وُجوبُ فَتْحِ همزةِ إنَّ
176- وهَمْزَ إِنَّ افْتَحْ لسَدِّ مَصْدَرِ = مَسَدَّهَا وفي سِوَى ذاكَ اكْسِرِ
هَمزةُ (إنَّ) لها ثلاثةُ أحوالٍ: وُجوبُ الفتْحِ، ووُجوبُ الكسْرِ، وجوازُ الوَجْهَيْنِ.
والقاعدةُ في هذه المسألةِ أنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ يَحتَاجُ فيه ما قبلَ (إنَّ) إلى مَصْدَرٍ؛ أي: مُفْرَدٍ، ولا يَجُوزُ في صناعةِ الإعرابِ أنْ يكونَ جُملةً - فإنَّ الهمزةَ تُفتَحُ، وكلَّ مَوْضِعٍ يَحتاجُ فيه ما قبلَ (إنَّ) إلى جُملةٍ، ولا يَجُوزُ في صناعةِ الإعرابِ أنْ يكونَ مَصْدَراً؛ أيْ: مُفْرَداً - فإنَّ الهمزةَ تُكْسَرُ، وكلَّ مَوْضِعٍ يَصِحُّ فيه الوَجهانِ فإنَّ الهمزةَ يَجُوزُ فتْحُها وكَسْرُها، والآنَ نُفَصِّلُ ذلك فنَقولُ:
الحالةُ الأولى: وُجوبُ الفتْحِ.
وذلك إذا وَجَبَ تقديرُها معَ اسْمِها وخَبَرِها بمصدَرٍ؛ لكونِ المقامِ يَستدعِي ذلك، كأنْ تكونَ في مَوْضِعِ رفْعِ فاعلٍ، نحوُ: سَرَّنِي أنَّكَ مُوَاظِبٌ على الصَّفِّ الأَوَّلِ. أيْ: سَرَّنِي مُواظبَتُك، قالَ تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ}؛ أيْ: إنزالُنا؛ لأنَّ الفاعلَ لا يكونُ إلاَّ مُفْرَداً.
أو تكونَ في مَوْضِعِ رفْعِ نائبِ فاعِلٍ، نحوُ: كُتِبَ إليَّ أنك حاضِرٌ؛ أيْ: حُضورُكُ، قالَ تعالى: {قَلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ}؛ أي: استماعُ.
أو مُبتدأٍ، نحوُ: مِن حِرْصِكَ أنَّكَ حَضَرْتَ مُتَقَدِّماً؛ أيْ: حُضورُكَ مُتَقَدِّماً، قالَ تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً}؛ أيْ: رُؤْيَتُكَ.
أو تكونَ في مَحَلِّ نصْبِ مفعولٍ به، نحوُ: عَرَفْتُ أنَّ العلْمَ نافعٌ؛ أي: نفْعَ العِلْمِ، قالَ تعالى: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ}؛ أيْ: إشراكَكم.
أو في مَوْضِعِ جَرٍّ، نحوُ: فَرِحْتُ بأنَّ جارَنا مُواظِبٌ على الصلاةِ. قالَ تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ}؛ أيْ: بأَحَقِّيَّتِه، إلى غيرِ ذلك ممَّا يَدْخُلُ تحتَ الضابطِ المذكورِ.
واعلَمْ أنَّ هذا المصدَرَ المُؤَوَّلَ هو مَصدرُ خبرِ (إنَّ) مُضافاً إلى اسْمِها إنْ كانَ مُشْتَقًّا كالفعْلِ، كما تَقَدَّمَ في الآياتِ أو الوصْفِ، نحوُ: سَرَّنِي أنَّكَ مُخْلِصٌ؛ أيْ: إخلاصُكَ، وإنْ كانَ خَبَرُها جامِداً أو ظَرْفاً فالمصدَرُ الْمُقَدَّرُ هو (الكونُ) مُضافاً إلى اسْمِها، نحوُ: سَرَّنِي أنَّك في الدارِ؛ أيْ: كونُك في الدارِ. ونحوُ: سَرَّنِي أنَّكَ رَجُلٌ. أيْ: كونُك رَجُلاً.
هذا معنى قولِه: (وهَمْزَ إنَّ افْتَحْ.. إلخ)؛ أي: افتَحْ همزةَ (إنَّ) إذا كانَ المصدَرُ يَسُدُّ مَسَدَّها؛ أيْ: يقُومُ مَقَامَها في الصناعةِ الإعرابيَّةِ، واكسِرِ الهمزةَ فيما سِوَى ذلك.
وجوبُ كَسْرِ هَمزةِ (إنَّ)
177- فاكْسِرْ في الابْتِدَا وفي بَدْءِ صِلَهْ = وحيثُ إنَّ ليَمينٍ مُكْمِلَهْ
178- أو حُكِيَتْ بالقولِ أو حَلَّتْ مَحَلْ = حالٍ كزُرْتُهُ وإِنِّي ذو أَمَلْ
179- وكَسَرُوا مِن بعدِ فِعْلٍ عُلِّقَا = باللامِ كاعْلَمْ إنَّه لَذُو تُقَى
الحالةُ الثانيةُ مِن أحوالِ همزةِ (إنَّ) وُجوبُ الكسْرِ، وضابِطُ ذلك إذا لم يُمْكِنْ تأويلُها بِمَصدَرٍ، بأنْ كانَ السياقُ يَستدعِي جُملةً. وهذا يَقَعُ في سبعةِ مَواضعَ:
1- أنْ تَقَعَ (إنَّ) في ابتداء الكلامِ، سواءٌ كانَ الابتداءُ حقيقيًّا، نحوُ: إنَّ الرجوعَ إلى الحقِّ فَضيلةٌ. قالَ تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ}، أو حُكْمِيًّا؛ كالواقعةِ بعدَ (أَلاَ)؛ كقَولِه تعالى: {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ}، أو بعدَ (كَلاَّ)؛ كقولِه تعالى: {كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى}.
2- أنْ تَقَعَ في صَدْرِ صِلةِ الموصولِ، بحيثُ لا يَسْبِقُها شيءٌ، نحوُ: حَضَرَ الذي إنه يُفيدُ الناسَ. قالَ تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ}، فإنْ وَقَعَتْ في حَشْوِ الصِّلَةِ فُتِحَتْ، نحوُ: جاءَ الذي عِندي أنه فاضلٌ.
3- أنْ تَقَعَ جوابًا للقَسَمِ، وقد حُذِفَ فِعْلُ القَسَمِ، سواءٌ ذُكِرَت اللامُ في خَبَرِها، نحوُ: واللهِ إنَّ الصدْقَ لنافِعٌ. قالَ تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ}، أو لم تُذْكَرْ، نحوُ: واللهِ إنَّ الصدْقَ نافِعٌ. قالَ تعالى: {حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}.
فإنْ ذُكِرَ فِعْلُ القَسَمِ كُسِرَتْ بشَرْطِ وجودِ اللامِ، نحوُ: أَحْلِفُ باللهِ إنَّ التحَيُّلَ على الرِّبَا لَمُحَرَّمٌ.
ومنه قولُه تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ}، وإنْ لم تُوجَدِ اللامُ جازَ الوَجهانِ - الفتْحُ والكسْرُ - كما سيَأْتِي إنْ شاءَ اللهُ.
4- أنْ تَقَعَ في صَدْرِ جُملةٍ مَحْكِيَّةٍ بالقولِ (لأنَّ الْمَحْكِيَّ بالقولِ لا يكونُ إلاَّ جُملةً في الأَغْلَبِ)، بشرْطِ ألاَّ يكونَ القولُ بمعنى (الظنِّ)، نحوُ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ: ((إِنَّ خَيْرَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً)). مُتَّفَقٌ عليه. ومنه قولُه تعالى: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ}.
فإنْ كانَ القولُ بمعنى الظنِّ فُتِحَتِ الهمزةُ، نحوُ: أَتقولُ الْمَرَاصِدُ: أنَّ الْجَوَّ بارِدٌ غَدًا؟ أيْ: أَتَظُنُّ. وإنما فُتِحَتْ؛ لأنَّ القولَ بمعنى الظنِّ يَنْصِبُ مَفعوليْنِ.
5- أنْ تَقَعَ في أوَّلِ جُملةِ الحالِ، نحوُ: زُرْتُ عَلِيًّا وإني مَسرورٌ بزيارتِه. ومنه قولُه تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ}، فالواوُ للحالِ، والجملةُ بعدَها في مَحَلِّ نَصْبِ حالٍ.
6- أنْ تَقَعَ بعدَ فِعْلٍ مِن أفعالِ القلوبِ، وقد عُلِّقَ عن العمَلِ بسببِ وجودِ لامِ الابتداءِ في خَبَرِها، نحوُ: عَلِمْتُ إنَّ الإسرافَ لطريقُ الفَقْرِ. قالَ تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ}.
فإنْ لم تَكُنِ اللامُ في خَبَرِها فُتِحَتْ أو كُسِرَتْ، نحوُ: عَلِمْتُ أنَّ الْمَصَارِفَ الرِّبَوِيَّةَ بَلاءٌ، بفَتْحِ الهمزةِ أو كَسْرِها، قالَ تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ}.
وإلى هذه الْمَوَاضِعِ أشارَ بقولِه: (فَاكْسِرْ فِي الابْتِدَاءِ... إلخ)؛ أي: اكسِرْ هَمزةَ (إنَّ) إذا وَقَعَتْ في ابتداءِ جُملتِها، أو حيثُ تكونُ مُكَمِّلَةً لليمينِ بأنْ تَقَعَ في صَدْرِ جُملةِ جَوابِ القَسَمِ... إلخ.
جوازُ فَتْحِ الهمزةِ وكَسْرِها
180- بعدَ إذَا فُجَاءَةٍ أو قَسَمِ = لاَ لامَ بعدَه بوجهينِ نُمِي
181- معْ تِلْوِ فا الْجَزَا وذا يَطَّرِدُ = في نحوِ خيرُ القولِ إني أَحْمَدُ
في هذا الأبياتِ ذَكَرَ الحالةَ الثالثةَ مِن أحوالِ همزةِ (إنَّ)، وهي جَوَازُ الوجهيْنِ - الفتْحِ والكسْرِ - فذَكَرَ أربعةَ مَواضِعَ:
الأوَّلُ: إذا وقَعَتْ (إنَّ بعدَ (إذا) الفُجائيَّةِ، (وهي الدالَّةُ على الْمُفاجأةِ)، بمعنى: (أنَّ ما بعدَها يَحْدُثُ بعدَ وُجودِ ما قَبْلَها بَغْتَةً وفَجأةً)، وهي حرْفٌ أو ظَرْفٌ.
مثالُ ذلك: خَرَجْتُ (فإذا الضيفُ حاضِرٌ)(*). فكسْرُ الهمزةِ على أنَّ (إنَّ) ومعمولَها جُملةٌ مُستأنَفَةٌ، وتكونُ (إذا) حَرْفًا لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ، وهذا أَيْسَرُ.
وفَتْحُ الهمزةِ على أنَّ (إنَّ) وصِلَتَها مَصْدَرٌ، وهو مُبتدأٌ خَبَرُه (إذا) الفجائيَّةُ باعتبارِ أنها ظرْفٌ، والتقديرُ: خَرَجْتُ فإذا حُضورُ الضيْفِ؛ أي: ففي الْحَضْرَةِ حُضورُ الضيْفِ.
ويَجوزُ أنْ يكونَ الخبرُ مَحذوفًا وتكونَ (إذا) حَرْفًا. والتقديرُ: فإذا حُضُورُ الضيفِ مَوجودٌ.
الثاني: إذا وقَعَتْ (إنَّ) جَوابَ قَسَمٍ بشَرْطِ أنْ يُذْكَرَ فعْلُ القَسَمِ ولا تُذْكَرَ اللامُ في خَبَرِها، نحوُ: أحْلِفُ أنَّ ثَمرةَ العلْمِ العملُ، فالكسْرُ على أنها واسْمَها وخَبَرَها جوابُ القَسَمِ.
والفتْحُ على أنها وصِلَتَها مصدَرٌ منصوبٌ بنَزْعِ الخافِضِ سَدَّ مَسَدَّ الجوابِ، والتقديرُ: أحْلِفُ على كونِ العمَلِ ثَمرةَ العِلْمِ.
الثالِثُ: إذا وَقَعَتْ (إنَّ) بعدَ فاءِ الجزاءِ (أي: الفاءِ الواقعةِ في صَدْرِ جواب الشرْطِ وجَزائِه)، نحوُ: مَن يَزُرْنِي (فهو)(*) مُكْرَمٌ. قالَ تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
فقَرأَ ابنُ عامرٍ وعاصمٌ بفَتْحِ همزةِ إنَّ في قولِه: {فَأَنَّهُ}، وقَرَأَ بَقِيَّةُ السبعةِ بكسْرِها، فالكسْرُ على أنها جُملةٌ في مَحَلِّ جَزْمِ جوابِ الشرْطِ، والفتْحُ على تأويلِ مَصْدَرٍ يَقعُ مُبتدأً لخبَرٍ محذوفٍ، والتقديرُ في الْمِثالِ: فالإكرامُ جَزاؤُه. وفي الآيةِ: فالغفرانُ والرحمةُ جَزاؤُه، أو يكونُ المصدَرُ المؤَوَّلُ خَبَراً, والْمُبتدأُ محذوفٌ؛ أيْ: فجَزاؤُه الإكرامُ. وفي الآيةِ: فجزاؤُه الغُفرانُ والرحمةُ.
الرابعُ: أنْ تَقَعَ (إنَّ) بعدَ مُبتدأٍ هو في المعنى قولٌ، وخبرُ (إنَّ) قولٌ والقائلُ واحدٌ، نحوُ: أوَّلُ كلامِي أَنِّي أحْمَدُ اللهَ. فالفتْحُ على تأويلِ مَصْدَرٍ يَقَعُ خَبَرًا عن المبتدأِ، والتقديرُ: أوَّلُ كلامِي حَمْدُ اللهِ. والكسْرُ على جعْلِ الخبرِ جُملةً، ولا تَحتاجُ إلى رابِطٍ؛ لأنها نفْسُ المبتدأِ في المعنى كما تَقَدَّمَ في الابتداءِ.
وهذا معنى قولِه: (بعدَ (إذَا) فَجاءةٍ.. إلخ)؛ أيْ: نُمِي بمعنى: نُسِبَ إلى السابقينَ، ونُقِلَ عنهم الوجهانِ في همزةِ (إنَّ) إذا وَقَعَتْ بعدَ (إذا) الفُجائيَّةِ أو بعدَ قَسَمٍ لا لامَ بعدَه.
وكذا يَجُوزُ الوَجهانِ معَ (إنَّ) الواقعةِ بعدَ (فاءِ) الجزاءِ، كما يَطَّرِدُ الوجهانِ في كُلِّ مِثالٍ أَشْبَهَ قولَكَ: (خيرُ القولِ إِنِّي أَحْمَدُ), وقولُه: (فا الجَزَا) بالقصْرِ فيهما للضرورةِ.
(*) لعلها: فإذا أنَّ الضيفَ حاضرٌ.