وبنيت ثم مدينة الجزيرة ثم نسبت إلى ابن عمر، يقال: إن بعض بني عمر بن الخطاب نزلها وأهلها أهل السنة والجماعة، شافعية المذهب: والنسبة إليها: جزري، على القاعدة المعروفة عند أهل التصريف من حذف ياء (فعلية) في النسبة بشرط، فقالوا في مدينة: (مدنيٌّ)، وفي حنيفة: (حنفيٌّ).
خرج منها خلقٌ من العلماء والمحدثين قديمًا وحديثًا ومن المتأخرين: الأئمة لثلاثة الجزريون الأخوة: الإمام العلامة مجد الدين أبو السعادات المبارك ابن محمد بن عبد الكريم ابن الأثير، مؤلف كتابي (جامع الأصول) و(النهاية في غريب الحديث)، والإمام الحافظ عز الدين علي مؤلف (الكامل في التأريخ) (أسد الغابة في أسماء الصحابة).
والعلَّامة ضياء الدين نصر الله مؤلف (المثل السائر) وغيره. ومنهم الإمام الكبير الأديب شمس الدين أبو الندى معد بن نصر الله الجزري صاحب المقامات (الخمسين) الجزرية التي لم يُنسج على منوالها.
وصنَّف في فضائلها الإمام المؤرِّخ الأديب أبو الحسن علي بن سعيد الأندلسي كتابًا سمّاه (هالة القمر في فضل جزيرة ابن عمر).
ولم يزل أهلها يجاهدون باليد واللسان فيمن جاورهم يمينًا وشمالًا من الرافضية واليزيدية كما هو مشهور إلى اليوم، حتى بلغنا أن ملكها الأمير سيف الدين البختي أو ولده أحرق قبر الشيخ الصالح عدي بن مسافر المدفون في جبل هكار عند الأكراد لمغالاتهم في اعتقاده وفي حب يزيد. وهم قوم جهال لا علم لهم ولا دين ولا عقل ولا رأي. وحكايات جهلهم تجاوز الوصف.
وفي أهل الجزيرة يقول القائل وقد أحسن ما شاء في استخدام التورية كاملة من الوجهين وأشار إلى رأيهم في أهل البدعتين الرفض والنصب:
أهل الجزيرة ليس يقدر قدرهم *** أعداء من هو رافضي ويزيدي
قولوا لمن بالجهل يجحد فضلهم *** أهل الجزيرة فضلوا بالجودي
فأجاد في استخدامه اللفظ في المعنيين وإيهامه بالجود الذي هو السخاء.
وقد حدّه بعض علمائنا فقالوا: «هو بذل ما يحتاج إليه عند الحاجة وإيصاله إلى ما مستحقِّه بقدر الطاقة».
وأما قول بعضهم: حَدُّ الجود: بذل المجهود. فليس بوافٍ بالمقصود ولا شامل للمحدود، ولعله ذكره على سبيل المبالغة، وإلا فلو كان كذلك لارتفع اسم السرف والتبذير اللذين ورد الشرع بذمهما.
قلت: هذا جود بني آدم، وأما جود الله سبحانه وتعالى، فقال فيه بعض المتأخرين، حد الجود: إفاضة ما ينبغي لما ينبغي لا لعوض.
ولله دَرُّ القائل:
ويظهر عيب المرء في الناس بخله *** ويستره عنهم جميعًا سخاؤه
تغط بأثواب السَّخاء فإنني *** أرى كل عيب فالسخاء غطاؤه
وهذا مقتبس من قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فيما بلغنا «كل عنبٍ الكرم يغطيه «يريد بذلك تصحيفه وهو: كل عيب الكرم يغطيه».
واستقرَّت السفينة على الجودي يوم الأضحى من ذي الحجة كما قال قتادة وغيره من أئمة التفسير.
وأما «وقيل بُعدًا» فتقدم الكلام في (قِيْلَ) ولكن اختلفوا في القائل. فقيل: هو الله تعالى وهو الذي قال صاحب المفتاح.
وقيل: من كلام نُوحٍ وأصحابه، ومال الإمام فخر الدين إلى الثاني كما تقدم من كلامه.
والأصح بل الصحيح عندي هو الأول لأن الله تعالى يقول بعيد ذلك في قصة هود: {أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود 11/ 60]، وفي قصة ثمود: {أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ}، وفي قصة شعيب: {أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ} [هود 11/ 95].
والقائل في ذلك كله هو: الله تعالى، والقرآن يفسر بعضه بعضًا فيجري القول على نسقٍ واحدٍ، والله أعلم.
واختلفوا أيضًا في معنى (بُعدًا)، هل هو الإبعاد بالطرد ونحوه أو هو الإهلاك؟ فالذي يظهر من أقوال أكثر سلف المفسرين: أنه الطرد من (بَعُدَ) بالضم إذا تباعد فهو بعيدٌ يبعد، كذلك بعد الذي هو ضد القرب.
قال ابن عباس: بُعْدًا من رحمة الله.
وقال غيره: خسارًا لهم.
وقال آخرون: هو الهلاك ونحوه، من (بَعِدَ) بالكسر (يبعد) بالفتح (بعدًا) بفتح الباء والعين، و(بُعْد) بالضم والإسكان أيضًا.
وكذلك اختلفوا فيه في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث شهادة الأعضاء يوم القيامة على صاحبها. فتقول: بُعْدًا وسحقًا.
ولكن الجوهري جعل (البعد) بالضم هو ضد (القرب) وجعل (البعد) بالفتح هو الهلاك. والصواب ثبوت الضم في الهلاك أيضًا، وبه ورد القرآن، قال تعالى: {أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود 11/ 95]. وهو مقتضى كلام الكشاف وتفيره كما تقدم، ومقتضى كلام الزمخشري تفسيره بضد القرب، كما قدمنا.
وقول الزمخشري هو الأقرب عندي، لقوله تعالى: {كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} فإن الق{آن يفسر بعضه بعضًا ويجوز أن يراد المعنيان، ويكون من التورية والإبهام كما سيأتي في موضعه، والله تعالى أعلم.
وأما اللام في (للقوم) فهي حرف جرٍّ. ولها اثنان وعشرون معنى، نظمتها في هذه الأبيات الثلاثة وهي:
واللام في الجر استق وخصِّصا *** وملك وتمليك وشبه له حلا
وتوكيد نفي بلغن وصيرن *** تعجب ومعه احلف تبين وعللا
وتعدية توكيدهم وكمثل في *** وعند وبعد مع ومن عن إلى على
1- فالاستحقاق: وهي الواقعة بين معنى وذات كما هي هنا ونحو: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين 83/ 1] و{الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الحمد 1/ 1].
2- والاختصاص: نحو {الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء 26/ 90] و{إِنَّ لَهُ أَبًا} [يوسف 12/ 78].
3- والملك: نحو {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} [البقرة 2/ 255].
4- والتمليك: نحو: وهبت لزيدٍ دينارًا.
5- وشبه التمليك: نحو: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [الشورى 42/ 11].
6- وتوكيد النفي: وهي الداخلة في اللفظ على الفعل مسبوقة بـ (ما كان) أو بـ (لم يكن)، ناقصتين مسندتين (لما) أسند إليه الفعل المقرون باللام نحو: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران 3/ 179]، {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} [النساء 4/ 168].
الأصل عند البصريين ما كان قاصدًا للفعل، ونفي قصد الفعل أبلغ من نفيه.
والكوفيون يقولون: أصل ما كان ليفعل: ما كان يفعل ثم أدخلت اللام زيادة لتقوية النفي، كما أدخلت الباء زيادة في: (ما زيد بعالم)، لذلك فهي عندهم زائدة مؤكدة غير جارة، بل هي حرف ناصب للفعل، ويسميها أكثر النحاة لام الجحود.
7- والتبليغ: وهي الجارة لاسم السامع لقولٍ أو ما في معناه، نحو: قلت له، وأذنت له وفسرت له.
8- والصيرورة: وتسمى لام العاقبة ولام المال نحو: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص 28/ 8].
9- والتعجب المجرد: ويستعمل في النداء، كقولهم: (يا للسماء) و(يا للغيث) إذا تعجبوا من كثرتهما.
10- والتعجب مع القسم: معًا ويختص باسم الله تعالى كقول الشاعر:
لله يبقى على الأيام ذو حيدٍ *** بمسمخر به الضيآن والأس
11- والتبيين: وهي التي تبين المفعول من الفاعل وضابطها أن يقع بعد فعل تعجيب أو اسم تفضيل مفهمين حبًّا أو بغضًا تقول: (ما أحبني) و(ما أبغضني)، فإن قلت (لفُلان) فأنت فاعل الحُبِّ والبغض وهو مفعولهما. وإن قلت (إلى فلانٍ) فالأمر بالعكس.
وقد تبين فاعلية غير ملتبسة بمفعولية.
أو تبين مفعولية غير ملتبسة بفاعلية.
12- والتعليل: نحو قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} أي من أجل حب المال لبخيل.
13- والتعدية: نحو: ما أضرب زيدًا لعمرو وما أحبه لبكرٍ. ومثله ابن مالك في شرح الكافية بقوله تعالى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} [مريم 19/ 5] ولا يخفى ما فيه.
14- والتوكيد: وهي اللام الزائدة، كاللام المعترضة بين الفعل المعتدي ومفعوله. كقول الشاعر:
وملكت ما بين العراق ويثرب *** ملكًا أجار لمسلم ومعاهد
15- ومثل (في) نحو: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء 21/ 47].
16- ومثل (عند) كقولهم: (كتبته لخمسٍ خلون).
17- ومثل (بعد) كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء 17/ 78].
وقوله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته.
18- ومثل (مع): كقول الشاعر:
فلما تفرقنا كأني ومالكًا *** لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
19- ومثل (من): نحو: سمعت له صراخًا.
20- ومثل (عن): نحو: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف 46/ 11].
21- ومثل (إلى) نحو: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة 99/ 5].
[كفاية الألمعي: 153]
22- ومثل (عَلَى) في الاستعلاء الحقيقي نحو قوله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ} [الإسراء 17/ 109]، {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات 37/ 103].
إذا عُلم ذلك فليعلم: أن أصل لام الجر الفتح، ولكنها كُسرت مع الظاهر مناسبة لعملها ويدل على ذلك فتحها مع الإضمار. والإضمار يرد الشيء إلى أصله.
والقوم: في الأصل مصدر قام، فوصف به، ثم غلب على الرجال دون النساء ولذلك قابلهن به.
قال تعالى: {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ )عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ) وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} وقال صلى الله عليه وسلم:
«إن إنسانيَ الشيطاني شيئًا من صلاتي فليسبح القوم ولتصفق النساء».
وقال زهير:
وما أدري وسوف أخال أدري *** أقوم آل حسنٍ أم نساء
فسلموا بذلك (لأنهم) قوامون على النساء بالأمور.
قال الجوهري: القوم الرجال دون النساء ولا واحد له من لفظه، وربما دخل فيه النساء على طريق التبع، لأن قوم كل نبي رجال ونساء.
وقال الراغب: وفي عامة القرآن أراد به الرجال والنساء جميعًا، وحقيقتك الرجال.
قلت: ثم نص أئمة النحاة واللغويين على أن (القوم) اسم جمع بمعنى الرجال خاصة، فواحده في المعنى رجل بدليل ما جاء في القرآن، وفي الحديث وكلام العرب، لكن شموله الرجال والنساء عند الإطلاق ظاهر فيدخل النساء فيه بالتبعية، بحسب العرف. ولهذا حمل ما ورد في القرآن من ذكر قوم كل نبي على الرجال والنساء.
ولكن نص الفقهاء على أنه إذا أوصى لقوم زيد أو وقف عليهم، فلا يصرف منه للإناث شيء. كذا ذكروه مع الإطلاق، وفي النفس منه شيء ونقل الإمام أبو الفتوح العجلي في كتاب الخناثى له في دخولهن –يعني النساء- وجهين. وهذا أقرب عندي، والله أعلم.
وأما (الظالمين):
فهو جمع ظالم، من الظُلْم الذي هو: وضع الشيء (في غير موضعه) وزاد الراغب (المختص به)، إما (بنقصان) أو بزيادة، وإما بعدول عن وقته أو (مكانه) انتهى. وأصله الجور ومجاوزة الحد.
وحيث أطلق في القرآن فالمراد به الكفر لقوله تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [هود 11/ 18 و19ي.
وقال: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة 2/ 254]، {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود 11/ 83]. ولما نزل قوله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام 6/ 82]، شق ذلك على المسلمين وقالوا: يا رسول الله وأيُّنا لم يظلم؟ فقال: ليس كذلك. ألم تسمعوا قول لقمان لابنه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان 31/ 13].
وقد يراد به ظلم الناس، كقوله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى 42/ 40].
{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} [الشورى 42/ 42] الآية.
وقوله: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا} [الإسراء 17/ 33] الآية.
وقد يراد به ظلم النفس: كقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [القصص 28/ 16] {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر 35/ 32]، {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة 2/ 35].
وقد يراد به ذلك كله كما في هذه الآية فإن قوم نوح عليه السلام كفروا بالله، وأشركوا به، وظلموا نوحًا بتكذيبهم إياه، وافترائهم عليه، وظلموا أنفسهم بكفرهم وعنادهم وتكذيبهم). [كفاية الألمعي: 124-156]

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 3 محرم 1438هـ/4-10-2016م, 10:21 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي

قال محمد بن محمد بن الجَزَري (ت: 833هـ): (

الوجه الثالث
فيما ظهر لنا ولهم من الأسئلة الواردة عليها والأجوبة عنها
والذي ظهر لي من الأسئلة الموجهة، مما لم أسبق إليه فيما علمت ثلاثة وعشرون سؤالًا، وظهر لي أيضًا من كلام صاحب المفتاح وغيره: اثنان وعشرون، فتكون جملة الأسئلة الموجهة عليها: خمسة وأربعين سؤالًا والله أعلم.
وسأذكر أولًا ما ظهر لي ثم ما يظهر من كلام غيري، وأجيب عن ذلك بحول الله تعالى وقوته وعونه وتوفيقه.
السؤال الأول: ما فائدة (واو العطف) هنا في قوله (وقيل)؟ وهلا أتى بغير واو؟ كما جاء في الآية بعد آخر القصة {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ} [هود 11/ 48].
الثاني: ما الحكمة في قوله تعالى: «قيل»، دون (قال الله) أو (قلنا) أو نحو ذلك؟
الثالث: لِمَ عدل إلى النّداء ولم يقل: وقيل للأرض والسماء؟
الرابع: لِمَ قدم الأرض على السماء مع أنه أكثر ما وقع في القرآن تقديم السماء لفضلها وشرفها وشرف من بها؟
الخامس: لم أتى بصيغة «ابلعي» دون ما هو نظيره مثل (اشربي) أو (غوري) أو (اذهبي) أو (نَشِّفِي) أو نحو ذلك؟
السادس: لِمَ قال (ماءك) بالإضافة دون أن يقول (الماء) كما قال (وغيض الماء)؟
السابع: لم عدل من (أمسكي) ونحوه إلى (أقلعي)؟
الثامن: لم لم يصدر الأمر ذلك كما صدر الأرض والسماء.
