دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > السلوك والآداب الشرعية > متون الآداب الشرعية > منظومة الآداب

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 14 ذو الحجة 1429هـ/12-12-2008م, 02:43 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي حفظ اللسان


11- يُكَبُّ (الْفَتَى) فِي النَّارِ: حَصْدُ لِسَانِهِ = وَإِرْسَالُ طَرْفِ الْمَرْءِ أَنْكَى، فَقَيِّدِ


  #2  
قديم 14 ذو الحجة 1429هـ/12-12-2008م, 02:58 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي غذاء الألباب للشيخ: محمد بن أحمد السفاريني

وَلَمَّا ذَكَرَ النَّاظِمُ أَنَّ مَنْ طَلَبَ السَّلَامَةَ فَعَلَيْهِ بِحِفْظِ جَوَارِحِهِ السَّبْعِ عَمَّا نَهَى اللَّهُ بَدَأَ رحمه الله تعالى بِذِكْرِ آفَاتِ أَسْرَعِهَا حَرَكَةً وَهُوَ اللِّسَانُ فَقَالَ‏:

‏ يَكُبُّ الفَتَى فِي النَّارِ حَصْدُ لِسَانِهِ = وَإِرْسَالُ طَرَفِ المَرْءِ أَنْكَى فَقَيِّدِ

‏(‏يَكُبُّ‏)‏ أَيْ يَقْلِبُ وَيَصْرَعُ ، يُقَالُ كَبَّهُ صَرَعَهُ كَأَكَبَّهُ وَكَبْكَبَهُ فَأُكِبَّ، وَهُوَ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ ‏(‏الفَتَى‏)‏ قَالَ فِي القَامُوسِ‏:‏ الفَتَى الشَّابُّ وَالسَّخِيُّ الكَرِيمُ جَمْعُهُ فِتْيَانُ وَفُتُوَّةٌ، وَالمُرَادُ هُنَا يَكُبُّ الإِنْسَانَ ‏(‏فِي النَّارِ‏)‏ المَعْهُودَةُ المَعْلُومَةُ وَهِيَ نَارُ جَهَنَّمَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ، الَّتِي مَنْ دَخَلَهَا خَسِرَ خَسَارَةً عَظِيمَةً وَخَابَتْ مِنْهُ الصَّفْقَةُ وَالتِّجَارَةُ، وَهِيَ إحْدَى العَظِيمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا يُنْسَيَا ‏.‏ أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ لَا تَنْسَوْا العَظِيمَتَيْنِ ‏(‏الجَنَّةَ وَالنَّارَ‏)‏ ثُمَّ بَكَى حَتَّى جَرَى أَوْ بَلَّ دُمُوعُهُ جَانِبَيْ لِحْيَتِهِ ثُمَّ قَالَ وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ مِنْ الآخِرَةِ لَمَشَيْتُمْ إلَى الصَّعِيدِ وَلَحَثَيْتُمْ عَلَى رُءُوسِكُمْ التُّرَابَ ‏"‏ ‏.‏
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ ‏"‏ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الآيَةَ ‏{‏وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ‏}‏ فَقَالَ أَوْقَدَ عَلَيْهَا الفَ عَامٍ حَتَّى احْمَرَّتْ وَالفَ عَامٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ، وَالفَ عَامٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ، فَهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ لَا يُطْفَأُ لَهَبُهَا ‏"‏ رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ وَالأَصْبَهَانِيُّ ‏.‏
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يُؤْتَى بِالنَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ لَهَا سَبْعُونَ الفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ الفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا ‏"‏ ‏.‏ وَأَخْرَجَ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ نَارُكُمْ هَذِهِ مَا يُوقِدُ بَنُو آدَمَ جُزْءٌ وَاحِدٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، قَالُوا وَاَللَّهِ إنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً، قَالَ إنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا ‏"‏ وَرَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالبَيْهَقِيُّ وَزَادُوا فِيهِ ‏"‏ وَضُرِبَتْ بِالبَحْرِ مَرَّتَيْنِ وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهَا مَنْفَعَةً لِأَحَدٍ ‏"‏ ‏.‏ وَصِفَاتُ النَّارِ وَأَوْدِيَتِهَا وَجِبَالِهَا وَآبَارِهَا وَحَيَّاتِهَا وَعَقَارِبِهَا وَشَرَرِهَا وَزَقُّومِهَا وَزَمْهَرِيرِهَا وَسَائِرِ مَا فِيهَا مِنْ الَّذِي ذَكَرَهُ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَدَوَّنَهُ العُلَمَاءُ مَعْلُومٌ مُفَرَّدٌ فِي كُتُبٍ لَهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ شَافِيًا وَقِسْمًا وَافِيًا فِي كِتَابِنَا ‏(‏البُحُورِ الزَّاخِرَةِ فِي عُلُومِ الآخِرَةِ‏)‏ وَهُوَ كِتَابٌ جَلِيلُ المِقْدَارِ، اشْتَمَلَ عَلَى المَوْتِ وَالبَرْزَخِ وَالمَحْشَرِ وَالمَوْقِفِ وَالجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ الآخِرَةِ وَفِيهِ مِنْ نَفَائِسِ العُلُومِ، وَجَوَاهِرِ المَنْطُوقِ وَالمَفْهُومِ، دُرَرٌ فَاخِرَةٌ، وَمِنْ ثَمَّ سَمَّيْنَاهُ بِالبُحُورِ الزَّاخِرَةِ، فَإِنَّهُ اسْمٌ يُوَافِقُ مُسَمَّاهُ، وَلَفْظُهُ يُطَابِقُ مَعْنَاهُ ‏.‏
وَقَدْ أَلَّفَ الإِمَامُ ابْنُ القَيِّمِ فِي صِفَةِ الجَنَّةِ كِتَابَهُ حَادِي الأَرْوَاحِ، إلَى مَنَازِلِ الأَفْرَاحِ، وَأَلَّفَ الإِمَامُ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ تِلْمِيذُهُ كِتَابَهُ ‏(‏صِفَةُ النَّارِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْ دَارِ البَوَارِ‏)‏ وَجُلُّ مَقَاصِدِ كِتَابِي البُحُورِ فِي البَابَيْنِ مِنْ الكِتَابَيْنِ ‏.‏
وَالنَّارُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ، وَأَفْخَمُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ، وَلَكِنْ ذَكَرْنَا هَذَا لِيُحْذَرَ وَأَكْثَرُ مَا يَكُبُّ الإِنْسَانَ فِيهَا عَلَى وَجْهِهِ وَمَنْخِرَيْهِ ‏(‏حَصْدُ لِسَانِهِ‏)‏ بِمَعْنَى مَحْصُودِهِ، شَبَّهَ مَا يُمْسِكُهُ مِنْ الكَلَامِ الحَرَامِ كَالكُفْرِ وَالقَذْفِ بِحَصَادِ الزَّرْعِ اسْتِعَارَةً تَحْقِيقِيَّةً بَعْدَ تَشْبِيهِ الالسِنَةِ بِحَصَادِ الزَّرْعِ اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً، وَأَشَارَ النَّاظِمُ بِهَذَا إلَى حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه ‏"‏ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي مِنْ النَّارِ، قَالَ لَقَدْ سَالت عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ البَيْتَ ‏.‏ثُمَّ قَالَ أَلَا أَدُلُّك عَلَى أَبْوَابِ الخَيْرِ‏؟‏ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ المَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ تَلَا ‏{‏تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ‏}‏ حَتَّى بَلَغَ يَعْمَلُونَ ‏.‏ ثُمَّ قَالَ أَلَا أُخْبِرُك بِرَأْسِ الأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ‏؟‏ قُلْت بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ ‏.‏ ثُمَّ قَالَ أَلَا أُخْبِرُك بِمَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ‏؟‏ قُلْت بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ كُفَّ عَلَيْك هَذَا، قُلْت يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ‏؟‏ فَقَالَ ثَكِلَتْك أُمُّك، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إلَّا حَصَائِدُ السِنَتِهِمْ ‏"‏ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ‏.‏
