فصل
فإذا صح جواز الاجتهاد في استخراج معاني القرآن من فحوى ألفاظه ، وشواهد خطابه ، فقد قسم عبد الله بن عباس رضي الله عنه وجوه التفسير على أربعة أقسام: فروى سفيان ، عن أبي الزناد قال ابن عباس: ((التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب بكلامها وتفسير لا يعذر أحد بجهالته ، وتفسير يعلمه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلا الله عز وجل)) وهذا صحيح.
أما الذي تعرفه العرب بكلامها ، فهو حقائق اللغة وموضوع كلامهم.
وأما الذي لا يعذر أحد بجهالتهن فهو ما يلزم الكافة في القرآن من الشرائع وجملة دلائل التوحيد.
وأما الذي يعلمه العلماء ، فهو وجوه تأويل المتشابه وفروع الأحكام.
وأما الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل ، فهو ما يجري مجرى الغيوب وقيام الساعة.
وهذا التقسيم الذي ذكره ابن عباس صحيح ، غير أن ما لا يعذر أحد بجهالته داخل في جملة ما يعلمه العلماء من الرجوع إليهم في تأويله ، وإنما يختلف القسمان في فرض العلم به ، فما لا يعذر أحد بجهله يكون فرض العلم به على الأعيان ، وما يختص بالعلماء يكون فرض العلم به على الكفاية ، فصار التفسير منقسما على ثلاثة أقسام:
أحدهما: ما اختص الله تعالى بعلمه ، كالغيوب فلا مساغ للاجتهاد في تفسيره ولا يجوز أن يؤخذ إلا عن توقيف ، من أحد ثلاثة أوجه:
- إما من نصٌّ في سياق التنزيل.
- وإما عن بيان من جهة الرسول.
- وإما عن إجماع الأمة على ما اتفقوا عليه من تأويل.
فإن لم يرد فيه توقيف ، علمنا أن الله تعالى أراد لمصلحة استأثر بها ، ألاَّ يطلع عباده على غييه.
والقسم الثاني: ما يرجع فيه إلى لسان العرب ، وذلك شئيئان ، اللغة والإعراب:
فأما اللغة ، فيكون العلم بها في حق المفسر دون القارئ ، فإن كان مما لا يوجب العمل ، جاز أن يعمل فيه على خبر الواحد والإثنين ، وأن يستشهد فيه من الشعر بالبيت والبيتين ، وإن كان مما يوجب العمل ، لم يعمل فيه على خبر الواحد والإثنين ، ولا يستشهد فيه بالبيت والبيتين ، حتى يكون نقله مستفيضًا ، وشواهد الشعر فيه متناصرة.
وقد روى أبو حاضر عن ابن عباس: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، أي علم القرآن أفضل؟
قال: ((غريبه ، فالتمسوه في الشعر)).
وإنما خص الغريب لاختصاصه بإعجاز القرآن ، وأحال عن الشعر لأنه ديوان كلامهم ، وشواهد معانيهم ، وقد قال ابن عباس: (إذا أشكل عليكم الشيء من كتاب الله ، فالتمسوه في الشعر ، فإن الشعر ديوان العرب).
وأما الإعراب ، فإن كان اختلافه موجبا لاختلاف حكمه وتغيير تأويله ، لزم العلم به في حق المفسر وحق القارئ ، ليتوصل المفسر إلى معرفة حكمه ، ويسلم القارئ من لحنه ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: ((أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه)).
وإن كان اختلاف إعرابه لا يوجب اختلاف حكمه ، ولا يقتضي تغيير تأويله ، كان العلم بإعرابه لازماً في حق القارئ ليسلم من اللحن في تأويلاته ، ولم يلزم في حق المفسر لوصوله مع الجهل بإعرابه إلى معرفة حكمه ، وإن كان الجهل بإعراب القرآن نقصاً عامّاً.
والقسم الثالث: ما يرجع فيه إلى اجتهاد العلماء ، وهو تأويل المتشابه ، واستنباط الأحكام ، وبيان المجمل ، وتخصيص العموم ، والمجتهدون من علماء الشرع أخص بتفسيره من غيرهم حملاً لمعاني الألفاظ على الأصول الشرعية ، حتى لا يتنافى الجمع بين معانيها وأصول الشرع ، فيعتبر فيه حال اللفظ ، فإنه ينقسم قسمين:
أحدهما: أن يكون مشتملاً على معنى واحد لا يتعداه ، ومقصوراً عليه ولا يحتمل ما سواه ، فيكون من المعاني الجلية والنصوص الظاهرة، التي يعلم مراد الله تعالى بها قطعا من صريح كلامه ، وهذا قسم لا يختلف حكمه ولا يلتبس تأويله.
والقسم الثاني: أن يكون اللفظ محتملاً لمعنيين أو أكثر ، وهذا على ضربين:
أحدهما: أن يكون أحد المعنيين ظاهراً جليًّا ، والآخر باطناً خفيّاً ، فيكون محمولاً على الظاهر الجلي دون الباطن الخفي ، إلا أن يقوم الدليل على أن الجليَّ غيرُ مُرَادٍ ، فيحمل على الخفي.