التاسع: لم جيء بالواو في (وَغِيْضَ) دون الفاء مع أنه أظهر؟
العاشر: لم قال (وغيض) على البناء للمفعول دون (غاض) على البناء للفاعل؟
الحادي عشر: لم أتى بـ (غيض) دون ما في معناه: (نَضَبَ) و(نقص) ونحوه؟
الثاني عشر: لِمَ لَمْ يجمع الماء هنا ليكوين أصرح وأبلغ في هذا المقام؟
الثالث عشر: لِمَ عدل إلى «قُضِيَ» دون (انقضى) مع أنه أوضح ويوافق ما بعده، وهو «استوت» فيكون فعلان بنيا للمفعول وفعلان بُنيا للفاعل؟
الرابع عشر: لِمَ جيء بالألف واللام في «الأمر» دون أن يقال: (أمر قوم نوح) أو (أمرهم) فيكون أوضح؟
الخامس عشر: لِمَ قال «استوت» دون ما في معناه وهو (استقرت) أو (رست) الذي هو مخصوص بالسفن من حيث الاستعمال؟
السادس عشر: لِمَ لَمْ يصرح بالفاعل في «استوت» فيقول (استوت السَّفينة) أو (الفلك) ليكون أبين؟
السابع عشر: لِمَ لم يقل (بحبل الجودي) ليعلم أنه جبل بل اكتفى باسمه؟ ومن أين يعلم أنه جبل؟
الثامن عشر: ما السر في استقرار السفينة على جبل الجودي دون غيره؟
التاسع عشر: لِمَ (بُنِيَ) (قِيْلَ) هذه لما لم يسم فاعله مع قول كثير من المفسرين: إن القائل هو نوح عليه السلام، ولم يبن للفاعل ليكون أظهر في البيان؟
العشرون: هل في قوله «بعدًا» نكتة عدل بها عن أن يقول «طردًا وسحقًا وهلاكًا) ونحو ذلك ليكون أصرح؟
الحادي والعشرون: ما الفائدة في ذكر القوم ولم يقل للظالمين مع أنه في مقام الإيجاز؟
الثاني والعشرون: ما الحكمة في قوله: «للقوم» دون غيره مثل (للناس) و(للجماعة) ونحو ذلك؟
الثالث والعشرون: ما النكتة في ذكر الظالمين هنا دون الكافرين؟ ليوافق قوله تعالى حكاية نوح عليه السلام: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح 71/ 26] أو الفاسقين، كما قال تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الذاريات 51/ 46].
وأما السؤالات التي تخرج من كتاب المفتاح وغيره:
فأولها: لم اختير «يا» من حروف النداء دون غيرها؟
ثانيها: لم لم يقل (يا أرض) بالكسر؟
ثالثها: لم لم يقل (يا أيتها الأرض)؟
رابعها: لم اختير لفظ (الأرض) دون غيرها؟
خامسها: لم اختير لفظ (السماء) دون سائر أسمائها؟
سادسها: لم اختير (ابلعي) دون (ابتلعي)؟
سابعها: لم قال (ماءك) بالإفراد دون الجمع؟
ثامنها: لم أفرد الأرض والسماء؟
تاسعها: لم لم يقل (ابلعي) بدون المفعول؟
عاشرها: لم لم يذكر مفعول (أقلعي)؟
الحادي عشر: لم لم يقل (فبلعت وأقلعت)؟
الثاني عشر: لم اختير (غِيْضَ) على (غُيِّضَ) المشدّد؟
الثالث عشر: لم قال (الماء) دون ماء طوفان السماء؟
الرابع عشر: لم قال (الأمر) دون أن يقول (أمر نوح)؟
الخامس عشر: لم لم يقل (سويت) على البناء للمفعول الموافق سائر أفعال الآية؟
السادس عشر: لم قيل «بعدًا للقوم» دون (ليبعده القوم).
وهذا من حيث التركيب.
وأما من حيث ترتيب الجمل:
فالسابع عشر: لم قدم النداء على الأمر؟
والثامن عشر: لم قدم أمر الأرض على أمر السماء؟
والتاسع عشر: ما فائدة اتباع ذلك بغيض الماء؟
والعشرون: ما فائدة اتباع «غيض الماء» بـ «قضي الأمر»؟
والحادي والعشرون: ما فائدة اتباع «قضي الأمر» بحديث السفينة؟
والثاني والعشرون: ما فائدة ختم القصة بما ختمت به؟
تتمة خمسة وأربعين سؤالًا، غير أن السابع عشر إن (يكن) مكررًا فيصح أربعة وأربعون سؤالًا. وأما الرابع من سؤالاتنا فإنه تضمن قاعدة كلية وجوابًا آخر. وقد نبهنا على ذلك كما سيأتي، والله أعلم.
فأما الجواب عن السؤال الأول، وهو: فائدة الوصل بالواو دون الفصل فقال: «وقيل يا أرض» ولم يقل (قيل يا أرض) كما قال: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ} [هود 11/ 48].
فلأنه لما تقدم الإخبار عن نوح مع قومه مرتبًا موصولًا وصل جملة بجملة معطوفًا عطف لاحق على سابق من الإرسال وقوله وقولهم والإيحاء إليه في شأنهم، وأمره أن يصنع الفلك والإخبار بالأمر لها وبمجيء الأمر بإهلاكهم، وبالركوب في الفلك والإخبار عنها، وبنداء نوح ابنه، ويحول الموج بينهما، وبما قيل عند انتهاء أمر الطوفان وبغيض الماء وبتمام الأمر، وباستواء السفينة على الجبل، وبالدعاء عليهم وبنداء نوح ابنه، وبحول الموج بينهما، وبما قيل عند انتهاء أمر الطوفان وبغيض الماء وبتمام الأمر، وباستواء السفينة على الجبل، وبالدعاء عليهم وبنداء نوح ربه إلى آخره.
فوقوع ذلك كله معطوفًا بالواو على أحسن نسق وألطف وصل بخلاف قوله: «قيل يا نوح اهبط»، فإنه وقع جوابًا لتعوذ نوح بربه أن يسأل ما ليس له به علم، كما وقع. قال {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود 11/ 46] جوابًا لقوله: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود/ 45] فتعين الفصل لذلك، ولو وصل بالعطف لانقطع الكلام، ولم يكن للسؤال جواب، فظهر ما بينهما من كمال الانقطاع وما بين ذلك من كمال الاتصال، ولباب –الفصل والوصل- دقائق ولطائف وحقائق يعرفها علماء المعاني والبيان، ويدركها أهل الذوق السليم والطبع المستقيم، ولهذا كان م أعظم أركان البلاغة، حتى أن بعضهم حد البلاغة بأنها: معرفة الفصل والوصل.
وقال الأستاذ عبد القاهر الجرجاني: «إنه لا يكمل لإحراز الفضيلة فيه أحد إلا كمل لسائر معاني البلاغة» انتهى والله تعالى أعلم.
والجواب عن السؤال الثاني:
أعني فائدة العدول عن البناء للفاعل للبناء للمفعول، من ثلاثة أوجه:
أحدها: الإيجاز، فإن المقام مقام اختصار.
وهذه الآية جمعت أكثر ضروب الإيجاز والاقتصار مع ما أعني من كمال التوفيق بالمعنى، فإن ألفاظها قوالب معانيها، وفي بديع بيانها إعجاز معارضها ومعانيها.
الثاني: التعظيم والإجلال، وأنه تعالى لا يصدر عن غيره مثل هذا المقال، كما أشار إليه الإمام حيث قال: «إنه سبحانه في الجلال والعلو والعظمة بحيث إنه متى قيل: (قِيْلَ) لم ينصرف الفعل إلا إليه.
(ولم يتوجه الفكر إلا إلى ذلك القائل هو هو).
الثالث: الإبهام ليذهب السامع كل مذهب ويطلب الصواب من مقصد ومطلب ويُعمِلُ العالم فيكره الصحيح ليظهر له وجه الصواب بالترجيح فيتحقق -القائل- في هذا المقام هو في الحقيقة الملك المقتدر العلام، فإن من بواعث البناء للمفعول: الإيجاز والتعظيم والإبهام، والله أعلم.
والجواب (عن) السؤال الثالث:
وهو: لم عدل إلى النداء؟ ولم يقل (وقيل للأرض) كذا (وللسماء) كذا من وجهين:
1- أحدهما: ظهور العناية بالإقبال على المنادي تنويهًا بذكره وتشريفًا لقدره، ولهذا نزله منزلة العاقل فكان لامتثال أمره غير غافل.
وقال تعالى: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء 21/ 69] «يا آدم» «يا نوح» «يا إبراهيم» «يا موسى» «يا عيسى» {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت 29/ 56] يا عبادي {لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف 43/ 68].
2- والثاني: التنبيه على أن القدرة العظيمة صالحة بأن تصير هذه الأجرام الجسيمة إلى حال من يعقل، وتوصل مثل هذه الجمادات الكثيفة إلى رتبة من يعقل، وإلا فخطاب من لا يعقل مهمل، والإقبال عليه بالأمر أمر معضل وقد مضى تقرير ذلك بحقه.
والجواب عن السؤال الرابع:
في وجه تقديم الأرض على السماء في هذا المكان، وهذا يستدعي ذكر قاعدة يعلم بها الحكمة في الحديث والقرآن، وهو نوع من أنواع علم المعاني والبيان كما سيأتي في بابه. فإنه لا بدّ من الوقوف على الحكمة في تقديم ما قُدِّم في القرآن وتأخر ما أُخِّر، كتقديم الأرض على السماء في هذا الموضع ونحوه وتقديم السماء على الأرض في سائر القرآن، وكنحو تقديم (السمع والبصر) و(الظلمات والنور) و(الجن والإنس) في أكثر المواضع وفي بعضها الإنس. وكنحو (سميع عليم) ولم يأت (عليم سميع)، وكذا (عزيز حكيم) و(غفور رحيم) وفي موضع واحد (رحيم غفور) إلى غير ذلك مما لا يكاد ينحصر. وليس شيء من ذلك يخلو من فائدة وحكمة فإنه كلام الحكيم الخبير، وقد كنت أشرت إلى ذلك في كتابي (البيان لمتشابه القرآن)، جمع الله الشمل به بمنه إنه المجيب المنان، وينبغي أن نقدم على (الشرع) في ذلك أصلًا يقف عليه، وركنًا يستند إليه.
فنقول: ما تقدم من الكلم فتقديمه في اللسان على حسب تقديم المعاني في الجنان.
والمعاني تتقدم بحسب خمسة أمور:
إما بالفضل والكمال، وإما بالطبع، وإما بالزمان، وإما بالرتبة، وإما بالسبب.
فإذا سبق معنى من المعاني إلى القلب والفكر ببعض هذه الأمور الخمسة سبق اللفظ الدَّال على ذلك المعنى الذي سبق، وكان ترتيب الألفاظ بحسب ذلك وربما قدم الشيء لمعنيين، وربما قدم (لثلاثة) معانٍ لأربعة ولخمسة وقد يقدم لمعنى واحد من هذه الخمسة، فمما قدم (للفضل) والشرف السماء على الأرض.
ولكن قدمت الأرض ها هنا بمعنى الزمان والرتبة، وذلك أن الماء نبع أولًا من الأرض. قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود 11/ 40]. فقدمت بسبب نبع الماء منها أولًا وأن السفينة وأهلها على وجهها.
فإن قلت: فما تقول: في قوله تعالى في سورة يونس: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [يونس 10/ 61] وقال في سورة سبأ: {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [سبأ 34/ 3].
قلت: تقديم الأرض في (يونس) بالرتبة لأنها منتظمة بذكر ما هي أقرب إليه، وهم أهلها المخاطبون بقوله: (ولا) {تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} فاقتضى حسن النظم تقديمها مرتبة في الذكر مع المخاطبين الذين هم أهلها، بخلاف آية (سبأ) فإنها منتظمة بقوله {عَالِمُ الْغَيْبِ} [سبأ 34/ 3].
- والجواب عن السؤال الخامس-:
وهو الإتيان بلفظ (ابلعي) دون (اشربي)، و(تَشَرَّبي)، و(نَشِّفِي) و(عَوِّري)، و(أذْهِبِي) مما هو مثله أو بمعناه، فمن وجهين: معنوي ولفظي:
فالمعنوي: أنه لا يقوم لفظ من هذه الألفاظ ونحوها في معناه الذي وضع له، وهو: ازدراد اللقمة ونحوها في الحلقوم ونحوه دفعة واحدة من غير توقف لمضغ ولا نحوه، كما تقدم، ومنه سميت (بالوعة) البيت ونحوه: بالوعة وبلوعة، وهي ثقبة تكون على مجوف يبتلع الماء ونحوه.
ولما أمر الله تعالى بتفجير الأرض عيونًا نبع الماء من تلك العيون، فلما انتهى أمر الطوفان أمر الله تعالى الأرض أن تبتلع ماءها، يعني الذي خرج من كل عين فرجع الماء غائرًا في تلك العيون تبتلعه الأرض بأسرع وقتٍ لأمر الله تعالى وإذنه.
واللفظي: حسن الجناس بين «ابلعي» و«أقلعي» كما سيأتي في علم البديع.
والجواب عن السؤال السادس:
وهو إضافة الماء إلى الأرض. فقال «ماءك» ولم يقل (الماء) كما قال «وغيض الماء». فإنه لما كان ماء الطوفان ماءين: ما نبع من الأرض، وما نزل من السماء، أمر الأرض ببلع الماء الذي نبع منها إعلامًا بعظم قدرة قدير قادر على كل شيء، قدير على تمييز كل من الماءين بعد اختلاطهما فسبحهما ما أعظم شأنه! ولو قال (الماء) لم يكن فيه دلالة على هذه القدرة العظيمة.
فبهذا يظهر حسن كلام صاحب المفتاح وفضله كما قدمناه.
والجواب عن السؤال السابع:
وهو العدول عن (أمسكي) ونحوه إلى «أقلعي» فإن الإقلاع هو الإمساك عن الشيء بحيث يذهب وينقطع أصلًا، بخلاف «الإمساك» الذي هو التوقف به.
وقد تقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما: لم تمطر السماء قبل ذلك اليوم ولا بعده.
وأيضًا فحسن الجناس بين «أقلعي» و«ابلعي» من بديع اللفظ كما سيأتي.
وأيضًا فإن في ذلك المناسبة اللفظية التامة كما سيأتي بيانه في البديع، والله أعلم.
والجواب عن السؤال الثامن:
وهو عدم صدور الأمر للماء مع صدوره للأرض والسماء فإنه: لو صدر أمره تعالى للماء لم يبق في الدنيا ماء. ولو ذهب ماء الدنيا لخرب العالم.
والمقصود: ذهاب ماء الطوفان فأمر سبحانه وتعالى الأرض بابتلاع الماء الذي خرج منها للطوفان وبقي الماء الذي نزل من السماء فغاض، كما سيأتي وعاد الحال إلى ما كان عليه قبل الطوفان.
والجواب عن السؤال التاسع:
وهو مجيء (الواو) في «وغيض» دون (الفاء) مع كونها أظهر في هذا الموضع. فلفائدة جليلة وهي: أنه لو جاء بالفاء هنا لم يكن فيه دليل على امتثال الأمر من كل من الأرض والسماء، وكان التقدير فبلعت الأرض ماءها، وأقلعت السماء عن المطر وغيض، فهذا من أحسن الإيجاز وأبلغه، وهو من إيجاز الحذف كما سيأتي في موضعه في المعاني والبيان، وهذا كما قرره الزمخشري في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النمل 27/ 15] أي: «آتينا داود وسليمان علمًا فعملا به وعّلَّماه وعرفا حق النعمة وقالا الحمد لله» وهو أحسن مما قرره صاحب المفتاح وألطف حيث جعل الجامع هو الوجود، وذلك «أنه تعالى أخبر عما صنع بهما وأخبر عما قالا، ولم يرتِّب الثاني على الأول تفويضًا لاستفادته إلى فهم السامع مثله (قُمْ يَدْعُوك) بدل قوله: (قُمْ فإنه يدعوك) والله أعلم».
والجواب عن السؤال العاشر:
وهو مجيء «غِيْضَ» على البناء للمفعول دون «غاض» المبني للفاعل فمن وجهين: لفظي ومعنوي.
فاللفظي مناسبته الفعل قبله وزنًا ولفظًا ليجريا على نسقٍ واحدٍا.
والمعنوي لنكتة لطيفة، وهي الإعلام بأن الماء مسخّر بأمر الله تعالى وتحت طاعته كسائر المخلوقات ليس لواحد منها تصريف بنفسه في الحقيقة.
فبُني للمفعول ليعلم أن له من يغيضه وهو الله سبحانه وتعالى فلو بُني للفاعل لم يكن ذلك منه حقيقةً ولا تصريحًا بل بالإيماء والتأويل. والتصريح بالحقيقة أولى سيما في هذا المقام.
والجواب عن السؤال الحادي عشر:
اختيار (غِيْضَ) على ما هو بمعناه مثل (نقص) فلموازنته (قيل) كما قدمناه ولمثل ذلك تأثير (في) الفصاحة فلأنه أخف لفظًا وأسهل حروفًا، والغين وإن كانت من حروف الاستعلاء فإنها حرف رَخْوٌ ضعف بالكسر، والياء بسكونها في غاية الخفة، والضاد مع أنها من حروف الإطباق والاستعلاء فإنها رخوة فليس فيها الشدة والقلقلة التي في القاف، ومع كون (نقص) أثقل من (غيض) اجتمع فيه توالي الحركات التي صيَّرها إلى (فعل) (الذي) جوَّزت العرب تسكين عينه فهو أثقل الحركات والحروف. والحس يدرك خفة «غيض» بالنسبة إلى (نقص) مع أن الغيض للماء ونحوه مما يسيل ويجري أكثر استعمالًا عند العرب مما (لا يجري).
والجواب عن السؤال الثاني عشر:
وهو إفراد لفظ الماء فلم يرد مجموعًا فإنه لو قال: (وغيضت المياه) لتناول جميع المياه معلى وجه الأرض وليس الأمر كذلك، بل إنما غاض (ماء السماء) على ما قررنا أو (ماء الطوفان) على تقدير صاحب الكشاف كما قدَّمنا.
والجواب عن السؤال الثالث عشر:
وهو مجيء «قُضِيَ» على البناء للمفعول أيضًا ولم يقل: (انقضى الأمر) أو (قضى الله الأمر) أو نحو ذلك، فسمَّى الفاعل ليوافق فعل استوت بعده، فللاختصار كما سيجيئ بيانه ولمجيئ أفعاله قبله على وتيرة واحدة مبنية للمفعول.
ولصاحب المفتاح مسلك آخر في مجيء هذه الأفعال مبنية للمفعول، وهو سلوك سبيل الكناية: «إن تلك الأمور العظام لا تأتي إلا من ذي قدرة لا يكتنه، قهار لا يغالب فلا مجال لذهاب الوهم (إلى) أن يكون غيره جلت عظمته (قائل يا أرض ويا سماء) كما تقدَّم في كلامه.
والجواب عن السؤال الرابع عشر:
وهو مجيء الأمر محلى بالألف واللام دون أن يقول (أمر قوم نوح) أو (أمرهم): فللتطويل الذي لا يليق بالمقام، ولو يقول (أمرهم) لم يفِ بالمقصود فأتى بلفظ المعرف بالأداة الدالة على العهد الذكري الذي ذكر في هذه القصة وهو قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} [هود 11/ 40] أي الأمر المتقدم أي أمرهم فيهم أو بالطوفان ونحو ذلك مما يفسر به أمرنا، أو يراد العهد الذكري أمر هلاكهم أو لما هو أعمّ من ذلك كما تقدم في معنى الأمر وهذا غير السؤال الرابع عشر المستخرج من كلام صاحب المفتاح كمنا سيأتي وإن كان داخلًا في هذا، والله أعلم.
والجواب عن السؤال الخامس عشر:
وهو النكتة في قوله «استوت» دون ما في معناها وهو (استقرَّت) أو (رست) المخصوص بالسفن مع كونه أخصر، فنقول:
أما عدوله عن (استقرَّت) فلوجهين:
أحدهما: الخفة والاختصار. فالخفة في اللفظ ظاهر، وكذا الاختصار. فإن (استوت) خمسة أحرف، و(استقرت) سبعة.
والثاني: إن (استقرت) تدل على الاستقرار و«استوت» تدل على ذلك وزيادة، فإنه يدل على الاستقرار والسلامة والاعتدال، قال الله تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف 43/ 13 {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح 48/ 29].
أتى بـ (استوى) الدالة على أن السفينة استقرت بالسلامة على جبل الجودي فلم يصبها ما يصيب السفن المشحونة إذا استقرّت على الأرض سيّما حجارة الجبل فكان هذا من آيات الله وجملة المعجزات الجارية على يديه عليه السلام، وهذه نكتة في غاية اللطف والحسن، والله أعلم.
وأما عدوله عن (رست) مع الاختصار وأنها مخصوصة بالسفن في لسان العرب لا يقولون إذا وقفت السفن غير ذلك.
يقولون: (رست السفينة) إذا ثبتت (ترسو رسوًا) إذا وقفت على المراسي.
والمراسي جمع (مرساة): وهي حديدة كبيرة ثقيلة ترسى بها السفن فتدلى بالجبال الثخان حتى تبلغ قعر البحر فتثبت. قال تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود 11/ 41] أي بسم الله جريها أو إجراؤها على وجه الماء وثبوتها أو إيقافها عليه. إذا علم ذلك فليعلم:
أنه لو قال: (ورست على الجودي) لم يكن موافقًا للمعنى المراد بالاستواء، لأن الاستواء على الجبل والرسو على الماء كما تقدم من قول أهل التفسير: تشامخت الجبال يومئذ وتطاولت من الغرق وتواضع هو لله فلم يغرق، واستوت عليه سفينة نوح شهرًا.
والجواب عن السؤال السادس عشر:
وهو لم لم يصرِّح بفاعل (استوت) ليكون أظهر؟
فيقول: لو صرّح بذلك لكان تطويلًا بلا فائدة فإن الضمائر تقدمت عائدة عليها جملة بعد جملة فقال تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ} [هود 11/ 37] الآية: {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا} [المؤمنون 23/ 27] أي في الفلك، وقال: {ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود 11/ 41] وهي تجري حتى قال {اسْتَوَتْ} [الآيات من 41-44 من هود] أي هي يعني الفلك، والمقام مقام اختصار كما رأيت، وليس هنا ما يوجب أو يحسن إقامة الظاهر مقام المضمر من لبس وغيره.
والجواب عن السؤال السابع عشر:
وهو أنه لم يقل (بجبل الجودي) ليعلم أنه جبل.
فنقول: لما كان –الجودي- علمًا لهذا الجبل المعروف، وكانت الألف واللام ليست للتعريف، بل زائدة تقع في العلم لغلبتها على من هي له كالبيت –للكعبة- والمدينة- لطيبة- والنجم- للثريا- والجودي- (لجبل) الجزيرة. لم يحتج إلى ذكر الجبل لأن هذه الأسماء في نفسها أعلام، فلو قيل على جبل الجودي لكان من إضافة الشيء إلى نفسه وهو تطويل بلا فائدة والمقام كما علمت مقام اختصار وإيجاز، فعلم أنه جبل من حيث العلمية، ولذلك يقول تعالى وتقدس: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ} [مريم 19/ 52] {وَوَاعَدْنَا (كُمْ) جَانِبَ الطُّورِ} [طه 20/ 80] يعني بذلك جبل الطور المعروف، وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه الصلاة والسلام، ولم يقل في شيءٍ من ذلك جبل الطور إيجازًا واختصارًا للعلم به، والله أعلم.
والجواب عن السؤال الثامن عشر:
وهو هل علم السر في استقرار السفينة على جبل الجودي دون غيره؟
إنه ورد في التفسير وصح عن الإمام الكبير (التابعي الجليل الحجة في علم التفسير صاحب) الحبر البحر عبد الله بن عباس ترجمان القرآن رضي الله عنهما أنه قال: (تشامخت الجبال وتطاولت يوم الطوفان من الغرق وتواضع جبل الجودي لله تعالى فلم يغرق، فاستوت عليه السفينة). ولله تعالى في مخلوقاته أسرار لا يعلمها إلا هو «ومن تواضع لله ورفعه الله».
وورد في تفسير قوله تعالى: {وَالتِّينِ} [التين 95/ 1] أنه مسجد نوح عليه السلام الذي على الجودي. رواه العوفي عن ابن عباس.
وقيل: كان الجودي جبلًا منخفضًا فكان استواء السفينة عليه دليلًا على انقطاع مادة الماء والله أعلم.
والجواب عن السؤال التاسع عشر:
وهو لم بني «قيل» في قوله تعالى: {وَقِيلَ بُعْدًا} للمفعول؟ ولو بني للفاعل لكان أوضح، إذ قد اختلف أهل التفسير في قائل ذلك.
فنقول: نعم، اختلف المفسرون فيمن قال: {بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} كما قدمنا عند الكلام في التفصيل وجنح الإمام فخر الدين إلى أن القائل هو نوح عليه السلام وأصحابه، قال: «لأن الغالب فيمن يسلم من الأمر الهائل بسبب اجتماع قومٍ من الظلمة، فإذا هلكوا ونجا منهم قال مثل هذا الكلام (و) لأنه جارٍ مجرى الدعاء عليهم فجعله من كلام البشر أليق» انتهى.
والذي يظهر عندي أن جعله من كلام الله أولى وأصح لما قدمناه من الدليل عند ذكره في التفصيل. والله تعالى أعلم. وبهذا يندفع السؤال لأنه يصير الكلام على نسق واحد منتظمًا في سلك.
فالقائل أولًا هو القائل آخرًا، وما قيل في «قيل» هناك يقال في الـ (قيل) هنا، وعلى تقدير أن يكون القائل نوح وقومه.
والجواب عن السؤال الذي هو تمام العشرين:
هل في قوله «بُعْدًا» نكتة عدل بها من أن يقول (طردًا) أو (هلاكًا) أو (سُحْقًا) أو نحو ذلك ليكون أصرح؟
قلت: نكتة وأي نكتة يذكرها في أنواع البديع من الوجه الثالث الآتي إن شاء الله تعالى.
والجواب عن السؤال الحادي والعشرين:
ما الفائدة من ذكر القوم فلم يقل: (بُعْدًا للظالمين) مع أنه أخصر والمقام مقام إيجاز كما تقرر. وفائدة الإيضاح ورفع اللبس والإعلام بأنهم قوم نوح الذي أرسل إليهم فكفروا به، فإنه لما تقدم أول القصة وبعده: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [هود 11/ 25] {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ} [المؤمنون 23/ 33] {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ} {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ} {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي} [هود 11/ 28-30].
{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ}.
{وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود 11/ 36-38].
كرَّر ذكر القوم في سبعة مواضع، ناسب أن يختم القصَّة عند ذكر ما آل إليه أمرهم بقوله: {بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي قوم نوح المقدم ذكرهم، فأتى بالألف واللام التي هي للعهد الذكري كما تقدم، فكان ذلك كقوله تعالى في آخر قصة عاد الآتية بعد هذه القصة: {أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود 11/ 60].
ولو لم يقل «للقوم» لحصل في الكلام لبس كما سيأتي بيانه في المعاني والبيان، والله أعلم.
والجواب عن السؤال الثاني (والعشرين):
وهي ما الحكمة في قوله تعالى: {لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} دون قوله (الناس) ونحوه مما يقوم مقامه؟
إنه لا يقوم مقام –القوم- في هذا الموضع غيره، وذلك لحكمة ظريفة وفائدة شريفة ينبغي التنبيه عليه، والإصغاء إليه. وهي:
أن القوم حيث ورد الإخبار عنهم مطلقًا كان المراد بهم المخالفين لنبيهم الخارجين عن طاعته والجهلة الطغام، ومردة العوام، من قوله: قام فلان على فلان أي خالفه وخرج عليه، ومنه المقاومة في المصارعة وغيرها، وتقاوموا في الحرب: أي: قام بعضهم على بعض قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء 26/ 105]، {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء 26/ 160] وقال تعالى: {فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ} [الحج 22/ 42 و43] وقال عز وجل: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [الأنعام 6/ 66] ومعلوم أن كل قومهم لم يكذبوهم وذلك بخلاف الناس فإنه حيث أطلق يراد به الفضلاء الأكياس دون من يتناوله اللفظ تجوزًا نظرًا إلى معنى الإنسانية.
ولهذا يقال: فلان ليس فيه إنسانية. قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} [البقرة 2/ 13] أي كما فعل من فيه معنى الإنسانية. وقال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء 4/ 54] أي من وجد فيه معنى الإنسانية، أي إنسان كان.
وانظر إلى مخاطبة الأنبياء قومهم بلفظ يا قوم يا قوم، والله تعالى يخاطب أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويأمره أن يخاطبهم عند الإطلاق بـ (يا أيها الناس) (قل يا أيها الناس) فتعين حينئذٍ أن يذكر هنا القوم دون الناس وغيره مما لا يقوم مقامه. وهذا من ألطف ما أُتِيَهُ العالم فهمًا في كلام الله تعالى.
والجواب عن السؤال الثالث والعشرين:
وهو ما النكتة في ذكر الظالمين ولم يقل الكافرين؟ ليطابق قول نوح عليه السلام في دعائه: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح 71/ 26] ولا قال: الفاسقين ليوافق قوله: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الذاريات 51/ 46].
إنه تقدم قوله تعالى في هذه القصة من هذه السورة: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود 11/ 37] فكان ذكر الظالمين هنا أنسب لذلك، والله تعالى أعلم.
وقال صاحب المفتاح: «إنه ختم الكلام بالتعريض تنبيهًا لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل ظلمًا لأنفسهم ختم إظهار (لمكان) السخط، ولجهة استحقاقهم إياه، وأن قيامة الطوفان وتلك الصورة الهائلة ما كانت إلا لظلمهم» انتهى.
ولا يخفى ما فيه، إذ لقائل أن يقول: بل ما كانت إلا لكفرهم وفسقهم بمقتضى الآيات الأخرى والكلام في نُكتَةِ ذكر الظالمين هنا دون غيرها. إذ يصح مجيء (كل) ها هنا فلا بد من مخصص والله تعالى أعلم.
وهذا آخر الأسئلة التي ظهرت في هذه الآية الكريمة مما لم أعلم أحدًا ذكره غيري وأجوبتها التي فتح الله تعالى عليّ بها من خزائن علمه ومكنون أسراره فإن كان صوابًا فمن الله تعالى، وإن كان خطأ فمني وكلام الله عز وجل منزه عنه والله المستعان.
وأما الأجوبة عن الأسئلة التي تخرج من كلام صاحب المفتاح وغيره:
فعن الأوَّل:
وهو لم اختير «يا» من حروف النداء دون غيرها من سائر أخواتها؟ فلوجهين:
أحدهما: كثرة استعمال «يا» في النداء دون أخوتها.
والثاني: دلالتها على بُعد المنادى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة، وإبداء شأن العزّة والجبروت وهو تبعيد المنادى المُشعر بالنهاية.
ومنه قوله تعالى حكاية عن فرعون: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء 17/ 101].
وعن الثاني:
وهو: لم لم يقل (يا أرض) بالكسرة على الإضافة، فإن ذلك يقتضي تشريف الأرض وتكريمها بإضافتها إلى نفسه المقدسة، فترك ذلك إيرادًا للتهاون الذي من أجله اختار لفظ «يا» على أخواتها مثل: (أي) و(الهمزة).
وعن الثالث.
وهو لم لم يقل (يا أيتها الأرض) مع كثرته في نداء أسماء الأجناس؟
فلقصد الاختصار وللاحتراز مما في إتيانها من تكلف التنبيه المشعر بالغفلة التي لا تناسب ذلك المقام.
وعن الرابع:
وهو: لم اختير لفظ الأرض دون سائر أسمائها؟
فلكونه أخف وأخصر (وأدور) في الاستعمال، من أن يقول (الغبراء) و(المُقِلّة) وغير ذلك.
وعن الخامس:
وهو لم اختير لفظ السماء دون غيرها من سائر أسمائها؟
فرعاية المطابقة لأن السماء اشتهرت بهذا الاسم مقابلة للأرض، ولأنها أخف وأكثر استعمالًا من (الخضراء) و(الزرقاء) و(المظلة) ونحو ذلك.
وعن السادس:
وهو لم اختير «ابلعي» دون «ابتلعي) فذلك لوجهين:
أحدهما: الاختصار
والثاني: لخط التجانس بين «ابلعي» و«أقلعي» لأنه بهذا أوفر، فإن همزة الوصل إن اعتبرت تساويًا في عدد الحروف وإلا تقاربًا فيه، بخلاف ابتلعي كما سيأتي فيما نذكره من أنواع البديع.
ثم إنه لا يشتبه على ذي خبرة بقواعد البلاغة أن ذكر التجنيس والمطابقة على شبيل التبعية لنكت علم البيان.
وعن السابع:
وهو: لم قال «ماءك» بالإفراد دون الجمع؟؟: لما كان في الجمع من صورة الاستكثار الذي يتأتى عند مقام إظهار الكبرياء، انتهى، وله جواب أوجه منه، وهو ما تقدم في الجواب الثاني عشر من أسلوبنا.