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ‏:‏ وَخَرَّجَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنُ مَاجَةَ ثُمَّ قَالَ‏:‏ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَفَّ اللِّسَانِ وَضَبْطَهُ وَحَبْسَهُ هُوَ أَصْلُ الخَيْرِ كُلِّهِ وَأَنَّ مَنْ مَلَكَ لِسَانَهُ فَقَدْ مَلَكَ أَمْرَهُ وَأَحْكَمَهُ وَضَبَطَهُ ‏.‏ وَخَرَّجَ البَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي يُسْرٍ ‏"‏ أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ، قَالَ أَمْسِكْ هَذَا وَأَشَارَ إلَى لِسَانِهِ ، فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ وَقَالَ ثَكِلَتْك أُمُّك هَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي النَّارِ إلَّا حَصَائِدُ السِنَتِهِمْ ‏"‏ وَقَالَ إسْنَادٌ حَسَنٌ ‏.‏
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ‏:‏ وَالمُرَادُ بِحَصَائِدِ الالسِنَةِ جَزَاءُ الكَلَامِ المُحَرَّمِ وَعُقُوبَاتُهُ، فَإِنَّ الإِنْسَانَ يَزْرَعُ بِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ الحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ يَحْصُدُ يَوْمَ القِيَامَةِ مَا زَرَعَ، فَمَنْ زَرَعَ خَيْرًا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ حَصَدَ الكَرَامَةَ وَمَنْ زَرَعَ شَرًّا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ حَصَدَ النَّدَامَةَ ‏.‏
وَظَاهِرُ حَدِيثِ مُعَاذٍ أَنَّ أَكْثَرَ مَا يَدْخُلُ بِهِ النَّاسُ النَّارَ النُّطْقُ بِالسِنَتِهِمْ، فَإِنَّ مَعْصِيَةَ النُّطْقِ يَدْخُلُ فِيهَا الشِّرْكُ وَهُوَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَدْخُلُ فِيهَا القَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَهُوَ قَرِينُ الشِّرْكِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ الَّتِي عَدَلَتْ الشِّرْكَ بِاَللَّهِ، وَالسِّحْرُ وَالقَذْفُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ، كَالكَذِبِ وَالنَّمِيمَةِ وَالغِيبَةِ وَسَائِرِ المَعَاصِي القَوْلِيَّةِ، وَكَذَا الفِعْلِيَّةُ لَا يَخْلُو غَالِبًا مِنْ قَوْلٍ يَقْتَرِنُ بِهَا يَكُونُ مُعِينًا عَلَيْهَا ‏.‏ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ الأَجْوَفَانِ الفَمُ وَالفَرْجُ ‏"‏ رَوَاهُ الإِمَام أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ ‏.‏ وَأَخْرَجَ البُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ ‏"‏ ‏.‏ وَعِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ وَأَبِي يَعْلَى وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ عَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا ‏"‏ مَنْ حَفِظَ مَا بَيْنَ فُقْمَيْهِ وَفَرْجَهُ دَخَلَ الجَنَّةَ ‏"‏ وَالفُقْمَانِ هُمَا اللَّحْيَانِ ‏.‏
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا ‏"‏ مَنْ وَقَاهُ اللَّهُ شَرَّ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَشَرَّ مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ دَخَلَ الجَنَّةَ ‏"‏ ‏.‏ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا ‏"‏ مَنْ حَفِظَ لِسَانَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ ‏"‏ ‏.‏ وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى بِلَفْظِ ‏"‏ مَنْ خَزَنَ لِسَانَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ ‏"‏ ‏.‏ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَالأَوْسَطِ عَنْهُ مَرْفُوعًا ‏"‏ لَا يَبْلُغُ المُؤْمِنُ حَقِيقَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يَخْزُنَ مِنْ لِسَانِهِ ‏"‏ ‏.‏ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ إنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ ‏"‏ ‏.‏ وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَلَفْظُهُ ‏"‏ إنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ ‏"‏ ‏.‏ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ ‏"‏ رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ‏.‏ وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَسْوَدَ بْنِ أَصْرَمَ المُحَارِبِيَّ قَالَ ‏"‏ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي ، قَالَ هَلْ تَمْلِكُ لِسَانَك‏؟‏ قُلْت مَا أَمْلِكُ إذَا لَمْ أَمْلِكْ لِسَانِي ‏!‏ قَالَ فَهَلْ تَمْلِكُ يَدَك‏؟‏ قُلْت مَا أَمْلِكُ إذَا لَمْ أَمْلِكْ يَدِي، قَالَ فَلَا تَقُلْ بِلِسَانِك إلَّا مَعْرُوفًا، وَلَا تَبْسُطْ يَدَك إلَّا إلَى خَيْرٍ ‏"‏ ‏.‏ وَفِي مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ لَا يَسْتَقِيمُ إيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ ‏"‏ ‏.‏ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُعَاذٍ مَرْفُوعًا ‏"‏ إنَّك لَنْ تَزَالَ سَالِمًا مَا سَكَتَّ، فَإِذَا تَكَلَّمْت كُتِبَ لَك أَوْ عَلَيْك ‏"‏ ‏.‏ وَفِي المُسْنَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا ‏"‏ مَنْ صَمَتَ نَجَا ‏"‏ ‏.‏ وَخَرَّجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ سُحَيْمٍ عَنْ أُمِّهِ قَالَتْ سَمِعْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ‏"‏ إنَّ الرَّجُلَ لَيَدْنُو مِنْ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ فَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ فَيَتَبَاعَدُ مِنْهَا أَبْعَدَ مِنْ صَنْعَاءَ ‏"‏ ‏.‏ وَخَرَّجَ أَيْضًا التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ بِلَالِ بْنِ الحَارِثِ مَرْفُوعًا ‏"‏ إنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ فَيَكْتُبُ اللَّهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ فَيَكْتُبُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ ‏"‏ ‏.‏ وَقَالَ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كَلَامُ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لَا لَهُ إلَّا الأَمْرَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ المُنْكَرِ وَذِكْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ‏"‏ ‏.‏ إذَا عَلِمْت مَا ذَكَرْنَا،وَفَهِمْت مَضْمُونَ مَا حَرَّرْنَا، تَيَقَّنْت عِظَمَ شَأْنِ اللِّسَانِ ‏.‏ وَمَا يَعُودُ بِهِ عَلَى الإِنْسَانِ ‏.‏ وَلْنَتَكَلَّمْ عَلَى آفَاتِ اللِّسَانِ وشؤونه فِي مَقَامَاتٍ ‏
مطلب فِي ذِكْرِ طَرَفٍ مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ
‏(‏المَقَامُ الأَوَّلُ‏)‏ فِي ذِكْرِ طَرَفٍ مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا مِنْهَا الكَلَامُ فِيمَا لَا يَعْنِي، وَمَعْنَى الَّذِي لَا يَعْنِيهِ لَا تَتَعَلَّقُ عِنَايَتُهُ بِهِ وَلَا يَكُونُ مِنْ مَقْصَدِهِ وَمَطْلُوبِهِ ‏.‏ وَالعِنَايَةُ شِدَّةُ الِاهْتِمَامِ بِالشَّيْءِ، يُقَالُ عَنَاهُ يَعْنِيهِ اهْتَمَّ بِهِ وَطَلَبَهُ ‏.‏ وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ ‏"‏ مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ ‏"‏ قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ‏:‏ وَلَيْسَ المُرَادُ أَنَّهُ يَتْرُكُ مَا لَا عِنَايَةَ لَهُ وَلَا إرَادَةَ بِحُكْمِ الهَوَى وَطَلَبِ النَّفْسِ بَلْ بِحُكْمِ الشَّرْعِ وَالإِسْلَامِ وَلِذَا جَعَلَهُ مِنْ حُسْنِ الإِسْلَامِ، فَإِذَا حَسُنَ إسْلَامُ المَرْءِ تَرَكَ مَا لَا يَعْنِيهِ فِي الإِسْلَامِ مِنْ الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ، فَإِنَّ الإِسْلَامَ يَقْتَضِي فِعْلَ الوَاجِبَاتِ، وَكَذَا يَنْدُبُ إلَى فِعْلِ المَنْدُوبَاتِ ‏.‏ فَالمُرَادُ بِتَرْكِهِ مَا لَا يَعْنِي مِنْ المُحَرَّمَاتِ وَالمُشْتَبِهَاتِ وَالمَكْرُوهَاتِ وَفُضُولِ المُبَاحَاتِ الَّتِي لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ لَا يَعْنِي المُسْلِمَ إذَا كَمُلَ إسْلَامُهُ وَبَلَغَ دَرَجَةَ الإِحْسَانِ، وَهُوَ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَرَاهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَرَاهُ فَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ عَلَى اسْتِحْضَارِ قُرْبِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ بِقَلْبِهِ، أَوْ عَلَى اسْتِحْضَارِ قُرْبِ اللَّهِ مِنْهُ وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْهِ فَقَدْ أَحْسَنَ إسْلَامَهُ، وَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَتْرُكَ كُلَّ مَا يُسْتَحْيَا مِنْهُ ‏.‏ وَفِي مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ وَالتَّرْمِذِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا ‏"‏ الِاسْتِحْيَاءُ مِنْ اللَّهِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا حَوَى، وَتَحْفَظَ البَطْنَ وَمَا وَعَى، وَلْتَذْكُرْ المَوْتَ وَالبِلَى، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ ‏"‏ ‏.‏ وَفِي المُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ الحُسَيْنِ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ إنَّ مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ المَرْءِ قِلَّةَ الكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ ‏"‏ ‏.‏
وَأَخْرَجَ الخَرَائِطِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ ‏"‏ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي مُطَاعٌ فِي قَوْمِي فَمَا آمُرُهُمْ‏؟‏ قَالَ لَهُ مُرْهُمْ بِإِفْشَاءِ السَّلَامِ وَقِلَّةِ الكَلَامِ إلَّا فِيمَا يَعْنِيهِمْ ‏"‏ ‏.‏ وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ كَانَ فِي صُحُفِ إبْرَاهِيمَ عليه السلام وَعَلَى العَاقِلِ مَا لَمْ يَكُنْ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَاعَاتٌ، سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٌ يَتَفَكَّرُ فِيهَا فِي صُنْعِ اللَّهِ، وَسَاعَةٌ يَخْلُو فِيهَا لِحَاجَتِهِ مِنْ المَطْعَمِ وَالمَشْرَبِ ‏"‏ ‏.‏ َعَلَى العَاقِلِ أَنْ لَا يَكُونَ ظَاعِنًا إلَّا لِثَلَاثٍ‏:‏ تَزَوُّدٍ لِمَعَادٍ، أَوْ مَرَمَّةٍ لِمَعَاشٍ، أَوْ لَذَّةٍ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ ‏.‏ وَعَلَى العَاقِلِ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِزَمَانِهِ، مُقْبِلاً عَلَى شَأْنِهِ، حَافِظًا لِلِسَانِهِ ‏.‏ وَمَنْ حَسَبَ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلَامُهُ إلَّا فِيمَا يَعْنِيهِ ‏.‏ وَكَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ‏:‏ مَنْ عَدَّ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلَامُهُ إلَّا فِيمَا يَعْنِيهِ ‏.‏ وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ ‏"‏ تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَجُلٌ يَعْنِي أَبْشِرْ بِالجَنَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوَلَا تَدْرِي فَلَعَلَّهُ تَكَلَّمَ بِمَا لَا يَعْنِيهِ، أَوْ بَخِلَ بِمَا لَا يُغْنِيهِ وَفِي بَعْضِهَا أَنَّ الصَّحَابِيَّ قُتِلَ شَهِيدًا ‏"‏ ‏.‏
وَأَخْرَجَ العُقَيْلِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا ‏"‏ أَكْثَرُ النَّاسِ ذُنُوبًا أَكْثَرُهُمْ كَلَامًا فِيمَا لَا يَعْنِيهِ ‏"‏ ‏.‏
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ دَخَلُوا عَلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ فِي مَرَضِهِ وَوَجْهُهُ يَتَهَلَّلُ فَسَأَلُوهُ عَنْ سَبَبِ تَهَلُّلِ وَجْهِهِ، فَقَالَ مَا مِنْ عَمَلٍ أَوْثَقُ عِنْدِي مِنْ خَصْلَتَيْنِ، كُنْتُ لَا أَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا يَعْنِينِي، وَكَانَ قَلْبِي سَلِيمًا لِلْمُسْلِمِينَ ‏.‏ وَقَالَ الحَسَنُ‏:‏ مِنْ عَلَامَةِ إعْرَاضِ اللَّهِ عَنْ العَبْدِ أَنْ يَجْعَلَ شُغْلَهُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ ‏.‏ وَقَالَ سَهْلٌ التُّسْتَرِيُّ‏:‏ مَنْ تَكَلَّمَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ حُرِمَ الصِّدْقَ ‏.‏ وَقَالَ مَعْرُوفٌ‏:‏ كَلَامُ العَبْدِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ خِذْلَانٌ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ‏.‏
وَمَرَّ رَجُلٌ بِلُقْمَانَ الحَكِيمِ وَالنَّاسُ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ أَلَسْت عَبْدَ بَنِي فُلَانٍ‏؟‏ قَالَ بَلَى، قَالَ الَّذِي كُنْت تَرْعَى عِنْدَ جَبَلِ كَذَا وَكَذَا‏؟‏ قَالَ بَلَى، قَالَ فَمَا بَلَغَ بِك مَا أَرَى‏؟‏ قَالَ صِدْقُ الحَدِيثِ، وَطُولُ السُّكُوتِ عَمَّا لَا يَعْنِينِي ‏.‏
وَمِنْهَا كَثْرَةُ الكَلَامِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلَامُهُ إلَّا فِيمَا يَعْنِيهِ ‏.‏
وَقَدْ قَالَ النَّخَعِيُّ‏:‏ يَهْلِكُ النَّاسُ فِي فُضُولِ الكَلَامِ وَالمَالِ ‏.‏
وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا‏:‏ ‏"‏ لَا تُكْثِرْ الكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ تُقَسِّي القَلْبَ، وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْ اللَّهِ القَلْبُ القَاسِي ‏"‏ ‏.‏
وَقَالَ عُمَرُ‏:‏ مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ سَقَطُهُ، وَمَنْ كَثُرَ سَقَطُهُ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ، وَمَنْ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ كَانَتْ النَّارُ أَوْلَى بِهِ ‏.‏ وَخَرَّجَهُ العُقَيْلِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ ‏.‏
وَكَانَ سَيِّدُنَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَأْخُذُ بِلِسَانِهِ وَيَقُولُ‏:‏ هَذَا الَّذِي أَوْرَدَنِي المَوَارِدَ ‏.‏ فَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه دَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه وَهُوَ يَجْبِذُ لِسَانَهُ، فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ مَهْ غَفَرَ اللَّهُ لَك، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ‏:‏ هَذَا أَوْرَدَنِي المَوَارِدَ ‏.‏ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ‏:‏ هَذَا أَوْرَدَنِي شَرَّ المَوَارِدِ ‏.‏ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الجَسَدِ إلَّا يَشْكُو ذَرَبَ اللِّسَانِ عَلَى حِدَّتِهِ ‏"‏ ‏.‏ وَذَرَبُ اللِّسَانِ بِفَتْحِ الذَّالِ المُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ جَمِيعًا هُوَ حِدَّتُهُ وَشَرُّهُ وَفُحْشُهُ ‏.‏
وَقَالَ ابْنُ بُرَيْدَةَ‏:‏ رَأَيْت ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَخَذَ بِلِسَانِهِ وَهُوَ يَقُولُ وَيْحَك قُلْ خَيْرًا تَغْنَمْ أَوْ اُسْكُتْ عَنْ شَرٍّ تَسْلَمْ، وَإِلَّا فَاعْلَمْ أَنَّك سَتَنْدَمُ ‏.‏ قَالَ فَقِيلَ لَهُ‏:‏ يَا أَبَا عَبَّاسٍ لِمَ تَقُولُ هَذَا‏؟‏ قَالَ إنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ الإِنْسَانَ - أُرَاهُ قَالَ - لَيْسَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ أَشَدَّ حَنَقًا أَوْ غَيْظًا يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْهُ عَلَى لِسَانِهِ إلَّا قَالَ بِهِ خَيْرًا أَوْ أَمْلَى بِهِ خَيْرًا ‏.‏
وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ مَا عَلَى الأَرْضِ شَيْءٌ أَحْوَجُ إلَى طُولِ سَجْنٍ مِنْ لِسَانٍ ‏.‏ وَقَالَ الحَسَنُ‏:‏ اللِّسَانُ أَمِيرُ البَدَنِ إذَا جَنَى عَلَى الأَعْضَاءِ شَيْئًا جَنَتْ، وَإِذَا عَفَّ عَفَّتْ ‏.‏ وَسُئِلَ ابْنُ المُبَارَكِ عَنْ قَوْلِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ‏:‏ إنْ كَانَ الكَلَامُ مِنْ فِضَّةٍ فَإِنَّ الصَّمْتَ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ لَوْ كَانَ الكَلَامُ بِطَاعَةِ اللَّهِ مِنْ فِضَّةٍ فَإِنَّ الصَّمْتَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ مِنْ ذَهَبٍ ‏.‏ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ ‏"‏ لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا ذَرٍّ فَقَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ أَلَا أَدُلُّك عَلَى خَصْلَتَيْنِ هُمَا خَفِيفَتَانِ عَلَى الظَّهْرِ وَأَثْقَلُ فِي المِيزَانِ مِنْ غَيْرِهِمَا‏؟‏ قَالَ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ عَلَيْك بِحُسْنِ الخُلُقِ، وَطُولِ الصَّمْتِ، فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا عَمِلَ الخَلَائِقُ بِمِثْلِهَا ‏"‏ ‏.‏ وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَأَبُو يَعْلَى عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا ‏"‏ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْلَمَ فَلْيَلْزَمْ الصَّمْتَ ‏"‏ ‏.‏ وَأَخْرَجَ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمْ عَنْ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ‏"‏ إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا‏:‏ قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ المَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ ‏"‏ ‏.‏ وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ‏:‏ لَوْ كُنْتُمْ تَشْتَرُونَ الكَاغَدَ لِلْحَفَظَةِ لَمَسَكْتُمْ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الكَلَامِ ‏.‏ وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ‏:‏ لِمَ لَزِمَتْ السُّكُوتَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ إنِّي لَمْ أَنْدَمْ عَلَى السُّكُوتِ قَطُّ، وَقَدْ نَدِمْت عَلَى الكَلَامِ مِرَارًا ‏.‏ وَفِيمَا قِيلَ‏:‏ جَرْحُ اللِّسَانِ كَجَرْحِ اليَدِ ‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ اللِّسَانُ كَلْبٌ عَقُورٌ، إنْ خُلِّيَ عَنْهُ عَقَرَ ‏.‏
وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا الإِمَامِ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ أَنْشَدَ بِلِسَانِهِ‏:‏

يَمُوتُ الفَتَى مِنْ عَثْرَةٍ مِنْ لِسَانِهِ = وَلَيْسَ يَمُوتُ المَرْءُ مِنْ عَثْرَةِ الرِّجْلِ
فَعَثْرَتُهُ مِنْ فِيهِ تَرْمِي بِرَأْسِهِ = وَعَثْرَتُهُ بِالرِّجْلِ تَبْرَى عَلَى مَهْلِ
وَمِمَّا قِيلَ‏:‏

قَدْ أَفْلَحَ السَّاكِتُ الصَّمُوتُ = كَلَامُهُ قَدْ يُعَدُّ قُوتُ
مَا كُلُّ نُطْقٍ لَهُ جَوَابٌ = جَوَابُ مَا تَكْرَهُ السُّكُوتُ
وَأَعْجَبُ الأَمْرِ مِنْ ظَلُومٍ = مُسْتَيْقِنٍ أَنَّهُ يَمُوتْ
وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ‏:‏

عَجِبْتُ لِإِدْلَالِ الغَبِيِّ بِنَفْسِهِ = وَصَمْتِ الَّذِي قَدْ كَانَ بِالعِلْمِ أَعْلَمَا
وَفِي الصَّمْتِ سَتْرٌ لِلْغَبِيِّ وَإِنَّمَا = صَحِيفَةُ لُبِّ المَرْءِ أَنْ يَتَكَلَّمَا
قَالَ الإِمَامُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الآدَابِ الكُبْرَى‏:‏ كَانَ الإِمَامُ مَالِكٌ يَعِيبُ كَثْرَةَ الكَلَامِ وَيَقُولُ‏:‏ لَا يُوجَدُ إلَّا فِي النِّسَاءِ وَالضُّعَفَاءِ ‏.‏ وَفِي خَبَرٍ مَأْثُورٍ‏:‏ الخَيْرُ كُلُّهُ فِي ثَلَاثٍ‏:‏ السُّكُوتِ وَالكَلَامِ وَالنَّظَرِ، فَطُوبَى لِمَنْ كَانَ سُكُوتُهُ فِكْرَةً، وَكَلَامُهُ حِكْمَةً، وَنَظَرُهُ عِبْرَةً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏
وَمِنْهَا الكَذِبُ، وَهُوَ مِنْ الآفَاتِ العِظَامِ وَالذُّنُوبِ الجِسَامِ، وَالبَذَاذَةِ، وَشَهَادَةِ الزُّورِ، وَقَوْلِ الفُجُورِ، وَسَيَأْتِي الكَلَامُ عَلَيْهَا فِي مَحَالِّهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ‏.‏ وَمِنْهَا القَذْفُ، وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي المُوبِقَاتِ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا ‏.‏ وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ مَنْ ذَكَرَ امْرًَا بِشَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ لِيَعِيبَهُ بِهِ حَبَسَهُ اللَّهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ حَتَّى يَأْتِيَ بِنَفَاذِ مَا قَالَ فِيهِ ‏"‏ ‏.‏ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ‏"‏ مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ بِالزِّنَا يُقَامُ عَلَيْهِ الحَدُّ يَوْمَ القِيَامَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ ‏"‏ ‏.‏
مطلب‏:‏ هَلْ الكَلَامُ أَفْضَلُ مِنْ السُّكُوتِ أَمْ العَكْسُ‏؟‏
‏(‏المَقَامُ الثَّالِثُ‏)‏ فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِمَا ذَكَرْنَا ‏.‏
المَسْأَلَةُ الأُولَى هَلْ الكَلَامُ أَفْضَلُ مِنْ السُّكُوتِ أَمْ عَكْسُهُ أَفْضَلُ‏؟‏ المُعْتَمَدُ أَنَّ الكَلَامَ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّحْلِيَةِ، وَالسُّكُوتُ مِنْ التَّخْلِيَةِ، وَالتَّحْلِيَةُ أَفْضَلُ، وَلِأَنَّ المُتَكَلِّمَ حَصَلَ لَهُ مَا حَصَلَ لِلسَّاكِتِ وَزِيَادَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ غَايَةَ مَا يَحْصُلُ لِلسَّاكِتِ السَّلَامَةُ وَهِيَ حَاصِلَةٌ لِمَنْ يَتَكَلَّمُ بِالخَيْرِ مَعَ ثَوَابِ الخَيْرِ ‏.‏
قَالَ الإِمَامُ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ‏:‏ تَذَاكَرُوا عِنْدَ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ أَيُّمَا أَفْضَلُ الصَّمْتُ أَوْ النُّطْقُ‏؟‏ فَقَالَ قَوْمٌ الصَّمْتُ أَفْضَلُ، فَقَالَ الأَحْنَفُ النُّطْقُ أَفْضَلُ، لِأَنَّ فَضْلَ الصَّمْتِ لَا يَعْدُو صَاحِبَهُ، وَالمَنْطِقُ الحَسَنُ يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ سَمِعَهُ ‏.‏
وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ العُلَمَاءِ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ رضي الله عنه‏:‏ الصَّامِتُ عَلَى عِلْمٍ كَالمُتَكَلِّمِ عَلَى عِلْمٍ، فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ المُتَكَلِّمُ عَلَى عِلْمٍ، أَفْضَلَهُمَا يَوْمَ القِيَامَةِ حَالاً، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْفَعَتَهُ لِلنَّاسِ وَهَذَا صَمْتُهُ لِنَفْسِهِ ‏.‏
قَالَ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ وَكَيْفَ بِفِتْنَةِ المَنْطِقِ، فَبَكَى عُمَرُ عِنْدَ ذَلِكَ بُكَاءً شَدِيدًا قَالَ الحَافِظُ‏:‏ وَلَقَدْ خَطَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ يَوْمًا فَرَقَّ النَّاسُ وَبَكَوْا، فَقَطَعَ خُطْبَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ لَوْ أَتْمَمْت كَلَامَك رَجَوْنَا أَنْ يَنْفَعَ اللَّهُ بِهِ، فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ إنَّ القَوْلَ فِتْنَةٌ، وَالفِعْلُ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِ مِنْ القَوْلِ ‏.‏
قَالَ الحَافِظُ رحمه الله تعالى‏:‏ وَكُنْت مِنْ مُدَّةٍ قَدْ رَأَيْت عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ رضي الله عنه فِي المَنَامِ وَسَمِعْته يَتَكَلَّمُ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ وَأَظُنُّ أَنِّي فَاوَضْتُهُ فِيهَا وَفَهِمْت مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ التَّكَلُّمَ بِالخَيْرِ أَفْضَلُ مِنْ السُّكُوتِ وَأَظُنُّ أَنَّهُ وَقَعَ فِي أَثْنَاءِ الكَلَامِ ذِكْرُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ وَأَنَّ عُمَرَ قَالَ ذَلِكَ لَهُ ‏.‏
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ المَلِكِ قَالَ الصَّمْتُ مَنَامُ العَقْلِ وَالمَنْطِقُ يَقَظَتُهُ، وَلَا يَتِمُّ حَالٌ إلَّا بِحَالٍ، يَعْنِي لَا بُدَّ مِنْ الصَّمْتِ وَالكَلَامِ ‏.‏
وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ وَكَانَ أَحَدَ الحُكَمَاءِ يَقُولُ‏:‏ إذَا كَانَ المَرْءُ يُحَدِّثُ فِي مَجْلِسٍ فَأَعْجَبَهُ الحَدِيثُ فَلْيَسْكُتْ، وَإِذَا كَانَ سَاكِتًا فَأَعْجَبَهُ السُّكُوتُ فَلْيُحَدِّثْ ‏.‏
قَالَ الحَافِظُ‏:‏ وَهَذَا حَسَنٌ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ سُكُوتُهُ وَحَدِيثُهُ بِمُخَالَفَةِ هَوَاهُ وَإِعْجَابِهِ بِنَفْسِهِ ‏.‏
وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ جَدِيرًا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ إيَّاهُ وَتَسْدِيدِهِ فِي نُطْقِهِ وَسُكُوتِهِ، لِأَنَّ كَلَامَهُ وَسُكُوتَهُ يَكُونُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ‏.‏
وَفِي مَرَاسِيلِ الحَسَنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ ‏"‏ عَلَامَةُ الطُّهْرِ أَنْ يَكُونَ قَلْبُ العَبْدِ عِنْدِي مُعَلَّقًا فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَنْسَنِي عَلَى حَالٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ مَنَنْت عَلَيْهِ بِالِاشْتِغَالِ بِي لَا يَنْسَانِي، فَإِذَا نَسِيَنِي حَرَّكْت قَلْبَهُ، فَإِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ لِي وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ لِي، فَذَلِكَ الَّذِي يَأْتِيهِ المَعُونَةُ مِنْ عِنْدِي ‏"‏ رَوَاهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ الجُنَيْدِ ‏.‏
ثُمَّ قَالَ الحَافِظُ‏:‏ وَبِكُلِّ حَالٍ فَالتِزَامُ الصَّمْتِ وَاعْتِقَادُهُ قُرْبَةً إمَّا مُطْلَقًا أَوْ فِي بَعْضِ العِبَادَاتِ كَالحَجِّ وَالِاعْتِكَافِ وَالصِّيَامِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ‏.‏ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنْ صِيَامِ الصَّمْتِ ‏.‏ وَخَرَّجَ الإِسْمَاعِيلِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الصَّمْتِ فِي العُكُوفِ ‏.‏ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ لَا صُمَاتَ يَوْمٍ إلَى اللَّيْلِ ‏"‏ ‏.‏
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه لِامْرَأَةٍ حَجَّتْ مُصْمِتَةً‏:‏ إنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ، هَذَا مِنْ عَمَلِ الجَاهِلِيَّةِ ‏.‏
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ زَيْنِ العَابِدِينَ رضي الله عنه وَعَنْ آبَائِهِ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ صَوْمُ الصَّمْتِ حَرَامٌ ‏.‏ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ‏.‏
مطلب‏:‏ أَيُّ الجَارِحَتَيْنِ أَفْضَلُ اللِّسَانُ أَمْ العَيْنَانِ‏؟‏
المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَيُّ الجَارِحَتَيْنِ أَفْضَلُ اللِّسَانُ أَمْ العَيْنَانِ‏؟‏ لَا شَكَّ أَنَّ أَشْرَفَ مَا فِي الإِنْسَانِ مَحَلُّ العِلْمِ مِنْهُ وَهُوَ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَلَمَّا كَانَ القَلْبُ هُوَ مَحَلُّ العِلْمِ، وَالسَّمْعُ رَسُولُهُ الَّذِي يَأْتِي بِهِ، وَالعَيْنُ طَلِيعَتُهُ، كَانَ مَلِكًا عَلَى سَائِرِ الأَعْضَاءِ يَأْمُرُهَا فَتَأْتَمِرُ بِأَمْرِهِ، وَيَصْرِفُهَا فَتَنْقَادُ لَهُ طَائِعَةً بِمَا خُصَّ بِهِ مِنْ العِلْمِ دُونَهَا، فَلِذَلِكَ كَانَ مَلِكَهَا وَالمُطَاعَ فِيهَا ‏.‏
قَالَ الإِمَامُ المُحَقِّقُ ابْنُ القَيِّمِ فِي مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ‏:‏ اللِّسَانُ أَحَدُ آيَاتِ اللَّهِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ تُرْجُمَانُ مَلِكِ الأَعْضَاءِ يُبَيِّنُ عَنْهُ وَيُبَلِّغُ عَنْ مَقَاصِدِهِ وَمُرَادَاتِهِ، فَجَعَلَهُ سُبْحَانَهُ تُرْجُمَانًا لِمَلِكِ الأَعْضَاءِ الَّذِي هُوَ القَلْبُ مُبَيِّنًا عَنْهُ، كَمَا جَعَلَ الأُذُنَ رَسُولاً مُؤَدِّيًا مُبَلِّغًا إلَيْهِ، فَهِيَ رَسُولُهُ وَبَرِيدُهُ الَّذِي يُؤَدِّي إلَيْهِ الأَخْبَارَ، وَاللِّسَانُ رَسُولُهُ وَبَرِيدُهُ الَّذِي يُؤَدِّي عَنْهُ مَا يُرِيدُ ‏.‏
وَاقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ جُعِلَ هَذَا الرَّسُولُ مَصُونًا، مَحْفُوظًا مَسْتُورًا غَيْرَ بَارِزٍ مَكْشُوفٍ كَالأُذُنِ وَالعَيْنِ وَالأَنْفِ، لِأَنَّ تِلْكَ الأَعْضَاءَ لَمَّا كَانَتْ تُؤَدِّي مِنْ الخَارِجِ إلَيْهِ جُعِلَتْ بَارِزَةً ظَاهِرَةً، وَلَمَّا كَانَ اللِّسَانُ مُؤَدِّيًا مِنْهُ إلَى الخَارِجِ جُعِلَ مَسْتُورًا مَصُونًا لِعَدَمِ الفَائِدَةِ فِي إخْرَاجِهِ لِأَنَّهُ لَا يَأْخُذُ مِنْ خَارِجٍ إلَى القَلْبِ ‏.‏
قَالَ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ أَشْرَفَ الأَعْضَاءِ بَعْدَ القَلْبِ، وَمَنْزِلَتُهُ مِنْهُ مَنْزِلَةُ تَرْجُمَانِهِ وَوَزِيرِهِ، ضُرِبَ عَلَيْهِ سُرَادِقٌ يَسْتُرُهُ وَيَصُونُهُ، وَجُعِلَ فِي ذَلِكَ السُّرَادِقِ كَالقَلْبِ فِي الصَّدْرِ ‏.‏ فَعُلِمَ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ أَشْرَفَ الأَعْضَاءِ بَعْدَ القَلْبِ اللِّسَانُ، وَهُوَ كَذَلِكَ ‏.‏
مطلب هَلْ السَّمْعُ أَفْضَلُ أَمْ البَصَرُ‏؟‏
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ‏:‏ وَلَمَّا كَانَ لِلسَّمْعِ وَالبَصَرِ مِنْ الإِدْرَاكِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمَا مِنْ الأَعْضَاءِ كَانَا فِي أَشْرَفِ جُزْءٍ مِنْ الإِنْسَانِ وَهُوَ وَجْهُهُ ‏.‏ وَاخْتُلِفَ فِي الأَفْضَلِ مِنْهُمَا، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَبُو المَعَالِي وَغَيْرُهُ‏:‏ السَّمْعُ أَفْضَلُ مِنْ البَصَرِ ‏.‏
قَالُوا لِأَنَّهُ بِهِ تُنَالُ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَإِنَّهَا إنَّمَا تَحْصُلُ بِمُتَابَعَةِ الرُّسُلِ وَقَبُولِ رِسَالَاتِهِمْ، وَبِالسَّمْعِ عُرِفَ ذَلِكَ، فَإِنَّ مَنْ لَا سَمْعَ لَهُ لَا يَعْلَمُ مَا جَاءُوا بِهِ ‏.‏
وَأَيْضًا فَإِنَّ السَّمْعَ يُدْرَكُ بِهِ أَجَلُّ شَيْءٍ وَأَفْضَلُهُ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي فَضَّلَهُ عَلَى الكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ ‏.‏
وَأَيْضًا إنَّمَا تُنَالُ العُلُومُ بِالتَّفَاهُمِ وَالتَّخَاطُبِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِالسَّمْعِ، وَمُدْرَكُ السَّمْعِ أَعَمُّ مِنْ مُدْرَكِ البَصَرِ، فَإِنَّهُ يُدْرِكُ الكُلِّيَّاتِ وَالجُزْئِيَّاتِ، وَالشَّاهِدَ وَالغَائِبَ، وَالمَوْجُودَ وَالمَعْدُومَ، بِخِلَافِ البَصَرِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُدْرِكُ بَعْضَ المُشَاهَدَاتِ، وَالسَّمْعُ يَسْمَعُ كُلَّ عِلْمٍ، فَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنْ الآخَرِ ‏.‏
وَلَوْ فَرَضْنَا شَخْصَيْنِ أَحَدُهُمَا يَسْمَعُ كَلَامَ الرَّسُولِ وَلَا يَرَى شَخْصَهُ، وَالآخَرُ بَصِيرٌ يَرَاهُ وَلَا يَسْمَعُ كَلَامَهُ لِصَمَمِهِ هَلْ كَانَا سَوَاءً‏؟‏ وَأَيْضًا فَفَاقِدُ البَصَرِ إنَّمَا يَفْقِدُ إدْرَاكَ بَعْضِ الأُمُورِ الجُزْئِيَّةِ المُشَاهَدَةِ وَيُمْكِنُهُ مَعْرِفَتُهَا بِالصِّفَةِ وَلَوْ تَقْرِيبًا بِخِلَافِ فَاقِدِ السَّمْعِ، فَإِنَّ الَّذِي فَاتَهُ مِنْ العِلْمِ لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ بِحَاسَّةِ البَصَرِ وَلَا قَرِيبًا مِنْهُ ‏.‏
وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الكُفَّارَ بِعَدَمِ السَّمْعِ فِي القُرْآنِ أَكْثَرَ مِنْ ذَمِّهِ لَهُمْ بِعَدَمِ البَصَرِ، بَلْ إنَّمَا يَذُمُّهُمْ بِعَدَمِ البَصَرِ تَبَعًا لِعَدَمِ العَقْلِ وَالسَّمْعِ ‏.‏
وَأَيْضًا الَّذِي يُورِدُهُ السَّمْعُ عَلَى القَلْبِ مِنْ العُلُومِ لَا يَلْحَقُهُ فِيهِ كَلَالٌ وَلَا سَآمَةٌ وَلَا تَعَبٌ مَعَ كَثْرَتِهِ وَعِظَمِهِ، بِخِلَافِ الَّذِي يُورِدُهُ البَصَرُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ فِيهِ الكَلَالُ وَالضَّعْفُ وَالنَّقْصُ، وَرُبَّمَا خَشِيَ صَاحِبُهُ عَلَى ذَهَابِهِ مَعَ قِلَّتِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى السَّمْعِ ‏.‏
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ ابْنُ قُتَيْبَةَ‏:‏ بَلْ البَصَرُ أَفْضَلُ، فَإِنَّ أَعْلَى النَّعِيمِ لَذَّةً وَأَفْضَلَهُ مَنْزِلَةً النَّظَرُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي دَارِ الآخِرَةِ، وَهَذَا إنَّمَا يُنَالُ بِالبَصَرِ، وَهَذِهِ وَحْدَهَا كَافِيَةٌ فِي تَفْضِيلِهِ ‏.‏
قَالُوا وَهُوَ مُقَدِّمَةُ القَلْبِ وَطَلِيعَتُهُ وَرَائِدُهُ، فَمَنْزِلَتُهُ عِنْدَهُ أَقْرَبُ مِنْ مَنْزِلَةِ السَّمْعِ، وَلِهَذَا كَثِيرًا مَا يُقْرَنُ بَيْنَهُمَا فِي الذِّكْرِ كَقَوْلِهِ ‏{‏فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ‏}‏ فَالِاعْتِبَارُ بِالقَلْبِ وَالبَصَرُ بِالعَيْنِ ‏.‏ وَقَوْلُهُ ‏{‏وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ‏}‏وَلَمْ يَقُلْ وَأَسْمَاعَهُمْ ‏.‏ وَقَالَ تَعَالَى ‏{‏فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ‏}‏ وَقَالَ ‏{‏يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ‏}‏ وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الوَصْلَةِ وَالِارْتِبَاطِ بَيْنَ القَلْبِ وَالبَصَرِ ‏.‏ وَلَمَّا كَانَ القَلْبُ أَشْرَفَ الأَعْضَاءِ كَانَ أَشَدَّهَا ارْتِبَاطًا بِهِ أَشْرَفَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا يَأْمَنُهُ القَلْبُ عَلَى مَا لَا يَأْمَنُ السَّمْعَ عَلَيْهِ، بَلْ إذَا ارْتَابَ مِنْ جِهَةٍ عَرَضَ مَا يَأْتِيهِ بِهِ عَلَى البَصَرِ لِيُزَكِّيَهُ أَوْ يَرُدَّهُ، فَالبَصَرُ حَاكِمٌ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهِ ‏.‏
قَالُوا‏:‏ وَمِنْ هَذَا الحَدِيثُ المَشْهُورُ الَّذِي رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مَرْفُوعًا ‏"‏ لَيْسَ المُخْبِرُ كَالمُعَايِنِ ‏"‏ وَلِذَا أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُوسَى بِأَنَّ قَوْمَهُ اُفْتُتِنُوا مِنْ بَعْدِهِ وَعَبَدُوا العِجْلَ فَلَمْ يَلْحَقْهُ فِي ذَلِكَ مَا لَحِقَهُ عِنْدَ رُؤْيَةِ ذَلِكَ وَمُعَايَنَتِهِ مِنْ القَاءِ الالوَاحِ وَكَسْرِهَا لِقُوَّةِ المُعَايَنَةِ عَلَى الخَبَرِ ‏.‏ وَهَذَا إبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ سَأَلَ رَبَّهُ يُرِيهِ كَيْفَ يُحْيِي المَوْتَى، وَقَدْ عَلِمَ ذَلِكَ بِخَبَرِ اللَّهِ لَهُ، وَلَكِنْ طَلَبَ أَفْضَلَ المَنَازِلِ وَهِيَ طُمَأْنِينَةُ القَلْبِ ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَلِلْيَقِينِ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ، أَوَّلُهَا السَّمْعُ، وَثَانِيهَا العَيْنُ وَهِيَ المُسَمَّاةُ بِعَيْنِ اليَقِينِ وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ المَرْتَبَةِ الأُولَى وَأَكْمَلُ وَتَقَدَّمَ بَيَانُهَا ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَأَيْضًا فَالبَصَرُ يُؤَدِّي إلَى القَلْبِ وَيُؤَدِّي عَنْهُ، فَإِنَّ العَيْنَ مِرْآةُ القَلْبِ يَظْهَرُ فِيهَا مَا يُحِبُّهُ مِنْ البُغْضِ وَالمَحَبَّةِ، وَالمُوَالَاةِ وَالمُعَادَاةِ، وَالسُّرُورِ وَالحُزْنِ، وَأَمَّا الأُذُنُ فَلَا تُؤَدِّي عَنْ القَلْبِ شَيْئًا البَتَّةَ، وَإِنَّمَا مَرْتَبَتُهَا الإِيصَالُ إلَيْهِ حَسْبُ، فَالعَيْنُ أَشَدُّ تَعَلُّقًا بِهِ ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَالصَّوَابُ أَنَّ كُلاً مِنْهُمَا لَهُ خَاصِّيَّةٌ فَضَلَ بِهَا الآخَرَ، فَالمُدْرَكُ بِالسَّمْعِ أَعَمُّ وَأَشْمَلُ، وَالمُدْرَكُ بِالبَصَرِ أَتَمُّ وَأَكْمَلُ ‏.‏ فَالسَّمْعُ لَهُ العُمُومُ وَالشُّمُولُ، وَالبَصَرُ لَهُ الظُّهُورُ وَالتَّمَامُ وَكَمَالُ الإِدْرَاكِ ‏.‏ وَأَمَّا نَعِيمُ الجَنَّةِ فَشَيْئَانِ أَحَدُهُمَا النَّظَرُ إلَى اللَّهِ، وَالثَّانِي سَمَاعُ خِطَابِهِ وَكَلَامِهِ كَمَا رَوَاهُ الإِمَامُ ابْنُ الإِمَامِ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الإِمَامِ أَحْمَدَ فِي السُّنَّةِ وَغَيْرِهِ‏:‏ كَأَنَّ النَّاسَ يَوْمَ القِيَامَةِ لَمْ يَسْمَعُوا القُرْآنَ إذَا سَمِعُوهُ مِنْ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ ‏.‏
قَالَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ سَلَامَهُ عَلَيْهِمْ وَخِطَابَهُ لَهُمْ وَمُحَاضَرَتَهُ إيَّاهُمْ كَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ لَا يُشْبِهُهَا شَيْءٌ قَطُّ، وَلَا يَكُونُ أَطْيَبَ عِنْدَهُمْ مِنْهَا ‏.‏ وَلِهَذَا يَذْكُرُ سُبْحَانَهُ فِي وَعِيدِ أَعْدَائِهِ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ كَمَا يَذْكُرُ أَصْحَابُهُ عَنْهُمْ وَلَا يَرَوْنَهُ، فَكَلَامُهُ وَرُؤْيَتُهُ أَعْلَى نَعِيمِ أَهْلِ الجَنَّةِ ‏.‏