والضرب الثاني: أن يكون المعنيان جليَّين ، واللفظ مستعملاً فيهما حقيقةً ، وهذا على ضربين:
أحدهما: أن يختلف أصل الحقيقة فيهما ، فهذا ينقسم على ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يكون أحد المعنيين مستعملاً في اللغة ، والآخر مستعملاً في الشرع ، فيكون حملُه على المعنى الشرعيِّ أولى من حملِهِ على المعنى اللَّغَويِّ ، لأن الشرع ناقل.
والقسم الثاني: أن يكون أحد المعنيين مستعملاً في اللغة ، والآخر مستعملاً في العرف ، فيكون حمله على المعنى العرفي أولى من حمله على معنى اللغة ، لأنه أقرب معهود.
والقسم الثالث: أن يكون أحد المعنيين مستعملاً في الشرع ، والآخر مستعملاً في العرف ، فيكون حمله على معنى الشرع أولى من حمله على معنى العرف لأن الشرع ألزم.
والضرب الثاني: أن يتفق أصل الحقيقة فيهما فيكونا مستعملين في اللغة على سواء ، أو في الشرع ، أو في العرف فهذا على ضربيين:
أحدهما: أن يتنافى اجتماعهما ولا يمكن استعمالهما كالأحكام الشرعية مثل القرء الذي هو حقيقة في الطهر ، وحقيقة في الحيض ، ولا يجوز للمجتهد أن يجمع بينهما ، لتنافيهما ، وعليه أن يجتهد رأيه في المراد فيهما بالأمارات الدالة عليه ، فإذا وصل إليه ، كان هو الذي أراده الله تعالى منه ، وإن أدى اجتهاد غيره إلى الحكم الآخر ، كان هو المراد منه فيكون مراد الله تعالى من كل واحد منهما ، ما أداه اجتهاده إليه.
ولو لم يترجح للمجتهد أحد الحكمين ، ولا غلب في نفسه أحد المعنيين لتكافؤ الأمارات عنده ، فقيه للعلماء مذهبان:
أحدهما: أن يكون مخيراً ، للعمل في العمل على أيهما شاء.
والضرب الثاني: أن يأخذ بأغلظ المذهبين حكماً.
والضرب الثاني من اختلاف المعنيين: ألا يتنافيا ويمكن الجمع بينهما فهذا
على ضربين:
أحدهما: أن يتساويا ، ولا يترجح أحدهما على الآخر بدليل ، فيكون
المعنيان معاً مرادين ، لأن الله تعالى لو أراد أحدهما النصب على مراده منهما دليلاً ، وإن جاز أن يريد كل واحد من المعنيين بلفظين متغايرين لعدم التنافي بينهما ، جاز أن يريدهما بلف واحد ، يشتمل عليهما ، ويكون ذلك أبلغ في الإعجاز والفصاحة.
والضرب الثاني: أن يترجح أحدهما على الآخر بدليل ، وهو على ضربين:
أحدهما: أن يكون دليلاً على بطلان أحد المعنيين ، فيسقط حكمهن ويصير
المعنى الآخر هو المراد ، وحكمه هو الثابت.
والضرب الثاني: أن يكون دليلاً على صحة أحد المعنيين فيثبت حكمه ويكون مراداً ولا يقتضي سقوط المعنى الآخر ، ويجوز أن يكون مراداً ، وإن لم يكن عليه دليل ، لأن موجب لفظه دليل ، فاستويا في حكم اللفظ ، وإن ترجح أحدهما بدليل ، فصارا مرادين معاً.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن المعنى الذي يرجح بدليل أثبت حكماً من المعنى الذي تجرد عنه ولقوته بالدليل الذي ترجح به ، فهذا أصل يعتبر من وجود التفسير ، ليكون ما احتمله ألفاظ القرآن من اختلاف المعاني محمولاً عليه ، فيعلم ما يؤخذ به ويعدل عنه.
فإن قيل: فقد ورد الخبر بما يخالف هذا الأصل المقرر ، وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((ما نزل القرآن من آية إلا لها ظهر وبطن ولكل حرف حد ولكل حد مطلع))
قيل ليس هذا الحديث - مع كونه من أخبار الآحاد - منافيا لما قررناه من الأصول المستمرة ، لما فيه من التأويلات المختلفة.
أما قوله: ((ما نزل من القرآن من آية إلا لها ظهر وبطن))
ففيه أربعة تأويلات:
أحدها: معناه أنك إذا فتشت عن باطنها وقسته على ظاهرها ، وقفت على معناها ، وهو قول الحسن.
والثاني: يعني أن القصص ظاهرها الإخبار بهلاك الأولين ، وباطنها عظة للآخرين ، وهذا قول أبي عبيد.
والثالث: معناه ما من آية إلا وقد عمل بها قوم ، ولها قوم سيعملون بها ، وهذا قول ابن مسعود.
والرابع: يعنى أن ظاهرها لفظها ، وباطنها تأويلها ، وهذا قول الجاحظ.
وأما قوله: ((ولكل حرف حد)) ففيه تأويلان:
أحدهما: معناه أن لكل لفظ منتهى ، فيما أراده الله تعالى من عباده.
والثاني: أن لكل حكم مقدارا من الثواب والعقاب.
وأما قوله: ((ولكل حد مطلع)) ففيه تأويلان:
أحدهما: معناه ولكل غامض من الأحكام مطلع يوصل منه إلى معرفته ، ويوقف منه على المراد به.
والثاني: معناه أن كل ما استحقه من الثواب والعقاب سيطلع عليه في الآخرة ويراه عند المجازاة.