وعن (الثامن):
وهو لم أفرد الأرض والسماء؟: للجواب المتقدم في إفراد الماء. يعني أنه لما في الجمع من صورة الاستكثار كما تقدم.
وعن التاسع:
وهو لم لم يقل «ابلعي» بدون المفعول؟
أن لا يستلزم تركه ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهنَّ، نظرًا إلى مقام ورود الأمر الذي هو مقام عظمة وكبرياء.
وعن العاشر:
وهو لِمَ لَمْ يذكر مفعول «أقلعي»؟
إنه حيث بين المراد في ذكر مفعول (ابلعي)، من أنه بلع الماء وحده، عُلم أن المقصود بالإقلاع إمساك السماء عن إرسال (الماء) فلم يذكر متعلق «اقلعي» اختصارًا واحترازًا عن الحشو المستغنى عنه.
وعن الحادي عشر:
وهو لم لم يقل (فبلعت) و(أقلعت)؟
هو الجواب المتقدم أي الاختصار احترازًا عن الحشو في ترك حصول المأمور به بعد الأمر لأن مقام الكبرياء وكمال الانقياد يُغني عن ذكره.
وعن الثاني عشر:
هو لِمَ اختير «غِيْضَ» على «غُيَّضَ» المشدَّد؟
لأنه أخصر فإن الحرف المشدد بحرفين والمقام مقام إيجاز.
وعن الثالث عشر:
وهو لِمَ قال: «الماءُ» دون ماء طوفان السماء؟
لوجهين: أحدهما: قصد الاختصار.
والثاني: الاستغناء بحرف التعريف إما لأن الألف واللام بدل من المضاف إليه كما هو مذهب الكوفيين وإما لأنها تغني عن الإضافة من الإشارة إلى المعهود.
وعن الرابع عشر:
وهو لِمَ قال «الأمْرُ) دون أن يقول (أمر نوح)؟
فهو ما تقدَّم في الجواب قبله من قصد الاختصار والاستغناء بحرف التعريف على أنه تقدَّم في السؤال الرابع عشر من أسئلتنا ما فيه الكفاية، فإنّ هذا السؤال داخل في ذاك ومن جملته، والله أعلم.
وعن الخامس عشر:
وهو لِمَ لَمْ يقل (سُوِّيَتْ) على البناء للمفعول ليوافق سائر أفعال الآية؟
فلاعتبار كون الفعل المقابل للاستقرار أعني: الجريان، منسوب إلى السفينة على صيغة المبني للفاعل في قوله: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ} [هود 11/ 42] مع أن «استوت» أخضر من (سويت).
وعن السادس عشر:
وهم لِمَ قيل «بُعْدًا للقوم» دون (ليبعد القوم)؟
بل اختير المصدر طلبًا لتأكيد معنى الفعل بالمصدر مع الاختصار في العبارة وهو نزول «بُعْدًا» وحده منزلة (ليبعدوا بعدًا)، مع فائدة أخرى وهي: الدلالة على استحقاق الهلاك بذكر اللام، وإطلاق الظلم على مقيداته في مقام المبالغة يفيد تناول كل نوع، فيدخل فيه ظلمهم على أنفسهم لزيادة التنبيه على فظاعة سوء اختيارهم في التكذيب من حيث إن تكذيبهم للرسل ظلم على أنفسهم لأن ضرره يعود إليهم.
وعن السابع عشر:
وهو لِمَ قدّم النداء على الأمر فلم يقل (ابلغي يا أرض) و(أقلعي يا سماء)؟
فقدم النداء جريًا على مقتضى اللازم فيمن كان مأمورًا حقيقة من تقديم التنبيه ليتمكن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادى قصدًا بذلك المعنى الترشيح أي ترشيح الاستعارة المكنية –في الأرض والسماء، حيث شبهتا بالمأمور حيث سلك معهما الطريقة التي تسلك معه، وهذا بحسب ما قرّره على مذهبه.
وعن الثامن عشر:
وهو لم قدم أمر الأرض على أمر السماء؟
فهو أنه ابتدئ به مقدمًا لابتداء الطوفان منها ونزولها لذلك في القصة منزلة الأصل، والأصل بالقديم أولى.
وعن التاسع عشر:
ما فائدة اتباع ذلك بغيض الماء: وذلك لاتصاله بقصة الماء وأخذه بحُجزتها، ألا ترى أن أصل الكلام «قيل يا أرض ابلغي ماءك» فبلعت ماءها، «ويا سماء أقلعي» عن إرسال الماء «وغيض الماء» النازل من السماء فغاض. ووجه تقييده الماء بالنازل من السماء وإن كان في الآية مطلقًا، لأن ابتلاع الأرض ماءها فهم من قوله: «ابلعي ماءك» وهذا الذي قرره في غاية الجودة خلافًا لصاحب الكشاف كما قدمنا.
وعن العشرين:
وهو ما فائدة اتباع «غيض الماء» بـ «قُضِيَ الأمر»؟
وذلك أنه المقصود من القصة وهو قوله: «وَقُضِيَ الأمرُ» أي: الجزاء الموعود من إهلاك الكفرة وإنجاء نوح (ومن معه في السفينة).
وعن الحادي والعشرين:
وهو ما فائدة اتباع (قضي الأمر) بحديث السفينة؟
وهو أنه لما ذكر المقصود إنجاز الموعود وإغراق أهل الجحود أتبع ذلك بحديث السفينة لتأخره عنه في الوجود فقال: «استوت على الجودي».
وعن الثاني والعشرين:
وهو ما فائدة ختم القصة بما ختمت به؟
وهو الدعاء عليهم إشعارًا وإيذانًا بتمام المراد من الإخبار عن ملخص بشأن هذه القصة وأنهم أخذوا جزاءهم وفعل بهم ما يستحقونه، {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف 18/ 49] ). [كفاية الألمعي: 157-182]

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 3 محرم 1438هـ/4-10-2016م, 10:26 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي

قال محمد بن محمد بن الجَزَري (ت: 833هـ): (

الوجه الرابع
فيما ظهر لنا فيه من المعاني والبيان وأنواع البديع سوى ما ذكروه فيها مع الإشارة إلى ما ذكروه أيضًا.
وقد اجتمع في هذه الآية الكريمة من ضروب المعاني والبيان والبديع، (اثنان وثلاثون ضربًا) وهي: الإيجاز، والمجاز، والاستعارة، والكناية، والإرداف، والإشارة، والتمثيل، والتورية، والإبهام، والتقديم والتأخير، والفصل والوصل، والحذف والإضمار، وحسن التعليل، وصحّة التقسيم، والإرصاد، والتسهيم، وإيراد المثل، والتجنيس والطباق، والمقابلة والمناسبة، والإيضاح (والإبداع) والاحتراس والتهذيب، والتمكين وحسن النسق، و(الائتلاف) والمساواة والانسجام والوصف.
أما (الإيجاز): وهو العبارة عن الغرض بأقل ما يمكن من الحروف. وضدُّه (الإطناب)، وهما من الأمور النسبية ويحققهما الكلام الوسط الذي يقال له: المساواة، وهو: ما يؤدِّي المعنى المقصود بالمطابقة فما نقص منه إن لم يخل بالمقصود فهو (الإيجاز)، وإن أخلّ فهو (التقصير)، وما زاد عليه، إن قصد به المبالغة فهو (الإطناب) وإلا فهو (التطويل).
والتمييز بين ذلك يحتاج إلى تدقيق وذوق وتحقيق.
ولهذا كان حدّ البلاغة: «بُلُوغُ المتكلم بعبارته كنه مراده مع إيجاز بلا إخلال، وإطناب بلا إملال وارتقاء شأن الكلام بحسب المقام، فلكل مقام مقال.
ولله درّ القائل:
يرمون بالخطب الطوال وتارة *** وحي الملاحظ خيفة الرقباء
ومن تأمل القرآن العظيم، وأعطاه الله الفهم المستقيم، تحقق أن العليم الحكيم سيما متشابه الآيات والقصص التي كم تجرَّع منها الملحد كأس سقم فمات بالغصص، ثم الإيجاز على ضربين:
أحدهما: إيجاز قصر وهو تقليل اللفظ وتكثير المعنى لقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة 2/ 179]، فانظر كيف نكر الحياة ليدل بأن شرعية القصاص رادعة من الإقدام على القتل غالبًا لا دائمًا. كقوله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل 16/ 69] حيث لم يكن يعم الجميع، وأيضًا فإنه لو عرف لاقتضى أن تكون الحياة من أصلها القصاص، وليس كذلك. وانظر إلى قوله تعالى: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} [الفتح 48/ 21]، فإن المقصود فيها المبالغة في وصف الله تعالى نفسه بالقدرة عليهم مع حسن وضعه وقلّة ألفاظه.
الثاني: إيجاز حذف، وهو الاستغناء بالمذكور عما لم يذكر، سواء كان حرفًا أو كلمة أو جملة أو أكثر، كقوله تعالى: {فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ} [السجدة 32/ 23] {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف 12/ 82] {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} [الرعد 13/ 31].
وقد جمعت هذه الآية ألطف هذين الضربين، وأحسن هذين النوعين.
أما الضرب الأول فظاهر من فحاويها حتى كأن ألفاظها قوالب معانيها، وقد تقدمت الإشارة إليه في تفسيرها وبسطت العبارة في تقريرها.
وأما الضرب الثاني: فمن الحرفي ورود «غيض» مخففًا، كما ذكره السكاكي.
ومن الكلمي: «يا سماء أقلعي»، حيث لم يذكر المفعول، وكذا في قوله: «يا سماء» على حذف المضاف قالوا وقد جمعت هذه الآية من الإيجاز ما لا يجمعه غيرها. وقد ذكر القصة بالفظ القصير.
وأما المجاز ومقابلة الحقيقة فحدُّهما: في المفرد أن كل كلمة أريد بها ما وضعت له فهي حقيقة، كالأسد للحيوان المفترس واليد للجارحة، فإن أريد بها غيره لمناسبة بينهما فهي مجاز كالأسد للشجاع، واليد للنعمة (والقوة، فإن الشجاعة تعرف بالجرأة والإقدام، وإن النعمة تعطى باليد) والقوة تظهر بكمالها في اليد.
وحدّهما في الجملة: أن كل جملة كان الحكم الذي دلّت عليه كما في العقل فهي حقيقة كقولنا: (خَلَقَ الله الخلق)، وكل جملة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضوعه في العقل بضربٍ من التأويل الصحيح فهي مجاز.
ثم المجاز قد يكون بزيادة كقوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء 4/ 79] وقد يكون بنقصٍ كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف 12/ 82].
وقد تقدم ذكر ما في هذه الآية من المجاز في قول صاحب المفتاح، وعلى قول غيره المجاز فيها (ويا سماء) أن المراد: مطر السماء.
وأما الاستعارة: فهي ادعاء معنى الحقيقة في الشيء للمبالغة في التشبيه مع (طرح ذكر) المشبه من البين لفظًا وتقديرًا، وإن شئت: جعل الشيء للشيء للمبالغة».
فالأول: كقولك: (لقيت أسدًا)، وأنت تعني الرجل الشجاع، والثاني: كقول لبيد: إذ أصبحت بيد الشمال زمامها.
وقد وقع منها في هذه الآية ما تقدم ذكره في كلام صاحب المفتاح، وقد ذكر ابن أبي الأصبع وغيره أن الاستعارة فيها في «أقلعي».
وأما الكناية: قال صاحب حسن التوسل: إنه يقال لها الإرداف أيضًا وهو: أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة، ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود فيومئ به إليه ويجعله دليلًا عليه، كقولهم: فلان طويل النجاد، كثير الرماد، يعنون أنه طويل القامة، كثير القرى. فلم يذكروا المراد بلفظه الخاص بل توصلوا إليه بذكر معنى آخر هو ردفه في الوجود. ألا ترى أن القامة إذا طالت طال النجاد –وهو حمائل السيف- وإذا كثر القرى كثر رماد القدور».
ومنه قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف 43/ 9] الآيات إلى قوله: {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ}.
وإنما يكون جوابهم (الله) فقط فوضع الآيات موضعه والمعنى: لتنسبن خلقها إلى الذي وصف بهذه الأوصاف، وفيه دليل لقول من ذهب إلى أن اسم الله تعالى دالٌّ على الذات الجامعة للصِّفات الإلهية.
ومن الكناية أيضًا: ما ذكره صاحب (حسن التوسل) قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} [آل عمران 3/ 90]، كنّى (بنفي قبول التوبة) عن (الموت على الكفر) لأنه يردفه.
وقد تقدم من قول صاحب المفتاح في هذه من الكنايات.
- وأما الإرداف- وقد ذكر ابن أبي الأصبع: إنه زاد على الكناية وهو: أن يأتي المتكلم بلفظ قريب من المعنى المقصود يقرر ذلك المعنى به ومثله بقوله تعالى: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} قال: فإنه عبر عن استقرارها بهذا المكان استقرارًا متمكنًا بلفظ قريب بلفظ المعنى.
وقال شيخ شيوخنا الأستاذ أبو حيَّان: والإرداف في قوله: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} (استوت) كلام تام، و(على الجودي) مردف قصدًا للمبالغة في التمكن بهذا الإمكان.
- وأما الإشارة- وقد يقال لها الإيماء وهو: أن يشتمل اللفظ القليل على معانٍ كثيرة بإيمان إليها وذكر لمحة تدلّ عليها، كقوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم 53/ 10] وقوله: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه 20/ 78].
ومما عدوه من الإشارة في الآية قوله تعالى: {وَغِيضَ الْمَاءُ} فإنه عبر بهذين اللفظين عن معانٍ كثيرة ذكره أبو حيان وابن أبي الأصبع، وعد بعضُهم من الإشارة قول امرئ القيس: قِفَا نبْكِ من ذكرى حبيب ومنزل» فإنه في هذه الكلم (اليسيرة) وقف واستوقف، وبكى استبكى، وذكر الحبيب والمنزل في هذا المصراع، وما حكاه أنه سمع جارية أنشدت شعرًا، فقال: قاتلك الله ما أفصحك، قالت أو بعد قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص 28/ 7] الآية فصاحة؟
وقد جمع فيها بين أمرين ونهيين وخبرين وإشارتين ولا يخفى ما فيه على ما عرّفوا به الإشارة بل هو من بلاغة الإيجاز، بل من الإشارة.
قال الشاعر:
فظل لنا يومٌ لذيذٌ بنعمةٍ *** فقل في نعيم نحسه متغيب
وقوله في كتاب الشفاء في ذكر المعراج: «فكان بينه وبين ربِّه ما شئت من حديثه وقُربه».
- وأما التمثيل- فقال الشيخ في حسن التوسل: إنه إنما يكون من باب المجاز إذا جاء على حدّ الاستعارة مثاله قولك للمتحير: فلان يقدم رجلًا ويؤخِّر أخرى، فلو قلت إنه في تحيُّر (كمن) يقدم رجلًا ويؤخر أخرى لم يكن من باب المجاز. وكذلك قوله لمن أخذ في عمل لم يحصل منه مقصود: أراك تنفخ في غير ضرم، أو تخطّ على الماء.
قال: والفرق بين الاستعارة والتمثيل:
أن الاستعارة تجيء في المفرد والجمل والتمثيل لا يجيء إلا في الجمل خاصة.
وأما الأستاذ أبو حيان فإنه جعل التمثيل: هو أن يأتي بلفظة فيها بُعد عن لفظ المعنى الموضوع له (كقوله تعالى: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ}، فإنه عبَّر عن هلاك الهالكين ونجاة الناجين بلفظة فيها بُعد عن لفظ المعنى الموضوع له).
قلت: وهذا هو التلويح عند الجمهور من علماء المعاني والبيان.
- وأما التورية- وهو الإيهام عند المتقدمين، وأصحابنا المتأخرين فرّقوا بينهما وهو الصحيح.
فالتورية: أن يأتي بكلمة لها معنيان فتوطئ لها حتى تخدم في المعنيين معًا، وهو الغاية في البلاغة، وربّما وطئ لها حتى تخدم في أكثر من معنيين.
وأما (الإيهام): فأن يأتي بكلمة ذات معنيين؛ قريب وبعيد، فيريد البعيد، أو يصحّ في أحدهما دون الآخر، وبعضهم يسمِّي الأول تورية تامة، والآخر ناقصة.
وقد أولع المتأخرون من أدباء بلادنا وأهل عصرنا بالتورية نظمًا ونثرًا فأتوا من ذلك بالمطرب والمُرقص. وأفضل من أدركناه في ذلك وأبلغ من سلك فيه أكمل المسالك، أستاذنا إمام البلاغة ومن لم يُرَ مثله ولا رأى هو مثل نفسه: جمال الدين محمد بن محمد بن محمد بن نباتة المصري مولدًا الدمشقي محتدًا رحمه الله تعالى.
فمن التورية التامة: ما استخرجته من القرآن العظيم قوله تعالى: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد 47/ 6] يصح فيه المعنيان من المعرفة والعرف الذي هو الطيب، فيصحّ أن يراد: وصفها وبينها وشَوَّقَهُم إليها، ويصح أن يراد: طيبها وزينها.
ومنه قوله قديمًا من جملة قصيدة:
وكأنما الماء القراح متيم *** كتم الهوى في قلبه فتجلَّدا
وهذا من أبلغ ما وقع في هذا الباب وأحسنه، فإن التورية وقعت فيه في ثلاث كلمات متواليات:
في الهوى، وفي قلبه، وفي تجلُّده، ولا أعلم وقع مثله لغيري.
ومما وقع لي في تورية ذات ثلاثة أوجه على لغة طي من قصيدة قلتها في شيخنا العلامة خطيب الخطباء بهاء الدين أبي البقاء السبكي رحمه الله:
إمام يكاد الصخر يعنو لوعظه *** إذا ما علا عود المنابر أورقا
ووقع في تورية ذات أربعة أوجه قولي في خطبة صداق أنشأته لبعض بنات الكبار، ولي عقده القاضي ولي الدين قاضي قضاة الشام:
منيعة ستر بكر دُر يتيمة *** فلا غرو أن قاضي القضاة لها ولي
أشرت إلى لقبه وكونه وليها وولي العقد بنفسه، فهو فعل وفاعل ولها ولي: جار ومجرور.
ومن التورية التامة ذات الوجهين قولي في السلطان الكبير السيد رضاكيا الذي ألَّفت هذا الكتاب باسمه، وجعلته في خزانته العالية برسمه، خلد الله تعالى بالعدل سلطانه ونصره في الدين والدنيا وأعانه:
حبيبة قلبي إنني فيك مغرمٌ *** أسير هوى ما للعذول وما ليا
فإن تصلي أو تهجري فأنا امرؤٌ *** رضاي وحبي والهوى في رضاكيا
فالوجه الأول: اسم السيد المشار إليه ضاعف الله نعمه عليه.
والوجه الثاني: أخبر أنه لا يزل في رضا المحبوبة، و(الكاف): كاف الخطب لها، و(يا) حرف النداء للمحبوبة، وحذف المنادى الذي هو المحبوبة وذلك لغة فصيحة ورد بها القرآن في قوله: {أَلَّا يَسْجُدُوا} [النمل 27/ 25]، على قراءة أبي جعفر، والكسائي، ويعقوب في رواية رويس عنه، وقرأ بها أيضًا أبو عبد الرحمن السلمي والحسن البصري وحميد بن قيس الأعرج.
ومن ذلك قول الشماخ:
«ألا يا أصحباني قبل غارة سنجال»، يعني: يا صاحبي أصحباني.
وقال ذو الرمة:
ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى *** ولا زال منهلًّا (بجرعاتك) القطر
وسُمع بعض العرب يقول: ألا يا ارحمونا، ألا يا تصدقوا علينا.
فعلى الوجه الأول تكتب الكاف موصولة بياء.
وعلى الثاني تكتب مفصولة، وكذلك وصلت بالحمرة ليحتمل المعنيين، ولكن اللفظ بهما لا يختلف، والواو في (والهوى) يحتمل أن تكون (واو عطف) وهو الأنسب (لقائل) ويحتمل أن تكون (واو قسم)، وهو الأنسب (في المقول فيه)، ولا زالوا في تغزُّلهم يقسمون بالهوى، كقوله بعضهم:
وحق الهوى إني لفيك متيم *** وحبكم فرضٌ علي محتم
وقد وقع من التورية التامة قوله تعالى في هذه الآية: {وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، إذ يصح في (بعدًا) كلٌّ من المعنيين، الذي هو (الطرد وضد القرب)، والذي هو (الهلاك).
ويشهد للأول: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [البقرة 2/ 161].
ذهب إليه كثير من المفسرين كما تقدم.
ويشهد للثاني قوله تعالى: {أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود 11/ 95].
والدليل على جواز إرادة المعنيين وكونه من التورية التامة: أنه لم يرد (بعدًا) بالفتح، فإنه لو أراد الهلاك فقط لكان بالفتح.
وأما الإيهام- وتقدم تعريفه آنفًا- فمنه قوله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن 55/ 6]، فإن المراد بالنجم نجم الأرض وهو: ما لا ساق له من النبات والشجر: ما له ساق، فأراد البعيد دون القريب، إذ الفهم يسبق إلى نجم السماء.
ومنه قول المتنبي: «فعيون أهل اللاذقية (صور) يعني: متوجهات قصور. واللاذقية: مدينتان على ساحل الشام مشهورتان، فأراد المعنى البعيد دون القريب.
ومنه قولي قديمًا:
يزخرف خدَّيه ونمل عذاره *** جري قصص حارت (به) الشعرا وصفا
وقولي جديدًا مخاطبًا لوزير اسمه علي:
ما زلت في هم وغم وعنا *** إن كان ما بي بالوزير ينجلي
أقول زال الجور يا دهر اتئد *** إني استغثت صارخًا يا لعلي
أشار إلى ما هو مشهور في بلادنا على الألسنة، أن من وقع في أمر مهول، إذا نزلت به شدَّة فإنه يقول مستغيثًا: (يا لعلي)، وهذا هو المعنى القريب إلى الفهم المتبادر إليه، ولكن أراد اسم الوزير المذكور فحصل الإيهام على أنه يصح أن يكون أراد بهما فيكون تورية تامّة.
وكذا يصح في هذه الآية أيضًا على مقتضى قول صاحب الكشَّاف، ومن قال بقوله: إن المراد بالبُعد الهلاك فيكون من الإيهام على هذا، ويكون من التورية التامة على ما تقدّم.
وقد يصح في هذه الآية إيهام آخر على قول من جعل (ويا سماء) على حذف مضاف أي: (يا مطر السماء) أو يحتمل المعنيين ويكون البعيد منهما مرادًا، والله أعلم.
وأما التقديم والتأخير فقد تقدم الكلام فيه في السؤال الرابع، وفي هذه الآية منه تقديم الأرض على السماء، وأجبنا عن ذلك، ثم وما في الجمل والألفاظ في هذه الآية كله ظاهر المناسبة في التقديم والتأخير على أحسن نظام وأكمل تمام.
وأما الفصل والوصل: «وهو العلم بمواضع العطف والاستئناف والتهدي إلى كيفية إيقاع حروف العطف في مواقعها»، وقد تقدَّم الإشارة إليه في السؤال الأول وهو: ما الفائدة فيما عطف في هذه الآية بحرف وما لم يعطف؟ والله تعالى أعلم.
وأما الحذف والإضمار
فقد تقدمت الإشارة إلى ما في هذه الآية من ذلك في الإيجاز.
وأما حسن التعليل فهو: أن يدعى المتكلم (لوصف) علة مناسب له بأمر لطيف، إما بتصريح أو إيماء، كما أنشدنا بعض شيوخنا للأستاذ أبي حيان:
عداتي لهم فضل علي ومنةٌ *** فلا أذهب الرحمن عني الأعاديا
هم فحصوا عن زلتي فاجتنبتها *** وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
وأنشدنا بعض أصحابنا ممن قدم علينا من الأندلسيين لقاضي الجماعة بغرناطة من الأندلس أبي البركات (البلفيقي):
رعى الله إخوان الخيانة إنهم *** كفونا مؤونات البقاء على العهد
فلو قد وفوا كنا أسارى حقوقهم *** نراوح ما بين النسيئة والنقد
ووقع منه في هذه الآية الكريمة قوله تعالى:
{وَغِيضَ الْمَاءُ} فإن غيض الماء علة استواء السفينة على الجودي.
ومنه قول بعض المتأخرين:
لا تضع من عظيم قوم وإن كنـ *** ـت مشارًا إليه في التعظيم
فالعظيم الشريف يصغر قدرًا *** بالتجني على الشريف العظيم
ولع الخمر بالعقول رمى الخمـ *** ـر بتنجيسها وبالتحريم
ومنه قوله قديمًا:
فلو لم يكن ورد الرياض كخده *** لما احتمل الجاني على شوكةٍ قطفا
وأما صحة التقسيم وهو أول أبواب وضعها قدامة في كتابه. وهو عبارة عن استيفاء أقسام الشيء بالذكر فإنه تعالى وتقدس استوعب أحوال الماء، حالة نقصه إذ ليس إلا احتباس ماء المطر، واحتقان ماء الرض، وغيض الماء الحاصل على ظهرها. وهو كقوله تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى 42/ 49-50].
ومن التقسيم قول الشاعر:
ولا يقيم على خسف يراد به *** إلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوطٌ برُمَّته *** وذا يشج فلا يرثي له أحد
ومن حسن التقسيم قوله تعالى:
{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} [الرعد 13/ 12]. وليس في رؤية البرق إلا الخوف من الصواعق، والطمع في المطر. وقالوا: من لطيف ما وقع في هذه الجملة من البلاغة: تقديم الخوف على الطمع، إذ كانت الصواعق تقع مع أوّل برقة ولا يحصل المطر إلا بعد توالي البرقات. ولهذا كانت (العرب) تعدُّ سبعين برقة وتتجمَّع فلا تخطئ الغيث والكلأ.
وإلى ذلك أشار المتنبي بقوله:
وقد أرد المياه بغير هادٍ *** سوى (عدي) لها برق الغمام
وأما الإرصاد: ويسميه بعضهم التسهيم، والصواب أنه غيره.
فالإرصاد: أنه يجعل المتكلم قبل العجز من الفقرة أو من البيت ما يدلّ عليه إذا عرف من الروي. مثاله في الفقرة قوله تعالى:
{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} [يونس 10/ 19] الآية.
فإنه لو لم يعرف أن حرف الروي في هذه الآية (النون) لتوهم أن العجز منها (فيما فيه اختلفوا) أو (فيما اختلفوا فيه) وكذا في هذه الآية فإنه لما تقدم في الآية قبلها {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [المؤمنون 23/ 27]، فلو لم يعرف أن حرف الروي هو النون لتوهّم أن العجز منها وقيل بعدًا للذين ظلموا، وللقوم الذين ظلموا.
ومنه قول البحتري:
أحلَّت دمي من غير جُرْمٍ وحرمت *** بلا سبب يوم اللقاء سلامي
فليس الذي حللته بمحلٍ *** وليس الذي حرَّمته بحرام
فإن السامع لو لم يعرف أن القافية على نحو: كلام ونظام وعلام، لتوهَّم أن العجز على ما تقدم في الصدر فيكون: وليس الذي حرمته (بمُحرّم).
وأما التسهيم فهو أن يتقدَّم في الكلام ما يدلّ على ما يتأخر بالمعنى أو باللفظ، فتارة يدل على عجز البيت والفقرة، وتارةً يدل على ما قبل ذلك، مأخوذ من (البُر المسهّم) وهو المخطط الذي لا يتفاوت ولا يختلف. فقد عَدَّ الإمام أبو حيان التسهيم في هذه الآية. قال: لأن أول الآية {يَا أَرْضُ ابْلَعِي} فاقتضى آخرها {وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي}.
ولذا ذكر ابن أبي الأصبع التسهيم فيها وقال: لأن أول الآية إلى قوله «أقلعي» يقتضي آخرها.
قال الشيخ شهاب الدين محمود: ومنهم من يجعل التسهيم والتوشيح شيئًا واحدًا، ويشرك بينهما بالتسوية.
قال: والفرق بينهما:
أن التوشيح لا يَدُلُّلَ أوله إلا على القافية.
والتسهيم تارةً يدل على عجز البيت وتارةً يدل على ما دون العجز.
قلتُ: فمن التوشيح قول زهير بن أبي سلمى:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش *** ثمانين حولًا لا أبا لك يسأم
وأما إيراد المثل وهو أن يورد المتكلِّم مثلًا في كلامه، كقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يلدغ المؤمن من جحرٍ مرتين» وكقوله تعالى في الآية:
«وقضي الأمر» وهو مثل مشهور لكل شيء تم وفات تداركه.
وقوله تعالى: «وقضي الأمر»، {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [فاطر 35/ 4].
ومنه قول الشاعر:
إذا نزل المقدور لا تشك واصطبر *** فما تنفع الشكوى وقد قضي الأمر
وقول المتنبي:
بذا قضت الأيام ما بين أهلها *** مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد
وقول زهير:
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه *** يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
ومن يجعل المعروف من دون عرضه *** يعز ومن لا يتق الشتم يشتم
وأما التجنيس وهو تشابه الكلمتين لفظًا وينقسم أقسامًا كثيرة، ويتشعب شعبًا كثيرة: تامٌ.
و(ناقص) ويسمَّى: المختلف.
و(زائد) ويسمَّى: المذيل.
و(مضارع): ويسمى: المطرّف، (والمطمّع)، و(لاحق) و(مركب) و(مزدوج): ويسمَّى (المردّد).
و(خطي): ويقال له المصحف.
و(اشتقاقي): ويسمى الاقتضاب.
و(مشوش)، و(قلبي): ويسمى المخالف، و(معنوي).
وفي هذه الآية من ذلك التجنيس اللاحق وهو: أن يجمع بين كلمتين متجانستين لا تفاوت (بينهما إلا بحرف سواء كان أولًا أو وسطًا أو آخرًا، كقوله) تعالى: {هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة 104/ 1]، وقوله في هذه الآية: «يا أرض ابلعي» «ويا سماء أقلعي»، وكقول علي رضي الله عنه: «الدنيا دار ممر، والأخرى دار مقر».
وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات 100/ 8و 8]. ومن الآخر قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ} [النساء 4/ 83]، وقولهم: (التواضع شرك الشرف) قول الشاعر:
نظرت الكثيب الأيمن الفرد نظرة *** فردت إلى الطرف يدمي ويدمع
قال الشيخ شهاب الدين محمود: «وإنما يحسن التجنيس إذا قل، وأتى في الكلام عفوًا من غير كدٍّ ولا استكرارة ولا بُعدٍ ولا ميل إلى جانب الركّة، ولا يكون كقول الأعشى:
وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني *** شاوٍ مشلٌّ شليلٌ شلشلٌ شول
قلتُ: وعجب من قول الزمخشري: «ولما ذكرنا من المعاني والنكت استفصح علماء البيان هذه الآية ورقصوا لها رؤوسهم لا لتجانس الكلمتين وهما (ابلعي وأقلعي) –وذلك وإن كان لا يخلى الكلام من حسن فهو كغير الملتفت إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللب وما عداها قشور» انتهى.
وأما الطباق ويسمى المطابقة، والتكافؤ، والتضاد، وهو: أن يجمع المتكلم بين ضدين مختلفين، كالإيراد والإصدار والليل والنهار، والسواد والبياض، والسماء والأرض مع مراعاة التقابل، فلا يجيء باسم مع فعل ولا بفعل مع اسم ومنه قوله تعالى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد 13/ 10] وقوله تعالى في هذه الآية: {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} حيث طابق بذكر الأرض والسماء.
ومنه قول جرير:
وباسط خيرٍ فيكُمُ بيمينه *** وقابض شر عنكم بشماليا
(وقولي قديمًا مع ما فيه من حسن التورية والإبهام:
قد جمع الأضداد فيه أنه *** بر اليمين وكفه بحر الندا)
قال ابن أبي الأصبع: «الطباق على ضربين: ضرب يأتي بألفاظ الحقيقة، وضرب يأتي بألفاظ المجاز، فما كان بلفظ الحقيقة سُمِّيَ (طباقًا)، وما كان بلفظ المجاز سمي (تكافؤا).