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِ مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ‏:‏ وَاخْتَلَفَ النُّظَّارُ فِي الضَّرِيرِ وَالأَطْرَشِ أَيُّهُمَا أَقْرَبُ إلَى الكَمَالِ وَأَقَلُّ اخْتِلَالاً لِأُمُورِهِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَيُّ الصِّفَتَيْنِ أَكْمَلُ، صِفَةِ السَّمْعِ أَوْ صِفَةِ البَصَرِ، ثُمَّ أَشَارَ إلَى مَا قَدَّمْنَا وَأَنَّهُ أَيُّ الصِّفَتَيْنِ كَانَ أَكْمَلَ فَالضَّرَرُ بِعَدَمِهَا أَقْوَى ‏.‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ وَاَلَّذِي يَلِيقُ بِهَذَا المَوْضِعِ أَنْ يُقَالَ‏:‏ عَادِمُ البَصَرِ أَشَدُّهُمَا ضَرَرًا، وَأَسْلَمُهُمَا دِينًا وَأَحْمَدُهُمَا عَاقِبَةً ‏.‏ وَعَادِمُ السَّمْعِ أَقَلُّهُمَا ضَرَرًا فِي دُنْيَاهُ، وَأَجْهَلُهُمَا بِدِينِهِ، وَأَسْوَأُ عَاقِبَةً، فَإِنَّهُ إذَا عَدِمَ السَّمْعَ عَدِمَ المَوَاعِظَ وَالنَّصَائِحَ، وَانْسَدَّتْ عَلَيْهِ أَبْوَابُ العُلُومِ النَّافِعَةِ، وَانْفَتَحَ لَهُ طُرُقُ الشَّهَوَاتِ الَّتِي يُدْرِكُهَا البَصَرُ، وَلَا يَنَالُهُ مِنْ العِلْمِ مَا يَكُفُّهُ عَنْهَا ‏.‏ فَضَرَرُهُ فِي دِينِهِ أَكْثَرُ، وَضَرَرُ الأَعْمَى فِي دُنْيَاهُ أَكْثَرُ ‏.‏
وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَطْرَشُ، وَكَانَ فِيهِمْ جَمَاعَةٌ أَضِرَّاءُ، وَقَلَّ أَنْ يَبْتَلِيَ اللَّهُ أَوْلِيَاءَهُ بِالطَّرَشِ، وَيَبْتَلِي كَثِيرًا مِنْهُمْ بِالعَمَى ‏.‏ فَهَذَا فَصْلُ الخِطَابِ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ، فَمَضَرَّةُ الطَّرَشِ فِي الدِّينِ، وَمَضَرَّةُ العَمَى فِي الدُّنْيَا، وَالمُعَافَى مَنْ عَافَاهُ اللَّهُ مِنْهُمَا وَمَتَّعَهُ بِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، وَجَعَلَهُ الوَارِثَ مِنْهُ ‏.‏ انْتَهَى ‏.‏
وَالحَاصِلُ أَنَّ القَلْبَ أَفْضَلُ الجَوَارِحِ، إذْ هُوَ المَلِكُ، ثُمَّ اللِّسَانَ، ثُمَّ السَّمْعَ لِسَعَةِ إدْرَاكِهِ، ثُمَّ البَصَرُ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي الأَخِيرَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا ‏.‏ وَأَمَّا الأَوَّلَانِ فَلَا خِلَافَ فِيهِمَا فِيمَا عَلِمْنَا ‏.‏
وَلِذَا يُلْحَقُ مَنْ عَدِمَ البَيَانَيْنِ بَيَانَ اللِّسَانِ وَبَيَانَ الجِنَانِ بِالحَيَوَانَاتِ البَهِيمِيَّةِ، بَلْ هِيَ أَحْسَنُ حَالاً مِنْهُ، وَإِنْ عَدِمَ بَيَانَ اللِّسَانِ وَحْدَهُ عَدِمِ خَاصِّيَّةَ الإِنْسَانِ وَهِيَ النُّطْقُ وَاشْتَدَّتْ المُؤْنَةُ بِهِ وَعَلَيْهِ، وَعَظُمَتْ حَسْرَتُهُ فَطَالَ تَأَسُّفُهُ عَلَى رَدِّ الجَوَابِ وَرَجْعِ الخِطَابِ، فَهُوَ كَالمُقْعَدِ الَّذِي يَرَى مَا هُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ وَلَا تَمْتَدُّ يَدُهُ إلَيْهِ ‏.‏ فَجَلَّ شَأْنُ اللَّهِ كَمْ لَهُ مِنْ نِعْمَةٍ عَلَى عِبَادِهِ سَابِغَةٍ فِي هَذِهِ الأَعْضَاءِ وَالقُوَى وَالمَنَافِعِ، فَحِكْمَتُهُ سُبْحَانَهُ بَالِغَةٌ ‏.‏ وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ شَرِيفَةٌ قَلَّ أَنْ تَعْثُرَ عَلَيْهَا فِي كِتَابٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ‏.‏
مطلب هَلْ المَلَكَانِ يَكْتُبَانِ كُلَّ مَا يَتَكَلَّمُهُ الإِنْسَانُ‏؟‏
(‏المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ‏)‏ هَلْ المَلَكَانِ الكَرِيمَانِ الكَاتِبَانِ يَكْتُبَانِ كُلَّ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الإِنْسَانُ، أَوْ لَا يَكْتُبَانِ إلَّا مَا فِيهِ ثَوَابٌ وَعِقَابٌ‏؟‏ اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ ‏.‏
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما‏:‏ يَكْتُبُ المَلَكُ كُلَّ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، حَتَّى أَنَّهُ لَيَكْتُبُ قَوْلَ أَكَلْت وَشَرِبْت وَذَهَبْت وَجِئْت، حَتَّى إذَا كَانَ يَوْمُ الخَمِيسِ عَرَضَ قَوْلَهُ وَعَمَلَهُ فَأُقِرَّ مِنْهُ مَا كَانَ فِيهِ خَيْرٌ أَوْ شَرٌّ وَالغِيَ سَائِرُهُ، فَذَلِكَ قوله تعالى ‏{‏يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ‏}‏ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى ‏{‏إِذْ يَتَلَقَّى المُتَلَقِّيَانِ عَنِ اليَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ‏}‏
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ‏:‏ وَقَدْ أَجْمَعَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَلَى أَنَّ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ يَكْتُبُ الحَسَنَاتِ، وَاَلَّذِي عَنْ شِمَالِهِ يَكْتُبُ السَّيِّئَاتِ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ ‏.‏ وَفِي الصَّحِيحِ ‏"‏ إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ وَالمَلَكُ عَنْ يَمِينِهِ ‏"‏ ‏.‏ وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا أَنَّ عَنْ يَمِينِهِ كَاتِبَ الحَسَنَاتِ ‏.‏
وَعَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ‏:‏ رَكِبَ رَجُلٌ حِمَارًا فَعَثَرَ بِهِ، فَقَالَ تَعِسَ الحِمَارُ، فَقَالَ صَاحِبُ اليَمِينِ مَا هِيَ حَسَنَةٌ أَكْتُبُهَا، وَقَالَ صَاحِبُ اليَسَارِ مَا هِيَ سَيِّئَةٌ فَأَكْتُبُهَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَى صَاحِبِ الشِّمَالِ مَا تَرَكَ صَاحِبُ اليَمِينِ مِنْ شَيْءٍ فَاكْتُبْهُ، فَأَثْبَتَ فِي السَّيِّئَاتِ تَعِسَ الحِمَارُ ‏.‏ قَالَ الحَافِظُ‏:‏ وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ مَا لَيْسَ بِحَسَنَةٍ فَهُوَ سَيِّئَةٌ وَإِنْ كَانَ لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهَا، فَإِنَّ بَعْضَ السَّيِّئَاتِ قَدْ لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهَا، وَقَدْ تَقَعُ مُكَفَّرَةً بِاجْتِنَابِ الكَبَائِرِ، وَلَكِنَّ زَمَانَهَا قَدْ خَسِرَهُ صَاحِبُهَا حَيْثُ ذَهَبَ بَاطِلاً، فَيَحْصُلُ لَهُ بِذَلِكَ حَسْرَةٌ فِي القِيَامَةِ وَأَسَفٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ نَوْعُ عُقُوبَةٍ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ‏.‏


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
اللسان, دفع

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 06:41 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir