الأسلوب المقاصدي – سورة الشرح
قال الله تعالى :
(ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب )
سورة الشرح سورة مكية ، وتسمى أيضا سورة الانشراح و(ألم نشرح) . جاءت بعد سورة الضحى التي جاءت على فترة من الوحي وقوله تعالى في ختامها: ( وأما بنعمة ربك فحدث)
ويظهر فيهما التناسب جليا حتى قيل أنهما سورة واحدة ؛ فلما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم آخر الضحى بالتحديث بنعمته التي أنعمها عليه فصل له في هذه السورة بعضا من النعم مثبتا لها مقدما المنة بالشرح في صورته قبل الإعلام بمغفرته .وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت وتذكير بالماضي من النعم .
(ألم نشرح لك صدرك )
الاستفهام للتقريرمبالغة في إثبات هذه النعم أي فعلنا لك ذلك :أما شرحنا لك صدرك
شرحنا : الشرح لغة :فصل أجزاء اللحم عن بعضها يقال تشريح وللقطعة شريحة
فجعل إزالة مافي النفس من ألم مثل شرح اللحم.
والمراد : أما نورناه وجعناه فسيحا رحيبا لقبول النبوة وحمل أعبائها وتلقي الوحي وحفظه.
أو يكون المراد شرح صدره ليلة الإسراء فقد شقه وغسله وملأه إيمانا وحكمة.
ولا يتنافى المعنيان الشرح المعنوي والحسي وإن كان المعنوي هو الأرجح .
والصدر :الباطن الحاوي للقلب وقيل: هو القلب .
ولننظر إلى مظهر العظمة في (نشرح )أي شرحا يليق بعظمتنا ، بعظمة رب السموات والأرض ومابينهما -جل جلاله -.
(ووضعنا عنك وزرك )
وضعنا : حططنا وأبطلنا بما لنا من العظمة
(عنك) مزيد عناية بالنبي
وزرك: الوزرالحرج أو الذنب
وأصل الوزر ما حمله الانسان على ظهره ،
ومنه سمي الوزير لأنه يحمل العبء ،
والآية بمعنى (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر )أي تطهيره من الذنوب أو ماسلف في الجاهلية وكراهيته ماكان عليه حالهم
وقيل :حيرته قبل البعثة .
وقيل المراد : خففنا عليك أثقال النبوة .
(الذي أنقض ظهرك )
الإنقاض :الصوت كأنه حمل له صوت يسمع.
فالمعنى أثقلك حمله حتى سمع نقيض الظهر منه
وفيها تمثيل بديع
وقيل الانقضاض :الحل والتمزق والانتشار
دلالة على عظم هذا الثقل
(ورفعنا لك ذكرك )
والرفع : جعل الشيء عاليا
ذكرك : اسمك واستخدام لفظ (ذكرك ) هنا يضفي جلالا ورفعة
أي لا أذكر إلا ذكرت معي : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله
كما في الدخول في الإسلام والأذان والخطب وهو قول الجمهور
وقيل: رفعنا ذكرك بالنبوة.
وقد رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة ،
ورفع ذكره في الأولين والآخرين بما عرف عنه من مكارم الأخلاق ثم بالنبوة ثم الرسالة ثم الهجرة والكرامة والظفر،
وبأخذ الميثاق له على الأنبياء و إلزامهم الإيمان به والإقرار بفضله
وجعل رضاه رضا الله وطاعتك طاعة الله .
قال تعالى :(ومن يطع الله ورسوله) و (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول )
(والله ورسوله أحق أن يرضوه ).
وما نزل من القرآن من ثناء عليه ومخاطبته بالألفاظ العلية : الرسول ، النبي
وبأمر الناس بالصلاة والسلام عليه رفعة لذكره
فالمراد من الآية : نوهنا باسمك وذهبنا به كل مذهب ورفعناك رفعة تتلاشى عندها رفعة غيرك من الخلق إجلالا ورفعة وتعظيما فجزاه الله عن أمته خيرا
والمناسبة في هذه الآية : أن رفع الذكر نعمة على الرسول صلى الله عليه وسلم ،فهذا من تعداد النعم على النبي فلا تكترث لأذى قريش فمن فعل لك ذلك وأعلى ذكرك سينصرك ويجبرك .
وفي الإتيان ب( لك )و(عنك) وتقديمه على المفعول في الآيات الثلاث هذه زيادة تقرير وسرعة تبشير ومزيد اهتمام بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم .
(فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا)
يخبر تعالى تقوية لرجاء النبي صلى الله عليه وسلم وهي والله بشارة عظيمة له صلى الله عليه وسلم ولأمته بأن الفرج مع الكرب وأن مع العسرالعارض لك تيسيرا عظيما يغلب العسر .
الفاء فصيحة تفصح عن كلام مقدر أي إذا علمت هذا تعلم أن اليسر مصاحب للعسر
وفيها إدراك العناية الإلهية ووعد باستمرارها في كل أحواله
إن : للتأكيد والاهتمام بالخبر
العسر: المشقة في تحصيل المرغوب والعمل بالمقصود
واليسر : ضده ، سهولة تحصيل المرغوب وعدم التعب فيه .
(مع) الدالة على المصاحبة دلالة على قرب حصول اليسر عقب حصول العسر أو ظهور بوادره .
وقد ورد: لو جاء العسر فدخل هذا الجحر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا :أنه خرج يوما مسرورا فرحا وهو يضحك ويقول : لن يغلب عسر يسرين لن يغلب عسر يسرين (فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا ).
فالعسر معرف في الحالتين فهو مفرد واليسر نكرة فتعدد ،رغم معارضة البعض لهذا القول .و(يسر) هكذا بلا قيد ولاحد بكل ماتعنيه من معاني الارتياح والسهولة والفرج
وكرر(إن مع العسر يسرا) مبالغة وتبيينا للخير، مؤكدة لتحقيق اطراد هذا الوعد وتعميمه ،فيارب لك الحمد ولك الشكر كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك
جبرت قلوبنا وشرحت صدورنا وطمأنت نفوسنا ووعدتنا فأكرمتنا .
(فإذا فرغت فانصب)
ثم يقول الله تعالى ندبا للشكر وإعلاما أنه لا ينفك عن تحمل أمر الله ،آمرا نبيه الكريم أن يجعل فراغه من كل ماكان مشتغلا به من أمر دنياه وآخرته إلى النصب في عبادته ولم يخصص بذلك حالا من أحوال فراغه دون حال لعموم الشرط في ذلك وعدم ذكر متعلق فرغت وهو أولى الأقوال بالصواب كما رجح الطبري
واختار الزمخشري : فإذا فرغت من عبادة فأتبعها أخرى .
وإذا أتممت عملا فأقبل على عمل آخر بحيث يعمر أوقاته كلها بالأعمال العظيمة
وأصل الفراغ : الخلو بعد الامتلاء
(انصب ): النصب التعب والدؤوب في العمل .
وقد ورد في الآية التخصيص بأقوال أخرى :
فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل
وإذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء
أو إذا قمت إلى الصلاة فانصب في حاجتك
وإذا فرغت من جهالة عدوك فانصب في عبادة ربك
وإذا فرغت من أمر دنياك فانصب في أمر آخرتك
وإذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك
وإذا صح بدنك فاجعل صحتك في العبادة .
ومناسبة الآية لما قبلها التبشير للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيأتي عليه وقت بعد العسر يسر وفراغ بال من الحيرة والضيق والكرب بعد إذ من الله على عبده بأن شرح صدره .وأمر له بالشكر والاستكثار من العمل الصالح والنوافل والتسبيح والاستغفار
ومما يستفاد من الآية :مشروعية الدعاء والذكرعقب الصلوات المكتوبة
وتعليق العمل بوقت الفراغ لتتعاقب الأعمال الصالحة وهذا من جوامع الكلم
وتوجيه للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته وما أحوجنا لهذا التوجيه ونحن في موسم الإجازة أن لا نكون ممن إذا فرغ تمادى في اللعب واللهو والنوم والإعراض عن ذكر ربه بل ربما وقع فيما حرم الله عليه من سماع أو نظر محرم وإنما الواجب استثمار الفراغ في العبادة شكرا لله على نعمته
(و إلى ربك فارغب )
اجعل نيتك ورغبتك إلى الله عزوجل متضرعا راغبا في الجنة عائذا من النار
وقيل أمر بالتوكل على الله تعالى
الواو للعطف وفيها أمر بالشكر لله وطلب استمرار النعم منه قال تعالى (ولئن شكرتم لأزيدنكم )
وفي تقديم الجار والمجرور إفادة الاختصاص والقصر أي إلى الله وحده لا إلى غيره تكون رغبتك وتوجهك ، والرغبة : الميل والإرادة
وفي التعدية بإلى تضمين معنى الإقبال والتوجه إلى من عنده حاجتك
(ربك )المحسن إليك الذي رباك بنعمه سبحانه وبما ذكر في هذه السورة والتي قبلها خاصة وبكل النعم عامة وفيها بديع المناسبة مع الآيات بلفظ الربوبية والدلالة على عظيم الرحمة فالذي أفرغ بالك مماكان يشغلك ويضيق صدرك ووضع عنك الوزر وبشرك باليسر القريب الذي لا شك فيه والذي ابتدأ نعمه عليك سبحانه لم يكن ليقطعها عنك سبحانه بطريقة التقرير
اللهم اشرح صدورنا ويسر أمورنا وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
المراجع :
تفسير القرآن العظيم لابن كثير
تيسير الكريم المنان السعدي
زبدة التفسير الأشقر
التحرير والتنوير ابن عاشور
المحرر الوجيزابن عطية
زاد المسيرابن الجوزي
نظم الدرر البقاعي
التفسير البياني للقرآن الكريم بنت الشاطيء