وأما المقابلة فهي أعم من الطباق، وقيل إنها أخص، وذلك أن تضع معاني تريد الموافقة بينها وبين غيرها والمخالفة فيأتي في الموافق بما وافق وفي المخالف بما خالف، أو يشترط شروطًا ويعدُّ أحوالًا في أحد المعنيين فيجب أن تأتي في الثاني بمثل ما شرطت وعددت، كقوله تعالى:
{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل 92/ 5-10].
وكقوله في هذه «يا أرض ابلعي» «ويا سماء أقلعي».
ومنه قول الشاعر:
فيا عجبًا كيف اتفقنا فناصحٌ *** وفي ومطويٌّ على الغِلِّ غادر
وأما المناسبة فهي على ضربين: مناسبة في المعاني ومناسبة في الألفاظ.
فالمعنوية: «ان يبتدئ المتكلم بمعنى ثم يتمم كلامه بما يناسبه معنى دون لفظ» وهو كثير في القرآن العظيم منه قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ} [السجدة 32/ 26 و27].
فليُنظر إلى قوله تعالى وتقدَّس في صدر الآية التي فيها الموعظة سمعية {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} وقال بعد ذكر الموعظة {أَفَلَا يَسْمَعُونَ}.
وقال في صدر الآية التي موعظتها مرئية: {أَوَلَمْ يَرَوْا} وقال بعد ذكر الموعظة: {أَفَلَا يُبْصِرُونَ}.
ومن هذه المناسبة المعنوية قول ابن رشيق:
أصح وأقوى ما رويناه في الندى *** من الخبر المأثور منذ قديم
أحاديث ترويها السيول عن الحيا *** عن البحر عن جود الأمير تميم
فإنه وفي المناسبة حقها في صحة العنعنة برواية السيول عن الحياة عن البحر وجعل الغاية فيها –جود الممدوح-.
ومن أحسن ذلك وألطفه ما أنشدناه صاحبنا الأديب الفاضل أبو عبد الله محمد الشرقي الأندلسي.
إن جمامنا الذي نحن فيه *** أي ماء فيه وأية نار
قد وردنا فيه على ابن معينٍ *** وروينا عنه صحيح البخاري
والمناسبة اللفظية:
توخي الإتيان بكلمات متزنات.
وهي أيضًا على ضربين: تامة وغير تامة.
فالتامة: أن تكون الكلمات مع الاتزان مقفاة، كما في قوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} [القلم 68/ 1-3] وفي قوله صلى الله عليه وسلم فيما رقا به الحسن والحسين رضي الله عنهما: «أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة».
فقال صلى الله عليه وسلم «لامّة» ولم يقل «مُلمّة»: «يا أرض ابلعي» «يا سماء أقلعي» لم يقل أمسكي ونحوه للمناسبة اللفظية التامة، كما تقدم الإشارة إليه في السؤال السابع.
والمناسبة اللفظية الناقصة: كقوله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجالس يوم القيامة؟: أحاسنكم أخلاقًا الموطئون أكتافًا».
ومما جمع بين المناسبتين قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أسألك رحمة تهدي بها قلبي وتجمع بها أمري وتلم بها شعثي وتصلح بها غائبي وترفع بها شاهدي، وتزكي بها عملي وتلهمني بها رشدي وتعصمني بها من كل سوء اللهم إني أسألك الفوز في القضاء ونزل الشهداء وعيش السعداء والنصر على الأعداء».
فانظر كيف ناسب صلى الله عليه وسلم بين (قلبي) و(أمري) و(غائبي) و(شاهدي) مناسبة غير تامة لأنها في الزنة دون التقفية.
ثم ناسب بين (الشهداء) و(السعداء) و(الأعداء) مناسبة تامة في الزنة والتقفية.
وأما الإيضاح وهو أن يذكر المتكلم كلامًا في ظاهره لبس ثم يوضحه في بقية كلامه بما يزيل اللبس:
كقول الشاعر:
يذكرنيك الخير والشر كله *** وقيل الخنا والعلم والحلم والجهل
فإن هذا الشاعر لو اقتصر على هذا البيت لأشكل مراده والتبس على السامع من حيث إنه جمع بين ألفاظ المدح والهجاء فلمَّا قال بعده:
فألقاك عن مكروهها متنزهًا *** وألقاك في محبوبها ولك الفضل
أوضح المعنى المراد وأزال اللبس ورفع الشك.
ومنه في هذه الآية قوله: «للقوم»، أتى به ليبين أن القوم الذين سبق ذكرهم في الآية المتقدمة حيث قال: {كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود 11/ 38]، هم الذين وصفهم بالبعد ليُعلم أن لفظة (القوم) ليست فضلة، وأنه يحصل بسقوطها لبسٌ في الكلام، كما تقدم في السؤال الحادي والعشرين.
وأما الإبداع فهو أن يأتي في البيت الواحد من الشعر أو القرينة الواحدة من النثر عدة ضروب من البديع بحسب عدد كلماته أو جمله وربما كان في الكلمة الواحدة المفردة ضربان من البديع، ومتى لم تكن كل كلمة بهذه المثابة فليس بإبداع.
قال الزكي بن أبي الأصبع المصري في كتابه في البديع: وما رأيت فيما استقرأت من الكلام كآية استخرجت منها من البديع أحدًا وعشرين ضربًا من المحاسن وهي قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ ...} إلى آخرها وساق منها بعض ما ذكرناه، وزاد على ذلك:
الاحتراس: في قوله تعالى: {وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
قال: إذا الدعاء عليهم مشعرٌ بأنهم مستحقو الهلاك احتراسًا من ضعيف العقل يتوهَّم أن العذاب شمل من يستحق ومن لا يستحق، فتأكد بالدعاء كونهم مستحقين.
والتهذيب قال: لأن مفردات الألفاظ موصوفة بصفات الحسن، عليها رونق الفصاحة، سليمة من التعقيد، والتقديم والتأخير.
والتمكين: قال: لأن الفاصلة مستقرة في قرارها، مطمئنة في مكانها.
وحسن النسق قال: لأنه سبحانه عطف القضايا بعضها على بعض بحسن ترتيب.
والائتلاف: أي ائتلاف اللفظ مع المعنى. قال: لأن كل لفظة منها لا يصلح موضعها غيرها.
والمساواة: لأن لفظ الآية مساوٍ لمعناها.
والانسجام: وهو تحدر الكلام بسهولة كما ينسجم الماء.
وقد ذكر الشيخ أبو حيَّان هذا في تفسيره، وزاد فقال والذمّ. في قوله: {بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
قُلت: كذا ذكر ولا أعلم الذم بمفرده ذكره أحد في أنواع البديع، والله أعلم.
قال: والوصف.
وهو: قص القصة ووصفها بأحسن وصف بحيث استعمل نعوت ألفاظها وصفات معانيها.
فما أعظم إعجازها من آية عدة ألفاظها تسع عشرة لفظة جمعت هذه الأنواع وحوت علومًا لم تقرع الأسماع، واشتملت على فنون العلوم، ولعلَّ ما غاب عنَّا فيها من المنطوق والمفهوم أضعاف ما ذكرنا، وأمثال أمثال ما بينَّا). [كفاية الألمعي: 183-214]

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 3 محرم 1438هـ/4-10-2016م, 10:37 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي

قال محمد بن محمد بن الجَزَري (ت: 833هـ): (

الخاتمة
فصل في بيان إعجاز القرآن العظيم
-وهو الخاتمة لهذا الكتاب-
أجمع المسلمون على اختلافهم في الملل والنحل على أن القرآن معجزٌ، وأن الإنس والجن لم يقدروا على أن يأتوا بكلام يشبهه أو يقاربه في قليلٍ منه ولا كثير.
والدليل على كونه معجزًا: أن العرب العرباء الذين بُعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم –وكانوا أفصحهم لسانًا وأكملهم بلاغة وبيانًا- تُحُدُّوا إلى معارضته فلم يأتوا بها، ولولا عجزهم عنها لكان محالًا أن يتركوها ويعرِّضوا أنفسهم لإزهاقها ويقتحموا موارد الموت بإقامة الحرب على ساقها.
ثم إن التحدي بالقرآن جاء على وجوه:
أحدها: {فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى} [القصص 28/ 49].
ثانيها: {لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء 17/ 88].
ثالثها: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود 11/ 13].
رابعها: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس 10/ 38].
خامسها: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة 2/ 23].
يعني إن حصل لكم ريبٌ وشكٌ في القرآن وصدق من جاء به، وأنه لم يكن من كلام الله تعالى بل هو مفتعل ومختلق له من تلقاء نفسه، فأتوا بأدنى جزء من مثله. وهذا كمن يتحدَّى صاحبه بتصنيفه فيقول: جيء بمثله، إيتني بنصفه، إيتني بربعه، إيتني بمسألة من مثله. فإن هذا هو النهاية في التحدِّي، وإزالة العذر.
ولا شك أن هذا في الحقيقة خطاب لأهل الأرض أجمعين، ومن المحال أن يأتي واحد منهم بكلام يفتعله ويختلقه ثم يطالب أهل الأرض بأجمعهم أن يعارضوه في أيسر جزءٍ منه يكون مقداره عشر كلمات من عدة ألوف ألوف، ثم يعجز الخلائق كلهم عن ذلك حتى أن الذين راموا معارضته كان ما عارضوا به من أقوى الأدلة على صدقه وأعظم البراهين على مدّعاه فإنهم أتوا بشيء يستحيي العقلاء من سماعه، ويقطعون بفظاعته وسماجته وقبح ركاكته وخسَّته. فكان كمن أظهر طيبًا لمن يشم أحد مثل طيب ريحه وتحدَّى جميع الخلق ملوكهم، وسوقتهم وعامتهم وخاصتهم، بأن أأتوا بذرة طيب مثله فاستحيى العقلاء وعرفوا عجزهم. وجاء الحَمْقَى والمجانين بعذرة خبيثة منتنة، وقالوا: قد جئنا بمثل ما جئت به! قهل يزيد هذا ما جاء به إلا قوة وبرهانًا وعظمة وجلالة؟
ثم إنه تعالى لم يكتف بهذا التقريع والتوبيخ والتعجيز حتى أكده بقوله: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [البقرة 2/ 23] {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس 10/ 38]. وخطابه لأهل الأرض جميعه، كما يقول المعجز لمن يدعي (مناوءته) أجهد بكل من تقدر عليه من أصحابك وأعوانك وأوليائك ولا تبق منهم أحدًا حتى تستعين به فهذا لا يقدم عليه إلا أجهل العالم وأسخفه عقلًا وأحمقه إن كان غير واثق بصحَّة ما يدعيه، أو أكملهم وأفضلهم وأصدقهم وأوثقهم بما يقوله. هذا والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآيات على أصناف الخلائق؛ أميهم وكاتبهم، وعربهم وعجمهم، ويقول: (لن تستطيعوا ذلك ولن تفعلوه أبدًا).
فيعدلون معه إلى الحرب والرضا بقتل الأحباب.
فلو قدروا على الإتيان بسورة واحدة من أقصر السور مثل (الكوثر) و(العصر) مثلًا لم يعدلوا عن ذلك إلى اختيار المحاربة وإيتام الأولاد وقتل النفوس والإقرار بالعجز عن معارضته، وتقدير النبوة بهذه الآيات له وجوه متعددة هذا أحدها.
وثانيها: إقدامُه صلى الله عليه وسلم على هذا الأمر وإسجاله على الخلائق إسجالًا عامًا إلى يوم القيامة، أنهم (لن) يفعلوا ذلك أبدًا فهذا أيضًا لا يقدم عليه ويخبر به إلا عن علم لا يتخالجه شك مستند إلى وحي من الله تعالى، وإلا فعلم البشر وقدرتهم يضعفان عن ذلك.
وثالثها: النظر إلى نفس ما تحدَّى به وما اشتمل عليه من الأمور التي يعجز قويُّ البشر عن الإتيان بمثله، الذي فصاحته ونظمه وبلاغته فرد من أفرا إعجازه.
وهذا الوجه يكون معجزة لمن سمعه وتأمَّله وفهمه (والوجهان الأولان يكونان) معجزة لكل من بلغه خبره ولو لم يفهمه ويتأمّله.
فتأمل هذا الموضع من إعجاز القرآن تعرف به قصور كثير من المتكلمين في شأن إعجاز القرآن، فقد اختلفوا في وجه إعجازه على ستة أقوال:
أحدها: قول النظام وأصحابه وهو أن الله تعالى ما أنزل القرآن ليكون حجة على النبوة بل هو كسائر الكتب المنزلة لبيان الأحكام من الحلال والحرام، والعرب إنما لم يعارضوه لأن الله تعالى صرفهم عن ذلك وسلب قدرتهم، وهذا باطل من ثلاثة وجوه:
أحدها: أن عجز العرب لو كان للصرف عنها بعد أن كانوا قادرين عليها لما كانوا يستعظمون فصاحة القرآن، بل ينبغي أن يكون تعجُّبهم من تعذر ذلك عليهم بعد أن كان مقدورًا لهم، كما أن نبينا صلى الله عليه وسلم لو قال: معجزتي أن أضع يدي على رأسي هذه الساعة ويكون ذلك متعذرًا عليكم ويكون الأمر كما قال لم يكن تعجب القوم من وضعه يده على رأسه بل من تعذُّر ذلك عليهم.
ولما عُلِمَ بالضرورة أن تعجب العرب كان من فصاحة القرآن نفسها بطل ما قاله النظام ومن قال بقوله.
الثاني:لو كان كلامهم مقارنًا في الفصاحة قبل التحدِّي لفصاحة القرآن لوجب أن يعارضوه بذلك وكان الفرق من كلامهم بعد التحدي، ولما لم يكن ذلك بطل ذلك.
الثالث: إن نسيان الصيغة المعلومة في مدة يسيرة تدل على زوال العقل، ومعلوم أن العرب ما زال عقولهم بعد التحدي فبطل قول النظامية ومن وافقهم.
والقول الثاني: أن إعجاز القرآن في أن أسلوبه مخالف لأسلوب الشعر والخطب والرَّسائل سيّما مطالع السور ومقاطع الآي مثل: يعملون وتؤمنون وهذا أيضًا باطل من خمسة أوجه، ذكرها أيضًا الإمام فخر الدين.
أحدها: لو كان الابتداء بالأسلوب معجزًا لكان الابتداء بأسلوب الشعر معجزًا.
الثاني: إن الابتداء بالأسلوب لا يمنع الغير من الإتيان بمثله.
الثالث: يلزم أن الذي تعاطاه (مسيلمة) في: (إنا أعطيناك الجماهر فصلِّ لربك وهاجر)، وكذلك (والطاحنات طحنًا) في أعلى مراتب الفصاحة.
الرابع: إنا لما فضلنا بين قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة 2/ 179] وبين قولهم: (القتل أنفى للقتل) لم تكن المفاضلة بسبب الوزن والإعجاز، إنما يتعلق بما به ظهرت الفضيلة.
الخامس: إن وصف العرب القرآن بقولهم: (إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة) لا يليق بالأسلوب.
والقول الثالث: أن الإعجاز في أنه ليس فيه اختلاف تباين وتناقض. وهذا أيضًا باطل لأن التحدي كما وقع بالقرآن كله فقد وقع بالسورة، وقد يوجد في خطبهم ما مقداره مقدار سورة الكوثر ولا يكون فيه اختلاف وتناقض.
والقول الرابع: أن وجه إعجازه هو اشتماله على الغيوب. وهذا أيضًا باطل لأن الغيوب التي أخبر عنها القرآن لم تقع كلها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بل جاء به على ممر الزمان على طرق كشفت لنا سورًا من القرآن اشتملت على تلك الغيوب، فلو كانوا مطلوبين بأن يأتوا بسورة من مثله مخبرة عن غيب سيكون، لنازعوا في كون ذلك، ولم يسلموا صدقه.
وجواب ثانٍ: وهو أنه قيل لهم: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ} وليس كل سورة للقرآن فيها الإخبار عن الغيوب. إنما ذلك في بعض السور دون بعض.
القول الخامس: وهو الذي عليه الجمهور أن إعجازه في فصاحته وبلاغته وما خص به من النظم العجيب والأسلوب الغريب والوصف البديع ومباينته لكلام الجميع لا يشبه شيئًا من كلام البشر، ولا تماثله بلاغة من تقدَّم أو تأخر.
القول السادس: اختيار العلامة السكاكي وتبعه كثير من المتأخرين المحققين، فقال في آخر التكملة:
إن وجه إعجازه هو أمر من جنس البلاغة والفصاحة كما تجده أرباب الذوق.
وقال في المفتاح: «اعلم أن شأن الإعجاز عجيب، يدرك ولا يمكن وصفه كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها أو كالملاحة.
ومدرك الإعجاز عندي هو الذوق ليس غلا وطريق اكتساب الذوق طول خدمة هذين العلمين.
نعم، للبلاغة وجوه متلثمة، وبما تيسَّرت إماطة اللثام عنها يتجلى عليك، أما نفس الإعجاز فلا».
قلت: صدق رحمه الله وبرّ، وأدرك الحق واستقرَّ، فإن من محاسن الكلام ما لا يحكم في امتزاجه غير الذوق الصحيح، كما قال الشاعر:
شيء به فتن الورى غير الذي *** يدعى الجمال ولست أدري ما هو
والقول السابع: مما ظهر لي ولعله أحسنه الوجوه وأقربها وأولاها بالإعجاز وأنسبها. وهو أنه مع ما اشتمل عليه من البلاغة والفصاحة والذوق والملاحة إلى غير ذلك، أن كل حرف من حروفه وكل كلمة من كلماته لا يصح أن يكون (في) مكانها وموضعها الذي وقعت فيه غيرها، وهذا شيء لا يدركه إلا من وهبه الله ذهنًا ثاقبًا وقدمًا في الإدراك راسخًا، وممارسة لعلوم البلاغة، وتحقيقًا لأسرار كلام العرب، وتدقيقًا من ضروب فنون الأدب، ولا يوصل إلى ذلك إلا بإنعام النظر في المعاني والبيان، ولا يقف على كنهه من تطبع القول بالتفنن فإنه عصا العميان، وهذا مما أهمله أهل التفسير، لأن الوقوف على غايته عسير.
ولعمري أن الاعتناء به لجدير، فإن به ينحلُّ ما أشكل من متشابه القرآن، ويقوم به على وجه إعجازه البرهان، ويندفع به شبه أهل الإلحاد والطغيان، حيث زعموا: أن القصة الواحدة تقع في مواضع متعددة بألفاظ مختلفة ليس إلى الجمع بينها إمكان.
قالوا: وهذا عين الاختلاف المنفي بلو كان كمثل قوله تعالى في البقرة: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} [البقرة 2/ 49]، بغير واو. وفي الأعراف: {يَقْتُلُونَ} [الأعراف 7/ 141] كذلك، وفي إبراهيم: {وَيُذَبِّحُونَ} [إبراهيم 14/ 6] بالواو. وكقوله في البقرة والأعراف: {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الأعراف 7/ 160، والبقرة 2/ 57] وفي آل عمران: {وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران 3/ 117] وفي البقرة: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا} [البقرة 2/ 58] بالفاء، وفي الأعراف بالواو، وفيها: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا} [الأعراف 7/ 161]، وزاد في البقرة: {رَغَدًا} [البقرة 2/ 58].
وقدم في البقرة: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا}، وآخره في الأعراف.
وفي البقرة: {وَسَنَزِيدُ} بالواو وفي الأعراف بغير واو.
وفي البقرة: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا} [البقرة 2/ 59] وفي الأعراف: {ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا}، وفي البقرة: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}
وفي الأعراف: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ} {بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ}، وفي البقرة: {فَانْفَجَرَتْ} وفي الأعراف: {فَانْبَجَسَتْ}، والقصة في السورتين واحدة.
وكقوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الأنعام 6/ 32] قدم اللعب على اللهو –في موضعي الأنعام- وكذا في القتال والحديد. وقدم اللهو في الأعراف والعنكبوت.
وكقوله في الأعراف في قصَّة ثمود: {وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ} وفي غيرها: {مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا}، والقصة واحدة.
وقال في قصة ثمود وشعيب في الأعراف:
{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف 7/ 78، 91].
(وفي القصتين من هود {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ..} [هود 11/ 67]) وقال في الأعراف في قصة لوط: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف 7/ 81] اسمًا.
وفي النمل: {قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ..} [النمل 27/ 55] فعلًا.
وفي الأعراف: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} [الأعراف 7/ 82] بالواو، وفي غيرها «فما» بالفاء وفي الأعراف: {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} [الأعراف 7/ 82].
وفي النمل: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ} [النمل 27/ 56] والقصة واحدة.
وقال في الأنعام: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا} [النمل 27/ 69].
وقال في هود: -في قصة شعيب- {إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [هود 11/ 93] بغير فاء.
وفي غيرها: {إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام 6/ 135، والزمر 39/ 39] بالفاء.
وقال في قصة موسى وفرعون في الأعراف ويونس وطه والشعراء، بألفاظ مختلفة من زيادة ونقص وتقديم وتأخير والقصة واحدة.
وكذا ما وقع في قصة آدم من اختلاف الألفاظ إلى غير ذلك مما يعسر حصره ولا يسمع هذا المكان ذكره.
استوعبنا ذلك في كتابنا (بيان متشابه القرآن بما ترك الملحد في ضلاله حيران). إذ بيان ذلك من أعظم أسرار التنزيل، الذي هو بمعنى الإعجاز كفيل وأوضح سبيل:
وليس يصح في الأذهان شيء *** إذا احتج النهار إلى دليل
فأما قوله تعالى في البقرة: {يُذَبِّحُونَ (أَبْنَاءَكُمْ)} بغير (واو) وكذا في الأعراف: {يَقْتُلُونَ} ومجيئه {وَيُذَبِّحُونَ} –بالواو- في (إبراهيم) فلأن حرفي (البقرة) و(الأعراف) من قول الله تعالى لم يقصد به تعديد النعم بل التذكير بجنس النعمة، وهذا حاصل بدون الواو.
وأما في (إبراهيم) فإنه من قول موسى لهم حيث أمره الله تعالى في الآية قبلها بذلك، فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم 14/ 5]. ومن المعلوم أن التذكير بأيام الله لا يحصل إلا بتعديد نعمه. وإذا قصد تعديد النعم وجب ذكر العطف، فبكون المراد من سوء العذاب نوعًا من العذاب، والمراد من «ويذبحون» نوعًا آخر، فيحصل من ذلك نوعان من النعمة.
وأما «يقتلون» في الأعراف فإنه لما تقدم قوله قبله {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف 7/ 138] ناسب أن يذكر القتل الذي هو أعم من الذبح لأنه يشمل كل نوع من أسباب الموت التي منها ما هو أشد من الذبح وأقطع.
وأما قوله تعالى في البقرة والأعراف {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة 2/ 57- والأعراف 7/ 160] فإنه إخبار عن قوم ماتوا وذهبوا بخلاف ما في العمران فإنه مثل لقوم موجودين.
وأما قوله تعالى في البقرة: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} [البقرة 2/ 58].
وفي الأعراف: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} [الأعراف 7/ 161] فلأن الدخول لا يدل على إقامة، إذ هو سريع الذهاب، فيعقبه الأكل، فناسب مجيء (الفاء) بخلاف (اسكنوا) الذي في الأعراف إذ معناه (أقيموا)، وذلك يدل على الامتداد، فناسب مجيء الواو، أي اجمعوا بين الإقامة والأكل، وزاد في البقرة (وغدا) لأنه تعالى أسنده إلى ذاته المقدسة بلفظ التعظيم بخلاف الأعراف فإنه (وإذ قيل).
وأما تقديم «وادخلوا» في البقرة وتأخيرها في الأعراف فإنه لما قدم (الدخول) في البقرة فقال: «وإذ قلنا ادخلوا» ناسبت تقديم الدخول فيها.
وأما مجيء (وسنزيد) بالواو في البقرة دون الأعراف فلأن الاتصال في البقرة أنسب لاتفاق اللفظين وهو (قلنا) و(سنزيد) بخلاف الأعراف فإنه (وإذ قيل) فالمناسب فيه (سنزيد) فحذفت الواو ليكون مناسبًا إذ لا يحسن الوصل، فوجب الفصل.
وأما قوله في البقرة: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا} [البقرة 2/ 59] وزيادة (منهم في الأعراف فلأنه لما تقدم فيها {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى} [الأعراف 7/ 159] وقوله {مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} [الأعراف 7/ 168]، ناسب مجيء (منهم) ليكون موافقًا لذلك بخلاف البقرة.
وأما قوله في البقرة: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [البقرة 2/ 59] وفي الأعراف {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ} [الأعراف 7/ 162] فلأن لفظ الرسالة والرسول كثر في الأعراف فيجرى على الوفاق، وقال (عليهم) ليوافق (منهم)، ولقوله آخر الفاصلة {بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ} بخلاف البقرة فإنه ختم {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}.
وأما قوله في البقرة: {فَانْفَجَرَتْ} [البقرة 2/ 60] وفي الأعراف {فَانْبَجَسَتْ} [الأعراف 7/ 160] فلأن الانفجار يدل على ظهور الماء كثيرًا والانبجاس على مجرد ظهور الماء. فلما جاء في البقرة {كُلُوا وَاشْرَبُوا} ناسب ما يدل على كثرة الماء بخلاف الأعراف فإنه لم يذكر ذلك فلم يحتج إلى ما يدل على كثرة الماء.
وأما تقديم اللهو على اللعب في موضعي الأعراف والعنكبوت دون غيرهما مما هو أكبر، فلأن اللعب زمانه الصبا، واللهو زمانه الشباب وزمان الصبا مقدم على زمان الشباب بدليل ما ذكر في الحديد وهو: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ} [الحديد 57/ 20] أي لعب كلعب الصبيان ولهو كلهو الشباب، وزينة كزينة النسوان، وتفاخر كتفاخر الإخوان وتكاثر كتكاثر السلطان.
وانظر إلى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} [الأنبياء 21/ 16 و17]، كيف قدم اللعب على اللهو.
فأما تقديم (اللهو) في الأعراف فإن ذلك إخبار عما يقال لأهل يوم القيامة، فذكر على ترتيب ما انقضى وبدأ بما به الإنسان انتهى في كلا الحالين.
وأما حرف العنكبوت، فالمراد بها زمان الدنيا وأنه سريع الزوال، قليل الثبات، وأن الدار الآخرة لهي الحيوان، أي هي الحياة التي لا انقضاء لأمدها ولا نهاية لأبدها. فقدم اللهو لأنه في زمان الشباب الذي هو أكثر من زمان اللعب وهو زمان الصبا.
وأما قوله تعالى في الأعراف في قصة ثمود {وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} [الأعراف 7/ 74] وفي غيرها {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} [الشعراء 26/ 149] بزيادة (من)، فلأن الذي في الأعراف تقدمه قوله: {مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا} [الأعراف 7/ 74] فاكتفى بذلك بخلاف غيرها فإنه لم يتقدم ذلك.
وأما قوله تعالى في قصة صالح وشعيب: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ} [الأعراف 7/ 78]، وكذا قال في قصة شعيب من العنكبوت، وقال في القصتين من هود: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ} [هود 11/ 67] في قصة صالح. وأما في قصة شعيب فقال: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ} [هود 11/ 94] فجمع الديار مع الصيحة وأفردها مع الرجفة، لأن الرجفة هي الزلزلة، فناسب توحيد (الدار) معها بخلاف الصيحة فإنها كانت من السماء؛ فبلوغها أكثر وأعظم من الزلزلة، فناسب كل منهما الآخر.
وسُئِلَ شيخنا إمام التفسير العلامة عماد الدين ابن كثير رحمه الله عن قوله تعالى في قصة شعيب في الأعراف: «فأخذتهم الرجفة»، وفي هود «فأخذتهم الصيحة»، وفي الشعراء «عذاب يوم الظلة» مع أنهم أمّة واحدة وقصة واحدة؟ فقال:
اجتمعت عليهم يوم عذابهم هذه النقم كلُّها.
وإنما ذكر في كل سياق ما يناسبه ففي الأعراف لما قالوا: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا} [الأعراف 7/ 88] ناسب أن يذكر هناك الرجفة، فرجفت بهم الأرض التي ظلموا بها وأرادوا إخراج نبيهم منها.
وفي هود لما أساءوا الأدب في مقالتهم على نبيهم ناسب ذكر الصيحة التي أسكتتهم وأخذتهم، وفي الشعراء لما قالوا: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} [الشعراء 26/ 187] قال: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ}.
فإن قيل: فما الحكمة في مجيء التام في قصة شعيب في قوله: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود 11/ 94] وحذفها من قصة صالح.
قلت: الصيحة في قصة صالح في معنى العذاب والخزي، فهي إذًا منتظمة بقوله تعالى: {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} [هود 11/ 66] فصارت الصيحة عبارة عن ذلك الخزي وعن العذاب المذكور في الآية فقوى التذكير، بخلاف قصة شعيب فإنه لم يذكر فيها ذلك، وهذا قول الإمام أبي القاسم السهيلي.
وقال الإمام شمس الدين ابن القيم: وعندي فيه جواب أحسن من هذا، وهو: أن الصيحة يراد بها المصدر يعني (الصياح) فيحسن فيها التذكير ويراد بها الواحد من المصدر، فيكون التأنيث أحسن وقد أخبر تعالى عن العذاب الذي أصاب قوم شعيب بثلاثة أمور كلها مؤنثة اللفظ:
أحدها: (الرجفة) كما في الأعراف.
والثاني: (الظُّلَة) كما في الشعراء.
والثالث: (الصيحة) كما في هود.
وكان ذكر الصيحة مع الرجفة أحسن من ذكر الصياح فكان ذكر التاء أحسن.
قلت: وعندي جواب ثالث وهو موافقة تأنيث ما بعده في قصة شعيب، وهو: {كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} ولم يكن ذلك في قصة صالح، فجاء على الأحسن للفضل والله أعلم.
وأما قوله في الأعراف قصة لوط:
{بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف 7/ 81] (اسمًا) وفي النمل {قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل 27/ 55] (فعلًا)، فهو لتناسب رؤوس الفواصل.
فإنه لما كان الواقع في رؤوس الآي في الأعراف كله أسماء: العالمين، الناصحين، جاثمين، المرسلين، كافرون، مؤمنون، أتى بالاسم.
ولما كان الواقع في النمل أفعالًا: تبصرون، (يتقون يعلمون) أتى فعلًا.
فإن قيل: لم عدل في النمل عن تسرفون إلى تجهلون؟ قلت: لما كان الإسراف تجاوز الحد في كل فعل، والتعدي إلى ما لا يحل ولا يجوز، ويقدم أول قصة الأعراف: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف 7/ 80] ناسب أن يعقبها بالإسراف الذي هو التعدي من موضع البذر والحرث إلى غيره بخلاف الجهل فإنه خلاف العلم وهو أيضًا فعل الشيء على خلاف ما حقُّه أن يفعل. فمعنى يجهلون هنا أي: يفعلون فعل الجهال، فأتى به بعد قوله تبصرون أي تعلمون أن ذلك فاحشة فلا تفعلونه إلا جهلًا بما يجب، فإن الطباع تأبى ذلك، ففعلكم ذلك جهل. فناسب كل ما قبله.
وأما قوله (فيها) في الأعراف {وَمَا كَانَ جَوَابَ} (بالواو)، وفي غيرها (بالفاء)، لأن ما قبله في الأعراف اسم كما ذكرنا بخلاف غيرها فإنه فعل، والفاء للتعقيد، والتعقيب يكون مع الأفعال. فقال في النمل: {تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ} [النمل 27/ 55 و56]، وفي العنكبوت: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ} [العنكبوت 29/ 29] ولهذا قال في الأعراف {مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ} [الأعراف 7/ 81 و82].
وقيل: لأن الواو أم حروف العطف وهي تدل على العطف المجرد وغيرها من الحروف يدل على العطف ومعنى آخر، فجاء في الأولى بالأصل وفي غير الأول بفروعه، والله أعلم.
وأما قوله في هذه القصة في الأعراف {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} [الأعراف 7/ 82]، وقال في النمل: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} [النمل 27/ 56] فقيل إن سورة النمل نزلت قبل الأعراف، فصرح في الأولى وكنّى في الثانية وفيه نظر، غذ الأعراف نزلت قبل النمل، وقيل: إن ما مرّ في الأعراف ضمير فسَّره ما في النمل، والذي يظهر لي أنه لما وقع لهم منه التصريح في الأعراف ما لم يصرح لهم به في النمل من المبالغة في نكايتهم عادوا عن التصريح إلى الكناية ليكون أيضًا منهم أبلغ في الكناية، والله أعلم.
وأما قوله تعالى في الأنعام {قُلْ سِيرُوا (فِي الْأَرْضِ) ثُمَّ انْظُرُوا} [الأنعام 6/ 11] وفي غيرها {فَانْظُرُوا} [آل عمران 3/ 137، والنحل 16/ 36]، فلأن (ثم) للمهلة والتراخي، وق تقدم في الأنعام ذكر القرون الخالية في قوله: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ} [الأنعام 6/ 6] ثم قال: {وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [الأنعام 6/ 6]، فأمروا بالسفر في الأقطار وتأمل الآثار، ولا شك أن في ذلك كثرة، فلا بد أن يقع ذلك يسير بعد سير وزمان بعد زمان، فأتى بثم الدالة على التراخي من الفعلين ليعلم أن السير على حده وأن النظر بعده مأمور به على حده.
فاختصت الأنعام بذلك، ولم يأتِ ذلك في غيرها من السور متقدمًا عليها، فلذلك اختصت بالفاء التي هي للتعقيب.
وأما قوله عز وجل في قصة شعيب من هود {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [هود 11/ 93] بغير (فاء)، وفي سائر القرآن بالفاء، وذلك أن الذي في قصة شعيب لم يتقدمه (قل) صار مستأنفًا فناسب فصله، بخلاف غيره، فإنه لما تقدمه (قل) الذي أمرهم به أمر وعيد وتهديد فقوله «اعملوا» أي: اعملوا فستجزون، والله أعلم.
فهذا بعض ما اتفق إيراده من أسرار إعجاز القرآن الذي يخفى على كثير ممن مارس الكتاب العزيز، وخفي عليه وجه التحدي والتعجيز.
«وقد» حكى الإمام عبد القاهر الجرجاني أن المتفلسف ركب إلى أبي العباس فقال له: إني أجد في كلام العرب حشوًا، فقال له أبو العباس: في أي موضع وجدت ذلك؟ فقال: وجدت العرب تقول: (هذا عبد الله قائم) ثم يقولون: (إن عبد الله قائمٌ) ثم يقولون: (إن عبد الله لقائم)، فالألفاظ متكررة، والمعنى واحد.
فقال له أبو العباس: بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ.
فقولهم: (عبد الله قائمٌ) إخبارٌ عن قيامه، وقولهم: (إن عبد الله قائمٌ)، جواب عن سؤال سائل، وقولهم: (إن عبد الله لقائمٌ)، جواب عن إنكار منكر قيامه. (فقد تكررت الألفاظ لتكرار المعاني) فما أحار المتفلسف جوابًا، فإذا ذهب مثل هذا على الكندي فما الظن بغيره؟».
ولهذا طعن بعض من لا يفهم من أهل الإلحاد في القرآن من جهة التكرار والتطويل، ولم يعلم أن من عادة الفصحاء والبلغاء أن يكرروا القضية الواحدة في مواضع مختلفة فتتجدد في مواضع، وهذا من لطيف محاوراتهم وطريق تصرفهم في عباراتهم.
وإنما يعاب التكرار إذا كان في الموضع الواحد وقد أنزل الله تبارك وتعالى القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة حالًا بعد حال وشيئًا بعد شيء، وكان صلى الله عليه وسلم يضيق صدره لما يناله من الكفار، فكان سبحانه وتعالى يسليه بما ينزل عليه من الوحي من قصص من تقدَّم من الأنبياء عليهم السلام بحسب ما يعلمه من الصلاح. فلهذا قال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود 11/ 120].
وأيضًا فإن ظهور الفصاحة ونور البلاغة في القصة الواحدة إذا أعيدت أبلغ منها في القصص المتغايرة كما أشرنا إليه في ما تقدم آنفًا.
دي أن في القرآن آيات متناقضة فقد ذكر من ذلك ما يقطع بجهله وسخافة عقله فزعم أن قوله تعالى: «{فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الجاثية 45/ 17] مناقض، لقوله {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الأنعام 6/ 25، والإسراء 11/ 46] وقوله تعالى: {الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [النحل 16/ 108].
والجواب: أن المراد بالعلم في الآية الأولى –القرآن والأدلة- دون العلم في نفسه لأنه تعالى أطلق العلم ولم يقيده وقد سمى (الحجة) علمًا والكتاب علمًا، كما يقال (علمُ الشافعي) و(علمُ أبي حنيفة)، وإذا احتمل ذلك بطل التناقض.
وزعم أيضًا أن قوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ} [الشورى 42/ 44] يناقض قوله {(فَزَيَّنَ) لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} [النحل 16/ 63].
فإحدى الآيتين تقتضي: أن لا ولي للكفار.
والثانية تقتضي: أن لهم وليًا.
والجواب: أن قوله تعالى: {فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ} المراد به في الآخرة عند إضلال الله إياهم.
والمراد بقوله: «فهو وليهم اليوم» أي: في الدنيا، وتقييده بذكر اليوم يدل على ذلك. وأيضًا فلو كان المراد بها في وقت واحد لم يتناقض لأن المراد: فما لهم من ولي ينفع ويضر، وإذا كان الشيطان لهم وليًا فلا يقتضي أن ينفع ويضر.
وزعم أيضًا أن قوله تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء 4/ 76]، يناقض قوله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} [المجادلة 58/ 19].
{(وَ) زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ (أَعْمَالَهُمْ فَـ) صَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ}.
والجواب: إن المراد بأن كيد الشيطان ضعيف أنه لا يقدر أن يضر ولكنه يوسوس ويدعو فقط، فإن اتبع لحقته المضرَّة، وإلا فحاله على ما كان، فهو كفقير يوسوس للغني في دفع ماله وهو يقدر على امتناعه، فإن وقع إليه فليس ذلك لقوة الفقير بل لضعف رأي المالك.
وزعم أيضًا: أن قوله عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [ق 50/ 38]، يناقض قوله: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت 41/ 9- 12].
فادعى أن ذلك إذا عُدَّ زاد على السنة لأنه ذكر أنه خلق الأرض في يومين وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام، {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} فيصير ذلك ثمانية.
والجواب: أنه تبارك وتعالى أراد بقوله: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت 41/ 9] إلى قوله: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [فصلت 41/ 10]، أي مع اليومين المتقدمين إلى تتمة أربعة أيام. ولم يرد بذكر الأربعة غير ما تقدم ذكره، وهذا كما يقول العربي الفصيح: سرت من مكة إلى المدينة في عشرة أيام، وسرت من مصر في ثلاثين يومًا أو في شهر، ولا يريد سوى العشرة بل معها، ثم أنه تعالى قال: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت 41/ 12]، وأراد سوى الأربعة، وهذا إذا فصل كان جملته ستة أيام، ولم يكن مخالفًا لقوله عز وجل {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الفرقان 25/ 59].
وزعم هذا الملحد أيضًا أن قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة 2/ 29] مناقض لقوله: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات 79/ 27-30] فادعى: أن الآية الأولى تقتضي أن خلق الأرض قبل السماء، والثانية تقتضي: أن خلق السماوات قبل الأرض.
والجواب: انه تعالى أخبر أن الأرض بعد ذلك دحاها مع أنه خلقها قبل ذلك، فأراد بقوله تعالى: «دحاها» أي: خلق سطحها، وقد كان خلقها غير مبسوطة قبل خلق السماوات ثم بسطها بعد خلق السماء.
فليس في كلامه سبحانه وتعالى تناقض ولا تخالف ولا في حديث نبيِّه صلى الله عليه وسلم، وما وضح في كلام النبي صلى الله عليه وسلم مما يوهم ذلك فقد قال إمام الأئمة أبو بكر بن خزيمة: (لا أعرف حديثين صحيحين متضادين، فمن كان عنده، فليأتني لأؤلف بينهما).
وللإمام الشافعي رضي الله عنه في اختلاف الحديث كتابه المعروف، ثم صنف في ذلك ابن قتيبة فأحسن فيه.
وأما قول أبي علي الجبائي المعتزلي في قوله تعالى: {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف 18/ 109]، يدل على أن كلمات الله تنفد في الجملة وما ثبت عدمه انتفى قدمه. قال: وأيضًا قال: «ولو جئنا بمثله مددًا»، وهذا أيضًا يدل على أنه تعالى قادر على أني جيء بمثل كلامه، والذي يجاء به يكون محدثًا، والذي يكون المحدث مثلًا له فهو أيضًا محدث.
قال الإمام فخر الدين: وجواب أصحابنا أن المراد منه الألفاظ الدالة على تعلُّقات تلك الكلمات.
والجواب الصحيح عندي: أن هذا ورد على وجه ضرب المثل للمبالغة في أن كلمات الله تعالى لا تنفدُ ولا آخر لها على ما هو مستحيل ونحوه.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح مما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: «يا عبادي لو أن أوَّلكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسانٍ مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما نقص المحيط إذا أدخل البحر» ومعلوم أنه لا بد للبحر من نقص ما بخلاف ما عند الله تعالى، فخرج على وجه التقدير والفرض وضرب المثل والله سبحانه أعلم.
وكقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ} [لقمان 31/ 27] الآية سر من أسرار كلام الله تعالى لا يسع هذا الموضع ذكره، نذكره في غيره إن شاء الله تعالى.
وقول الزمخشري في تفسير قوله تعالى في هود: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ} [هود 11/ 18] بعد أن ذكر قراءتي الرفع والنصب في (امرأتك)، فقال: ففي إخراجها مع أهله روايتان: روي أنه أخرجها معهم وأُمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي، فلما سمعت هدة العذاب التفتت وقالت (يا قوماه) فأدركها حجرٌ فقتلها.
وروي أنه أمر بأن يخلفها مع قومها فإن هواها إليهم فلم يسر بها.
قال: واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين.
هذا لفظه بحروفه وهو خطأ، وأحسن حيث بنى القراءتين المتواترتين على اختلاف الروايتين المتخالفتين، من أن لوطًا عليه السلام سرى بها أو لم يسر بها وهذا تكاذب في الأخبار، ومستحيل أن تكون القراءتان –وهما من كلام الله تعالى- (منزلتين)، نعوذ بالله من ذلك.
قلت: وقد اختلف في توجيه هاتين القراءتين، فالأكثرون على أن النصب على الاستثناء من «فأسر بأهلك» والرفع على البدل من «ولا يلتفت منكم أحد» والأولى عندي أن يكون الاستثناء من «فأسر بأهلك» في النصب والرفع، وذلك لأن المعنى دالٌّ عليه، فإن الله تعالى أمر لوطًا عليه السلام أن يسري بأهله إلا امرأته، ولو كان الاستثناء من الالتفات لكان قد نهى المسري بهم عن الالتفات، وأذن فيه للمرأة، وهذا ممتنع لوجهين:
أحدهما: أنه لم يأمره أن يسري بامرأته ولا دخلت في أهله الذين وُعد بنجاتهم.
والثاني: أنه لم يكلفهم بعدم الالتفات ويأذن فيه للمرأة، والله أعلم.
وقال آخرون يجوز الرفع والنصب على الاستثناء من قوله: «ولا يلتفت منكم أحد» فالنصب على الاستثناء والرفع على البدل من (أحد).
قالوا: وكلاهما صحيحان فصيحان، وإن كان البدل أكثر وأفصح عند أهل العربية كما قرئ في قوله تعالى: {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء 4/ 66] و«إلا قليلًا»، وهو صحيح فصيح متواتر ولكن يلزم من ذلك ما تقدم من الإشكال والله تعالى أعلم.
فإن قيل فما تقول في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم 14/ 46]؟، قرأه الكسائي بفتح اللام من (لتزول) ورفع الثانية، وذلك يقتضي النفي، وكل من القراءتين تقتضي مناقضة الأخرى.
فالجواب: أن المعنى في قراءة الكسائي: وإن مكرَهم كان من الشدة بحيث يقتلع الجبال الراسيات من مواضعها.
وفي قراءة غيره: «وما كان مكرهم وإن تعاظم وتفاقم لتزول منه أمة محمد صلى الله عليه وسلم ودين الإسلام»، فالجبال في قراءة الكسائي حقيقة، وفي قراءة الباقين مجاز، فلا تناقض بين القراءتين كما بيناه في كتاب (النشر) والله تعالى أعلم.
وهذا آخر ما يسَّر الله ذكره من الكلام على هذه الآية الكريمة أعني قوله سبحانه تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} المسمى بـ (كفاية الألمعي في الكلام على أية يا أرض ابلعي) وما يتعلق بذلك لمن يفهم ويعي ويعلم أن ما أمليناه فيها قطرة من بحر لا ساحل له، وذرة من برّ لا انتهاء به، إذ القرآن العظيم لا تنتهي عجائبه ولا تفنى غرائبه كما تقدَّم في الحديث الذي رويناه عن أمير المؤمنين وإمام المتقين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وروينا عن ابن مسعود رضي الله عنه «من أراد العلم فليؤثر القرآن فإن فيه علم الأولين والآخرين».
وقال بعض العلماء رحمهم الله في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} [لقمان 31/ 27] الآية – يجوز أن يكون على حذف مضاف أي: (ما نفدت معاني كلمات الله).
ولأهل البيت الشريف النبوي رضي الله عنهم وأرضاهم وجعل الفردوس مستقرهم ومثواهم، مشرب اختصوا به ومنهل صدروا عنه واعتصموا بسببه ورثوه عن أبيهم الأسنى وجدِّهم الأعلى:
فقد أخبرنا الشيخ الصالح المعمر أبو عليّ ا لحسن بن أحمد بن أحمد بن هلال الدقاق، قرأت بالجامع الأموي داخل دمشق المحروسة في شهر رمضان سنة سبع وسبعين وسبع مائة عن الإمام أبي الحسن علي بن أحمد المقدسي أنبأنا القاضي أبو المكارم أحمد بن محمد الأصبهاني في كتابه منها أخبرنا الشيخ أبو علي الحسن بن أحمد الحداد أنبأنا الإمام أبو نعيم الحافظ حدثنا نذير بن جناح القاضي أخبرنا إسحاق بن محمد بن مروان، أخبرنا أبي، أخبرنا عباس بن عبيد الله أخبرنا غالب بن عثمان الهمداني أخبرنا أبو مالك عن عبيدة عن شقيق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «قال: إن القرآن أنزل على سبعة أحرفٍ ما منها حرف إلا له ظهرٌ وبطنٌ، وأن علي بن أبي طالب عنده منه علم الظاهر والباطن».
وناهيك بذلك من مثل ابن مسعود إمام القرآن، والمبشر بالجنان، وأنشد لسان حالهم في صريح مقالهم:
فإن الماء ماء أبي وجدِّي *** وبئري ذو حفرت وذو طويت
فلذلك أتحفت بهذا الكتاب أعلمهم في الزمان وأفضلهم في الأوان، السلطان ابن السلطان السيد الرضوي رضاكيا ابن السيد المرحوم علي كيا الحسيني العلوي أعلى الله تعالى به كلمة الإيمان، وخلّد سلطانه وملكه وعجل إلى كل عدو له هلكه.
فعليهم نزل الكتاب وفيهم، وإليهم أبدًا يحن ويرجع.
اللهم أعد علينا من بركات أهل بيت نبيِّك الطيبين، وصلِّ عليه وعليهم وعلى أصحابه أجمعين.
اللهم زدنا فهمًا في كتابك، واجعلنا من حزبك وأحبابك، وانفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وارزقنا علمًا نافعًا وعملًا متقبلًا، واجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم واعصمنا من الشيطان الرجيم، واختم لنا بخير يا كريم، برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات 37/ 180-182] ). [كفاية الألمعي: 215-242]

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
كتاب, كفاية

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:22 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir