دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > خطة التأهيل العالي للمفسر > منتدى الامتياز

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 26 شوال 1436هـ/11-08-2015م, 07:13 AM
الصورة الرمزية إسراء خليفة
إسراء خليفة إسراء خليفة غير متواجد حالياً
برنامج الإعداد العلمي - المستوى السادس
 
تاريخ التسجيل: Jul 2014
الدولة: مصر
المشاركات: 1,182
افتراضي بحث في معنى درء السيئة بالحسنة

الحمد لله الذي جعل الإحسان أعلى درجات الدين، وأثنى على عباده المحسنين وشرفهم بمعيته وفضله الجزيل، والصلاة والسلام على رسول الله أحسن المحسنين وعلى آله ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد؛

فإن قوله تعالى {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} ورد في موضعين في القرآن الكريم:
الأول: في سورة الرعدحيث قال تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)} وذلك بعد قوله تعالى{
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)}
فجاء درء السيئة بالحسنة هنا أحد صفات أولي الألباب الذين يعلمون أن ما يتلو محمد هو من عند الله وهو الحق وأنه رسول الله، فهم أحسن الناس تذكرا بهذا الكتاب لكامل عقولهم وخشيتهم وإنابتهم، ومن صفاتهم أنهم يوفون بعهد الله، ويوفون بعهودهم مع الخلق، وكذلك الأيمان والنذور، ويصلون كل ما أمر الله بوصله، من الإيمان به وبرسوله، ومحبته ومحبة رسوله، والانقياد لعبادة الله وحده لا شريك له، ولطاعة رسوله. ويصلون آباءهم وأمهاتهم بطاعتهم في المعروف وبرهم والإحسان إليهم قولا وعملا وحالا، ويصلون الأقارب والأرحام ويحسنون إليهم، ويصلون ما بينهم وبين الأزواج والأصحاب والمماليك، بأداء حقهم كاملا موفرا من الحقوق الدينية والدنيوية. والسبب الذي يجعل العبد واصلا ما أمر الله به أن يوصل هو خشية الله وخوفه من يوم الحساب، ولهذا قال: { وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ }أي: يخافونه، فيمنعهم خوفهم منه، ومن القدوم عليه يوم الحساب، أن يتجرؤوا على معاصي الله، أو يقصروا في شيء مما أمر الله به خوفا من العقاب ورجاء للثواب.
الثاني: في سورة القصص، قال تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)} وذلك بعد قوله تعالى {
الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)}
وفي هذه الآية ورد أن درء السيئة بالحسنة من صفات أهل الكتاب الذين آمنوا برسول الله، وكانوا مؤمنين من قبل؛ فأتاهم الله أجرا على إيمانهم الأول وزادهم أجرا على إيمانهم الثاني. وقد مدح الله صبرهم على اتباع الحق والعمل به، والثبات على ذلك رغم أذية قومهم لهم. وروى ابن كثير عن عن أبي أمامة قال : إني لتحت راحلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح ، فقال قولا حسنا جميلا وقال فيما قال: " من أسلم من أهل الكتابين فله أجره مرتين ، وله ما لنا وعليه ما علينا ،[ ومن أسلم من المشركين ، فله أجره ، وله ما لنا وعليه ما علينا ]".

معنى الدرء لغة:
الدرء لغة: الدفع.
ففي القاموس المحيط: دَرَأَهُ، كَجَعَلَهُ، دَرْءاً ودَرْأَةً: دَفَعَهُ.
وفي لسان العرب: درأ: الدَّرْءُ: الدَّفْع. دَرَأَهُ يَدْرَؤُهُ دَرْءًا ودَرْأَةً: دَفَعَهُ.
وفي مختار الصحاح: (الدَّرْءُ) الدَّفْعُ.

وقد تنوعت عبارات السلف في بيان المراد بالسيئة والمراد بالحسنة ومن رويت عنهم آثار من الصحابة والتابعين على أقوال:
القول الأول:
المراد بالسيئة:الشرك.
ودرؤها بالحسنة: أي دفع الشرك بشهادة أن لا إله إلا الله.
قاله ابن عباس في آية الرعد، وحكاه عنه البغوي.
وقال به ابن مسعود، وذكره الألوسي.
ومن ثمرات تحقيق هذا القول:

- التوحيد هو السبب الأعظم لتفريج كربات الدنيا والآخرة، يدفع الله به العقوبات في الدارين، ويبسط به النعم والخيرات.
- التوحيد الخالص يثمر الأمن التام في الدنيا والآخرة، قال الله عز وجل: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [الأنعام: 82].
- يحصل لصاحبه الهدى الكامل، والتوفيق لكل أجر وغنيمة.
- يغفر الله بالتوحيد الذنوب ويكفر به السيئات، ففي الحديث القدسي عن أنس رضي الله عنه يرفعه: ((يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة)) صححه الألباني
- يدخل الله به الجنة، فعن عبادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)) رواه البخاري ومسلم. وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ((من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة رواه البخاري ومسلم)) .
- التوحيد يمنع دخول النار بالكلية إذا كمل في القلب، ففي حديث عتبان رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: ((... فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)) رواه البخاري ومسلم.
- يمنع الخلود في النار إذا كان في القلب منه أدنى حبة من خردل من إيمان (5) .
- التوحيد هو السبب الأعظم في نيل رضا الله وثوابه، وأسعد الناس بشفاعة محمد صلّى الله عليه وسلّم: ((من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه أو نفسه)). رواه البخاري
- جميع الأعمال، والأقوال الظاهرة والباطنة متوقفة في قبولها وفي كمالها، وفي ترتيب الثواب عليها على التوحيد، فكلما قوي التوحيد والإخلاص لله كملت هذه الأمور وتمت.
- يُسَهِّل على العبد فعل الخيرات، وترك المنكرات، ويسلِّيه عن المصائب، فالموحد المخلص لله في توحيده تخف عليه الطاعات؛ لِمَا يرجو من ثواب ربه ورضوانه، ويهوِّن عليه ترك ما تهواه النفس من المعاصي؛ لِمَا يخشى من سخط الله وعقابه.
- التوحيد إذا كمل في القلب حبب الله لصاحبه الإيمان وزينه في قلبه، وكرَّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، وجعله من الراشدين.
- التوحيد يخفف عن العبد المكاره، ويهوِّن عليه الآلام، فبحسب كمال التوحيد في قلب العبد يتلقى المكاره والآلام بقلب منشرح ونفس مطمئنة، وتسليمٍ ورضًا بأقدار الله المؤلمة، وهو من أعظم أسباب انشراح الصدر.
- يحرِّر العبد من رِقّ المخلوقين والتعلُّقِ بهم، وخوفهم ورجائهم، والعمل لأجلهم، وهذا هو العزُّ الحقيقي، والشرف العالي، ويكون مع ذلك متعبدًا لله لا يرجو سواه، ولا يخشى إلا إيَّاه، وبذلك يتمُّ فلاحه، ويتحقق نجاحه.
- التوحيد إذا كمل في القلب، وتحقَّق تحققًا كاملاً بالإخلاص التام فإنه يصير القليل من عمل العبد كثيرًا، وتضاعف أعماله وأقواله الطيبة بغير حصر، ولا حساب.
- تكفَّل الله لأهل التوحيد بالفتح، والنصر في الدنيا، والعز والشرف، وحصول الهداية، والتيسير لليسرى، وإصلاح الأحوال، والتسديد في الأقوال والأفعال.
- الله عز وجل يدافع عن الموحدين أهل الإيمان شرور الدنيا والآخرة، ويمنُّ عليهم بالحياة الطيبة، والطمأنينة إليه، والأُنس بذكره.
- أنه أكبر دعامة للرغبة في الطاعة؛ لأن الموحد يعمل لله سبحانه وتعالى؛ وعليه، فهو يعمل سراً وعلانية، أما غير الموحد؛ كالمرائي مثلاً، فإنه يتصدق ويصلي، ويذكر الله إذا كان عنده من يراه فقط، ولهذا قال بعض السلف: إني لأود أن أتقرب إلى الله بطاعة لا يعلمها إلا هو.

القول الثاني:
المراد بالسيئة: ذنوب العبد وسيئات أعماله.
درؤها بالحسنة: أي محو أثرها بالتوبة وصالح الأعمال.
فابن عباس قال في معنى الآية: "يدفعون بالصالح من العمل السيء من العمل"، وهذا رواه عنه البغوي وابن الجوزي والقرطبي.
واستدل البغوي لذلك بــ:
قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}
وما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها ، السر بالسر والعلانية بالعلانية ".
وما رواه عقبة بن عامر رضي الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل كانت عليه درع ضيقة قد خنقته ، ثم عمل حسنة ، فانفكت عنه حلقة ، ثم عمل أخرى فانفكت أخرى ، حتى يخرج إلى الأرض ".
وذكر أيضا هذا القول القرطبي عن ابن عباس وقال: أن هذا القول أعم ما قيل في الآية ويتناول بقية الأقوال، واستدل بقوله تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات}
وبقوله - عليه السلام - لمعاذ : "وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن" .
وبنحو ما قال ابن عباس قال مجاهدوابن شجرة وابن كيسان.
ومن ثمرات تحقيق هذا القول:
-
غفران الذنوب ومحو السيئات، قال تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات}، وقد تقدم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل كانت عليه درع ضيقة قد خنقته ، ثم عمل حسنة ، فانفكت عنه حلقة ، ثم عمل أخرى فانفكت أخرى ، حتى يخرج إلى الأرض ".
-
محبة الله لعبده؛ فالله يحب التوابين، قال تعالى{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)}البقرة
وقال تعالى {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)}البروج، والتعبير باسم الله الودود بعد الغفور فيه إشارة إلى قرب ود الله من المغفور له.

القول الثالث:
المراد بالسيئة:إساءة الغير القولية أو الفعلية.
درؤها بالحسنة: أي مقابلتها بالإحسان قولا أو فعلا.
فيردوا قبيح القول بالحسن، ويدفعون الشر بالخير لا يكافئون الشر بالشر، وإذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا، ويدفعون سفه الجاهل بالحلم ".
وهذا حاصل قول ابن زيد والضحاك والحسن وسعيد بن جبير والنقاش وجويبر والقتيبي ويحيى بن سلام والألوسي.
واستدل البغوي بقوله تعالى{وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما}.
ومن ثمرات تحقيق هذا القول:
-
حصول الفضل الكبير والمنازل العالية للمؤمن الذي يرد الإساءة بالإحسان كما قال تعالى{أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}الرعد
-المساهمة في القضاء على العداوات بين النّاس ويبدّلها صداقة حميمة ومودّة رحيمة وتنطفيء بذلك نار الفتن وتنتهي أسباب الصّراعات، أمّا الدّفع بالسّيّئة، أي مقابلة السّيّئة بمثلها فإنّه يؤدّي إلى تدهور العلاقات وإشعال نيران الفتن وتفاقم أسباب الصّراع ويهبط بالنّوع البشريّ إلى حضيض التّخلّف ويعرّض بقاءه لخطر الفناء، وبذلك يحصل خير كثير من شيوع روح الألفة والمودة بين الناس، قال تعالى{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)}فصلت.
ولابد للمحسن في هذا المقام أن يتحلى بالصبر؛ إذ أن دفع السيئة بالحسنة ضد طبع النفس التي في أغلب الناس تأمرهم بالسوء وتحب الانتصار لنفسها ونيل حظوظها. ومن يتصبر يصبره الله؛ فليس الصبر إلا من عند الله، قال تعالى{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)}النحل

وإذا نظرنا إلى عبارات المفسرين فسنجد أن حاصلها أن درء السيئة بالحسنة هو دفع الشرك بشهادة ألا إله إلا الله، ودفع سيئات النفس بالتوبة والعمل الصالح،وكذلك رد إساءة الغير بالإحسان قولا وعملا؛ فيعفون عمن ظلمهم، ويعطون من حرمهم، ويردون قبيح القول بالقول الحسن.
وهذا حاصل قول الطبري والزجاج والثعلبي والماوردي والبغوي وابن عطية وابن الجوزي والقرطبي وابن كثير والسعدي وابن عاشور وطنطاوي.


وبهذا اتفقت عبارات المفسرين مع أقوال السلف في معنى درء السيئة بالحسنة، ولا تعارض بينها إذ أن الأقوال المذكورة من باب التفسير بالمثال، فالحسنة يعبّر بها عن كلّ ما يسرّ من نعمة تنال الإنسان في نفسه وبدنه وأحواله؛ وبهذا يدخل فيها التوحيد والتوبة والعمل الصالح والإحسان إلى الغير وكل هذا أيضا داخل في الإحسان بمعناه العام. وكذلك الشرك والذنوب وإساءة الغير يشملها لفظ السيئة.
والإحسان بمعناه العام هو المذكور في الحديث الذي رواه أبو هريرة وفيه بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى الإحسان عندما سأله جبريل عنه ".. قال: ما الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك»."فمن يراقب الله يخلع الشرك، ويترك المعاصي ويتوب إن وقع فيها، ويرد إساءة الناس بالإحسان إليهم لأنه يعامل ربه ويبغي رضاه ولا يرجو رضا البشر.

بين الحسنة والإحسان:
قال الفيروزاباديّ: الحسنة يعبّر بها عن كلّ ما يسرّ من نعمة تنال الإنسان في نفسه وبدنه وأحواله، قال تعالى:{وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (النساء/ 78) ، أي خصب وسعة وظفر، أمّا الإحسان فإنّه يقال على وجهين: أحدهما الإنعام على الغير، والثّاني: الإحسان في الفعل أو العمل، وعلى هذا قول الإمام عليّ- رضي الله عنه-: «النّاس أبناء ما يحسنون» أي منسوبون إلى ما يعملونه من الأفعال الحسنة. والعلاقة بين الأمرين واضحة لأنّ من يحسن إلى نفسه بإخلاص التّوحيد والعبادة، أو إلى غيره بالقول أو الفعل فإنّ ذلك يثمر له الحسنى وهي الجنّة، فالحسنة والإحسان كلاهما مأخوذان من الحسن الّذي من شأنه أن يسرّ من يتحلّى به في الدّنيا والآخرة.
وعن منزلة الإحسان قال ابن القيّم- رحمه الله-: الإحسان من منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، وهذه المنزلة هي لبّ الإيمان وروحه وكماله، وهي جامعة لما عداها من المنازل، فجميعها منطوية فيها، وممّا يشهد لهذه المنزلة قوله تعالى:{هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ} (الرحمن/ 60) ، إذ الإحسان جامع لجميع أبواب الحقائق.

والإحسان عواقبه حميدة منها:
1- معية الله للمحسنين (وكفى بها شرفا) :
{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}النحل
{
وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}العنكبوت
2- حب الله للمحسنين (وكفى به جزاء) :
{
وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} البقرة
{
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)}المائدة
3- أن يرزق المحسن العلم والحكمة( وكفى بها منة):
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)}يوسف
4-
جزاء الإحسان في الدنيا والآخرة:
{
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15)آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16)}الذاريات
{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)}البقرة
{
بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}.البقرة
{
الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ}. آل عمران
5-
إذا اقترن إسلام الوجه لله بالإحسان فإنّ ذلك يثمر الاستمساك بالعروة الوثقى الّتي يرجى معها خير الدّنيا والآخرة، أي أنّ المحسن يحتاط لنفسه بأن يستمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}البقرة
6-الإحسان وسيلة للتمكين:
{وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ }(هود/115)
{قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ} (الزمر/10)
7-الإحسان هو وسيلة المجتمع للرّقيّ والتّقدّم، وإذا كان صنوه أي العدل وسيلة لحفظ النّوع البشريّ فإنّ الإحسان هو وسيلة تقدّمه ورقيّه لأنّه يؤدّى إلى توثيق الرّوابط وتوفير التّعاون.
8-الإحسان وسيلة لحصول البركة في العمر والمال والأهل.
9-الإحسان وسيلة لاستشعار الخشية والخوف من الله تعالى، كما أنّه وسيلة لرجاء رحمته عزّ وجلّ.
10-الإحسان وسيلة لإزالة ما في النّفوس من الكدر وسوء الفهم وسوء الظّنّ ونحو ذلك.
11-الإحسان وسيلة لمساعدة الإنسان على ترك العجب بالنّفس لما في الإحسان من نيّة صادقة.

فحري بالمؤمن بعدما علم فضل الإحسان وجزيل الأجر عليه أن يسعى ليكون من أهله، وجدير بنا أن نذكر هنا بعض ما يعين على بلوغ منزلة الإحسان.

وسائل على تعين بلوغ الإحسان:
1-سؤال العبد ربه أن يجعله من المحسنين، ويقينه أنه لا يمكن له بلوغه إلا بتوفيق الله له وتيسير الإحسان له.
2-الصبر:
فقد دلت آية الرعد على أن أولي الألباب إنما بلغوا ما بلغوا بفضل صبرهم بعد توفيق الله لهم وتيسيره إيّاهم لليسرى، قال تعالى {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)}الرعد
وفي آية القصص قال تعالى{أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ}..
وفي هذه الآية قُدِم ذكر الصبر على درء السيئة بالحسنة فلعل ذلك لأنهم ما تمكنوا من الإحسان إلا بالصبر.
فحري بالمسلم أن يحرص على التحلي بالصبر، ويكفي أنه خير وأوسع عطاء يعطاه العبد فعن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدرى رضي الله عنهما : أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلي الله عليه وسلم فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم ، حتى نفد ما عنده ، فقال لهم حين نفد كل شيء أنفق بيديه: (( ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله. وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر))
وعموما فالصبر شأنه عظيم، ولا أحد يبلغ الإمامة في الدين إلا وله حظ منه عظيم الدين، قال تعالى {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (24) السجدة، فكانت الإمامة في الدين إنما تنال بالصبر واليقين، وذكر الصبر واليقين معا لعل فيه إشارة لتأثير كل منهما في الآخر، وأيضا فإن تقديم ذكر الصبر على اليقين هنا لحكمة يعلمها الله فرغم أن اليقين أساس الصبر فمن عظم يقين قوي صبره ومن ضعف يقينه قل ّصبره؛ إلا أنه جاء ذكر الصبر قبل اليقين ولعل من أسباب ذلك أن الصبر نفسه عماد في تحصيل اليقين فإنه وإن كان اليقين أصله هبة من الله إلا أنه يمكن الاستزادة منه بالكسب، وأئمة الدين لهم الحظ الأوفر من ذلك؛ فإنهم إنّما قضوا أعمارهم في تعلم العلم وتعليمه ولذا قوي يقينهم ورسخ علمهم وازدادوا هدى وإيمانا، فيقين من لم يتعلم العلم ليس كيقين من يتعلم أبدا. وتعلم العلم وتعليمه بحاجة لصبر عظيم جدا؛ إذ ليس يحصل علما من لا صبر له، وليس يعمل بالعلم من لا صبر له، وليس يُمكّن من دعوة الناس من لا صبر له، وليس يثبت على ذلك من لا صبر له. فكان الصبر عماد في تحصيل العلم الذي ازدادوا به يقينا.ولعل هذا أيضا هو السبب في كون التعبير عن صبرهم بصيغة الماضي وعن اليقين بالمضارع، فكأن الصبر أصل عندهم واليقين عندهم في ازدياد يوما بعد يوم كلما ازدادوا علما وعملا. ولا يعارض هذا أن الصبر أساسه اليقين كما تقدم ولا يدخل في الكلام صبر المضطر.
3-شكر العبد ربه على إحسانه إليه:
مما يدفع المؤمن إلى الإحسان رؤيته إحسان الله إليه فيشكر ربه على إحسانه إليه بالإحسان كما قال تعالى حكاية على قول قوم قارون لقارون {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}القصص.
فالله تعالى هو المحسن:والإحسان له وصف لازم لا يخلو موجود عن إحسانه طرفة عين، فلابد لكل مكوَّن من إحسانه إليه بنعمة الإيجاد ونعمة الإمداد.
ومن تأمل وتدبر آيات الله ظهر له ذلك جليا:
قال تعالى{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ} (البقرة/138)
وقال تعالى {أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79)}النساء
وقال تعالى { أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة/50)
وقال تعالى { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ} (الأعراف/137)
وقال تعالى {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُؤيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (يوسف/ 100)
وقال تعالى {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ} (السجدة/7 )
وقال تعالى {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ} (الصافات/125)
وقال تعالى{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ }(غافر/64)
وقال تعالى {خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (التغابن/3)
فإذا تدبّر العبد، علم أنّ ما هو فيه من الحسنات من فضل الله؛ فشكر الله؛ تعالى فزاده من فضله عملا صالحا، ونعما يفيضها عليه. وإذا علم أنّ الشّرّ لا يحصل له إلّا من نفسه بذنوبه، استغفر وتاب؛ فزال عنه سبب الشّرّ؛ فيكون العبد دائما شاكرا مستغفرا، فلا يزال الخير يتضاعف له، والشّرّ يندفع عنه. كما كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول في خطبته: «الحمد لله» ، فيشكر الله. ثمّ يقول: «نستعينه ونستغفره» ، نستعينه على الطّاعة، ونستغفره من المعصية. ثمّ يقول: «ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا» ، فيستعيذ به من الشّرّ الّذي في النّفس، ومن عقوبة عمله؛ فليس الشّرّ إلّا من نفسه ومن عمل نفسه؛ فيستعيذ الله من شرّ النّفس أن يعمل بسبب سيّئاته الخطايا، ثمّ إذا عمل استعاذ بالله من سيّئات عمله، ومن عقوبات عمله فاستعانه على الطّاعة وأسبابها، واستعاذ به من المعصية وعقابها.فعلم العبد بأنّ ما أصابه من حسنة فمن الله، وما أصابه من سيّئة فمن نفسه- يوجب له هذا وهذا.
والشكر بالإحسان من الأفراد يتفاوت وتتفاوت منازلهم في الآخرة تبعا لذلك؛ وكلما كانت منة الله على عبده أعظم ينبغي له أن يكون أكثر إحسانا، فيكون إحسان من علم وفقه في دين الله أعلى من إحسان العابد إذ أن منة الله على العالم جليلة، وإحسان العابد أحسن من إحسان من ليس كذلك.
4- التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في إحسانه:
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الناس إحسانا، ومواقف الإحسان منه لا يحصيها إلا الله.
فعن عثمان بن عفّان- رضي الله عنه- في خطبة له:" إنّا والله قد صحبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في السّفر والحضر، وكان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير" رواه أحمد بإسناد صحيح.
و روي عن المقداد- رضي الله عنه- أنه قال:
" أقبلت أنا وصاحبان لي وقد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الجهد . فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فليس أحد منهم يقبلنا. فأتينا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فانطلق بنا إلى أهله فإذا ثلاثة أعنز، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «احتلبوا هذا اللّبن بيننا» قال: فكنّا نحتلب فيشرب كلّ إنسان منّا نصيبه. ونرفع للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم نصيبه قال: فيجيء من اللّيل فيسلّم تسليما لا يوقظ نائما ويسمع اليقظان. قال: ثمّ يأتي المسجد فيصلّي، ثمّ يأتي شرابه فيشرب. فأتاني الشّيطان ذات ليلة. وقد شربت نصيبي. فقال: محمّد يأتي الأنصار فيتحفونه ويصيب عندهم. ما به حاجة إلى هذه الجرعة. فأتيتها فشربتها. فلمّا أن وغلت في بطني وعلمت أنّه ليس إليها سبيل. قال: ندّمني الشّيطان، فقال: ويحك، ما صنعت؟ أشربت شراب محمّد؟ فيجيء فلا يجده فيدعو عليك فتهلك. فتذهب دنياك وآخرتك. وعليّ شملة إذا وضعتها على قدميّ خرج رأسي، وإذا وضعتها على رأسي خرج قدماي. وجعل لا يجيئني النّوم، وأمّا صاحباي فناما، ولم يصنعا ما صنعت. قال: فجاء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فسلّم كما كان يسلّم، ثمّ أتى المسجد فصلّى، ثمّ أتى شرابه فكشف عنه فلم ير فيه شيئا. فرفع رأسه إلى السّماء. فقلت: الآن يدعو عليّ فأهلك. فقال: «اللهمّ أطعم من أطعمني وأسق من أسقاني» . قال: فعمدت إلى الشّملة فشددتها عليّ وأخذت الشّفرة، فانطلقت إلى الأعنز أيّها أسمن فأذبحها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا هي حافلة وإذا هنّ حفّل كلّهنّ. فعمدت إلى إناء لآل محمّد صلّى الله عليه وسلّم ما كانوا يطمعون أن يحتلبوا فيه. قال: فحلبت فيه حتّى علته رغوة. فجئت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أشربتم شرابكم اللّيلة؟ قال: قلت: يا رسول الله! اشرب. فشرب، ثمّ ناولني. فقلت يا رسول الله اشرب فشرب ثمّ ناولني. فلمّا عرفت أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد روي وأصبت دعوته، ضحكت حتّى ألقيت إلى الأرض، قال: فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إحدى سوآتك يا مقداد» فقلت:يا رسول الله! كان من أمري كذا وكذا، وفعلت كذا.فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ما هذه إلّا رحمة من الله . أفلا كنت آذنتني فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها» . قال:فقلت: والّذي بعثك بالحقّ! ما أبالي إذا أصبتها وأصبتها معك، من أصابها من النّاس»رواه مسلم
5-تأمل أحوال المؤمنين المذكورة في القرآن:
ومن فعل هذا فسيجد أن المؤمن كثيرا ما يكون موصوفا بالإحسان، ومن كمال الهمة الحرص على التسابق في أعمال المحسنين من إحسان إلى الخلق بشتى صوره كالحرص على التسابق إلى الجماعات والإكثار من الأوراد ونوافل العبادات، ولا تقوم الثلاثة الأخيرة مقام الأول وإن كانت أساسه. فمن المشاهد أن البعض يحرص على التسابق في الثلاثة الأخيرة ويغفل عن التسابق في الأول، وهذا قصور؛ إذ أن لكل طاعة لها أثر حسن جميل لا يتأتى إلا بها ولا يعوض هذا الأثر طاعة أخرى حتى وإن كانت أعلى منها؛ فمثلا يجد المنفق في سبيل الله بركة في ماله ما لا يجده من له حظ من الصلاة عظيم وإن كان شأن الصلاة أعظم شأن الإنفاق.
ومما يُنبه عليه أن الشخص المحسن أولى الناس بأن يُحسن إليه، وكلما كان فضل الإنسان عظيما وكان أكثر إحسانا تحتم معاملته بالإحسان، وتكون معاملته بالإحسان من باب العدل لا من باب الفضل لسابق إحسان هذا الشخص. ألا ترى أن الله ما أوصى بالوالدين إلا كان ذلك مصحوبا بالإحسان إليهما لسبق إحسانهما للأبناء تربية وعطفا وحنانا ؟!
6- امتثال لأمر الله:
فإن الله تعالى أمر بالإحسان فقال {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (البقرة/195)

شمولية الإحسان:
والإحسان دائرته واسعة جدا فهو يشمل:
1- إحسان إلى النفس:بإخلاص العبادة وكمال الطّاعة، قال تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها} (الإسراء/ 7) .
2- إحسان إلى الوالدين:
قال تعالى {وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً} (الإسراء/ 23)
وقال تعالى {وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً} (البقرة/83)
وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً} ( النساء/36)
وقال تعالى: {قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً} ( الأنعام/151)
وعن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- قال: أقبل رجل إلى نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم فقال:أبايعك على الهجرة والجهاد، أبتغي الأجر من الله. قال: «فهل من والديك أحد حيّ؟» قال: نعم، بل كلاهما. قال: «أفتبتغي الأجر من الله؟» قال: نعم، قال: «فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما»رواه مسلم.
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله! من أحقّ النّاس بحسن صحابتي؟ قال «أمّك» . قال: ثمّ من؟ قال: «أمّك» . قال: ثمّ من؟. قال: «أمّك» .قال: ثمّ من؟ قال «أبوك» رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب.
3-إحسان إلى الأقارب:
وهذا يشمل قرابة النّسب وقرابة الجوار وقد ورد الحثّ عليها في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ} (البقرة/ 83)
وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} .. (النساء/36)
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا هريرة، كن ورعا، تكن أعبد النّاس، وكن قنعا تكن أشكر النّاس.وأحبّ للنّاس ما تحبّ لنفسك تكن مؤمنا، وأحسن جوار من جاورك تكن مسلما، وأقلّ الضّحك فإنّ كثرة الضّحك تميت القلب» رواه ابن ماجه بإسناد حسن.
4-الإحسان إلى المجتمع:
وهنا ينصبّ أساسا على الجانب الضّعيف في المجتمع كاليتامى والمساكين وأبناء السّبيل ومن على شاكلتهم، يقول الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً } (النساء/ 36) .
5- الإحسان إلى الناس كافة:
وهذا يشمل الإحسان إلى المخالفين في العقيدة بالصّفح عنهم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (المائدة/ 13)
وتجدر الإشارة إلى أن هذا الأمر له ضوابطه فمقابلة السيئة بالحسنة عندما يكون فى هذا درء السيئة ودفعها لا إطماعها واستعلاؤها ، فأما حين تحتاج السيئة إلى القمع، ويحتاج الشر إلى الدفع، فلا مكان لمقابلتهما بالحسنة، لئلا ينتفش الشر ويتجرأ ويستعلى. ودرء السيئة بالحسنة يكون غالبا فى المعاملة الشخصية بين المتماثلين فأما فى دين الله فلا. فإن المستعلىي الغاشم لا يجدى معه إلى الدفع الصارم، والمفسدون فى الأرض لا يجدى معهم إلا الأخذ الحاسم، والتوجيهات القرآنية متروكة لتدبر المواقف، واستشارة الألباب، والتصرف بما يرجح أنه الخير والصواب، وهذا ملخص ما قاله صاحب الظلال.
6- الإحسان إلى كل المخلوقات:
وهذا داخل فيه دائرة الحياة بكلّ ما فيها من نبات أو حيوان أو جماد وإلى ذلك يشير قول الله تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (الأعراف/ 56)
فعن شدّاد بن أوس- رضي الله عنه- قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ قال: «إنّ الله كتب الإحسان على كلّ شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبح، وليحدّ أحدكم شفرته فليرح ذبيحته»رواه مسلم.

أما عن ميادين الإحسان وأبوابه فميادينه واسعة جدا فنجده مثلا:
في باب الحديث، قال تعالى {..وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا..}البقرة83
وفي ميادين الصبر على المصائب، قال تعالى{وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}هود155
وفي ميدان أداء الحق لأهله، قال الله تعالى{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}البقرة 178
وقال تعالى في أداء الحق للمرأة المطلقة: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}البقرة
وفي ميدان الحروب والجهاد في مجالات النفس، ومجالات المعارك، قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}العنكبوت69
وفي ميدان مجاهدى النفس لكظم الغيظ، قال تعالى:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}آل عمران 134
وفي ميدان التحاور مع أهل الكتاب، قال تعالى{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}العنكبوت46
وفي ميدان الخلافات والخصومات، قال تعالى {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}فصلت 34
وفي ميدان معالمة الفقراء واليتامى، قال تعالى {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الإسراء 34
وفي ميدان العلاقات الاجتماعية بين الناسن، قال تعالى {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا}النساء 86
وفي مجالات العلاقات الاقتصادية، قال تعالى: { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}البقرة 195

___________________________________________________________________
المراجع:
1.
تفسير ابن جرير الطبري.
2.
تفسير الثعلبي.
3.
تفسير الماوردي.
4.
تفسير ابن عطية.
5.
زاد المسير لابن الجوزي
6.
تفسير ابن كثير.
7.
الدر المنثور للسيوطي.
8.
روح المعاني للألوسي.
9.
التحرير والتنوير لابن عاشور.
10.
تفسير البغوي.
11-
مختار الصحاح.
12-
لسان العرب.
13-
القاموس المحيط.

( كل المراجع السابقة نسخة الشاملة )
14-
نضرة النعيم في أخلاق الرسول الكريم ) مجموعة علماء- نسخة الشاملة )
15-
الإحسان لـلشيخ محمد حسان- دار فياض
16-
النهج الأسمى في الأسماء الحسنى - محمد حمود النجدي
17- موقع الدرر السنية http://www.dorar.net/


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 29 شوال 1436هـ/14-08-2015م, 10:33 PM
أمل عبد الرحمن أمل عبد الرحمن غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 8,163
افتراضي

أحسنت أختي بارك الله فيك وزادك من فضله

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
تجب, في

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:08 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir