دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > مجموعة المتابعة الذاتية > منتدى المستوى السابع (المجموعة الثانية)

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 15 ذو القعدة 1442هـ/24-06-2021م, 03:35 AM
هيئة الإشراف هيئة الإشراف غير متواجد حالياً
معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 8,790
افتراضي المجلس السادس: مجلس مذاكرة القسم الأول من مقدمة التحرير والتنوير

مجلس مذاكرة القسم الأول مقدمة التحرير والتنوير



- فهرس مسائل القسم الأول من مقدمة تفسير ابن عاشور.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 25 ذو القعدة 1442هـ/4-07-2021م, 05:25 PM
سارة عبدالله سارة عبدالله غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى السابع
 
تاريخ التسجيل: Jul 2016
المشاركات: 438
افتراضي

التفسير في اللغة:
التفسير مصدر فسر بتشديد السين وفسر بالتخفيف. والفسر الإبانة والكشف لمدلول كلام أو لفظ بكلام آخر هو أوضح لمعنى المفسر عند السامع.
- الفرق بين الفعل بالتخفيف والفعل بالتشديد:
ثم قيل المصدران والفعلان متساويان في المعنى، وقيل يختص المضاعف بإبانة المعقولات
وعزا شهاب الدين أن فرق بالتشديد، فجعلوا الأول للمعاني والثاني للأجسام بناء على أن كثرة الحروف تقتضي زيادة المعنى أو قوته، والمعاني لطيفة يناسبها المخفف، والأجسام كثيفة يناسبها التشديد.
-الرد على تفريق شهاب الدين بين الفعل المضاعف والمخفف:
واستشكله هو بعدم اطراده، وهو ليس من التحرير بالمحل اللائق، بل هو أشبه باللطائف منه بالحقائق، إذ لم يراع العرب في هذا الاستعمال معقولا ولا محسوسا وإنما راعوا الكثرة الحقيقية أو المجازية كما قررنا، ودل عليه استعمال القرآن، ألا ترى أن الاستعمالين ثابتان في الموضع الواحد، كقوله تعالى {وقرآنا فرقناه} قرئ بالتشديد والتخفيف، وقال تعالى حكاية لقول المؤمنين: {لا نفرق بين أحد من رسله} .
- التفسير في الاصطلاح:
اسم للعلم الباحث عن بيان معاني ألفاظ القرآن وما يستفاد منها باختصار أو توسع. والمناسبة بين المعنى الأصلي والمعنى المنقول إليه لا يحتاج إلى تطويل.
- موضوع التفسير:
وموضوع التفسير: ألفاظ القرآن من حيث البحث عن معانيه، وما يستنبط منه وبهذه الحيثية خالف علم القراءات لأن تمايز العلوم-كما يقولون-بتمايز الموضوعات، وحيثيات الموضوعات.
- هل التفسير يعد علما:
هذا وفي عد التفسير علما تسامح؛ إذ العلم إذا أطلق، إما أن يراد به نفس الإدراك، نحو قول أهل المنطق، العلم إما تصور وإما تصديق، وإما أن يراد به الملكة المسماة بالعقل وإما أن يراد به التصديق الجازم وهو مقابل الجهل وهذا غير مراد في عد العلوم وإما أن يراد بالعلم المسائل المعلومات وهي مطلوبات خبرية يبرهن عليها في ذلك العلم وهي قضايا كلية، ومباحث هذا العلم ليست بقضايا يبرهن عليها فما هي بكلية، بل هي تصورات جزئية غالبا لأنه تفسير ألفاظ أو استنباط معان. فأما تفسير الألفاظ فهو من قبيل التعريف اللفظي وأما الاستنباط فمن دلالة الالتزام وليس ذلك من القضية.
فإذ قلنا إن يوم الدين في قوله تعالى: {مالك يوم الدين} هو يوم الجزاء، وإذا قلنا إن قوله تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} مع قوله: {وفصاله في عامين} يؤخذ منه أن أقل الحمل ستة أشهر عند من قال ذلك، لم يكن شيء من ذلك قضية، بل الأول تعريف لفظي، والثاني من دلالة الالتزام .
- سبب اطلاق العلماء على التفسير بأنه علم:
لواحد من وجوه ستة:
الأول: أن مباحثه لكونها تؤدي إلى استنباط علوم كثيرة وقواعد كلية، نزلت منزلة القواعد الكلية لأنها مبدأ لها، ومنشأ، تنزيلا للشيء منزلة ما هو شديد الشبه به بقاعدة ما قارب الشيء يعطى حكمه، ولا شك أن ما تستخرج منه القواعد الكلية والعلوم أجدر بأن يعد علما من عد فروعه علما، وهم قد عدوا تدوين الشعر علما لما فى حفظه من استخراج نكت بلاغية وقواعد لغوية.
والثاني أن نقول: إن اشتراط كون مسائل العلم قضايا كلية يبرهن عليها في العلم خاص بالعلوم المعقولة، لأن هذا اشتراط ذكره الحكماء في تقسيم العلوم، أما العلوم الشرعية والأدبية فلا يشترط فيها ذلك، بل يكفي أن تكون مباحثها مفيدة كمالا علميا لمزاولها، والتفسير أعلاها في ذلك.
الثالث: التعاريف اللفظية تصديقات على رأي بعض المحققين فهي تؤول إلى قضايا، وتفرع المعاني الجمة عنها نزلها منزلة الكلية، والاحتجاج عليها بشعر العرب وغيره يقوم مقام البرهان على المسألة، وهذا الوجه يشترك مع الوجه الأول في تنزيل مباحث التفسير منزلة المسائل، إلا أن وجه التنزيل في الأول راجع إلى ما يتفرع عنها، وهنا راجع إلى ذاتها مع أن التنزيل في الوجه الأول في جميع الشروط الثلاثة وهنا في شرطين، لأن كونها قضايا إنما يجيء على مذهب بعض المنطقيين.
الرابع أن نقول: إن علم التفسير لا يخلو من قواعد كلية في أثنائه مثل تقرير قواعد النسخ عند تفسير {ما ننسخ من آية} وتقرير قواعد التأويل عند تقرير {وما يعلم تأويله} وقواعد المحكم عند تقرير {منه آيات محكمات} فسمي مجموع ذلك وما معه علما تغليبا، وقد اعتنى العلماء بإحصاء كليات تتعلق بالقرآن، وجمعها ابن فارس، وذكرها عنه في الإتقان وعنى بها أبو البقاء الكفوي في كلياته، فلا بدع أن تزاد تلك في وجوه شبه مسائل التفسير بالقواعد الكلية.
الخامس: أن حق التفسير أن يشتمل على بيان أصول التشريع وكلياته فكان بذلك حقيقا بأن يسمى علما ولكن المفسرين ابتدأوا بتقصي معاني القرآن فطفحت عليهم وحسرت دون كثرتها قواهم، فانصرفوا عن الاشتغال بانتزاع كليات التشريع إلا في مواضع قليلة.
السادس وهو الفصل: أن التفسير كان أول ما اشتغل به علماء الإسلام قبل الاشتغال بتدوين بقية العلوم، وفيه كثرت مناظراتهم. وكان يحصل من مزاولته والدربة فيه لصاحبه ملكة يدرك بها أساليب القرآن ودقائق نظمه، فكان بذلك مفيدا علوما كلية لها مزيد اختصاص بالقرآن المجيد، فمن أجل ذلك سمي علما.
- مكانة التفسير بين العلوم الشرعية:
والتفسير أول العلوم الإسلامية ظهورا، إذ قد ظهر الخوض فيه في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، إذ كان بعض أصحابه قد سأل عن بعض معاني القرآن كما سأله عمر رضي الله عنه عن الكلالة، ثم اشتهر فيه بعد من الصحابة علي وابن عباس وهما أكثر الصحابة قولا في التفسير، وزيد بن ثابت وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم، وكثر الخوض فيه، حين دخل في الإسلام من لم يكن عربي السجية، فلزم التصدي لبيان معاني القرآن لهم، وشاع عن التابعين وأشهرهم في ذلك مجاهد وابن جبير، وهو أيضا أشرف العلوم الإسلامية ورأسها على التحقيق.
- أول من صنف في التفسير:
وأما تصنيفه فأول من صنف فيه عبد الملك بن جريج المكي المولود سنة 80 هـ والمتوفى سنة 149 هـ صنف كتابه في تفسير آيات كثيرة وجمع فيه آثارا وغيرها وأكثر روايته عن أصحاب ابن عباس مثل عطاء ومجاهد، وصنفت تفاسير ونسبت روايتها إلى ابن عباس، لكن أهل الأثر تكلموا فيها وهي "تفسير محمد بن السائب الكلبي" المتوفى سنة 146 هـ عن أبي صالح عن ابن عباس، وقد رمي أبو صالح بالكذب حتى لقب بكلمة دروغدت بالفارسية بمعنى الكذاب وهي أوهى الروايات فإذا انضم إليها رواية محمد بن مروان السدي عن الكلبي فهي سلسلة الكذب.
- روايات التفسير:
وهنالك رواية مقاتل ورواية الضحاك، ورواية علي بن أبي طلحة الهاشمي كلها عن ابن عباس، وأصحها رواية علي بن أبي طلحة، وهي التي اعتمدها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه فيما يصدر به من تفسير المفردات على طريقة التعليق، وقد خرج في الإتقان، جميع ما ذكره البخاري من تفسير المفردات، عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس مرتبة على سور القرآن. والحاصل أن الرواية عن ابن عباس، قد اتخذها الوضاعون والمدلسون ملجأ لتصحيح ما يروونه كدأب الناس في نسبة كل أمر مجهول من الأخبار والنوادر، لأشهر الناس في ذلك المقصد.
وهنالك روايات تسند لعلي رضي الله عنه، أكثرها من الموضوعات، إلا ما روي بسند صحيح، مثل ما في صحيح البخاري ونحوه، لأن لعلي أفهاما في القرآن كما ورد في صحيح البخاري، عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي هل عندكم شيء من الوحي ليس في كتاب الله? فقال: لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ما أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن ثم تلاحق العلماء في تفسير القرآن وسلك كل فريق مسلكا يأوي إليه وذوقا يعتمد عليه.
- مناهج المفسرين:
فمنهم من سلك مسلك نقل ما يؤثر عن السلف، وأول من صنف في هذا المعنى، مالك ابن أنس، وكذلك الداودي تلميذ السيوطي في طبقات المفسرين، وذكره عياض في المدارك إجمالا. وأشهر أهل هذه الطريقة فيما هو بأيدي الناس محمد بن جرير الطبري.
ومنهم من سلك مسلك النظر كأبي إسحاق الزجاج وأبي علي الفارسي، وشغف كثير بنقل القصص عن الإسرائيليات، فكثرت في كتبهم الموضوعات.
- مكانة تفسير الزمخشري وابن عطية:
إلى أن جاء في عصر واحد عالمان جليلان أحدهما بالمشرق، وهو العلامة أبو القاسم محمود الزمخشري، صاحب "الكشاف"، والآخر بالمغرب بالأندلس وهو الشيخ عبد الحق بن عطية، فألف تفسيره المسمى بـ"المحرر الوجيز". كلاهما يغوص على معاني الآيات، ويأتي بشواهدها من كلام العرب ويذكر كلام المفسرين إلا أن منحى البلاغة والعربية بالزمخشري أخص، ومنحى الشريعة على ابن عطية أغلب، وكلاهما عضادتا الباب، ومرجع من بعدهما من أولي الألباب.
- معنى التأويل:
1- من العلماء من جعلهما متساويين، وإلى ذلك ذهب ثعلب وابن الأعرابي وأبو عبيدة، وهو ظاهر كلام الراغب.
2- ومنهم من جعل التفسير للمعنى الظاهر والتأويل للمتشابه.
3- ومنهم من قال: التأويل صرف اللفظ عن ظاهر معناه إلى معنى آخر محتمل لدليل فيكون هنا بالمعنى الأصولي، فإذا فسر قوله تعالى: {يخرج الحي من الميت} بإخراج الطير من البيضة، فهو التفسير، أو بإخراج المسلم من الكافر فهو التأويل.
- معنى التأويل في اللغة :
التأويل مصدر أوله إذا أرجعه إلى الغاية المقصودة، والغاية المقصودة من اللفظ هو معناه وما أراده منه المتكلم به من المعاني، فساوى التفسير، على أنه لا يطلق إلا على ما فيه تفصيل معنى خفي معقول.
- الأدلة على التأويل:
قال الله تعالى: {هل ينظرون إلا تأويله} أي ينتظرون إلا بيانه الذي هو المراد منه، وقال صلى الله عليه وسلم في دعائه لابن عباس: ((اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل))، أي فهم معاني القرآن، وفي حديث عائشة رضي الله عنها كان صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه: ((سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي)) يتأول القرآن أي يعمل بقوله تعالى: {فسبح بحمد ربك واستغفره} فلذلك جمع في دعائه التسبيح والحمد وذكر لفظ الرب وطلب المغفرة فقولها: "يتأول"، صريح في أنه فسر الآية بالظاهر منها ولم يحملها على ما تشير إليه من انتهاء مدة الرسالة وقرب انتقاله صلى الله عليه وسلم، الذي فهمه منها عمر وابن عباس رضي الله عنهما.


- معنى استمداد علم التفسير:

استمداد العلم يراد به توقفه على معلومات سابق وجودها على وجود ذلك العلم عند مدونيه لتكون عونا لهم على إتقان تدوين ذلك العلم.
- الاستمداد لغة:
وسمي ذلك في الاصطلاح بالاستمداد عن تشبيه احتياج العلم لتلك المعلومات بطلب المدد، والمدد العون والغواث، فقرنوا الفعل بحرفي الطلب وهما السين والتاء.
- المراد بالعربية:
معرفة مقاصد العرب من كلامهم وأدب لغتهم سواء حصلت تلك المعرفة، بالسجية والسليقة، كالمعرفة الحاصلة للعرب الذين نزل القرآن بين ظهرانيهم، أم حصلت بالتلقي والتعلم كالمعرفة الحاصلة للمولدين الذين شافهوا بقية العرب ومارسوهم، والمولدين الذين درسوا علوم اللسان ودونوها.
-علاقة العربية بفهم القرآن:
إن القرآن كلام عربي فكانت قواعد العربية طريقا لفهم معانيه، وبدون ذلك يقع الغلط وسوء الفهم، لمن ليس بعربي بالسليقة.
- المقصود بقواعد العربية وعلاقتها بالتفسير:
مجموع علوم اللسان العربي، وهي: متن اللغة، والتصريف، والنحو، والمعاني، والبيان. ومن وراء ذلك استعمال العرب المتبع من أساليبهم في خطبهم وأشعارهم وتراكيب بلغائهم، ويدخل في ذلك ما يجري مجرى التمثيل والاستئناس للتفسير من أفهام أهل اللسان أنفسهم لمعاني آيات غير واضحة الدلالة عند المولدين، قال في الكشاف: ومن حق مفسر كتاب الله الباهر، وكلامه المعجز أن يتعاهد في مذاهبه بقاء النظم على حسنه والبلاغة على كمالها، وما وقع به التحدي سليما من القادح، فإذا لم يتعاهد أوضاع اللغة فهو من تعاهد النظم والبلاغة على مراحل" .
- علاقة علم البيان والبلاغة بالتفسير:
ولعلمي البيان والمعاني مزيد اختصاص بعلم التفسير لأنهما وسيلة لإظهار خصائص البلاغة القرآنية، وما تشتمل عليه الآيات من تفاصيل المعاني وإظهار وجه الإعجاز ولذلك كان هذان العلمان يسميان في القديم علم دلائل الإعجاز.
- نقولات للعلماء في بيان أهمية علمي البيان والمعاني للمفسر:
قال في الكشاف: علم التفسير الذي لا يتم لتعاطيه وإجالة النظر فيه كل ذي علم، فالفقيه وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام، والمتكلم وإن برز أهل الدنيا في صناعة الكلام، وحافظ القصص والأخبار وإن كان من ابن القرية أحفظ، والواعظ وإن كان من الحسن البصري أوعظ، والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه، واللغوي وإن علك اللغات بقوة لحييه، لا يتصدى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق، إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن وهما علما البيان والمعاني اهـ".
وقال في آخر فن البيان من "المفتاح": "لا أعلم في باب التفسير بعد علم الأصول أقرأ على المرء لمراد الله من كلامه، من علمي المعاني والبيان، ولا أعون على تعاطي تأويل متشابهاته، ولا أنفع في درك لطائف نكته وأسراره، ولا أكشف للقناع عن وجه إعجازه، ولكم آية من آيات القرآن تراها قد ضيمت حقها واستلبت ماءها ورونقها أن وقعت إلى من ليسوا من أهل هذا العلم، فأخذوا بها في مآخذ مردودة، وحملوها على محامل غير مقصودة إلخ".
وقال الشيخ عبد القاهر في "دلائل الإعجاز". في آخر فصل المجاز الحكمي: "ومن عادة قوم ممن يتعاطى التفسير بغير علم، أن يتوهموا ألباب الألفاظ الموضوعة على المجاز والتمثيل أنها على ظواهرها "أي على الحقيقة"، فيفسدوا المعنى بذلك ويبطلوا الغرض ويمنعوا أنفسهم والسامع منهم العلم بموضع البلاغة وبمكان الشرف، وناهيك بهم إذا أخذوا في ذكر الوجوه وجعلوا يكثرون في غير طائل، هنالك ترى ما شئت من باب جهل قد فتحوه، وزند ضلالة قد قدحوا به".
وأما استعمال العرب، فهو التملي من أساليبهم في خطبهم وأشعارهم وأمثالهم وعوائدهم ومحادثاتهم، ليحصل بذلك لممارسة المولد ذوق يقوم عنده مقام السليقة والسجية عند العربي القح والذوق كيفية للنفس بها تدرك الخواص والمزايا التي للكلام البليغ قال شيخنا الجد الوزير: "وهي ناشئة عن تتبع استعمال البلغاء فتحصل لغير العربي بتتبع موارد الاستعمال والتدبر في الكلام المقطوع ببلوغه غاية البلاغة، فدعوى معرفة الذوق لا تقبل إلا من الخاصة وهو يضعف ويقوى بحسب مثافنة ذلك التدبر" اهـ.
-أهمية ديوان العرب في التفسير:
روى أئمة الأدب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ على المنبر قوله تعالى: {أو يأخذهم على تخوف} ثم قال: ما تقولون فيها? أي في معنى التخوف، فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا، التخوف التنقص، فقال عمر: وهل تعرف العرب ذلك في كلامها? قال: نعم. قال: أبو كبير الهذلي:
تخوف الرحل منها تامكا قردا = كما تخوف عود النبعة السفن
فقال عمر: "عليكم بديوانكم لا تضلوا، هو شعر العرب فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم" وعن ابن عباس: الشعر ديوان العرب فإذا خفي علينا الحرف من القرآن، الذي أنزله الله بلغتهم رجعنا إلى ديوانهم فالتمسنا معرفة ذلك منه وكان كثيرا ما ينشد الشعر إذا سئل عن بعض حروف القرآن.
- هل النبي صلى الله عليه وسلم فسر القرآن:
ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، من بيان المراد من بعض القرآن في مواضع الإشكال والإجمال، وذلك شيء قليل. قال ابن عطية عن عائشة ما كان رسول الله يفسر من القرآن إلا آيات معدودات علمه إياهن جبريل، قال معناه في مغيبات القرآن وتفسير مجمله مما لا سبيل إليه إلا بتوقيف.
- أسباب النزول من التفسيرالتوقيفي :
قلت: أو كان تفسير لا توقيف فيه، كما بين لعدي بن حاتم أن الخيط الأبيض والخيط الأسود هما سواد الليل وبياض النهار، وقال له: ((إنك لعريض الوسادة))، وفي رواية ((إنك لعريض القفا))، وما نقل عن الصحابة الذين شاهدوا نزول الوحي من بيان سبب النزول، وناسخ ومنسوخ، وتفسير مبهم، وتوضيح واقعة من كل ما طريقهم فيه الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم، دون الرأي وذلك مثل كون المراد من المغضوب عليهم اليهود ومن الضالين النصارى، ومثل كون المراد من قوله تعالى: {ذرني ومن خلقت وحيدا} الوليد بن المغيرة المخزومي أبا خالد بن الوليد، وكون المراد من قوله تعالى: {أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا} الآية، العاصي بن وائل السهمي في خصومته بينه وبين خباب بن الأرت كما في صحيح البخاري في تفسير سورة المدثر.
قال ابن عباس مكثت سنين أريد أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يمنعني إلا مهابته، ثم سألته فقال: هما حفصة وعائشة.
- العبرة في سبب النزول بعموم اللفظ لا بخصوص السبب":
ومعنى كون أسباب النزول من مادة التفسير، أنها تعين على تفسير المراد، وليس المراد أن لفظ الآية يقصر عليها؛ لأن سبب النزول لا يخصص، قال تقي الدين السبكي: وكما أن سبب النزول لا يخصص، كذلك خصوص غرض الكلام لا يخصص، كأن يرد خاص ثم يعقبه عام للمناسبة فلا يقتضي تخصيص العام، نحو: {فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير}. وقد يكون المروي في سبب النزول مبينا ومؤولا لظاهر غير مقصود، فقد توهم قدامة بن مظعون من قوله تعالى: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا} فاعتذر بها لعمر بن الخطاب في شرب قدامة خمرا، روي أن عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين فقدم الجارود على عمر فقال: إن قدامة شرب فسكر، فقال عمر: من يشهد على ما تقول? قال الجارود: أبو هريرة يشهد على ما أقول وذكر الحديث، فقال عمر: يا قدامة إني جالدك، قال: والله لو شربت كما يقولون ما كان لك أن تجلدني، قال عمر: ولم? قال لأن الله يقول: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح} إلخ، فقال عمر: إنك أخطأت التأويل يا قدامة، إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله. وفي رواية فقال: لم تجلدني بيني وبينك كتاب الله، فقال عمر: وأي كتاب الله تجد أن لا أجلدك? قال: إن الله يقول في كتابه {ليس على الذين آمنوا} إلى آخر الآية فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وأحسنوا، شهدت مع رسول الله بدرا وأحدا والخندق والمشاهد، فقال عمر: ألا تردون عليه قوله فقال ابن عباس: إن هؤلاء الآيات أنزلن عذرا للماضين وحجة على الباقين، فعذر الماضين بأنهم لقوا الله قبل أن تحرم عليهم الخمر، وحجة على الباقين لأن الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر} ثم قرأ إلى آخر الآية الأخرى، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا وأحسنوا فإن الله قد نهى أن يشرب الخمر، قال عمر: صدقت الحديث.
- الاجماع في التفسير:
وتشمل الآثار إجماع الأمة على تفسير معنى، إذ لا يكون إلا عن مستند كإجماعهم على أن المراد من الأخت في آية الكلالة الأولى هي الأخت للأم، وأن المراد من الصلاة في سورة الجمعة هي صلاة الجمعة، وكذلك المعلومات بالضرورة كلها ككون الصلاة مرادا منها الهيئة المخصوصة دون الدعاء، والزكاة المال المخصوص المدفوع.
- القراءات وحاجة التفسير إليها:
وأما القراءات فلا يحتاج إليها إلا في حين الاستدلال بالقراءة على تفسير غيرها، وإنما يكون في معنى الترجيح لأحد المعاني القائمة من الآية أو لاستظهار على المعنى، فذكر القراءة كذكر الشاهد من كلام العرب؛ لأنها إن كانت مشهورة، فلا جرم أنها تكون حجة لغوية، وإن كانت شاذة فحجتها لا من حيث الرواية، لأنها لا تكون صحيحة الرواية، ولكن من حيث إن قارئها ما قرأ بها إلا استنادا لاستعمال عربي صحيح، إذ لا يكون القارئ معتدا به إلا إذا عرفت سلامة عربيته، كما احتجوا على أن أصل {الحمد لله} أنه منصوب على المفعول المطلق بقراءة هارون العتكي (الحمدَ لله) بالنصب كما في الكشاف، وبذلك يظهر أن القراءة لا تعد تفسيرا من حيث هي طريق في أداء ألفاظ القرآن، بل من حيث أنها شاهد لغوي فرجعت إلى علم اللغة.
- أخبار العرب هل نحتاجها في التفسير؟
وأما أخبار العرب فهي من جملة أدبهم. وإنما خصصتها بالذكر تنبيها لمن يتوهم أن الاشتغال بها من اللغو فهي يستعان بها على فهم ما أوجزه القرآن في سوقها لأن القرآن إنما يذكر القصص والأخبار للموعظة والاعتبار، لا لأن يتحادث بها الناس في الأسمار، فبمعرفة الأخبار يعرف ما أشارت له الآيات من دقائق المعاني، فنحو قوله تعالى: {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا} وقوله: {قتل أصحاب الأخدود} يتوقف على معرفة أخبارهم عند العرب.
- علاقة أصول الفقه بالتفسير:
وأما أصول الفقه فلم يكونوا يعدونه من مادة التفسير، ولكنهم يذكرون أحكام الأوامر والنواهي والعموم وهي من أصول الفقه، فتحصل أن بعضه يكون مادة للتفسير، وذلك من جهتين: إحداهما أن علم الأصول قد أودعت فيه مسائل كثيرة هي من طرق استعمال كلام العرب وفهم موارد اللغة أهمل التنبيه عليها علماء العربية مثل مسائل الفحوى ومفهوم المخالفة، وقد عد الغزالي علم الأصول من جملة العلوم التي تتعلق بالقرآن وبأحكامه فلا جرم أن يكون مادة للتفسير.
الجهة الثانية: أن علم الأصول يضبط قواعد الاستنباط ويفصح عنها فهو آلة للمفسر في استنباط المعاني الشرعية من آياتها.
- هل علم الكلام يحتاجه المفسر؟
وقال الآلوسي لتوقف فهم ما يجوز على الله ويستحيل على الكلام يعني من آيات التشابه في الصفات مثل {الرحمن على العرش استوى}، وهذا التوجيه أقرب من توجيه عبد الحكيم، وهو مأخوذ من كلام السيد الجرجاني في شرح المفتاح، وكلاهما اشتباه لأن كون القرآن كلام الله قد تقرر عند سلف الأمة قبل علم الكلام، ولا أثر له في التفسير، وأما معرفة ما يجوز وما يستحيل فكذلك، ولا يحتاج لعلم الكلام إلا في التوسع في إقامة الأدلة على استحالة بعض المعاني، وقد أبنت أن ما يحتاج إليه المتوسع لا يصير مادة للتفسير.
-هل المفسر يحتاج الفقه؟
ولم نعد الفقه من مادة علم التفسير كما فعل السيوطي، لعدم توقف فهم القرآن، على مسائل الفقه، فإن علم الفقه متأخر عن التفسير وفرع عنه، وإنما يحتاج المفسر إلى مسائل الفقه، عند قصد التوسع في تفسيره، للتوسع في طرق الاستنباط وتفصيل المعاني تشريعا وآدابا وعلوما، ولذلك لا يكاد يحصر ما يحتاجه المتبحر في ذلك من العلوم، ويوشك أن يكون المفسر المتوسع محتاجا إلى الإلمام بكل العلوم وهذا المقام هو الذي أشار له البيضاوي بقوله: "لا يليق لتعاطيه، والتصدي للتكلم فيه، إلا من برع في العلوم الدينية كلها أصولها وفروعها وفي الصناعات العربية والفنون الأدبية بأنواعها".
- الخلاصة في استمداد علم التفسير:
تنبيه: اعلم أنه لا يعد من استمداد علم التفسير، الآثار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير آيات، ولا ما يروى عن الصحابة في ذلك لأن ذلك من التفسير لا من مدده، ولا يعد أيضا من استمداد التفسير ما في بعض آي القرآن من معنى يفسر بعضا آخر منها، لأن ذلك من قبيل حمل بعض الكلام على بعض، كتخصيص العموم وتقييد المطلق وبيان المجمل وتأويل الظاهر ودلالة الاقتضاء وفحوى الخطاب ولحن الخطاب، ومفهوم المخالفة.
ذكر ابن هشام، في مغني اللبيب، في حرف لا، عن أبي علي الفارسي، أن القرآن كله كالسورة الواحدة، ولهذا يذكر الشيء في سورة وجوابه في سورة أخرى، نحو: {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} وجوابه {ما أنت بنعمة ربك بمجنون} اهـ.
وهذا كلام لا يحسن إطلاقه، لأن القرآن قد يحمل بعض آياته على بعض وقد يستقل بعضها عن بعض، إذ ليس يتعين أن يكون المعنى المقصود في بعض الآيات مقصودا في جميع نظائرها، بله ما يقارب غرضها.
واعلم أن استمداد علم التفسير، من هذه المواد لا ينافي كونه رأس العلوم الإسلامية كما تقدم، لأن كونه رأس العلوم الإسلامية، معناه أنه أصل لعلوم الإسلام على وجه الإجمال، فأما استمداده من بعض العلوم الإسلامية، فذلك استمداد لقصد تفصيل التفسير على وجه أتم من الإجمال، وهو أصل لما استمد منه باختلاف الاعتبار على ما حققه عبد الحكيم.

- حذرالصحابة من التفسير بالرأي:
إن قلت: أتراك بما عددت من علوم التفسير تثبت أن تفسيرا كثيرا للقرآن لم يستند إلى مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، وتبيح لمن استجمع من تلك العلوم حظا كافيا وذوقا ينفتح له بهما من معاني القرآن ما ينفتح عليه، أن يفسر من آي القرآن بما لم يؤثر عن هؤلاء، فيفسر بمعان تقتضيها العلوم التي يستمد منها علم التفسير، وكيف حال التحذير الواقع في الحديث الذي رواه الترمذي عن ابن عباس أن رسول الله قال: ((من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار))، وفي رواية: ((من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار)). والحديث الذي رواه أبو داود والترمذي والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ" وكيف محمل ما روي من تحاشي بعض السلف عن التفسير بغير توقيف?
هل التفسير مقتصرا على التفسير بالمأثورة فحسب؟
فقد روي عن أبي بكر الصديق أنه سئل عن تفسير الأب في قوله {وفاكهة وأبا }. فقال: "أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأيي". ويروى عن سعيد بن المسيب والشعبي إحجامهما عن ذلك.
قلت: أراني كما حسبت أثبت ذلك وأبيحه، وهل اتسعت التفاسير وتفننت مستنبطات معاني القرآن إلا بما رزقه الذين أوتوا العلم من فهم في كتاب الله. وهل يتحقق قول علمائنا: إن القرآن لا تنقضي عجائبه إلا بازدياد المعاني باتساع التفسير? ولولا ذلك لكان تفسير القرآن مختصرا في ورقات قليلة. وقد قالت عائشة: ما كان رسول الله يفسر من كتاب الله إلا آيات معدودات علمه جبريل إياهن كما تقدم في المقدمة الثانية.
ثم لو كان التفسير مقصورا على بيان معاني مفردات القرآن من جهة العربية لكان التفسير نزرا، ونحن نشاهد كثرة أقوال السلف من الصحابة، فمن يليهم في تفسير آيات القرآن وما أكثر ذلك الاستنباط برأيهم وعلمهم.
-
قال الغزالي والقرطبي: لا يصح أن يكون كل ما قاله الصحابة في التفسير مسموعا من النبي صلى الله عليه وسلم لوجهين: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه من التفسير إلا تفسير آيات قليلة وهي ما تقدم عن عائشة. الثاني أنهم اختلفوا في التفسير على وجوه مختلفة لا يمكن الجمع بينها. وسماع جميعها من رسول الله محال، ولو كان بعضها مسموعا لترك الآخر، أي لو كان بعضها مسموعا لقال قائله: إنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إليه من خالفه.
- هل فسر الصحابة القرآن الكريم؟
فتبين على القطع أن كل مفسر قال في معنى الآية بما ظهر له باستنباطه. روى البخاري في صحيحه عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله? قال: "لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لا أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن" إلخ وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس فقال: ((اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)) واتفق العلماء على أن المراد بالتأويل تأويل القرآن، وقد ذكر فقهاؤنا في آداب قراءة القرآن أن التفهم مع قلة القراءة أفضل من كثرة القراءة بلا تفهم، قال الغزالي في الإحياء: "التدبر في قراءته إعادة النظر في الآية والتفهم أن يستوضح من كل آية ما يليق بها كي تتكشف له من الأسرار معان مكنونة لا تتكشف إلا للموفقين قال: ومن موانع الفهم أن يكون قد قرأ تفسيرا واعتقد أن لا معنى لكلمات القرآن إلا ما تناوله النقل عن ابن عباس وابن مجاهد، وأن ما وراء ذلك تفسير بالرأي فهذا من الحجب العظيمة".
- هل يجوز التفسير بالرأي؟
وقال فخر الدين في تفسير قوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} في سورة النساء وقد ثبت في أصول الفقه أن المتقدمين إذا ذكروا وجها في تفسير الآية فذلك لا يمنع المتأخرين من استخراج وجه آخر في تفسيرها وإلا لصارت الدقائق التي يستنبطها المتأخرون في التفسير مردودة، وذلك لا يقوله إلا مقلد خلف بضم الخاء ا هـ. وقال سفيان بن عيينة في قوله تعالى: {ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون} هي تسلية للمظلوم وتهديد للظالم، فقيل له: من قال هذا? فغضب وقال: إنما قاله من علمه يريد نفسه، وقال أبو بكر ابن العربي في العواصم إنه أملى على سورة نوح خمسمائة مسألة وعلى قصة موسى ثمانمائة مسألة.
وهل استنباط الأحكام التشريعية من القرآن في خلال القرون الثلاثة الأولى من قرون الإسلام إلا من قبيل التفسير لآيات القرآن بما لم يسبق تفسيرها به قبل ذلك? وهذا الإمام الشافعي يقول: تطلبت دليلا على حجية الإجماع فظفرت به في قوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا}.
قال شرف الدين الطيبي في شرح الكشاف في سورة الشعراء: شرط التفسير الصحيح أن يكون مطابقا للفظ من حيث الاستعمال، سليما من التكلف عريا من التعسف، وصاحب الكشاف يسمي ما كان على خلاف ذلك بدع التفاسير.

- الجواب عن الشبهة التي نشأت من الآثار المروية في التحذير من تفسير القرآن بالرأي :
مرجعه إلى أحد خمسة وجوه:
أولها: أن المراد بالرأي هو القول عن مجرد خاطر دون استناد إلى نظر في أدلة العربية ومقاصد الشريعة وتصاريفها، وما لا بد منه من معرفة الناسخ والمنسوخ وسبب النزول، فهذا لا محالة إن أصاب فقد أخطأ في تصوره بلا علم، لأنه لم يكن مضمون الصواب كقول المثل: "رمية من غير رام" وهذا كمن فسر {الم} إن الله أنزل جبريل على محمد بالقرآن فإنه لا مستند لذلك.
- الرد على أن مقولة الصديق "أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأيي"
أن ذلك من الورع خشية الوقوع في الخطأ في كل ما لم يقم له فيه دليل أو في مواضع لم تدع الحاجة إلى التفسير فيها، ألم تر أنه سئل عن الكلالة في آية النساء فقال: أقول فيها برأي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان إلخ. وعلى هذا المحمل ما روي عن الشعبي وسعيد أي أنهما تباعدا عما يوقع في ذلك ولو على احتمال بعيد مبالغة في الورع ودفعا للاحتمال الضعيف، وإلا فإن الله تعالى ما تعبدنا في مثل هذا إلا ببذل الوسع مع ظن الإصابة.
ثانيها: أن لا يتدبر القرآن حق تدبره فيفسره بما يخطر له من بادئ الرأي دون إحاطة بجوانب الآية ومواد التفسير مقتصرا على بعض الأدلة دون بعض كأن يعتمد على ما يبدو من وجه في العربية فقط، كمن يفسر قوله تعالى: {ما أصابك من حسنة فمن الله} الآية على ظاهر معناها يقول، إن الخير من الله والشر من فعل الإنسان بقطع النظر على الأدلة الشرعية التي تقتضي أن لا يقع إلا ما أراد الله غافلا عما سبق من قوله تعالى: {قل كل من عند الله} أو بما يبدو من ظاهر اللغة دون استعمال العرب كمن يقول في قوله تعالى: {وآتينا ثمود الناقة مبصرة} فيفسر مبصرة بأنها ذات بصر لم تكن عمياء، فهذا من الرأي المذموم لفساده.
ثالثها: أن يكون له ميل إلى نزعة أو مذهب أو نحلة فيتأول القرآن على وفق رأيه ويصرفه عن المراد , كمن يتأول آيات الصفات.
رابعها: أن يفسر القرآن برأي مستند إلى ما يقتضيه اللفظ ثم يزعم أن ذلك هو المراد دون غيره لما في ذلك من التضييق على المتأولين.
خامسها: أن يكون القصد من التحذير أخذ الحيطة في التدبر والتأويل ونبذ التسرع إلى ذلك، وهذا مقام تفاوت العلماء فيه واشتد الغلو في الورع ببعضهم حتى كان لا يذكر تفسير شيء غير عازيه إلى غيره.
- اختلاف رأي العلماء في التفسير بالرأي:
أما الذين جمدوا على القول بأن تفسير القرآن يجب أن لا يعدو ما هو مأثور فهم رموا هذه الكلمة على عواهنها ولم يضبطوا مرادهم من المأثور عمن يؤثر، فإن أرادوا به ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من تفسير بعض آيات إن كان مرويا بسند مقبول من صحيح أو حسن، فإذا التزموا هذا الظن بهم فقد ضيقوا سعة معاني القرآن وينابيع ما يستنبط من علومه، وناقضوا أنفسهم فيما دونوه من التفاسير، وغلطوا سلفهم فيما تأولوه، إذ لا ملجأ لهم من الاعتراف بأن أئمة المسلمين من الصحابة فمن بعدهم لم يقصروا أنفسهم على أن يرووا ما بلغهم من تفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد سأل عمر بن الخطاب أهل العلم عن معاني آيات كثيرة ولم يشترط عليهم أن يرووا له ما بلغهم في تفسيرها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن أرادوا بالمأثور ما روي عن النبي وعن الصحابة خاصة وهو ما يظهر من صنيع السيوطي في تفسيره الدر المنثور، لم يتسع ذلك المضيق إلا قليلا ولم يغن عن أهل التفسير فتيلا، لأن أكثر الصحابة لا يؤثر عنهم في التفسير إلا شيء قليل سوى ما يروى عن علي بن أبي طالب على ما فيه من صحيح وضعيف وموضوع، وقد ثبت عنه أنه قال: ما عندي مما ليس في كتاب الله شيء إلا فهما يؤتيه الله. وما يروى عن ابن مسعود وعبد الله بن عمر وأنس وأبي هريرة. وأما ابن عباس فكان أكثر ما يروى عنه قولا برأيه على تفاوت بين رواته. وإن أرادوا بالمأثور ما كان مرويا قبل تدوين التفاسير الأول مثل ما يروى عن أصحاب ابن عباس وأصحاب ابن مسعود، فقد أخذوا يفتحون الباب من شقه، ويقربون ما بعد من الشقة، إذ لا محيص لهم من الاعتراف بأن التابعين قالوا أقوالا في معاني القرآن لم يسندوها ولا ادعوا أنها محذوفة الأسانيد، وقد اختلفت أقوالهم في معاني آيات كثيرة اختلافا ينبئ إنباء واضحا بأنهم إنما تأولوا تلك الآيات من أفهامهم كما يعلمه من له علم بأقوالهم، وهي ثابتة في تفسير الطبري ونظرائه، وقد التزم الطبري في تفسيره أن يقتصر على ما هو مروي عن الصحابة والتابعين، لكنه لا يلبث في كل آية أن يتخطى ذلك إلى اختياره منها وترجيح بعضها على بعض بشواهد من كلام العرب، وحسبه بذلك تجاوزا لما حدده من الاقتصار على التفسير بالمأثور وذلك طريق ليس بنهج، وقد سبقه إليه بقي بن مخلد ولم نقف على تفسيره، وشاكل الطبري فيه معاصروه، مثل ابن حاتم[وابن مردويه والحاكم، فلله در الذين لم يحبسوا أنفسهم في تفسير القرآن على ما هو مأثور مثل الفراء وأبي عبيدة من الأولين، والزجاج والرماني ممن بعدهم، ثم الذين سلكوا طريقهم مثل الزمخشري وابن عطية.
- طائفة الباطنية:
طائفة التزمت تفسير القرآن بما يوافق هواها، وصرفوا ألفاظ القرآن عن ظواهرها بما سموه الباطن، وزعموا أن القرآن إنما نزل متضمنا لكنايات ورموز عن أغراض، وأصل هؤلاء طائفة من غلاة الشيعة عرفوا عند أهل العلم بالباطنية فلقبوهم بالوصف الذي عرفوهم به، وهم يعرفون عند المؤرخين بالإسماعيلية لأنهم ينسبون مذهبهم إلى جعفر بن إسماعيل الصادق، ويعتقدون عصمته وإمامته بعد أبيه بالوصاية، ويرون أن لا بد للمسلمين من إمام هدى من آل البيت هو الذي يقيم الدين، ويبين مراد الله.
- سبب نشوء المذهب الباطني في التفسير:
ولما توقعوا أن يحاجهم العلماء بأدلة القرآن والسنة رأوا أن لا محيص لهم من تأويل تلك الحجج التي تقوم في وجه بدعتهم، وأنهم إن خصوها بالتأويل وصرف اللفظ إلى الباطن اتهمهم الناس بالتعصب والتحكم فرأوا صرف جميع القرآن عن ظاهره وبنوه على أن القرآن رموز لمعان خفية في صورة ألفاظ تفيد معاني ظاهرة ليشتغل بها عامة المسلمين، وزعموا أن ذلك شأن الحكماء.
- أصل المذهب الباطني:
فمذهبهم مبني على قواعد الحكمة الإشراقية ومذهب التناسخ والحلولية فهو خليط من ذلك، ومن طقوس الديانات اليهودية والنصرانية وبعض طرائق الفلسفة ودين زرادشت. وعندهم أن الله يحل في كل رسول وإمام وفي الأماكن المقدسة، وأنه يشبه الخلق تعالى وتقدس وكل علوي يحل فيه الإله. وتكلفوا لتفسير القرآن بما يساعد الأصول التي أسسوها.
-موقف العلماء من مذهب الباطنية:
وقد تصدى للرد عليهم الغزالي في كتابه الملقب بـ "المستظهري". وقال: إذا قلنا بالباطن فالباطن لا ضبط له بل تتعارض فيه الخواطر فيمكن تنزيل الآية على وجوه شتى اهـ. يعني والذي يتخذونه حجة لهم يمكن أن نقلبه عليهم وندعي أنه باطن القرآن لأن المعنى الظاهر هو الذي لا يمكن اختلاف الناس فيه لاستناده للغة الموضوعة من قبل. وأما الباطن فلا يقوم فهم أحد فيه حجة على غيره اللهم إلا إذا زعموا أنه لا يتلقى إلا من الإمام المعصوم ولا إخالهم إلا قائلين ذلك. ويؤيد هذا ما وقع في بعض قراطيسهم قالوا إنما ينتقل إلى البدل مع عدم الأصل، والنظر بدل من الخبر فإن كلام الله هو الأصل فهو خلق الإنسان وعلمه البيان والإمام هو خليفته ومع وجود الخليفة الذي يبين قوله فلا ينتقل إلى النظر اهـ وبين ابن العربي في كتاب العواصم شيئا من فضائح مذهبهم بما لا حاجة إلى التطويل به هنا.
- الرد على من زعم أن للباطن أصل في الأثر:
فإن قلت فما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن للقرآن ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا)). وعن ابن عباس أنه قال: إن للقرآن ظهرا وبطنا. قلت لم يصح ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، بله المروي عن ابن عباس فمن هو المتصدي لروايته عنه? على أنهم ذكروا من بقية كلام ابن عباس أنه قال فظهره التلاوة وبطنه التأويل فقد أوضح مراده إن صح عنه بأن الظهر هو اللفظ والبطن هو المعنى. ومن تفسير الباطنية تفسير القاشاني وكثير من أقوالهم مبثوث في "رسائل إخوان الصفاء. "
- الفرق بين الباطنية والصوفيه في التفسير:
أما ما يتكلم به أهل الإشارات من الصوفية في بعض آيات القرآن من معان لا تجري على ألفاظ القرآن ظاهرا ولكن بتأويل ونحوه فينبغي أن تعلموا أنهم ما كانوا يدعون أن كلامهم في ذلك تفسير للقرآن، بل يعنون أن الآية تصلح للتمثل بها في الغرض المتكلم فيه، وحسبكم في ذلك أنهم سموها إشارات ولم يسموها معاني، فبذلك فارق قولهم قول الباطنية. ولعلماء الحق فيها رأيان: فالغزالي يراها مقبولة، قال في كتاب من "الإحياء": إذا قلنا في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة)) فهذا ظاهره أو إشارته أن القلب بيت وهو مهبط الملائكة ومستقر آثارهم، والصفات الرديئة كالغضب والشهوة والحسد والحقد والعجب كلاب نابحة في القلب فلا تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب، ونور الله لا يقذفه في القلب إلا بواسطة الملائكة، فقلب كهذا لا يقذف فيه النور. وقال: ولست أقول إن المراد من الحديث بلفظ البيت القلب وبالكلب الصفة المذمومة ولكن أقول هو تنبيه عليه، وفرق بين تغيير الظاهر وبين التنبيه على البواطن من ذكر الظواهر اهـ. فبهذه الدقيقة فارق نزعة الباطنية. ومثل هذا قريب من تفسير لفظ عام في آية بخاص من جزئياته كما وقع في كتاب المغازي من صحيح البخاري عن عمرو بن عطاء في قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا} قال هم كفار قريش، ومحمد نعمة الله {وأحلوا قومهم دار البوار} قال يوم بدر.
-موقف العلماء من الصوفية والاشارات في التفسير:
وابن العربي في كتاب "العواصم" يرى إبطال هذه الإشارات كلها حتى أنه بعد أن ذكر نحلة الباطنية وذكر "رسائل إخوان الصفاء" أطلق القول في إبطال أن يكون للقرآن باطن غير ظاهره، وحتى أنه بعد ما نوه بالثناء على الغزالي في تصديه للرد على الباطنية والفلاسفة قال: "وقد كان أبو حامد بدرا في ظلمة الليالي، وعقدا في لبة المعالي، حتى أوغل في التصوف، وأكثر معهم التصرف، فخرج عن الحقيقة، وحاد في أكثر أقواله عن الطريقة" اهـ.
-انحاء الاشارة المقبولة في القرآن:
وعندي إن هذه الإشارات لا تعدو واحدا من ثلاثة أنحاء: الأول ما كان يجري فيه معنى الآية مجرى التمثيل لحال شبيه بذلك المعنى كما يقولون مثلا {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} أنه إشارة للقلوب لأنها مواضع الخضوع لله تعالى إذ بها يعرف فتسجد له القلوب بفناء النفوس.
الثاني: ما كان من نحو التفاؤل فقد يكون للكلمة معنى يسبق من صورتها إلى السمع هو غير معناها المراد وذلك من باب انصراف ذهن السامع إلى ما هو المهم عنده، والذي يجول في خاطره .
الثالث: عبر ومواعظ وشأن أهل النفوس اليقظى أن ينتفعوا من كل شيء ويأخذوا الحكمة حيث وجدوها فما ظنك بهم إذا قرأوا القرآن وتدبروه فاتعظوا بمواعظه فإذا أخذوا من قوله تعالى: {فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا} اقتبسوا أن القلب الذي لم يمتثل رسول المعارف العليا تكون عاقبته وبالا.
- هل ينسب للقرآن المعنى الاشاري؟
فنسبة الإشارة إلى لفظ القرآن مجازية لأنها إنما تشير لمن استعدت عقولهم وتدبرهم في حال من الأحوال الثلاثة ولا ينتفع بها غير أولئك، فلما كانت آيات القرآن قد أنارت تدبرهم وأثارت اعتبارهم نسبوا تلك الإشارة للآية. فليست تلك الإشارة هي حق الدلالة اللفظية والاستعمالية حتى تكون من لوازم اللفظ وتوابعه كما قد تبين. وكل إشارة خرجت عن حد هذه الثلاثة الأحوال إلى ما عداها فهي تقترب إلى قول الباطنية رويدا رويدا إلى أن تبلغ عين مقالاتهم وقد بصرناكم بالحد الفارق بينهما، فإذا رأيتم اختلاطه فحققوا مناطه، وفي أيديكم فيصل الحق فدونكم اختراطه.
 هل دلالة الاشارة تتعلق بالمعنى الاشاري؟
وليس من الإشارة ما يعرف في الأصول بدلالة الإشارة، وفحوى الخطاب، وفهم الاستغراق من لام التعريف في المقام الخطابي، ودلالة التضمن والالتزام كما أخذ العلماء من تنبيهات القرآن استدلالا لمشروعية أشياء، كاستدلالهم على مشروعية الوكالة من قوله تعالى: {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه} ومشروعية الضمان من قوله: {وأنا به زعيم}. ومشروعية القياس من قوله: {لتحكم بين الناس بما أراك الله} ولا بما هو بالمعنى المجازي نحو {يا جبال أوبي معه} {فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين} ولا ما هو من تنزيل الحال منزلة المقال نحو: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} لأن جميع هذا مما قامت فيه الدلالة العرفية مقام الوضعية واتحدت في إدراكه أفهام أهل العربية فكان من المدلولات التبعية.
قال في الكشاف: وكم من آية أنزلت في شأن الكافرين وفيها أوفر نصيب للمؤمنين تدبرا لها واعتبارا بموردها. يعني أنها في شأن الكافرين من دلالة العبارة وفي شأن المؤمنين من دلالة الإشارة.

 المقصد من انزال القرآن:
إن القرآن أنزله الله تعالى كتابا لصلاح أمر الناس كافة رحمة لهم لتبليغهم مراد الله منهم قال الله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} فكان المقصد الأعلى منه صلاح الأحوال الفردية، والجماعية، والعمرانية. فالصلاح الفردي يعتمد تهذيب النفس وتزكيتها، ورأس الأمر فيه صلاح الاعتقاد لأن الاعتقاد مصدر الآداب والتفكير، ثم صلاح السريرة الخاصة، وهي العبادات الظاهرة كالصلاة، والباطنة كالتخلق بترك الحسد والحقد والكبر. وأما الصلاح الجماعي فيحصل أولا من الصلاح الفردي إذ الأفراد أجزاء المجتمع، ولا يصلح الكل إلا بصلاح أجزائه، ومن شيء زائد على ذلك وهو ضبط تصرف الناس بعضهم مع بعض على وجه يعصمهم من مزاحمة الشهوات ومواثبة القوى النفسانية. وهذا هو علم المعاملات، ويعبر عنه عند الحكماء بالسياسة المدنية. وأما الصلاح العمراني فهو أوسع من ذلك إذ هو حفظ نظام العالم الإسلامي، وضبط تصرف الجماعات والأقاليم بعضهم مع بعض على وجه يحفظ مصالح الجميع، ورعي المصالح الكلية الإسلامية، وحفظ المصلحة الجامعة عند معارضة المصلحة القاصرة لها، ويسمى هذا بعلم العمران وعلم الاجتماع.
فمراد الله من كتابه هو بيان تصاريف ما يرجع إلى حفظ مقاصد الدين وقد أودع ذلك في ألفاظ القرآن التي خاطبنا بها خطابا بينا وتعبدنا بمعرفة مراده والاطلاع عليه فقال: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب}.
الحكمة من نزول القرآن باللسان العربي :
وقد اختار الله تعالى أن يكون اللسان العربي مظهرا لوحيه، ومستودعا لمراده، وأن يكون العرب هم المتلقين أولا لشرعه وإبلاغ مراده لحكمة علمها: منها كون لسانهم أفصح الألسن وأسهلها انتشارا، وأكثرها تحملا للمعاني مع إيجاز لفظه، ولتكون الأمة المتلقية للتشريع والناشرة له أمة قد سلمت من أفن الرأي عند المجادلة، ولم تقعد بها عن النهوض أغلال التكالب على الرفاهية، ولا عن تلقي الكمال الحقيقي إذ يسبب لها خلطه بما يجر إلى اضمحلاله فيجب أن تعلموا قطعا أن ليس المراد من خطاب العرب بالقرآن أن يكون التشريع قاصرا عليهم أو مراعيا لخاصة أحوالهم، بل إن عموم الشريعة ودوامها وكون القرآن معجزة دائمة مستمرة على تعاقب السنين ينافي ذلك، نعم إن مقاصده تصفية نفوس العرب الذين اختارهم كما قلنا لتلقي شريعته وبثها ونشرها، فهم المخاطبون ابتداء قبل بقية أمة الدعوة فكانت أحوالهم مرعية لا محالة، وكان كثير من القرآن مقصودا به خطابهم خاصة، وإصلاح أحوالهم قال تعالى: {ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا} وقال {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم} لكن ليس ذلك بوجه للاقتصار على أحوالهم كما سيأتي.
 المقاصد الأصلية التي جاء القرآن لتبيانها:
ثمانية أمور:
الأول: إصلاح الاعتقاد وتعليم العقد الصحيح. وهذا أعظم سبب لإصلاح الخلق، لأنه يزيل عن النفس عادة الإذعان لغير ما قام عليه الدليل، ويطهر القلب من الأوهام الناشئة عن الإشراك والدهرية وما بينهما، وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى: {فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب} فأسند لآلهتهم زيادة تتبيبهم، وليس هو من فعل الآلهة ولكنه من آثار الاعتقاد بالآلهة.
الثاني: تهذيب الأخلاق قال تعالى {وإنك لعلى خلق عظيم}.
وفسرت عائشة رضي الله تعالى عنها لما سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن. وفي الحديث الذي رواه مالك في الموطأ بلاغا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بعثت لأتمم مكارم حسن الأخلاق)) .
الثالث: التشريع وهو الأحكام خاصة وعامة. قال تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله.
الرابع: سياسة الأمة وهو باب عظيم في القرآن القصد منه صلاح الأمة وحفظ نظامها كالإرشاد إلى تكوين الجامعة بقوله: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها} .
الخامس: القصص وأخبار الأمم السالفة للتأسي بصالح أحوالهم قال: {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين}.
السادس: التعليم بما يناسب حالة عصر المخاطبين، وما يؤهلهم إلى تلقي الشريعة ونشرها وذلك علم الشرائع وعلم الأخبار وكان ذلك مبلغ علم مخالطي العرب من أهل الكتاب. وقد زاد القرآن على ذلك تعليم حكمة ميزان العقول وصحة الاستدلال في أفانين مجادلاته للضالين وفي دعوته إلى النظر، ثم نوه بشأن الحكمة فقال: {يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} .
السابع: المواعظ والإنذار والتحذير والتبشير، وهذا يجمع جميع آيات الوعد والوعيد، وكذلك المحاجة والمجادلة للمعاندين، وهذا باب الترغيب والترهيب.
الثامن: الإعجاز بالقرآن ليكون آية دالة على صدق الرسول؛ إذ التصديق يتوقف على دلالة المعجزة بعد التحدي، والقرآن جمع كونه معجزة بلفظه ومتحدي لأجله بمعناه والتحدي وقع فيه {قل فأتوا بسورة مثله} ولمعرفة أسباب النزول مدخل في ظهور مقتضى الحال ووضوحه.
بيان غرض المفسر:
فغرض المفسر بيان ما يصل إليه أو ما يقصده من مراد الله تعالى في كتابه بأتم بيان يحتمله المعنى ولا يأباه اللفظ من كل ما يوضح المراد من مقاصد القرآن، أو ما يتوقف عليه فهمه أكمل فهم، أو يخدم المقصد تفصيلا وتفريعا ، مع إقامة الحجة على ذلك إن كان به خفاء، أو لتوقع مكابرة من معاند أو جاهل، فلا جرم كان رائد المفسر في ذلك أن يعرف على الإجمال مقاصد القرآن مما جاء لأجله، ويعرف اصطلاحه في إطلاق الألفاظ، وللتنزيل اصطلاح وعادات.
طرائق المفسرين للقرآن:
فطرائق المفسرين للقرآن ثلاث، إما الاقتصار على الظاهر من المعنى الأصلي للتركيب مع بيانه وإيضاحه وهذا هو الأصل. وإما استنباط معان من وراء الظاهر تقتضيها دلالة اللفظ أو المقام ولا يجافيها الاستعمال ولا مقصد القرآن، وتلك هي مستتبعات التراكيب وهي من خصائص اللغة العربية المبحوث فيها في علم البلاغة ككون التأكيد يدل على إنكار المخاطب أو تردده، وكفحوى الخطاب ودلالة الإشارة واحتمال المجاز مع الحقيقة، وإما أن يجلب المسائل ويبسطها لمناسبة بينها وبين المعنى، أو لأن زيادة فهم المعنى متوقفة عليها، أو للتوفيق بين المعنى القرآني وبين بعض العلوم مما له تعلق بمقصد من مقاصد التشريع لزيادة تنبيه إليه، أو لرد مطاعن من يزعم أنه ينافيه لا على أنها مما هو مراد الله من تلك الآية بل لقصد التوسع .
رأي العلماء في التوفيق بين المعنى القرآني وبين بعض العلوم مما له تعلق بمقصد من مقاصد التشريع :
- جماعة منهم فيرون من الحسن التوفيق بين العلوم غير الدينية وآلاتها وبين المعاني القرآنية، ويرون القرآن مشيرا إلى كثير منها. قال ابن رشد الحفيد في فصل المقال: أجمع المسلمون على أن ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشرع كلها على ظاهرها، ولا أن تخرج كلها عن ظاهرها بالتأويل، والسبب في ورود الشرع بظاهر وباطن هو اختلاف نظر الناس. وتباين قرائحهم في التصديق وتخلص إلى القول بأن بين العلوم الشرعية والفلسفية اتصالا. ابن جني والزجاج وأبو حيان قد أشبعوا "تفاسيرهم" من الاستدلال على القواعد العربية، ولا شك أن الكلام الصادر عن علام الغيوب تعالى وتقدس لا تبنى معانيه على فهم طائفة واحدة ولكن معانيه تطابق الحقائق، وكل ما كان من الحقيقة في علم من العلوم وكانت الآية لها اعتلاق بذلك فالحقيقة العلمية مرادة بمقدار ما بلغت إليه أفهام البشر وبمقدار ما ستبلغ إليه. وذلك يختلف باختلاف المقامات ويبنى على توفر الفهم.


شرط التوفيق بين المعنى القرآني وبين بعض العلوم مما له تعلق بمقصد من مقاصد التشريع :

وشرطه أن لا يخرج عما يصلح له اللفظ عربية، ولا يبعد عن الظاهر إلا بدليل، ولا يكون تكلفا بينا ولا خروجا عن المعنى الأصلي حتى لا يكون في ذلك كتفاسير الباطنية.
- أبو إسحاق الشاطبي فقال في الفصل الثالث من المسألة الرابعة: لا يصح في مسلك الفهم والإفهام إلا ما يكون عاما لجميع العرب. فلا يتكلف فيه فوق ما يقدرون عليه وقال في المسألة الرابعة من النوع الثاني: "ما تقرر من أمية الشريعة وأنها جارية على مذاهب أهلها وهم العرب تنبني عليه قواعد، منها: أن كثيرا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين من علوم الطبيعيات والتعاليم والمنطق وعلم الحروف وأشباهها وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح فإن السلف الصالح كانوا أعلم بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه، ولم يبلغنا أن أحدا منهم تكلم في شيء من هذا سوى ما ثبت فيه من أحكام التكاليف وأحكام الآخرة. نعم تضمن علوما من جنس علوم العرب وما هو على معهودها مما يتعجب منه أولو الألباب ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة" إلخ.

الرد عل من يرى أن القرآن يعتمد في مسلك فهمه وإفهامه على مقدرة العرب وطاقتهم، وأن الشريعة أمية.
هذا أساس واه لوجوه ستة: الأول أن ما بناه عليه يقتضي أن القرآن لم يقصد منه انتقال العرب من حال إلى حال وهذا باطل ، قال تعالى: {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا}.
الثاني أن مقاصد القرآن راجعة إلى عموم الدعوة وهو معجزة باقية فلا بد أن يكون فيه ما يصلح لأن تتناوله أفهام من يأتي من الناس في عصور انتشار العلوم في الأمة.
الثالث أن السلف قالوا: إن القرآن لا تنقضي عجائبه يعنون معانيه ولو كان كما قال الشاطبي لانقضت عجائبه بانحصار أنواع معانيه.
الرابع أن من تمام إعجازه أن يتضمن من المعاني مع إيجاز لفظه ما لم تف به الأسفار المتكاثرة.
الخامس أن مقدار أفهام المخاطبين به ابتداء لا يقضي إلا أن يكون المعنى الأصلي مفهوما لديهم فأما مازاد على المعاني الأساسية فقد يتهيأ لفهمه أقوام، وتحجب عنه أقوام، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه.
السادس أن عدم تكلم السلف عليها إن كان فيما ليس راجعا إلى مقاصده فنحن نساعد عليه، وإن كان فيما يرجع إليها فلا نسلم وقوفهم فيها عند ظواهر الآيات بل قد بينوا وفصلوا وفرعوا في علوم عنوا بها.

- ذهب ابن العربي في "العواصم" إلى إنكار التوفيق بين العلوم الفلسفية والمعاني القرآنية ولم يتكلم على غير هاته العلوم وذلك على عادته في تحقير الفلسفة لأجل ما خولطت به من الضلالات الاعتقادية وهو مفرط في ذلك مستخف بالحكماء.
رأي ابن عاشور في التوفيق بين المعنى القرآني وبين بعض العلوم مما له تعلق بمقصد من مقاصد التشريع :
وأنا أقول: إن علاقة العلوم بالقرآن على أربع مراتب:
الأولى: علوم تضمنها القرآن كأخبار الأنبياء والأمم، وتهذيب الأخلاق والفقه والتشريع والاعتقاد والأصول والعربية والبلاغة.
الثانية: علوم تزيد المفسر علما كالحكمة والهيئة وخواص المخلوقات.
الثالثة: علوم أشار إليها أو جاءت مؤيدة له كعلم طبقات الأرض والطب والمنطق.
الرابعة: علوم لا علاقة لها به إما لبطلانها كالزجر والعيافة والميثولوجيا، وإما لأنها لا تعين على خدمته كعلم العروض والقوافي.

- موقف بعض المفسرين من أسباب النزول:
أولع كثير من المفسرين بتطلب أسباب نزول آي القرآن، وهي حوادث يروى أن آيات من القرآن نزلت لأجلها لبيان حكمها أو لحكايتها أو إنكارها أو نحو ذلك، وأغربوا في ذلك وأكثروا حتى كاد بعضهم أن يوهم الناس أن كل آية من القرآن نزلت على سبب، وحتى رفعوا الثقة بما ذكروا. بيد أنا نجد في بعض آي القرآن إشارة إلى الأسباب التي دعت إلى نزولها ونجد لبعض الآي أسبابا ثبتت بالنقل دون احتمال أن يكون ذلك رأي الناقل، فكان أمر أسباب نزول القرآن دائرا بين القصد والإسراف، وكان في غض النظر عنه وإرسال حبله على غاربه خطر عظيم في فهم القرآن.
 اعتذار ابن عاشورللمؤلفين في أسباب النزول:
وأنا عاذر المتقدمين الذين ألفوا في أسباب النزول فاستكثروا منها، بأن كل من يتصدى لتأليف كتاب في موضوع غير مشبع تمتلكه محبة التوسع فيه فلا ينفك يستزيد من ملتقطاته ليذكي قبسه، ويمد نفسه، فيرضى بما يجد رضى الصب بالوعد، ويقول زدني من حديثك يا سعد. غير هياب لعاذل، ولا متطلب معذرة عاذر، وكذلك شأن الولع إذا امتلك القلب.
 رد ابن عاشور على الناقلين لأسباب النزول:
ولكني لا أعذر أساطين المفسرين الذين تلقفوا الروايات الضعيفة فأثبتوها في كتبهم ولم ينبهوا على مراتبها قوة وضعفا، حتى أوهموا كثيرا من الناس أن القرآن لا تنزل آياته إلا لأجل حوادث تدعو إليها، وبئس هذا الوهم فإن القرآن جاء هاديا إلى ما به صلاح الأمة في أصناف الصلاح فلا يتوقف نزوله على حدوث الحوادث الداعية إلى تشريع الأحكام. نعم إن العلماء توجسوا منها فقالوا: إن سبب النزول لا يخصص، إلا طائفة شاذة ادعت التخصيص بها، ولو أن أسباب النزول كانت كلها متعلقة بآيات عامة لما دخل من ذلك ضر على عمومها إذ قد أراحنا أئمة الأصول حين قالوا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ولكن أسبابا كثيرة رام رواتها تعيين مراد من تخصيص عام أو تقييد مطلق أو إلجاء إلى محمل، فتلك هي التي قد تقف عرضة أمام معاني التفسير قبل التنبيه على ضعفها أو تأويلها. وقد قال الواحدي في أول كتابه في أسباب النزول: "أما اليوم فكل أحد يخترع للآية سببا، ويختلق إفكا وكذبا، ملقيا زمامه إلى الجهالة، غير مفكر في الوعيد" وقال: "لا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل" اهـ.
حاجة المفسر للعلم بأسباب النزول:
إن من أسباب النزول ما ليس المفسر بغنى عن علمه لأن فيها بيان مجمل أو إيضاح خفي وموجز، ومنها ما يكون وحده تفسيرا. ومنها ما يدل المفسر على طلب الأدلة التي بها تأويل الآية أو نحو ذلك. ففي صحيح البخاري أن مروان بن الحكم أرسل إلى ابن عباس يقول لئن كان كل امرئ فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون يشير إلى قوله تعالى: (لا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم) فأجاب ابن عباس قائلا: "إنما دعا النبي اليهود فسألهم على شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فأروه أنهم قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما أتوا من كتمانهم"، ثم قرأ ابن عباس: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون لا يحسبن الذين يفرحون) الآيات. وفي الموطأ عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه أنه قال: قلت لعائشة أم المؤمنين وأنا يومئذ حديث السن: أرأيت قول الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} فما على الرجل شيء ألا يطوف بهما، قالت عائشة: كلا، لو كان كما تقول لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله عن ذلك فأنزل الله تعالى {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} اهـ.
ومنها ما ينبه المفسر إلى إدراك خصوصيات بلاغية تتبع مقتضى المقامات فإن من أسباب النزول ما يعين على تصوير مقام الكلام.
 أقسام الأسانيد الصحيحة لأسباب النزول:
وقد تصفحت أسباب النزول التي صحت أسانيدها فوجدتها خمسة أقسام:
الأول: هو المقصود من الآية يتوقف فهم المراد منها على علمه فلابد من البحث عنه للمفسر، وهذا منه تفسير مبهمات القرآن مثل قوله تعالى {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} ونحو {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا} ومثل بعض الآيات التي فيها {ومن الناس}.
والثاني: هو حوادث تسببت عليها تشريعات أحكام وصور تلك الحوادث لا تبين مجملا ولا تخالف مدلول الآية بوجه تخصيص أو تعميم أو تقييد، ولكنها إذا ذكرت أمثالها وجدت مساوية لمدلولات الآيات النازلة عند حدوثها، مثل حديث عويمر العجلاني الذي نزلت عنه آية اللعان، ومثل حديث كعب بن عجرة الذي نزلت عنه آية {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام} الآية فقد قال كعب بن عجرة: هي لي خاصة ولكم عامة، ومثل قول أم سلمة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: يغزو الرجال ولا نغزو، فنزل قوله تعالى {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} الآية. وهذا القسم لا يفيد البحث فيه إلا زيادة تفهم في معنى الآية وتمثيلا لحكمها، ولا يخشى توهم تخصيص الحكم بتلك الحادثة، إذ قد اتفق العلماء أو كادوا على أن سبب النزول في مثل هذا لا يخصص، واتفقوا على أن أصل التشريع أن لا يكون خاصا.
والثالث: هو حوادث تكثر أمثالها تختص بشخص واحد فنزلت الآية لإعلانها وبيان أحكامها وزجر من يرتكبها، فكثيرا ما تجد المفسرين وغيرهم يقولون نزلت في كذا وكذا، وهم يريدون أن من الأحوال التي تشير إليها تلك الآية تلك الحالة الخاصة فكأنهم يريدون التمثيل. ففي كتاب الأيمان من صحيح البخاري في باب قول الله تعالى {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا} أن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله: ((من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان)) فأنزل الله تصديق ذلك {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا} الآية فدخل الأشعث بن قيس فقال: ما حدثكم أبو عبد الرحمن? فقالوا كذا وكذا، قال في أنزلت، لي بئر في أرض ابن عم لي الخ، فابن مسعود جعل الآية عامة لأنه جعلها تصديقا لحديث عام? والأشعث بن قيس ظنها خاصة به إذ قال: في أنزلت بصيغة الحصر.
وهذا القسم قد أكثر من ذكره أهل القصص وبعض المفسرين ولا فائدة في ذكره، على أن ذكره قد يوهم القاصرين قصر الآية على تلك الحادثة لعدم ظهور العموم من ألفاظ تلك الآيات.
والرابع: هو حوادث حدثت وفي القرآن آيات تناسب معانيها سابقة أو لاحقة فيقع في عبارات بعض السلف ما يوهم أن تلك الحوادث هي المقصود من تلك الآيات، مع أن المراد أنها مما يدخل في معنى الآية ويدل لهذا النوع وجود اختلاف كثير بين الصحابة في كثير من أسباب النزول .
وفي "صحيح البخاري" في سورة النساء أن ابن عباس قرأ قوله تعالى: {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا} بألف بعد لام السلام وقال: كان رجل في غنيمة له تصغير غنم فلحقه المسلمون فقال: السلام عليكم فقتلوه أي ظنوه مشركا يريد أن يتقي منهم بالسلام وأخذوا غنيمته فأنزل الله في ذلك {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام} الآية. فالقصة لا بد أن تكون قد وقعت لأن ابن عباس رواها لكن الآية ليست نازلة فيها بخصوصها ولكن نزلت في أحكام الجهاد بدليل ما قبلها وما بعدها فإن قبلها: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا} وبعدها {فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل}.
قال السيوطي في "الإتقان" عن الزركشي قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال نزلت هذه الآية في كذا، فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم لا أن هذا كان السبب في نزولها.
والخامس: قسم يبين مجملات، ويدفع متشابهات مثل قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} فإذا ظن أحد أن من للشرط أشكل عليه كيف يكون الجور في الحكم كفرا، ثم إذا علم أن سبب النزول هم النصارى علم أن من موصولة وعلم أن الذين تركوا الحكم بالإنجيل لا يتعجب منهم أن يكفروا بمحمد. وكذلك حديث عبد الله بن مسعود قال لما نزل قوله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا أينا لم يلبس إيمانه بظلم ظنوا أن الظلم هو المعصية. فقال رسول الله: ((إنه ليس بذلك? ألا تسمع لقول لقمان لابنه {إن الشرك لظلم عظيم})).
 فوائد أسباب النزول:
هذا وإن القرآن كتاب جاء لهدي أمة والتشريع لها، وهذا الهدي قد يكون واردا قبل الحاجة، وقد يكون مخاطبا به قوم على وجه الزجر أو الثناء أو غيرهما، وقد يكون مخاطبا به جميع من يصلح لخطابه، وهو في جميع ذلك قد جاء بكليات تشريعية وتهذيبية، والحكمة في ذلك أن يكون وعي الأمة لدينها سهلا عليها، وليمكن تواتر الدين، وليكون لعلماء الأمة مزية الاستنباط، وإلا فإن الله قادر أن يجعل القرآن أضعاف هذا المنزل وأن يطيل عمر النبي صلى الله عليه وسلم للتشريع أكثر مما أطال عمر إبراهيم وموسى، ولذلك قال تعالى: {وأتممت عليكم نعمتي}، فكما لا يجوز حمل كلماته على خصوصيات جزئية لأن ذلك يبطل مراد الله، كذلك لا يجوز تعميم ما قصد منه الخصوص ولا إطلاق ما قصد منه التقييد؛ لأن ذلك قد يفضي إلى التخليط في المراد أو إلى إبطاله من أصله، وقد اغتر بعض الفرق بذلك. قال ابن سيرين في الخوارج: إنهم عمدوا إلى آيات الوعيد النازلة في المشركين فوضعوها على المسلمين فجاءوا ببدعة القول بالتكفير بالذنب، وقد قال الحرورية لعلي رضي الله عنه يوم التحكيم: {إن الحكم إلا لله} فقال علي كلمة حق أريد بها باطل وفسرها في خطبة له في "نهج البلاغة".
وثمة فائدة أخرى عظيمة لأسباب النزول وهي أن في نزول القرآن عند حدوث حوادث دلالة على إعجازه من ناحية الارتجال، وهي إحدى طريقتين لبلغاء العرب في أقوالهم، فنزوله على حوادث يقطع دعوى من ادعوا أنه أساطير الأولين.

حالات القراءات عند ابن عاشور:.
أرى أن للقراءات حالتين: إحداهما لا تعلق لها بالتفسير بحال، والثانية لها تعلق به من جهات متفاوتة.
أما الحالة الأولى فهي اختلاف القراء في وجوه النطق بالحروف والحركات كمقادير المد والإمالات والتخفيف والتسهيل والتحقيق والجهر والهمس والغنة، مثل {عذابيْ} بسكون الياء و(عذابيَ) بفتحها، وفي تعدد وجوه الإعراب مثل {حتى يقول الرسول} بفتح لام يقول وضمها. ونحو: {لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة} برفع الأسماء الثلاثة أو فتحها أو رفع بعض وفتح بعض،
 مزية الحالة الأولى:
ومزية القراءات من هذه الجهة عائدة إلى أنها حفظت على أبناء العربية ما لم يحفظه غيرها وهو تحديد كيفيات نطق العرب بالحروف في مخارجها وصفاتها وبيان اختلاف العرب في لهجات النطق بتلقي ذلك عن قراء القرآن من الصحابة بالأسانيد الصحيحة، وهذا غرض مهم جدا لكنه لا علاقة له بالتفسير لعدم تأثيره في اختلاف معاني الآي، ولم أر من عرف لفن القراءات حقه من هذه الجهة، وفيها أيضا سعة من بيان وجوه الإعراب في العربية، فهي لذلك مادة كبرى لعلوم اللغة العربية. فأئمة العربية لما قرأوا القرآن قرأوه بلهجات العرب الذين كانوا بين ظهرانيهم في الأمصار التي وزعت عليها المصاحف: المدينة، ومكة، والكوفة، والبصرة، والشام، قيل واليمن والبحرين، وكان في هذه الأمصار قراؤها من الصحابة قبل ورود مصحف عثمان إليهم فقرأ كل فريق بعربية قومه في وجوه الأداء، لا في زيادة الحروف ونقصها، ولا في اختلاف الإعراب دون مخالفته مصحف عثمان، ويحتمل أن يكون القارئ الواحد قد قرأ بوجهين ليري صحتهما في العربية قصدا لحفظ اللغة مع حفظ القرآن الذي أنزل بها، ولذلك يجوز أن يكون كثير من اختلاف القراء في هذه الناحية اختيارا، وعليه يحمل ما يقع في كتابي الزمخشري وابن العربي من نقد بعض طرق القراء، على أن في بعض نقدهم نظرا، وقد كره مالك رحمه الله القراءة بالإمالة مع ثبوتها عن القراء، وهي مروية عن مقرئ المدينة نافع من رواية ورش عنه وانفرد بروايته أهل مصر، فدلت كراهته على أنه يرى أن القارئ بها ما قرأ إلا بمجرد الاختيار، وفي تفسير القرطبي في سورة الشعراء عن أبي إسحاق الزجاج، يجوز أن يقرأ "طسين ميم" بفتح النون من "طسين" وضم الميم الأخيرة كما يقال هذا معد يكرب اهـ مع أنه لم يقرأ به أحد. قلت: ولا ضير في ذلك ما دامت كلمات القرآن وجمله محفوظة على نحو ما كتب في المصحف الذي أجمع عليه أصحاب رسوا الله إلا نفرا قليلا شذوا منهم، كان عبد الله بن مسعود منهم، فإن عثمان لما أمر بكتب المصحف على نحو ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأثبته كتاب المصحف، رأى أن يحمل الناس على اتباعه وترك قراءة ما خالفه، وجمع جميع المصاحف المخالفة له وأحرقها ووافقه جمهور الصحابة على ما فعله. قال شمس الدين الأصفهاني في المقدمة الخامسة من تفسيره. كان على طول أيامه يقرأ مصحف عثمان ويتخذه إماما. وقلت: إنما كان فعل عثمان إتماما لما فعله أبو بكر من جمعه القرآن الذي كان يقرأ في حياة الرسول، وأن عثمان نسخه في مصاحف لتوزع على الأمصار، فصار المصحف الذي كتب لعثمان قريبا من المجمع عليه وعلى كل قراءة توافقه وصار ما خالفه متروكا بما يقارب الإجماع.
قال الأصفهاني في تفسيره كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة، وهي قراءة العامة التي قرأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل في العام الذي قبض فيه، ويقال إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي عرضها رسول الله على جبريل اهـ وبقي الذين قرأوا قراءات مخالفة لمصحف عثمان يقرأون بما رووه لا ينهاهم أحد عن قراءتهم ولكن يعدوهم شذاذا ولكنهم لم يكتبوا قراءتهم في مصاحف بعد أن أجمع الناس على مصحف عثمان، قال البغوي في تفسير قوله تعالى {وطلح منضود}.
بعض القراءات المخالفة لمصحف عثمان:
عن مجاهد وفي الكشاف والقرطبي- قرأ علي بن أبي طالب (وطلع منضود) بعين في موضع الحاء، وقرأ قارئ بين يديه {وطلح منضود} فقال: وما شأن الطلح? إنما هو (وطلع) وقرأ: {لها طلع نضيد} فقالوا أفلا نحولها? فقال إن آي القرآن لا تهاج اليوم ولا تحول، أي لا تغير حروفها ولا تحول عن مكانها فهو قد منع من تغيير المصحف، ومع ذلك لم يترك القراءة التي رواها، وممن نسبت إليهم قراءات مخالفة لمصحف عثمان، عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وسالم مولى أبي حذيفة، إلى أن ترك الناس ذلك تدريجا.
ذكر الفخر في تفسير قوله تعالى: {إذ تلقونه بألسنتكم} من سورة النور أن سفيان قال: سمعت أمي تقرأ: (إذ تثقفونه بألسنتكم) وكان أبوها يقرأ بقراءة ابن مسعود، ومع ذلك فقد شذت مصاحف بقيت مغفولا عنها بأيدي أصحابها، منها ما ذكره الزمخشري في الكشاف في سورة الفتح أن الحارث بن سويد صاحب عبد الله بن مسعود كان له مصحف دفنه في مدة الحجاج، قال في الكشاف لأنه كان مخالفا للمصحف الإمام، وقد أفرط الزمخشري في توهين بعض القراءات لمخالفتها لما اصطلح عليه النحاة وذلك من إعراضه عن معرفة الأسانيد.
شروط الرواية الصحيحة الشاذة التي لم تبلغ حد التواتر عند علماء القراءات :
من أجل ذلك اتفق علماء القراءات والفقهاء على أن كل قراءة وافقت وجها في العربية ووافقت خط المصحف أي مصحف عثمان وصح سند راويها؛ فهي قراءة صحيحة لا يجوز ردها، قال أبو بكر ابن العربي: ومعنى ذلك عندي أن تواترها تبع لتواتر المصحف الذي وافقته وما دون ذلك فهو شاذ، يعني وأن تواتر المصحف ناشئ عن تواتر الألفاظ التي كتبت فيه.
قلت- وهذه الشروط الثلاثة، هي شروط في قبول القراءة إذا كانت غير متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، بأن كانت صحيحة السند إلى النبي ولكنها لم تبلغ حد التواتر فهي بمنزلة الحديث الصحيح، وأما القراءة المتواترة فهي غنية عن هذه الشروط لأن تواترها يجعلها حجة في العربية، ويغنيها عن الاعتضاد بموافقة المصحف المجمع عليه، ألا ترى أن جمعا من أهل القراءات المتواترة قرأوا قوله تعالى: (وما هو على الغيب بظنين) بظاء مشالة أي: بمتهم، وقد كتبت في المصاحف كلها بالضاد الساقطة.
على أن أبا علي الفارسي صنف كتاب الحجة للقراءات، وهو معتمد عند المفسرين وقد رأيت نسخة منه في مكاتب الآستانة. فالقراءات من هذه الجهة لا تفيد في علم التفسير والمراد بموافقة خط المصحف موافقة أحد المصاحف الأئمة التي وجه بها عثمان بن عفان إلى أمصار الإسلام إذ قد يكون اختلاف يسير نادر بين بعضها، مثل زيادة الواو في {وسارعوا إلى مغفرة} في مصحف الكوفة ومثل زيادة الفاء في قوله: { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} في سورة الشورى {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا} - أو (إحسانا) فذلك اختلاف ناشئ عن القراءة بالوجهين بين الحفاظ من زمن الصحابة الذين تلقوا القرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه قد أثبته ناسخو المصحف في زمن عثمان فلا ينافي التواتر إذ لا تعارض، إذا كان المنقول عنه قد نطق بما نقله عنه الناقلون في زمانين أو أزمنة، أو كان قد أذن للناقلين أن يقرأوا بأحد اللفظين أو الألفاظ.
 القراء العشرة:
وقد انحصر توفر الشروط في الروايات العشر للقراء وهم، نافع بن أبي نعيم المدني، وعبد الله بن كثير المكي، وأبو عمرو المازني البصري وعبد الله بن عامر الدمشقي، وعاصم بن أبي النجود الكوفي، وحمزة بن حبيب الكوفي، والكسائي علي بن حمزة الكوفي، ويعقوب بن إسحاق الحضرمي البصري، وأبو جعفر يزيد بن القعقاع المدني، وخلف البزار بزاي فألف فراء مهملة الكوفي، وهذا العاشر ليست له رواية خاصة، وإنما اختار لنفسه قراءة تناسب قراءات أئمة الكوفة، فلم يخرج عن قراءات قراء الكوفة إلا قليلا، وبعض العلماء يجعل قراءة ابن محيصن واليزيدي والحسن، والأعمش، مرتبة دون العشر، وقد عد الجمهور ما سوى ذلك شاذا لأنه لم ينقل بتواتر حفاظ القرآن.
حكم القراءة بما دون العشر:
والذي قاله مالك والشافعي، أن ما دون العشر لا تجوز القراءة به ولا أخذ حكم منه لمخالفته المصحف الذي كتب فيه ما تواتر، فكان ما خالفه غير متواتر فلا يكون قرآنا، وقد تروى قراءات عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد صحيحة في كتب الصحيح مثل صحيح البخاري ومسلم وأضرابهما إلا أنها لا يجوز لغير من سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم القراءة بها لأنها غير متواترة النقل فلا يترك المتواتر للآحاد وإذا كان راويها قد بلغته قراءة أخرى متواترة تخالف ما رواه وتحقق لديه التواتر وجب عليه أن يقرأ بالمروية تواترا، وقد اصطلح المفسرون على أن يطلقوا عليها قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، لأنها غير منتسبة إلى أحد من أئمة الرواية في القراءات، ويكثر ذكر هذا العنوان في تفسير محمد بن جرير الطبري وفي الكشاف وفي المحرر الوجيز لعبد الحق ابن عطية، وسبقهم إليه أبو الفتح ابن جني، فلا تحسبوا أنهم أرادوا بنسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أنها وحدها المأثورة عنه ولا ترجيحها على القراءات المشهورة لأن القراءات المشهورة قد رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد أقوى وهي متواترة على الجملة كما سنذكره، وما كان ينبغي إطلاق وصف قراءة النبي عليها لأنه يوهم من ليسوا من أهل الفهم الصحيح أن غيرها لم يقرأ به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يرجع إلى تبجح أصحاب الرواية بمروياتهم.
وأما الحالة الثانية: فهي اختلاف القراء في حروف الكلمات مثل {مالك يوم الدين} (ملك يوم الدين) و(ننشرها) و{ننشزها} و{وظنوا أنهم قد كذبوا} بتشديد الذال أو (قد كذبوا) بتخفيفه، وكذلك اختلاف الحركات الذي يختلف معه معنى الفعل كقوله {ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون} قرأ نافع بضم الصاد وقرأ حمزة بكسر الصاد، فالأولى بمعنى يصدون غيرهم عن الإيمان، والثانية بمعنى صدودهم في أنفسهم وكلا المعنيين حاصل منهم، وهي من هذه الجهة لها مزيد تعلق بالتفسير.
سبب تعلق الحالة الثانية بعلم التفسير:
لأن ثبوت أحد اللفظين في قراءة قد يبين المراد من نظيره في القراءة الأخرى، أو يثير معنى غيره، ولأن اختلاف القراءات في ألفاظ القرآن يكثر المعاني في الآية الواحدة نحو {حتى يطهرن} بفتح الطاء المشددة والهاء المشددة، وبسكون الطاء وضم الهاء مخففة، ونحو {لامستم النساء} و(لمستم النساء)، وقراءة (وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن إناثا) مع قراءة {الذين هم عباد الرحمن} والظن أن الوحي نزل بالوجهين وأكثر، تكثيرا للمعاني إذا جزمنا بأن جميع الوجوه في القراءات المشهورة هي مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، على أنه لا مانع من أن يكون مجيء ألفاظ القرآن على ما يحتمل تلك الوجوه مرادا لله تعالى ليقرأ القراء بوجوه فتكثر من جراء ذلك المعاني، فيكون وجود الوجهين فأكثر في مختلف القراءات مجزئا عن آيتين فأكثر، وهذا نظير التضمين في استعمال العرب، ونظير التورية والتوجيه في البديع، ونظير مستتبعات التراكيب في علم المعاني، وهو من زيادة ملاءمة بلاغة القرآن، ولذلك كان اختلاف القراء في اللفظ الواحد من القرآن قد يكون معه اختلاف المعنى؛ ولم يكن حمل أحد القراءتين على الأخرى متعينا ولا مرجحا، وإن كان قد يؤخذ من كلام أبي علي الفارسي في كتاب الحجة أنه يختار حمل معنى إحدى القراءتين على معنى الأخرى، ومثال هذا قوله في قراءة الجمهور قوله تعالى {فإن الله هو الغني الحميد} في سورة الحديد، وقراءة نافع وابن عامر (فإن الله الغني الحميد) بإسقاط هو أن من أثبت هو يحسن أن يعتبره ضمير فصل لا مبتدأ، لأنه لو كان مبتدأ لم يجز حذفه في قراءة نافع وابن عامر، قال أبو حيان: وما ذهب إليه ليس بشيء لأنه بنى ذلك على توافق القراءتين وليس كذلك، ألا ترى أنه قد يكون قراءتان في لفظ واحد لكل منهما توجيه يخالف الآخر، كقراءة {والله أعلم بما وضعت} بضم التاء أو سكونها.
وأنا أرى أن على المفسر أن يبين اختلاف القراءات المتواترة لأن في اختلافها توفيرا لمعاني الآية غالبا فيقوم تعدد القراءات مقام تعدد كلمات القرآن. وهذا يبين لنا أن اختلاف القراءات قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في حديث عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم بن حزام ففي صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ في الصلاة سورة الفرقان في حياة رسول الله فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله، فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلببته بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ? قال: أقرأنيها رسول الله، فقلت: كذبت فإن رسول الله أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله فقلت إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله: ((اقرأ يا هشام)) فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله: ((كذلك أنزلت))، ثم قال: ((اقرأ يا عمر)) فقرأت القراءة التي أقرأني فقال رسول الله: ((كذلك أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه)) اهـ.
رد الاشكال في حديث عمربن الخطاب وهشام بن حكيم:
وفي الحديث إشكال، وللعلماء في معناه أقوال يرجع إلى اعتبارين: أحدهما اعتبار الحديث منسوخا والآخر اعتباره محكما.
فأما الذين اعتبروا الحديث منسوخا وهو رأي جماعة منهم أبو بكر الباقلاني وابن عبد البر وأبو بكر بن العربي والطبري والطحاوي، وينسب إلى ابن عيينة وابن وهب قالوا كان ذلك رخصة في صدر الإسلام أباح الله للعرب أن يقرأوا القرآن بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها، ثم نسخ ذلك بحمل الناس على لغة قريش لأنها التي بها نزل القرآن وزال العذر لكثرة الحفظ وتيسير الكتابة، وقال ابن العربي: دامت الرخصة مدة حياة النبي عليه السلام، وظاهر كلامه أن ذلك نسخ بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإما نسخ بإجماع الصحابة أو بوصاية من النبي صلى الله عليه وسلم، واستدلوا على ذلك بقول عمر: إن القرآن نزل بلسان قريش، وبنهيه عبد الله بن مسعود أن يقرأ (فتول عنهم عتى حين) وهي لغة هذيل في حتى، وبقول عثمان لكتاب المصاحف فإذا اختلفتم في حرف فاكتبوه بلغة قريش فإنما نزل بلسانهم، يريد أن لسان قريش هو الغالب على القرآن، أو أراد أنه نزل بما نطقوا به من لغتهم وما غلب على لغتهم من لغات القبائل إذ كان عكاظ بأرض قريش وكانت مكة مهبط القبائل كلها.
معنى القرآن نزل على سبع أحرف:
ولهم في تحديد معنى الرخصة بسبعة أحرف ثلاثة أقوال: الأول أن المراد بالأحرف الكلمات المترادفة للمعنى الواحد، أي أنزل بتخيير قارئه أن يقرأه باللفظ الذي يحضره من المرادفات تسهيلا عليهم حتى يحيطوا بالمعنى. وعلى هذا الجواب فقيل المراد بالسبعة حقيقة العدد وهو قول الجمهور فيكون تحديدا للرخصة بأن لا يتجاوز سبعة مرادفات أو سبع لهجات أي من سبع لغات؛ إذ لا يستقيم غير ذلك لأنه لا يتأتى في كلمة من القرآن أن يكون لها ستة مرادفات أصلا، ولا في كلمة أن يكون فيها سبع لهجات إلا كلمات قليلة مثل {أف}– {وجبريل}– و{أرجه}.
وقد اختلفوا في تعيين اللغات السبع، فقال أبو عبيدة وابن عطية وأبو حاتم والباقلاني: هي من عموم لغات العرب وهم: قريش، وهذيل، وتيم الرباب، والأزد، وربيعة، وهوازن، وسعد بن بكر من هوازن، وبعضهم يعد قريشا، وبني دارم، والعليا من هوازن وهم سعد بن بكر، وجشم بن بكر، ونصر بن معاوية، وثقيف، قال أبو عمرو بن العلاء أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم وهم بنو دارم. وبعضهم يعد خزاعة ويطرح تميما، وقال أبو علي الأهوازي، وابن عبد البر، وابن قتيبة هي لغات قبائل من مضر وهم قريش، وهذيل، وكنانة، وقيس، وضبة، وتيم الرباب، وأسد بن خزيمة، وكلها من مضر.
القول الثاني: لجماعة منهم عياض: أن العدد غير مراد به حقيقته، بل هو كناية عن التعدد والتوسع، وكذلك المرادفات ولو من لغة واحدة كقوله: {كالعهن المنفوش} وقرأ ابن مسعود (كالصوف المنفوش)، وقرأ أبي {كلما أضاء لهم مشوا فيه} "مروا فيه" "سعوا فيه"، وقرأ ابن مسعود {انظرونا نقتبس من نوركم} "أخرونا"، "أمهلونا"، وأقرأ ابن مسعود رجلا {إن شجرت الزقوم طعام الأثيم} فقال الرجل: (طعام اليتيم)، فأعاد له فلم يستطع أن يقول: {الأثيم} فقال له ابن مسعود: أتستطيع أن تقول طعام الفاجر? قال: نعم، قال: فاقرأ كذلك، وقد اختلف عمر وهشام بن حكيم ولغتهما واحدة.
القول الثالث: أن المراد التوسعة في نحو {كان الله سميعا عليما} أن يقرأ عليما حكيما ما لم يخرج عن المناسبة كذكره عقب آية عذاب أن يقول "وكان الله غفورا رحيما" أو عكسه وإلى هذا ذهب ابن عبد البر.
 السبع أحرف عند من يرون أن حديث عمر وهشام محكم:
وأما الذين اعتبروا الحديث محكما غير منسوخ فقد ذهبوا في تأويله مذاهب: فقال جماعة منهم البيهقي وأبو الفضل الرازي أن المراد من الأحرف أنواع أغراض القرآن كالأمر والنهي، والحلال والحرام، أو أنواع كلامه كالخبر والإنشاء، والحقيقة والمجاز: أو أنواع دلالته كالعموم والخصوص، والظاهر والمؤول. ولا يخفى أن كل ذلك لا يناسب سياق الحديث على اختلاف رواياته من قصد التوسعة والرخصة. وقد تكلف هؤلاء حصر ما زعموه من الأغراض ونحوها في سبعة فذكروا كلاما لا يسلم من النقض.
الرد على من قال أن الأحرف السبعة هي سبع لغات مبثوثة في القرآن:
وذهب جماعة منهم أبو عبيد وثعلب والأزهري وعزي لابن عباس أن المراد أنه أنزل مشتملا على سبع لغات من لغات العرب مبثوثة في آيات القرآن لكن لا على تخيير القارئ، وذهبوا في تعيينها إلى نحو ما ذهب إليه القائلون بالنسخ إلا أن الخلاف بين الفريقين في أن الأولين ذهبوا إلى تخيير القارئ في الكلمة الواحدة، وهؤلاء أرادوا أن القرآن مبثوثة فيه كلمات من تلك اللغات، لكن على وجه التعيين لا على وجه التخيير، وهذا كما قال أبو هريرة: ما سمعت السكين إلا في قوله تعالى: {وآتت كل واحدة منهن سكينا} ما كنا نقول إلا المدية، وفي البخاري: إلا من النبيء في قصة حكم سليمان بين المرأتين من قول سليمان: (ايتوني بالسكين أقطعه بينكما)، وهذا الجواب لا يلاقي مساق الحديث من التوسعة، ولا يستقيم من جهة العدد لأن المحققين ذكروا أن في القرآن كلمات كثيرة من لغات قبائل العرب، وأنهاها السيوطي نقلا عن أبي بكر الواسطي إلى خمسين لغة.
أفضل تفسير للأحرف السبعة:
وذهب جماعة أن المراد من الأحرف لهجات العرب في كيفيات النطق كالفتح والإمالة، والمد والقصر، والهمز والتخفيف، على معنى أن ذلك رخصة للعرب مع المحافظة على كلمات القرآن، وهذا أحسن الأجوبة لمن تقدمنا، وهنالك أجوبة أخرى ضعيفة لا ينبغي للعالم التعريج عليها وقد أنهى بعضهم جملة الأجوبة إلى خمسة وثلاثين جوابا.
وعندي أنه إن كان حديث عمر وهشام بن حكيم قد حسن إفصاح راويه عن مقصد عمر فيما حدث به بأن لا يكون مرويا بالمعنى مع إخلال بالمقصود أنه يحتمل أن يرجع إلى ترتيب آي السور بأن يكون هشام قرأ سورة الفرقان على غير الترتيب الذي قرأ به عمر فتكون تلك رخصة لهم في أن يحفظوا سور القرآن بدون تعيين ترتيب الآيات من السورة، وقد ذكر الباقلاني احتمال أن يكون ترتيب السور من اجتهاد الصحابة كما يأتي في المقدمة الثامنة. فعلى رأينا هذا تكون هذه رخصة. ثم لم يزل الناس يتوخون بقراءتهم موافقة قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان ترتيب المصحف في زمن أبي بكر على نحو العرضة الأخيرة التي عرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجمع الصحابة في عهد أبي بكر على ذلك لعلمهم بزوال موجب الرخصة.
هل الأحرف السبعة هي القراءات السبعة؟
ومن الناس من يظن المراد بالسبع في الحديث ما يطابق القراءات السبع التي اشتهرت بين أهل فن القراءات، وذلك غلط ولم يقله أحد من أهل العلم، وأجمع العلماء على خلافه كما قال أبو شامة: فإن انحصار القراءات في سبع لم يدل عليه دليل، ولكنه أمر حصل إما بدون قص د أو بقصد التيمن بعدد السبعة أو بقصد إيهام أن هذه السبعة هي المرادة من الحديث تنويها بشأنها بين العامة، ونقل السيوطي عن أبي العباس ابن عمار أنه قال: لقد فعل جاعل عدد القراءات سبعا ما لا ينبغي، وأشكل به الأمر على العامة إذ أوهمهم أن هذه السبعة هي المرادة في الحديث، وليت جامعها نقص عن السبعة أو زاد عليها.
قال السيوطي: وقد صنف ابن جبير المكي وهو قبل ابن مجاهد كتابا في القراءات فاقتصر على خمسة أئمة من كل مصر إماما، وإنما اقتصر على ذلك لأن المصاحف التي أرسلها عثمان إلى الأمصار كانت إلى خمسة أمصار.
قال ابن العربي في العواصم: أول من جمع القراءات في سبع ابن مجاهد غير أنه عد قراءة يعقوب سابعا ثم عوضها بقراءة الكسائي، قال السيوطي وذلك على رأس الثلاثمائة: وقد اتفق الأئمة على أن قراءة يعقوب من القراءات الصحيحة مثل بقية السبعة، وكذلك قراءة أبي جعفر وشيبة، وإذ قد كان الاختلاف بين القراء سابقا على تدوين المصحف الإمام في زمن عثمان وكان هو الداعي لجمع المسلمين على مصحف واحد تعين أن الاختلاف لم يكن ناشئا عن الاجتهاد في قراءة ألفاظ المصحف فيما عدا اللهجات.
وأما صحة السند الذي تروى به القراءة لتكون مقبولة فهو شرط لا محيد عنه إذ قد تكون القراءة موافقة لرسم المصحف وموافقة لوجوه العربية لكنها لا تكون مروية بسند صحيح، كما ذكر في المزهر أن حماد بن الزبرقان قرأ (إلا عن موعدة وعدها أباه) بالباء الموحدة وإنما هي {إياه} بتحتية، وقرأ (بل الذين كفروا في غرة) بغين معجمة وراء مهملة وإنما هي {عزة} بعين مهملة وزاي، وقرأ (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يعنيه) بعين مهملة، وإنما هي {يغنيه} بغين معجمة، ذلك أنه لم يقرأ القرآن على أحد وإنما حفظه من المصحف.
مراتب القراءات الصحيحة والترجيح بينها
قال أبو بكر بن العربي في كتاب العواصم: اتفق الأئمة على أن القراءات التي لا تخالف الألفاظ التي كتبت في مصحف عثمان هي متواترة وإن اختلفت في وجوه الأداء وكيفيات النطق ومعنى ذلك أن تواترها تبع لتواتر صورة كتابة المصحف، وما كان نطقه صالحا لرسم المصحف، واختلف فيه فهو مقبول، وما هو بمتواتر لأن وجود الاختلاف فيه مناف لدعوى التواتر، فخرج بذلك ما كان من القراءات مخالفا لمصحف عثمان، مثل ما نقل من قراءة ابن مسعود.
هل القراءات السبع متواترة؟
ولما قرأ المسلمون بهذه القراءات من عصر الصحابة ولم يغير عليهم، فقد صارت متواترة على التخيير، وإن كانت أسانيدها المعينة آحادا، وليس المراد ما يتوهمه بعض القراء من أن القراءات كلها بما فيها من طرائق أصحابها ورواياتهم متواترة وكيف وقد ذكروا أسانيدهم فيها فكانت أسانيد أحاد، وأقواها سندا ما كان له راويان عن الصحابة مثل قراءة نافع بن أبي نعيم وقد جزم ابن العربي، وابن عبد السلام التونسي، وأبو العباس بن إدريس فقيه بجاية من المالكية، والأبياري من الشافعية بأنها غير متواترة، وهو الحق لأن تلك الأسانيد لا تقتضي إلا أن فلانا قرأ كذا وأن فلانا قرأ بخلافه، وأما اللفظ المقروء فغير محتاج إلى تلك الأسانيد لأنه ثبت بالتواتر كما علمت آنفا، وإن اختلفت كيفيات النطق بحروفه فضلا عن كيفيات أدائه.
وقال إمام الحرمين في البرهان: هي متواترة ورده عليه الأبياري، وقال المازري في شرحه: هي متواترة عند القراء وليست متواترة عند عموم الأمة، وهذا توسط بين إمام الحرمين والأبياري، ووافق إمام الحرمين ابن سلامة الأنصاري من المالكية. وهذه مسألة مهمة جرى فيها حوار بين الشيخين ابن عرفة التونسي وابن لب الأندلسي ذكرها الونشريسي في المعيار.
 الصحابة اللذين تنتهي إليهم القراءات العشر:
وتنتهي أسانيد القراءات العشر إلى ثمانية من الصحابة وهم: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله من مسعود، وأبي بن كعب، وأبو الدرداء، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، فبعضها ينتهي إلى جميع الثمانية وبعضها إلى بعضهم وتفصيل ذلك في علم القرآن.
وجوه الاعراب في القرآن:
وأما وجوه الإعراب في القرآن فأكثرها متواتر إلا ما ساغ فيه إعرابان مع اتحاد المعاني نحو: {ولات حين مناص} بنصب حين ورفعه، ونحو {وزلزلوا حتى يقول الرسول} بنصب (يقول) ورفعه، ألا ترى أن الأمة أجمعت على رفع اسم الجلالة في قوله تعالى: {وكلم الله موسى تكليما} وقرأه بعض المعتزلة بنصب اسم الجلالة لئلا يثبتوا لله كلاما، وقرأ بعض الرافضة (وما كنت متخذ المضلين عضدا) بصيغة التثنية، وفسروها بأبي بكر وعمر حاشاهما، وقاتلهم الله.
وأما ما خالف الوجوه الصحيحة في العربية ففيه نظر قوي لأنا لا ثقة لنا بانحصار فصيح كلام العرب فيما صار إلى نحاة البصرة والكوفة، وبهذا نبطل كثيرا مما زيفه الزمخشري من القراءات المتواترة بعلة أنها جرت على وجوه ضعيفة في العربية لا سيما ما كان منه في قراءة مشهورة كقراءة عبد الله بن عامر قوله تعالى: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم) ببناء "زين" للمفعول وبرفع (قتل)، ونصب (أولادهم) وخفض (شركاؤهم) ولو سلمنا أن ذلك وجه مرجوح، فهو لا يعدو أن يكون من الاختلاف في كيفية النطق التي لا تناكد التواتر كما قدمناه آنفا على ما في اختلاف الإعرابين من إفادة معنى غير الذي يفيده الآخر، لأن لإضافة المصدر إلى المفعول خصائص غير التي لإضافته إلى فاعله، ولأن لبناء الفعل للمجهول نكتا غير التي لبنائه للفاعل، على أن أبا علي الفارسي ألف كتابا سماه الحجة احتج فيه للقراءات المأثورة احتجاجا من جانب العربية.
ثم إن القراءات العشر الصحيحة المتواترة، قد تتفاوت بما يشتمل عليه بعضها من خصوصيات البلاغة أو الفصاحة أو كثرة المعاني أو الشهرة، وهو تمايز متقارب، وقل أن يكسب إحدى القراءات في تلك الآية رجحانا، على أن كثيرا من العلماء كان لا يرى مانعا من ترجيح قراءة على غيرها، ومن هؤلاء الإمام محمد بن جرير الطبري، والعلامة الزمخشري وفي أكثر ما رجح به نظر سنذكره في مواضعه، وقد سئل ابن رشد عما يقع في كتب المفسرين والمعربين من اختيار إحدى القراءتين المتواترتين وقولهم هذه القراءة أحسن: أذاك صحيح أم لا? فأجاب: أما ما سألت عنه مما يقع في كتب المفسرين والمعربين من تحسين بعض القراءات واختيارها على بعض لكونها أظهر من جهة الإعراب، وأصح في النقل، وأيسر في اللفظ فلا ينكر ذلك، كرواية ورش التي اختارها الشيوخ المتقدمون عندنا أي بالأندلس فكان الإمام في الجامع لا يقرأ إلا بها لما فيها من تسهيل النبرات وترك تحقيقها في جميع المواضع، وقد تؤول ذلك فيما روي عن مالك من كراهية النبر في القرآن في الصلاة.
القراءة بالنبر:
وفي كتاب الصلاة الأول من العتبية: سئل مالك عن النبر في القرآن فقال: إني لأكرهه وما يعجبني ذلك، قال ابن رشد في البيان يعني بالنبر ههنا إظهار الهمزة في كل موضع على الأصل فكره ذلك واستحب فيه التسهيل على رواية ورش، لما جاء من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن لغته الهمز أي إظهار الهمز في الكلمات المهموزة بل كان ينطق بالهمزة مسهلة إلى أحرف علة من جنس حركتها، مثل {ياجوج وماجوج} بالألف دون الهمز، ومثل الذيب في {الذئب} ومثل مومن في {مؤمن}. ثم قال: ولهذا المعنى كان العمل جاريا في قرطبة قديما أن لا يقرأ الإمام بالجامع في الصلاة إلا برواية ورش، وإنما تغير ذلك وتركت المحافظة عليه منذ زمن قريب، اهـ. وهذا خلف بن هشام البزار راوي حمزة، قد اختار لنفسه قراءة من بين قراءات الكوفيين، ومنهم شيخة حمزة بن حبيب وميزها قراءة خاصة فعدت عاشرة القراءات العشر وما هي إلا اختيار من قراءات الكوفيين، ولم يخرج عن قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر عن عاصم إلا في قراءة قوله تعالى: {وحرام على قرية} قرأها بالألف بعد الراء مثل حفص والجمهور.
 هل يفضي ترجيح بعض القراءات على بعض إلى أن تكون الراجحة أبلغ من المرجوحة فيفضي إلى أن المرجوحة أضعف في الإعجاز؟
قلت: حد الإعجاز مطابقة الكلام لجميع مقتضى الحال، وهو لا يقبل التفاوت، ويجوز مع ذلك أن يكون بعض الكلام المعجز مشتملا على لطائف وخصوصيات تتعلق بوجوه الحسن كالجناس والمبالغة، أو تتعلق بزيادة الفصاحة، أو بالتفنن مثل {أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير} على أنه يجوز أن تكون إحدى القراءات نشأت عن ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم للقارئ أن يقرأ بالمرادف تيسيرا على الناس كما يشعر به حديث تنازع عمر مع هشام بن حكيم، فتروى تلك القراءة للخلف فيكون تمييز غيرها عليها بسبب أن المتميزة هي البالغة غاية البلاغة وأن الأخرى توسعة ورخصة، ولا يعكر ذلك على كونها أيضا بالغة الطرف الأعلى من البلاغة وهو ما يقرب من حد الإعجاز.
 هل الاعجاز في كل آية من القرآن؟
وأما الإعجاز فلا يلزم أن يتحقق في كل آية من آي القرآن لأن التحدي إنما وقع بسورة مثل سور القرآن، وأقصر سورة ثلاث آيات فكل مقدار ينتظم من ثلاث آيات من القرآن يجب أن يكون مجموعه معجزا.
منهج ابن عاشور في التعرض للقراءات العشر في تفسيره:
تنبيه: أنا أقتصر في هذا التفسير على التعرض لاختلاف القراءات العشر المشهورة خاصة في أشهر روايات الراوين عن أصحابها لأنها متواترة، وإن كانت القراءات السبع قد امتازت على بقية القراءات بالشهرة بين المسلمين في أقطار الإسلام. وأبني أول التفسير على قراءة نافع برواية عيسى ابن مينا المدني الملقب بقالون لأنها القراءة المدنية إماما وراويا ولأنها التي يقرأ بها معظم أهل تونس، ثم أذكر خلاف بقية القراء العشرة خاصة. والقراءات التي يقرأ بها اليوم في بلاد الإسلام من هذه القراءات العشر، هي قراءة نافع برواية قالون في بعض القطر التونسي وبعض القطر المصري، وفي ليبيا وبرواية ورش في بعض القطر التونسي وبعض القطر المصري وفي جميع القطر الجزائري وجميع المغرب الأقصى، وما يتبعه من البلاد. والسودان.
وقراءة عاصم برواية حفص عنه في جميع الشرق من العراق والشام وغالب البلاد المصرية والهند وباكستان وتركيا والأفغان. وبلغني أن قراءة أبي عمرو البصري يقرأ بها في السودان المجاور مصر.

- التفسير في اللغة:
- الفرق بين الفعل بالتخفيف والفعل بالتشديد:
-الرد على تفريق شهاب الدين بين الفعل المضاعف والمخفف:
- التفسير في الاصطلاح:
- موضوع التفسير:
- هل التفسير يعد علما:
- سبب اطلاق العلماء على التفسير بأنه علم:
- مكانة التفسير بين العلوم الشرعية:
- أول من صنف في التفسير:
- روايات التفسير:
- مناهج المفسرين:
- مكانة تفسير الزمخشري وابن عطية:
- معنى التأويل:
- الأدلة على التأويل:
- معنى استمداد علم التفسير:
- الاستمداد لغة:
- المراد بالعربية:
-علاقة العربية بفهم القرآن:
- المقصود بقواعد العربية وعلاقتها بالتفسير:
- علاقة علم البيان والبلاغة بالتفسير:
- نقولات للعلماء في بيان أهمية علمي البيان والمعاني للمفسر:
-أهمية ديوان العرب في التفسير:
- هل النبي صلى الله عليه وسلم فسر القرآن:
- أسباب النزول من التفسيرالتوقيفي :
- العبرة في سبب النزول بعموم اللفظ لا بخصوص السبب":
- الاجماع في التفسير:
- القراءات وحاجة التفسير إليها:
- أخبار العرب هل نحتاجها في التفسير؟
- علاقة أصول الفقه بالتفسير:
- هل علم الكلام يحتاجه المفسر؟
-هل المفسر يحتاج الفقه؟
- الخلاصة في استمداد علم التفسير:
- حذرالصحابة من التفسير:
- هل التفسير مقصورا على تفسير النبي صلى الله عليه وسلم فحسب؟
- هل فسر الصحابة القرآن الكريم؟
- هل يجوز التفسير بالرأي؟
- الجواب عن الشبهة التي نشأت من الآثار المروية في التحذير من تفسير القرآن بالرأي :
- الرد على أن مقولة الصديق "أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأيي"
- اختلاف رأي العلماء في التفسير بالرأي:
- طائفة الباطنية:
- سبب نشوء المذهب الباطني في التفسير:
- أصل المذهب الباطني:
-موقف العلماء من مذهب الباطنية:
- الفرق بين الباطنية والصوفيه في التفسير:
-انحاء الاشارة المقبولة في القرآن:
- هل ينسب للقرآن المعنى الاشاري؟
- هل دلالة الاشارة تتعلق بالمعنى الاشاري؟
 المقصد من انزال القرآن:
 الحكمة من نزول القرآن باللسان العربي :
 المقاصد الأصلية التي جاء القرآن لتبيانها:
 بيان غرض المفسر:
 طرائق المفسرين للقرآن:
 رأي العلماء في التوفيق بين المعنى القرآني وبين بعض العلوم مما له تعلق بمقصد من مقاصد التشريع :

-شرط التوفيق بين المعنى القرآني وبين بعض العلوم مما له تعلق بمقصد من مقاصد التشريع :

-الرد عل من يرى أن القرآن يعتمد في مسلك فهمه وإفهامه على مقدرة العرب وطاقتهم، وأن الشريعة أمية.
 رأي ابن عاشور في التوفيق بين المعنى القرآني وبين بعض العلوم مما له تعلق بمقصد من مقاصد التشريع :

- موقف بعض المفسرين من أسباب النزول:
 اعتذار ابن عاشورللمؤلفين في أسباب النزول:
 رد ابن عاشور على الناقلين لأسباب النزول:
 حاجة المفسر للعلم بأسباب النزول:
 أقسام الأسانيد الصحيحة لأسباب النزول:
 فوائد أسباب النزول:

 حالات القراءات عند ابن عاشور:.
 مزية الحالة الأولى:
 بعض القراءات المخالفة لمصحف عثمان:
 شروط الرواية الصحيحة الشاذة التي لم تبلغ حد التواتر عند علماء القراءات :
 القراء العشرة:
 حكم القراءة بما دون العشر:
 سبب تعلق الحالة الثانية بعلم التفسير:
 رد الاشكال في حديث عمربن الخطاب وهشام بن حكيم:
 معنى القرآن نزل على سبع أحرف:
 السبع أحرف عند من يرون أن حديث عمر وهشام محكم:
 الرد على من قال أن الأحرف السبعة هي سبع لغات مبثوثة في القرآن:
 أفضل تفسير للأحرف السبعة:
 هل الأحرف السبعة هي القراءات السبعة؟
 مراتب القراءات الصحيحة والترجيح بينها
 هل القراءات السبع متواترة؟
 الصحابة اللذين تنتهي إليهم القراءات العشر:
 وجوه الاعراب في القرآن:
 القراءة بالنبر:
 هل يفضي ترجيح بعض القراءات على بعض إلى أن تكون الراجحة أبلغ من المرجوحة فيفضي إلى أن المرجوحة أضعف في الإعجاز؟
 هل الاعجاز في كل آية من القرآن؟
 منهج ابن عاشور في التعرض للقراءات العشر:

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 9 ذو الحجة 1442هـ/18-07-2021م, 02:07 AM
إنشاد راجح إنشاد راجح غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Sep 2016
المشاركات: 732
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء الأول (بداية من خطبة المصنف إلى نهاية المقدمة الثانية)
خطبة المصنف
* مقدمة:
- البدء بحمد الله والثناء عليه بنعمه، وأجلها نعمة القرآن المعجز بعجائبه على مر العصور.
- والصلاة والسلام على من كانت معجزة القرآن قرينة رسالته صلى الله عليه وسلم، وأدل علامة على صدقه وهو النبي الأمي.
- ورضي الله عن الصحابة ومن تبعهم من علماء الأمة الكرام فهم الذين قيضهم الله لحفظ كتابه، والكشف عن أسرار عجائبه وبدائع خزائنه.

* سبب التأليف، وما كان من عقبات في الطريق:
- تأليف التفسير كان أمنية خاصة ترددت فترة من الزمان في صدر المؤلف، وقصده كان بيان نكت العلوم وإبراز محاسن التشريع، ومكارم الأخلاق، وغير ذلك من عجائب ذلك الكتاب المعجز التي كانت تظهر له كلما تدبره.
- وبقيت هذه الأمنية ترواحه، ويحجمه عن الخوض فيها خشية لين العزم والقوة وعجز الفهم عن السير.
- وتباعدت الأمنية بتوليه خطة القضا، فكان يمني نفسه بأن يفرغ من ذلك الاشتغال ليبدأ في تحقيق أمنيته، وكان يحادث بذلك الأصحاب ويضرب المثل بأبي الوليد ابن رشد في كتاب (البيان).
- ثم نُقل المؤلف إلى خطة الفتيا، وقد عقد العزم على المضي فيما أضمره، فأخذ بزمام المباردة، وقد عزم على السير في سبيل تحقيق أمنيته، باذلا الوسع في الاجتهاد، فاستعان بالله واستخار.

* منهج المؤلف:
- أقدم المؤلف بشجاعة على ذلك الأمر المهم، ووضع مرتكزات ينطلق منها منهجه في التفسير، وهى:
* التعرض لنكتٍ لم يسبقه إليها أحد.
* الوقوف موقف الحكم بين طوائف المفسرين، وذلك بالتعليق على كلامهم كل بما له وما عليه.
- لزوم الطريق الوسط بين طرفي نقيض، بين من لا يبارح دائرة تفاسير الأقدمين فلا يخرج عنها، وآخر ينقضها نقضا،
فأخذ على عاتقه أن يهذب تفسير الأقدمين ويزيده ولا ينقضه أو يزيله، مستشعرا تلك النعمة شاكرا لها.

* رأي المؤلف في التفاسير:
- يرى المؤلف أن كثير من التفاسير غلب عليها تكرار ما سبق ذكره بين مختصر ومسهب دون فائدة تذكر.
- وذكر جملة من أهم التفاسير عنده، والتي اعتمد عليها في تفسيره، وقصدا لاختصار تفسيره أعرض عن العزو إليها في ثناياه، فذكرها في المقدمة، ويغلب عليها الاعتناء باللغة والبلاغة والموازنة بين أقوال المفسرين، وهي:
- الكشاف، وما كتبه الطيبي والقزويني والقطب والتفتزاني عليه.
-المحرر الوجيز، ومفاتيح الغيب للرازي.
- تفسير البيضاوي (وهو ملخص من الكشاف ومن مفاتيح الغيب)، وما كتبه الخفاجي عليه.
- تفسير الآلوسي، وتفسير أبي السعود.
- تفسير ابن جرير، وكتاب (درة التنزيل) المنسوب للرازي، وربما ينسب للراغب الأصفهاني.
- وتفسير القرطبي والموجود من (تفسير الشيخ محمد بن عرفة التونسي) من تقييد تلميذه الأبي وهو بكونه تعليقا على (تفسير ابن عطية) أشبه منه بالتفسير لذلك لا يأتي على جميع آي القرآن و(تفاسير الأحكام).
- وذكر المؤلف أنه فُتح له في معان ومسائل مما لم يذكره المفسرون الذين وقف على تفاسيرهم، وقد يكون هناك من فتح له في تلك المعان والمسائل قبله، وقيل قديما:
هل غادر الشعراء من متردم

- أن المفسرين لم يخص أحد منهم فن دقائق البلاغة كما خصوا الفنون الأخرى بالاهتمام والعناية، فهناك من اهتم بآيات الأحكام، ومن اعتنى بالآداب والأخلاق فأبرز آياتها، ومن تناول القصص فانشغل ببيان مواعظها، وكل تلك الفنون لا تخلو من دقائق البلاغة، فالتزم المؤلف أن يبين ما يظهر له من هذا الفن بحسب بما فتح له وتيسر.

* ما اهتم به المؤلف في تفسيره:
- بيان وجوه الإعجاز ونكت البلاغة العربية وأساليب الاستعمال.
- بيان تناسب اتصال الآي بعضها ببعض، خاصة أنه لم يوف حقه، وهو منزع جليل عني به فخر الدين الرازي وألف فيه البقاعي (نظم الدرر) لكنه يرى أنهما لم يأتيا في كثير من الآي بما فيه مقنع.
- وأما البحث عن تناسب مواقع السور بعضها إثر بعض، فلا يراه المؤلف حقا على المفسر.
تعليق: ولعل هذا يرجع للقول بأن ترتيب السور هو أمر اجتهادي وليس توقيفي.
- الاعتناء في كل سورة ببيان أغراضها التي تضمنتها، فبها تكمل الفائدة لمطالع التفسير.
-الاعتناء ببيان معاني المفردات في اللغة بضبط وتحقيق لم يتوفر في كثير من القواميس.

* خاتمة: ثناء المؤلف على تفسيره ووصفه له وبيان اسمه:
- أثنى المؤلف على تفسيره مرغبا مطالعيه ممن لهم عناية بنكات المعاني والبلاغة، والكشف عن إعجازه مما خلت منه التفاسير، فهو مبتغى أصحاب الهمم المتشوقين للاستمتاع بفصيح الكلم.
- ووصف المؤلف تفسيره على اختصاره بمطولات القماطير، وأنه حوى أحسن ما في التفاسير، وفيه أحسن مما في التفاسير الأخرى.
- سمى المؤلف تفسيره: (التحرير والتنوير من التفسير) بعدما اختصر اسمه الأول: ( تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد).
- ثم شرع في مقدمات تعين المطالع على مواصلة الطريق في ذلك التفسير النفيس.




المقدمة الأولى
في التفسير والتأويل وكون التفسير علما

* تعريف التفسير:
- تعريف التفسير لغة:
- التفسير مصدر (فسّر) بتشديد السين الذي هو مضاعف (فسر) بالتخفيف من بابي نصر وضرب الذي مصدره الفسر.
- والفسر الإبانة والكشف لمدلول كلام أو لفظ بكلام آخر هو أوضح لمعنى المفسر عند السامع.
- وكلا الفعلين ( فسّر)، و(فسر) من الأفعال المتعدية.

- استعمالات الفعل المضاعف:
- قيل كلا الفعلين بنفس المعنى.
- وقال الراغب وأبو حيان التوحيدي بأن المضاعف مختص بإبانة المعقولات، ووجه ذلك أن بيان المعقولات يكلف الذي يبينه كثرة القول، كقول: أوس بن حجر:
الألمعي الذي يظن بك الظن
= كأن قد رأى وقد سمعا
- وأما وجه استعمال المضاعف مع المقولات، فلا يكون ذلك إلا في الأجناس العالية منها.
- ووجه استعمال المضاعف مع المقولات يقصد به التكثير من المصدر.

- إفادة الفعل المضاعف لمعنى التكثير:
- تضعيف الفعل غالبا يكون للتكثير.
- والتكثير قد يكون مجازيا واعتباريا، فتنزل المعاني الدقيقة منزلة المعقولات، كما قيل في (الشافية).
- ومثال ذلك: تفسير صحار العبدي وقد سأله معاوية عن البلاغة فقال: "أن تقول فلا تخطئ، وتجيب فلا تبطئ" ثم قال لسائله: (أقلني لا تخطئ ولا تبطئ.)

ويشهد لهذا قوله تعالى: (ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا).
- وإذا كان فعل المضاعف للتعدية فإن إفادته التكثير مختلف فيها.
- والتعدية تكون بالهمزة وتكون بالتضعيف.
- والتعدية بالتضعيف يقصد بها الدلالة على التكثير، فقد يعدل إليها عن التعدية بالهمزة من أجل ذلك، وهو ما ذهب إليه ابن عاشور.
- ومثال ذلك استعمال الزمخشري في خطبة الكشاف: فعلي: (أنزل، ونزّل) فجمع بينهما لما في (نزل) من الدلالة على إرادة التكثير.

- دلالة التضعيف عند العرب:
- استعمال التضعيف عند العرب راعوا فيه الكثرة الحقيقة والمجازية دون اعتبار للمعقولات أو المحسوسات.
- ودل على ذلك استعمال القرآن كما في قول الله تعالى:
(وقرآنا فرقناه)، حيث قرئ بالتشديد والتخفيف، وكذلك قول الله تعالى: (لا نفرق بين أحد من رسله).
- وقال لبيد
:
فمضى وقدمها وكانت عادة = منه إذا هي عردت إقدامها
* وقال سيبويه (إن فعل وأفعل يتعاقبان) على أن التفرقة عند مثبتها، تفرقة في معنى الفعل لا في حالة مفعوله بالأجسام.
- والبعض فرق بين التشديد والتخفيف، كما ذكر القرافي في (أول أنواء البروق) عن بعض شيوخه، لكنه هو نفسه استكشل ذلك لأنه أمر غير مطرد.

- تعريف التفسير اصطلاحا:
- هو اسم للعلم الباحث عن بيان معاني ألفاظ القرآن وما يستفاد منها باختصار أو توسع.

* موضوع التفسير:
- ألفاظ القرآن من حيث البحث عن معانيه، وما يستنبط منه.

* اعتبار التفسير علما:
- عد التفسير علما فيه تسامح، وذلك أن العلم إذا أطلق يراد به أحد التعريفات التالية:
* نفس الإدراك، نحو قول أهل المنطق: (العلم إما تصور وإما تصديق).
* وإما أن يراد به الملكة المسماة بالعقل.
* وإما أن يراد به التصديق الجازم وهو مقابل الجهل (وهذا غير مراد في عد العلوم).
* وإما أن يراد بالعلم المسائل المعلومات وهي مطلوبات خبرية يبرهن عليها في ذلك العلم وهي قضايا كلية.

- فالتفسير مباحثه ليست بقضايا كلية يبرهن عليها، لأنه تصورات جزئية غالبا، لأنه تفسير ألفاظ واستنبط معان.
* فأما تفسير الألفاظ فهو من قبيل التعريف اللفظي، وأما الاستنباط فمن دلالة الالتزام.
* ومثال التعريف اللفظي: تفسير يوم الدين في قول الله تعالى
: (مالك يوم الدين) فهو يوم الجزاء.
* ومثال ما كان من دلالة الالتزام: الجمع بين قول الله تعالى:
(وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) مع قوله: (وفصاله في عامين) يؤخذ منه أن أقل الحمل ستة أشهر عند من قال ذلك.


- اعتبار العلماء تفسير ألفاظ القرآن علما مستقلا، لواحد من وجوه ستة:
- الأول: أن مباحث التفسير تؤدي إلى استنباط علوم كثيرة وقواعد كلية، فنزلت تلك المباحث منزلة القواعد الكلية، وأخذت حكمها لمقاربته لها.
* كما عد (تدوين الشعر) علما لما في حفظه من استخراج نكت بلاغية وقواعد لغوية.

- الثاني: أن العلوم الشرعية والأدبية لا يشترط في مسائلها أن تكون قضايا كلية تحتاج إلى برهان،كما في العلوم الأخرى.
* ويكفي في مباحث العلوم الشرعية أن تفيد كمالا علميا لمزاولها، والتفسير أعلاها في ذلك.

- الثالث: إن التعاريف اللفظية تصديقات على رأي بعض المحققين فهي تؤول إلى قضايا، وتفرع المعاني الجمة عنها نزلها منزلة الكلية، والاحتجاج عليها بشعر العرب وغيره يقوم مقام البرهان على المسألة، فهنا وجه تنزيل مباحث التفسير يرجع إلى ذاتها، لكونها قضايا وهذا على مذهب بعض المنطقيين.

- الرابع: إن علم التفسير لا يخلو من قواعد كلية في أثنائه، فسمي مجموع ذلك وما معه علما تغليبا.
- فقد تضمن علم التفسير
: تقرير قواعد النسخ عند تفسير (ما ننسخ من آية)
* وتقرير قواعد التأويل عند تقرير
(وما يعلم تأويله)
* وقواعد المحكم عند تقرير
(منه آيات محكمات)
- وقد اعتنى العلماء بإحصاء كليات تتعلق بالقرآن، وجمعها ابن فارس، وذكرها عنه في الإتقان وعنى بها أبو البقاء الكفوي في كلياته، فلا بدع أن تزاد تلك في وجوه شبه مسائل التفسير بالقواعد الكلية
.

- الخامس: أن حق التفسير أن يشتمل على بيان أصول التشريع وكلياته فكان بذلك حقيقا بأن يسمى علما ولكن المفسرين ابتدأوا بتقصي معاني القرآن فطفحت عليهم وحسرت دون كثرتها قواهم، فانصرفوا عن الاشتغال بانتزاع كليات التشريع إلا في مواضع قليلة.

- السادس (وهو الفصل): إفادة التفسير علوما كلية لها مزيد اختصاص بالقرآن المجيد، وذلك أنه أول ما اشتغل به العلماء قبل الاشتغال بتدوين بقية العلوم، فحصل لمزاوله ملكة يدرك بها أساليب القرآن ودقائق نظمه، فمن أجل ذلك سمي علما.

* مكانة علم التفسير بين العلوم الشرعية:
- باعتبار علم التفسير بيان وتفسير لمراد الله من كلامه، فهو من أصول العلوم الشرعية.
- ويدخل بهذا الاعتبار تحت ما ذكره الغزالي في الإحياء، أن الضرب الأول من العلوم الشرعية الكتاب والسنة، والمراد بعلم الكتاب هو فهم معانيه لا حفظ ألفاظه.
- وقد وصف البيضاوي علم التفسير برأس العلوم الإسلامية.

- وأما باعتبار ما في علم التفسير من بيان مكي ومدني، وناسخ ومنسوخ، وقواعد استنباط مما يذكر في علم أصول التفسير فعلم التفسير من متممات العلوم الشرعية.
- ويدخل بهذا الاعتبار تحت ما ذكره الغزالي في الضرب الرابع من متممات العلوم الشرعية وذلك في علم القرآن ينقسم إلى:
* ما يتعلق باللفظ كعلم القراءات.
* وإلى ما يتعلق بالمعنى كالتفسير فإن اعتماده أيضا على النقل.
* وإلى ما يتعلق بأحكامه كالناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، وكيفية استعمال البعض منه مع البعض وهو العلم الذي يسمى أصول الفقه.

* نشأة علم التفسير:
- التفسير أول العلوم الإسلامية ظهورا، وهو أيضا أشرف العلوم الإسلامية ورأسها على التحقيق.
- ظهر الخوض فيه في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، إذ سأله أصحابه عن بعض معاني القرآن.
* كما سأله عمر رضي الله عنه عن الكلالة.
- ثم اشتهر في التفسير من الصحابة علي وابن عباس وهما أكثر الصحابة قولا في التفسير، وزيد بن ثابت وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم.
- وشاع عن التابعين وأشهرهم في ذلك مجاهد وابن جبير.
- وكثر الخوض فيه، بدخول غير العرب في الإسلام، فكانت الحاجة لبيان معاني القرآن لهم.

* التصنيف في التفسير:
- أول من صنف في التفسير هو عبد الملك بن جريج المكي المولود سنة 80 هـ والمتوفى سنة 149 هـ.
- صنف كتابه في تفسير آيات كثيرة وجمع فيه آثارا وغيرها وأكثر روايته عن أصحاب ابن عباس مثل عطاء ومجاهد.

-وصنفت تفاسير ونسبت روايتها إلى ابن عباس، لكن أهل الأثر تكلموا فيها :
-وهي (تفسير محمد بن السائب الكلبي) المتوفى سنة 146 هـ .
- رواية أبي صالح عن ابن عباس:
- وقد رمي أبو صالح بالكذب، وروايته هى أوهى الروايات فإذا انضم إليها رواية محمد بن مروان السدي عن الكلبي فهي سلسلة الكذب، بخلاف سلسلة الذهب، وهي مالك عن نافع عن ابن عمر.
- وقد قيل: إن الكلبي كان من أصحاب عبد الله بن سبأ اليهودي الأصل، الذي أسلم وطعن في الخلفاء الثلاثة وغلا في حب علي بن أبي طالب، وقال: إن عليا لم يمت وأنه يرجع إلى الدنيا وقد قيل إنه ادعى إلهية علي
.

- رواية مقاتل ورواية الضحاك ورواية علي بن أبي طلحة الهاشمي عن ابن عباس:
- أصحها رواية علي بن أبي طلحة.
- وقد اعتمدها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه فيما يصدر به من تفسير المفردات على طريقة التعليق.
- وقد خرج في الإتقان، جميع ما ذكره البخاري من تفسير المفردات، عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس مرتبة على سور القرآن.

- حاصل القول في الرواية عن ابن عباس، قد اتخذها الوضاعون والمدلسون ملجأ لتصحيح ما يروونه كدأب الناس في نسبة كل أمر مجهول من الأخبار والنوادر، لأشهر الناس في ذلك المقصد
.

-الروايات المسندة إلى علي بن أبي طالب:
- أكثرها من الموضوعات، إلا ما روي بسند صحيح، مثل ما في صحيح البخاري ونحوه، لأن لعلي أفهاما في القرآن كما ورد في صحيح البخاري، عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي هل عندكم شيء من الوحي ليس في كتاب الله؟ فقال: (لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ما أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن).

- ثم تتابع التصنيف في التفسير، ولكل فريق من العلماء مسلكا يسلكه.
- فمنهم من سلك مسلك نقل ما يؤثر عن السلف:
- وأول من صنف في هذا المعنى، مالك ابن أنس، وكذلك الداودي تلميذ السيوطي في طبقات المفسرين، وذكره عياض في المدارك إجمالا.
-وأشهر أهل هذه الطريقة فيما هو بأيدي الناس محمد بن جرير الطبري
.

- ومنهم من سلك مسلك النظر:
-كأبي إسحاق الزجاج وأبي علي الفارسي.
- وشغف كثير بنقل القصص عن الإسرائيليات، فكثرت في كتبهم الموضوعات.

-ومنهم من سلك مسلك العناية بالمعاني والاستشهاد لها من كلام العرب:
- ويمثل أهل المشرق في ذلك صاحب الكشاف، وهو العلامة أبو القاسم محمود الزمخشري، وقد غلب عليه منحى البلاغة والعربية.
- وفي أهل المغرب بالأندلس صاحب المحرر الوجيز وهو الشيخ عبد الحق بن عطية، وغلب على تفسيره منحى الشريعة.
-وكلاهما عضادتا الباب، ومرجع من بعدهما من أولي الألباب
.

* علاقة التفسير بالتأويل:
- جرت عادة المفسرين بالخوض في بيان معنى التأويل، فذكروا أقوالا أهمها ثلاثة:
- الأول: أن التفسير مساو للتأويل، ومن ذهب إلى ذلك: ثعلب وابن الأعرابي وأبو عبيدة، وهو ظاهر كلام الراغب.
- الثاني: أن التفسير للمعنى الظاهر، والتأويل للمتشابه.
- الثالث: التأويل صرف اللفظ عن ظاهر معناه إلى معنى آخر محتمل لدليل فيكون هنا بالمعنى الأصولي.
* فإذا فسر قوله تعالى:
(يخرج الحي من الميت) بإخراج الطير من البيضة، فهو التفسير، أو بإخراج المسلم من الكافر فهو التأويل.

- والذي عليه ابن عاشور أنه لا مشاحة في الاصطلاح، فالتفسير والتأويل متساويان، والتأويل يكون أحيانا لما دق وخفي من معان:
* التأويل مصدر أوله إذا أرجعه إلى الغاية المقصودة، والغاية المقصودة من اللفظ هو معناه وما أراده منه المتكلم به من
المعاني، فساوى التفسير.
* إلا أن إطلاق التأويل يكون على ما فيه تفصيل معنى خفي معقول.
* كما قال الأعشى
:
على أنها كانت تأول حبها = تأول ربعي السقاب فأصحبا
*تأول :أي تبيين تفسير حبها أنه كان صغيرا في قلبه، فلم يزل يشب حتى صار كبيرا كهذا السقب، أي ولد الناقة، الذي هو من السقاب الربيعية لم يزل يشب حتى كبر وصار له ولد يصحبه. قاله أبو عبيدة.

- ومن الأدلة على تساوي التفسير والتأويل:
* قول الله تعالى: (
هل ينظرون إلا تأويله) أي ينتظرون إلا بيانه الذي هو المراد منه.
* وقول الرسول صلى الله عليه وسلم في دعائه لابن عباس:
(اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، أي فهم معاني القرآن.
* وفي حديث عائشة رضي الله عنها كان صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه:
(سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي) يتأول القرآن أي يعمل بقوله تعالى: (فسبح بحمد ربك واستغفره) فلذلك جمع في دعائه التسبيح والحمد وذكر لفظ الرب وطلب المغفرة.
فقولها: (يتأول)، صريح في أنه فسر الآية بالظاهر منها ولم يحملها على ما تشير إليه من انتهاء مدة الرسالة وقرب انتقاله صلى الله عليه وسلم، الذي فهمه منها عمر وابن عباس رضي الله عنهما
.



المقدمة الثانية
في استمداد علم التفسير

* استمداد علم التفسير:
- معنى الاستمداد لغة والمراد به:
- الاستمداد من المدد، وهو العون والغواث، وقد قرن الفعل (مد) بحرفي الطلب وهما السين والتاء.
- ويراد باستمداد العلم توقفه على معلومات سابق وجودها على وجود ذلك العلم عند مدونيه لتكون عونا لهم على إتقان تدوين ذلك العلم.
- وجاءت التسمية اصطلاحا بالاستمداد لاحتياج العلم لتلك المعلومات.

- المعتبر من مدد العلم:
- مدد العلم ما يتوقف عليه تقومه.
- وليس كل ما يذكر في العلم معدودا من مدده، كالإفاضة في البيان، مثل كثير من إفاضات فخر الدين الرزاي في تفسيره.
- ولا ينحصر ذلك ولا ينضبط، بل هو متفاوت على حسب مقادير توسع المفسرين ومستطرداتهم.

- مدد علم التفسير:
- استمداد علم التفسير للمفسر العربي والمولد، من المجموع الملتئم من علم العربية وعلم الآثار، ومن أخبار العرب وأصول الفقه قيل وعلم الكلام وعلم القراءات.


* مدد المفسر من علم العربية:
- معرفة مقاصد العرب من كلامهم وأدب لغتهم، وتحصل من أحد طريقين:
-إما بالسجية والسليقة كالمعرفة الحاصلة للعرب الذين نزل القرآن بين ظهرانيهم.
-وإما بالتلقي والتعلم كالمعرفة الحاصلة للمولدين الذين شافهوا بقية العرب ومارسوهم، والمولدين الذين درسوا علوم اللسان ودونوها.

- قواعد العربية فهى طريق لفهم معاني القرآن الكلام العربي.
-ويراد بقواعد العربية مجموع علوم اللسان العربي، وهي: متن اللغة، والتصريف، والنحو، والمعاني، والبيان.
- ومن وراء أدب العرب وقواعد العربية يتبين استعمال العرب المتبع من أساليبهم في خطبهم وأشعارهم وتراكيب بلغائهم.
- ويدخل في ذلك ما يجري مجرى التمثيل والاستئناس للتفسير من أفهام أهل اللسان أنفسهم لمعاني آيات غير واضحة الدلالة عند المولدين.
- قال الزمخشري في تفسيره: (
ومن حق مفسر كتاب الله الباهر، وكلامه المعجز أن يتعاهد في مذاهبه بقاء النظم على حسنه والبلاغة على كمالها، وما وقع به التحدي سليما من القادح، فإذا لم يتعاهد أوضاع اللغة فهو من تعاهد النظم والبلاغة على مراحل).

- أهمية علمي البيان والمعاني للمفسر:
- هما وسيلة لإظهار خصائص البلاغة القرآنية، وما تشتمل عليه الآيات من تفاصيل المعاني وإظهار وجه الإعجاز.
- وكانا يسميان في القديم علم دلائل الإعجاز.

- تنبيه العلماء على أهمية علمي البيان والمعاني:
- وفي أهميتهما قال الزمخشري ما معناه أنهما سبيل البراعة في علم التفسير، وبهما يستخرج المفسر الحقائق من القرآن، ولا يكون ذلك إلا لمن برع في علمي البيان والمعاني، وإن فاق في الفنون الأخرى الأساتذة.
- وقال الزمخشري- منبها على علم البيان والمعاني- في تفسير قول الله تعالى: (والسماوات مطويات بيمينه):
(وكم من آية من آيات التنزيل وحديث من أحاديث الرسول، قد ضيم وسيم الخسف، بالتأويلات الغثة، والوجوه الرثة، لأن من تأولها ليس من هذا العلم في عير ولا نفير، ولا يعرف قبيلا منه من دبير).

- وقال السكاكي في مقدمة القسم الثالث من كتاب المفتاح: (وفيما ذكرنا ما ينبه على أن الواقف على تمام مراد الحكيم تعالى، وتقدس من كلامه مفتقر إلى هذين العلمين المعاني والبيان كل الافتقار، فالويل كل الويل لمن تعاطى التفسير وهو فيهما راجل).

* تعليق المؤلف على كلام السكاكي:
- وتخصيص السكاكي لاسم الله الحكيم بالذكر، لأن كلام الحكيم يحتوي على مقاصد جليلة ومعاني غالية، لا يحصل الاطلاع على جميعها أو معظمها إلا بعد التمرس بقواعد بلاغة الكلام المفرغة فيه، وفي قوله ينبه إشارة إلى أن من حقه أن يكون معلوما ولكنه قد يغفل عنه.
-وقوله:
(فالويل كل الويل) تنفير، لأن من لم يعرف هذين العلمين إذا شرع في تفسير القرآن واستخراج لطائفه أخطأ غالبا، وإن أصاب نادرا كان مخطئا في إقدامه عليه.
- وقوله:
(تمام مراد الحكيم)، أي المقصود هو معرفة جميع مراد الله من قرآنه، فمراد السكاكي: إما للحض على استخراج النكت فيكون فيه الترغيب للاطلاع على غاية مراد الله.
- وإما أن يكون المراد منحصر فيما يقتضيه المقام بحسب التتبع، وهو أيضا يحتاج إلى بذل غاية لجهد في معرفته.
- والناس متفاوتون في هذا الاطلاع على قدر صفاء القرائح ووفرة المعلومات.
- قال أبو الوليد ابن رشد، في جواب له عمن قال: إنه لا يحتاج إلى لسان العرب ما نصه
: (هذا جاهل فلينصرف عن ذلك وليتب منه فإنه لا يصح شيء من أمور الديانة والإسلام إلا بلسان العرب) يقول الله تعالى: (بلسان عربي مبين) إلا أن يرى أنه قال ذلك لخبث في دينه فيؤدبه الإمام على قوله ذلك بحسب ما يرى فقد قال عظيما.
- ومراد السكاكي من تمام مراد الله ما يتحمله الكلام من المعاني الخصوصية، فمن يفسر قوله تعالى:
(إياك نعبد) بإنا نعبدك لم يطلع على تمام المراد لأنه أهمل ما يقتضيه تقديم المفعول من القصد.
- قال السيد الجرجاني في شرحه: (ولا شك أن خواص نظم القرآن أكثر من غيرها فلا بد لمن أراد الوقوف عليها، إن لم يكن بليغا سليقة، من هذين العلمين(.
- وقال- السكاكي- في آخر فن البيان من "المفتاح": (لا أعلم في باب التفسير بعد علم الأصول أقرأ على المرء لمراد الله من كلامه، من علمي المعاني والبيان، ولا أعون على تعاطي تأويل متشابهاته، ولا أنفع في درك لطائف نكته وأسراره، ولا أكشف للقناع عن وجه إعجازه، ولكم آية من آيات القرآن تراها قد ضيمت حقها واستلبت ماءها ورونقها أن وقعت إلى من ليسوا من أهل هذا العلم، فأخذوا بها في مآخذ مردودة، وحملوها على محامل غير مقصودة إلخ).
- وقال الشيخ عبد القاهر في "دلائل الإعجاز". في آخر فصل المجاز الحكمي: (ومن عادة قوم ممن يتعاطى التفسير بغير علم، أن يتوهموا ألباب الألفاظ الموضوعة على المجاز والتمثيل أنها على ظواهرها "أي على الحقيقة، فيفسدوا المعنى بذلك ويبطلوا الغرض ويمنعوا أنفسهم والسامع منهم العلم بموضع البلاغة وبمكان الشرف، وناهيك بهم إذا أخذوا في ذكر الوجوه وجعلوا يكثرون في غير طائل، هنالك ترى ما شئت من باب جهل قد فتحوه، وزند ضلالة قد قدحوا به).

- مَورِد المفسر إلى استعمال العرب:

- التملي من أساليبهم في خطبهم وأشعارهم وأمثالهم وعوائدهم ومحادثاتهم، ليحصل بذلك لممارسة المولد ذوق يقوم عنده مقام السليقة والسجية عند العربي القح والذوق كيفية للنفس بها تدرك الخواص والمزايا التي للكلام البليغ.

- قال شيخنا الجد الوزير- يريد جده
-: (وهي ناشئة عن تتبع استعمال البلغاء فتحصل لغير العربي بتتبع موارد الاستعمال والتدبر في الكلام المقطوع ببلوغه غاية البلاغة، فدعوى معرفة الذوق لا تقبل إلا من الخاصة وهو يضعف ويقوى بحسب مثافنة ذلك التدبر) ا.هــ.
- فينبغي للممارس أن يختار ما يطالعه من كلام العرب الكلام المشهود له بالبلاغة بين أهل هذا الشأن.
- ومن ذلك: المعلقات والحماسة ونحو نهج البلاغة ومقامات الحريري ورسائل بديع الزمان
.
- قال صاحب المفتاح قبيل الكلام على اعتبارات الإسناد الخبري: (ليس من الواجب في صناعته وإن كان المرجع في أصولها وتفاريعها إلى مجرد العقل، أن يكون الدخيل فيها كالناشئ عليها في استفادة الذوق منها، فكيف إذا كانت الصناعة مستندة إلى تحكيمات وضيعة، واعتبارات إلفية، فلا بأس على الدخيل في علم المعاني، أن يقلد صاحبه في بعض فتاواه إن فاته الذوق هناك إلى أن يتكامل له على مهل موجبات ذلك الذوق) ا.هــ.
- والمفسر يحتاج لإيجاد الذوق أو تكميله في بعض المواضع إلى الاستشهاد على المراد في الآية عند خفاء المعنى بالشعر أو بعض كلام العرب.
- كذلك يحتاج إليهما لإقناع السامع والمتعلم اللذين لم يكمل لهما الذوق.

- فائدة علم البلاغة للمفسر:
- به يحصل انكشاف بعض المعاني واطمئنان النفس لها.
- وبه يترجح أحد الاحتمالين على الآخر في معاني القرآن.

* أمثلة على أهمية علم البلاغة في الترجيح:
- تفسير قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء)، فإن عرض للمطالع احتمال أن يكون عطف قوله: (ولا نساء) على قوله: (قوم) عطف مباين، أو عطف خاص على عام فاستشهد المفسر في ذلك بقول زهير
:

وما أدري وسوف إخال أدري = أقوم آل حصن أم نساء
كيف تطمئن نفسه لاحتمال عطف المباين دون عطف الخاص على العام.

-وكذلك إذا رأى تفسير قوله تعالى:
(وامسحوا برؤوسكم) وتردد عنده احتمال أن الباء فيه للتأكيد أو أنها للتبعيض أو للآلة وكانت نفسه غير مطمئنة لاحتمال التأكيد إذ كان مدخول الباء مفعولا فإذا استشهد له على ذلك بقول النابغة:

لك الخير إن وارت بك الأرض واحدا = وأصبح جد الناس يظلع عاثرا
وقول الأعشى:
فكلنا مغرم يهوى بصاحبه = قاص ودان ومحبول ومحتبل
رجح عنده احتمال التأكيد وظهر له أن دخول الباء على المفعول للتأكيد طريقة مسلوكة في الاستعمال.

- من المأثور عن السلف في الاستدلال بكلام العرب وأشعارهم:
-روى أئمة الأدب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ على المنبر قوله تعالى:
(أو يأخذهم على تخوف) ثم قال: ما تقولون فيها؟ أي في معنى التخوف، فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا، التخوف التنقص، فقال عمر: وهل تعرف العرب ذلك في كلامها؟ قال: نعم. قال: أبو كبير الهذلي:

تخوف الرحل منها تامكا قردا = كما تخوف عود النبعة السفن


فقال عمر: (عليكم بديوانكم لا تضلوا، هو شعر العرب فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم).
-
وعن ابن عباس: (الشعر ديوان العرب) فإذا خفي علينا الحرف من القرآن، الذي أنزله الله بلغتهم رجعنا إلى ديوانهم فالتمسنا معرفة ذلك منه وكان كثيرا ما ينشد الشعر إذا سئل عن بعض حروف القرآن.
- قال القرطبي: سئل ابن عباس، عن السنة في قوله تعالى:
(لا تأخذه سنة ولا نوم له) فقال النعاس وأنشد قول زهير:
لا سنة في طوال الليل تأخذه = ولا ينام ولا في أمره فند
وسئل عكرمة ما معنى الزنيم، فقال: هو ولد الزنى وأنشد:
زنيم ليس يعرف من أبوه = بغى الأم ذو حسب لئيم


- ومما يؤثر عن أحمد بن حنبل رحمه الله، أنه سئل عن تمثل الرجل ببيت شعر لبيان معنى في القرآن فقال: (ما يعجبني فهو عجيب)، وإن صح عنه فلعله يريد كراهة أن يذكر الشعر لإثبات صحة ألفاظ القرآن كما يقع من بعض الملاحدة.
- روى أن ابن الراوندي "وكان يزن بالإلحاد" قال لابن الأعرابي: "أتقول العرب لباس التقوى" فقال ابن الأعرابي لا باس لا باس، وإذا أنجى الله الناس، فلا نجى ذلك الرأس، هبك يابن الرواندي تنكر أن يكون محمد نبيا أفتنكر أن يكون فصيحا عربيا؟
.

- ومن مادة الاستعمال العربي المأثور عن بعض السلف في فهم معاني بعض الآيات:
* ما روى مالك في الموطأ عن عروة بن الزبير قال: قلت لعائشة وأنا يومئذ حديث السن
: (أرأيت قول الله تعالى: (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) فما على الرجل شيء أن لا يطوف بهما، فقالت عائشة: كلا لو كان كما تقول، لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة الطاغية، وكانت مناة حذو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله عن ذلك، فأنزل الله: (إن الصفا والمروة) الآية ا.هـ.
- فبينت له ابتداء طريقة استعمال العرب لو كان المعنى كما وهمه عروة ثم بينت له مثار شبهته الناشئة عن قوله تعالى:
(فلا جناح عليه) الذي ظاهره رفع الجناح عن الساعي الذي يصدق بالإباحة دون الوجوب
.

* مدد المفسر من علم الآثار:
- المراد بالآثار:
- ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، من بيان المراد من بعض القرآن في مواضع الإشكال والإجمال.
- وما فسره النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن آيات معدودات علمه إياهن جبريل، كما روي عن عائشة رضي الله عنها.
- التفسير التوقيفي: وهو ما تعلمه النبي صلى الله عليه وسلم في مغيبات القرآن وتفسير مجمله.
- قال المؤلف: وما لا توقيف فيه:
* ومثاله: بيان النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم المراد بالخيط الأبيض والخيط الأسود وهما سواد الليل وبياض النهار، وقال له: ((إنك لعريض الوسادة)).
-وما نقل عن الصحابة الذين شاهدوا نزول الوحي من بيان سبب النزول، وناسخ ومنسوخ، وتفسير مبهم، وتوضيح واقعة من كل ما طريقهم فيه الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم، دون الرأي.
* ومثاله: كون المراد من المغضوب عليهم اليهود ومن الضالين النصارى،

* ومثل كون المراد من قوله تعالى: {ذرني ومن خلقت وحيدا) الوليد بن المغيرة المخزومي أبا خالد بن الوليد.
* وكون المراد من قوله تعالى:
(أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا) الآية، العاصي بن وائل السهمي في خصومته بينه وبين خباب بن الأرت كما في صحيح البخاري في تفسير سورة المدثر.
-قال ابن عباس مكثت سنين أريد أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يمنعني إلا مهابته، ثم سألته فقال: هما حفصة وعائشة.

- اعتبار أسباب النزول من مادة التفسير:
- لأنها تعين على تفسير المراد، وليس المراد أن لفظ الآية يقصر عليها؛ لأن سبب النزول لا يخصص.
* قال تقي الدين السبكي
: (وكما أن سبب النزول لا يخصص، كذلك خصوص غرض الكلام لا يخصص، كأن يرد خاص ثم يعقبه عام للمناسبة فلا يقتضي تخصيص العام، نحو: (فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير).
- وقد يكون المروي في سبب النزول مبينا ومؤولا لظاهر غير مقصود.
* ومثاله: فقد توهم قدامة بن مظعون من قوله تعالى:
(ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا) فاعتذر بها لعمر بن الخطاب في شرب قدامة خمرا).
* وقد بين عمر لقدامة خطأه في تأويل الآية: (فقال عمر:
إنك أخطأت التأويل يا قدامة، إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله).
*وفي رواية فقال: لم تجلدني بيني وبينك كتاب الله، فقال عمر: وأي كتاب الله تجد أن لا أجلدك؟ قال:
(إن الله يقول في كتابه (ليس على الذين آمنوا) إلى آخر الآية فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وأحسنوا، شهدت مع رسول الله بدرا وأحدا والخندق والمشاهد) فقال عمر: ألا تردون عليه قوله فقال ابن عباس: إن هؤلاء الآيات أنزلن عذرا للماضين وحجة على الباقين، فعذر الماضين بأنهم لقوا الله قبل أن تحرم عليهم الخمر، وحجة على الباقين لأن الله يقول: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر) ثم قرأ إلى آخر الآية الأخرى، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا وأحسنوا فإن الله قد نهى أن يشرب الخمر، قال عمر: صدقت الحديث.

- وتشمل الآثار إجماع الأمة على تفسير معنى، إذ لا يكون إلا عن مستند.
- ومثاله: الإجماع على أن المراد من الأخت في آية الكلالة الأولى هي الأخت للأم.
- والإجماع على أن المراد من الصلاة في سورة الجمعة هي صلاة الجمعة.
- والإجماع على أن المعلومات بالضرورة كلها ككون الصلاة مرادا منها الهيئة المخصوصة دون الدعاء، والزكاة المال المخصوص المدفوع
.

* مدد المفسر من علم القراءات:
- حاجة المفسر للقراءات إنا يكون في الترجيح لأحد المعاني القائمة من الآية أو لاستظهار على المعنى.
-والاستدلال يكون بالقراءة المشهورة وهى حجة لغوية، كما يستدل بالشاهد من كلام العرب.
- وأما القراءة الشاذة فالاستدلال بها من حيث إن قارئها ما قرأ بها إلا استنادا لاستعمال عربي صحيح، لا من حيث الرواية لأنها غير صحيحة الرواية.
* ومثال ذلك: الاحتجاج على أن أصل (الحمد لله) أنه منصوب على المفعول المطلق بقراءة هارون العتكي (الحمدَ لله) بالنصب كما في الكشاف.
-فالقراءة لا تعد تفسيرا من حيث هي طريق في أداء ألفاظ القرآن، بل من حيث أنها شاهد لغوي فرجعت إلى علم اللغة
.

* مدد المفسر من أخبار العرب:
- أخبار العرب من جملة أدب العرب، وليس الاشتغال بها من اللغو.
- ويستعان بأخبار العرب على فهم ما أوجزه القرآن في سوقها، فالقصص والأخبار في القرآن المراد منها الاعتبار لا حديثا للأسمار.
-معرفة الأخبار يعرف ما أشارت له الآيات من دقائق المعاني.
* نحو قول الله تعالى:
(ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا)، وقوله تعالى: (قتل أصحاب الأخدود)يتوقف على معرفة أخبارهم عند العرب.

* مدد المفسر من أصول الفقه:
- لا يعد العلماء علم أصول الفقه من مادة التفسير، لكن بعضه يكون كذلك من جهتين:
* الأولى: اشتمال علم الأصول على مسائل كثيرة هي من طرق استعمال كلام العرب وفهم موارد اللغة، ولم ينبه علماء العربية عليها مثل مسائل الفحوى، ومفهوم المخالفة.
- وقد عد الغزالي علم الأصول من جملة العلوم التي تتعلق بالقرآن وبأحكامه فلا جرم أن يكون مادة للتفسير
.
* الثانية: أن علم الأصول يضبط قواعد الاستنباط ويفصح عنها فهو آلة للمفسر في استنباط المعاني الشرعية من آياتها.


* مدد المفسر من علم الكلام:
- عد عبد الحكيم والآلوسي أخذا من كلام السكاكي أن علم الكلام في جملة ما يتوقف عليه علم التفسير.

- قال عبد الحكيم : (لتوقف علم التفسير على إثبات كونه تعالى متكلما، وذلك يحتاج إلى علم الكلام).
- وقال الآلوسي: (لتوقف فهم ما يجوز على الله ويستحيل على الكلام) يعني من آيات التشابه في الصفات مثل (الرحمن على العرش استوى).
- وعلق المؤلف أن توجيه الآلوسي أقرب من توجيه عبد الحكيم، وهو مأخوذ من كلام السيد الجرجاني في شرح المفتاح.
- وكلاهما اشتباه لأن كون القرآن كلام الله قد تقرر عند سلف الأمة قبل علم الكلام، ولا أثر له في التفسير.
- وأما معرفة ما يجوز وما يستحيل فكذلك، ولا يحتاج لعلم الكلام إلا في التوسع في إقامة الأدلة على استحالة بعض المعاني، فما يحتاج إليه المتوسع لا يصير مادة للتفسير
.

* العلاقة بين علم التفسير وعلم الفقه:
-
ولا يعتبر المؤلف علم الفقه من مادة علم التفسير كما فعل غيره كالسيوطي.
- وكون علم الفقه ليس من علم التفسير لاعتبارات:
* لأن فهم القرآن غير متوقف على مسائل الفقه.
* علم الفقه متأخر عن علم التفسير وفرع عنه.
-وإنما يحتاج المفسر إلى مسائل الفقه، عند قصد التوسع في تفسيره، للتوسع في طرق الاستنباط وتفصيل المعاني تشريعا وآدابا وعلوما.

- حاجة المفسر المتوسع للعلوم:
-
يوشك أن يكون المفسر المتوسع محتاجا إلى الإلمام بكل العلوم.
-وهذا المقام هو الذي أشار له البيضاوي بقوله
: (لا يليق لتعاطيه، والتصدي للتكلم فيه، إلا من برع في العلوم الدينية كلها أصولها وفروعها وفي الصناعات العربية والفنون الأدبية بأنواعها.) ا.هــ.

* ما لا يعد من استمداد علم التفسير:
-الآثار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير آيات، وما يروى عن الصحابة في ذلك لأن ذلك من التفسير لا من مدده.
- وما في بعض آي القرآن من معنى يفسر بعضا آخر منها، لأن ذلك من قبيل حمل بعض الكلام على بعض، كتخصيص العموم وتقييد المطلق وبيان المجمل وتأويل الظاهر ودلالة الاقتضاء وفحوى الخطاب ولحن الخطاب، ومفهوم المخالفة
.

- ذكر ابن هشام، في مغني اللبيب، في حرف لا، عن أبي علي الفارسي، أن القرآن كله كالسورة الواحدة، ولهذا يذكر الشيء في سورة وجوابه في سورة أخرى، نحو: (وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) وجوابه (ما أنت بنعمة ربك بمجنون) اهـ.
- فعلق المؤلف: وهذا كلام لا يحسن إطلاقه، لأن القرآن قد يحمل بعض آياته على بعض وقد يستقل بعضها عن بعض، إذ ليس يتعين أن يكون المعنى المقصود في بعض الآيات مقصودا في جميع نظائرها، بله ما يقارب غرضها.

* استمداد علم التفسير من مواد أخرى لا ينافي كونه رأس العلوم الإسلامية:
- ورغم استمداد علم التفسير من مواد غيره لا يخرجه عن كونه رأس العلوم الإسلامية.
-ومعنى كون علم التفسير رأس العلوم الإسلامية أنه أصل لعلوم الإسلام على وجه الإجمال.
- أما استمداده من بعض العلوم الإسلامية، فذلك استمداد لقصد تفصيل التفسير على وجه أتم من الإجمال، وهو أصل لما استمد منه باختلاف الاعتبار على ما حققه عبد الحكيم
.


------------------
لي بعض التعليقات باللون الرمادي.


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 11 ذو الحجة 1442هـ/20-07-2021م, 08:25 AM
إنشاد راجح إنشاد راجح غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Sep 2016
المشاركات: 732
افتراضي


الجزء الثاني (بداية من المقدمة الثالثة إلى نهاية المقدمة الرابعة)

المقدمة الثالثة
في صحة التفسير بغير المأثور ومعنى التفسير بالرأي ونحوه

* رأي المؤلف في التفسير بغير المأثور:
- أثبت المؤلف تفسير القرآن بعلم العربية وغيرها من العلوم التي يُستمد منها علم التفسير، وعدم الاقتصار على المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه.
-ويُمكّنُ لذلك أن يكون المفسر قد استجمع من تلك العلوم حظا كافيا وذوقا ينفتح له بهما من معاني القرآن ما ينفتح عليه.

* أثر الاجتهاد في مجال تفسير القرآن:
- اتساع التفاسير وفتح باب استنباط معاني القرآن لمن أوتي علما في كتاب الله، فبه تُدرك عجائب القرآن.
- لولا الاجتهاد لكان تفسير القرآن مختصرا في ورقات قليلة، لقلة ما تلقاه النبي صلى الله عليه وسلم من جبريل في هذا الباب.
- ولو تم الاقتصار على بيان معاني مفردات القرآن من جهة العربية لكان التفسير نزرا.
- كثرة أقوال السلف من الصحابة، فمن يليهم في تفسير آيات القرآن، وفي ذلك أيضا دلالة على اجتهادهم.

* تقرير وجود الاجتهاد في التفسير:
- قال الغزالي والقرطبي: لا يصح أن يكون كل ما قاله الصحابة في التفسير مسموعا من النبي صلى الله عليه وسلم لوجهين:
* أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه من التفسير إلا تفسير آيات قليل.
* الثاني أنهم اختلفوا في التفسير على وجوه مختلفة لا يمكن الجمع بينها، وسماع جميعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم محال، ولو كان بعضها مسموعا لترك الآخر، فقطعا أن كل مفسر قال في معنى الآية بما ظهر له باستنباطه.

* أدلة وجود الاجتهاد في التفسير مما روي عن السلف وعلماء الأمة:
- عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال:
(لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لا أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن). رواه البخاري في صحيحه.
-دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس فقال:
(اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) ،واتفق العلماء على أن المراد بالتأويل تأويل القرآن.
- أن التفهم مع قلة القراءة أفضل من كثرة القراءة بلا تفهم، قال الغزالي في الإحياء:
(التدبر في قراءته إعادة النظر في الآية والتفهم أن يستوضح من كل آية ما يليق بها كي تتكشف له من الأسرار معان مكنونة لا تتكشف إلا للموفقين) - وقال: (ومن موانع الفهم أن يكون قد قرأ تفسيرا واعتقد أن لا معنى لكلمات القرآن إلا ما تناوله النقل عن ابن عباس وابن مجاهد، وأن ما وراء ذلك تفسير بالرأي فهذا من الحجب العظيمة).


- وقال فخر الدين في تفسير قوله تعالى: (وعاشروهن بالمعروف) في سورة النساء: (وقد ثبت في أصول الفقه أن المتقدمين إذا ذكروا وجها في تفسير الآية فذلك لا يمنع المتأخرين من استخراج وجه آخر في تفسيرها وإلا لصارت الدقائق التي يستنبطها المتأخرون في التفسير مردودة، وذلك لا يقوله إلا مقلد خلف بضم الخاء) ا.هــ.
-وقال سفيان بن عيينة في قوله تعالى:
(ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون) هي تسلية للمظلوم وتهديد للظالم، فقيل له: من قال هذا؟ فغضب وقال: إنما قاله من علمه يريد نفسه.
-وقال أبو بكر ابن العربي في العواصم إنه أملى على سورة نوح خمسمائة مسألة وعلى قصة موسى ثمانمائة مسألة
.

- والمستقرئ لاستنباطات الأحكام التشريعية خلال القرون الثلاثة الأولى يدرك أنها لم تكن من المأثور.
- وهذا الإمام الشافعي يقول: تطلبت دليلا على حجية الإجماع فظفرت به في قوله تعالى:
(ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا).
- قال شرف الدين الطيبي في شرح الكشاف في سورة الشعراء: شرط التفسير الصحيح أن يكون مطابقا للفظ من حيث الاستعمال، سليما من التكلف عريا من التعسف، وصاحب الكشاف يسمي ما كان على خلاف ذلك بدع التفاسير.


* الجواب عن الشبهة التي نشأت من الآثار المروية في التحذير من التفسير بالرأي:
- ورد في الآثار التحذير من الخروج عن المأثور، مثل:
* قوله صلى الله عليه وسلم:
(من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار).
وفي رواية: (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار).
وقوله : (من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ).

- والجواب على تلك الشبهة يرجع إلى واحد من خمسة وجوه:

- أولها: أن المراد بالرأي هو القول المجرد عن النظر في أدلة العربية ومقاصد الشريعة وتصاريفها، وما يجب معرفته من
الناسخ والمنسوخ وسبب النزول.
- فإن أصاب المفسر بالرأي فقد أخطأ في تصوره بلا علم، لأنه لم يكن مضمون الصواب كقول المثل: "رمية من غير رام" وهذا كمن فسر
(الم) إن الله أنزل جبريل على محمد بالقرآن فإنه لا مستند لذلك.

- وأما ما روي عن الصديق رضي الله عنه
حين سئل عن تفسير الأب في قوله: (وفاكهة وأبا)، فقال: (أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأيي). فذلك من الورع خشية الوقوع في الخطأ في كل ما لم يقم له فيه دليل أو في مواضع لم تدع الحاجة إلى التفسير فيها، ولما سئل عن الكلالة في آية النساء فقال: (أقول فيها برأي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان) إلخ.
- وعلى هذا المحمل ما روي عن الشعبي وسعيد أي أنهما تباعدا عما يوقع في ذلك ولو على احتمال بعيد مبالغة في الورع ودفعا للاحتمال الضعيف. وإلا فإن الله تعالى ما تعبدنا في مثل هذا إلا ببذل الوسع مع ظن الإصابة
.

- ثانيها: تفسير القرآن بما يخطر للمفسر معتمدا على بعض الأدلة دون بعض، دون الإحاطة بجوانب الآية ومواد التفسير، كالذي يعتمد على وجه في العربية فقط.
* كمن يفسر قوله تعالى: )ما أصابك من حسنة فمن الله(الآية على ظاهر معناها يقول، إن الخير من الله والشر من فعل الإنسان بقطع النظر على الأدلة الشرعية التي تقتضي أن لا يقع إلا ما أراد الله غافلا عما سبق من قوله تعالى: (قل كل من عند الله).
* أو بما يبدو من ظاهر اللغة دون استعمال العرب كمن يقول في قوله تعالى:
(وآتينا ثمود الناقة مبصرة) فيفسر مبصرة بأنها ذات بصر لم تكن عمياء، فهذا من الرأي المذموم لفساده.


-ثالثها: تأويل القرآن وفق ميل في نفسه كأن يكون له مذهب أو نحلة فيصرف الآيات لتوافق مراد نفسه، ويلوي عنق الآيات لتدل على ما يعتقده، كاتما ما يظهر له من حق.
- وهذا كمن يعتقد من الاستواء على العرش التمكن والاستقرار، فإن خطر له أن معنى قول الله تعالى:
(القدوس) المنزه عن كل صفات المحدثات حجبه تقليده على تقرير الحق، أو يذهب إلى تقرير معان آخرى، ثما ما يلبث أن يرجع لرأيه الموافق لمذهبه متشبثا به متعصبا له.
- ومن تفسيرات الفرق والمذاهب، تقرير المعتزلة: النظر إلى نعمة الرب، لا النظر إلى الرب، في قول الله تعالى:
(إلى ربها ناظرة) ، مخالفين ظاهر الآية والمأثور فيها والمقصود منها.
- وذهاب البيانية في قول الله تعالى:
(هذا بيان للناس): إنه بيان ابن سمعان كبير مذهبهم.
- وزعم المنصورية أن المراد من قوله تعالى:
(وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم) أن الكسف إمامهم نازل من السماء، وهذا إن صح عنهم ولم يكن من ملصقات أضدادهم فهو تبديل للقرآن ومروق عن الدين.

-رابعها: اقتصار التفسير على ما يقتضيه اللفظ فقط وإقرار أن ذلك المراد دون غيره.

- خامسها: أن يكون القصد من التحذير أخذ الحيطة في التدبر والتأويل ونبذ التسرع إلى ذلك، وهذا مقام تفاوت العلماء فيه واشتد الغلو في الورع ببعضهم حتى كان لا يذكر تفسير شيء غير عازيه إلى غيره.
* وكان الأصمعي لا يفسر كلمة من العربية إذا كانت واقعة في القرآن.
* ذكر ذلك في المزهر فأبى أن يتكلم في أن سرى وأسرى بمعنى واحد، لأن أسرى ذكرت في القرآن، ولا في أن عصفت الريح وأعصفت بمعنى واحد لأنها في القرآن، وقال: (الذي سمعته في معنى الخليل أنه أصفى المودة وأصمها ولا أزيد فيه شيئا لأنه في القرآن) اهـ.
- والورع في التفسير يعتري كثيرا من أهل العلم والفضل.
- والورع يعتري بعض العلماء في أحوال دون أخرى، كالورع في العلم لا في العقل أو العكس.
- وخلاصة الأمر، أنه في غير أصول الاعتقاد لم نكلف بأكثر من حصول الظن المستند إلى الأدلة والأدلة متنوعة على حسب أنواع المستند فيه، وأدلة فهم الكلام معروفة وقد بينه المؤلف.

* ضبط متعلق المأثور عند القائلين بلزومه:
- ذهب بعض العلماء إلى لزوم دائرة المأثور وما كان غيرها فمحذور، لكنهم لم يضبطوا مرادهم من المأثور عمن يؤثر.

- فإن أرادوا به ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من تفسير بعض آيات إن كان مرويا بسند مقبول من صحيح أو حسن.
- فبهذا قد ضيقوا سعة معاني القرآن وينابيع ما يستنبط من علومه، وناقضوا أنفسهم فيما دونوه من التفاسير، وغلطوا سلفهم فيما تأولوه، فالصحابة ومن بعدهم لم يقصروا الرواية على ما بلغهم عن النبي صلى الله عليه وسلم.
- وقد سأل عمر بن الخطاب أهل العلم عن معاني آيات كثيرة ولم يشترط عليهم أن يرووا له ما بلغهم في تفسيرها عن النبي صلى الله عليه وسلم،

- وإن أرادوا بالمأثور ما روي عن النبي وعن الصحابة خاصة.
- كما فعل السيوطي في تفسيره الدر المنثور.
- لم يتسع ذلك المضيق إلا قليلا ولم يغن عن أهل التفسير فتيلا، لأن أكثر الصحابة لا يؤثر عنهم في التفسير إلا شيء قليل سوى ما يروى عن علي بن أبي طالب على ما فيه من صحيح وضعيف وموضوع،
* وقد ثبت عنه أنه قال: ما عندي مما ليس في كتاب الله شيء إلا فهما يؤتيه الله.
* وما يروى عن ابن مسعود وعبد الله بن عمر وأنس وأبي هريرة.
* وأما ابن عباس فكان أكثر ما يروى عنه قولا برأيه على تفاوت بين رواته.

- وإن أرادوا بالمأثور ما كان مرويا قبل تدوين التفاسير الأول مثل ما يروى عن أصحاب ابن عباس وأصحاب ابن مسعود.
- فلابد من الاعتراف بأن التابعين قالوا أقوالا في معاني القرآن لم يسندوها ولا ادعوا أنها محذوفة الأسانيد، وقد اختلفت أقوالهم في معاني آيات كثيرة مما يدل على تأولهم تلك الآيات من أفهامهم كما يعلمه من له علم بأقوالهم، وهي ثابتة في تفسير الطبري ونظرائه.

* المفسرون الذين خرجوا عن دائرة المأثور:
- تعليق: (والمراد بهذا العنوان لا يعني إهمال المأثور وهجره، بل هو السير في طريق آخر من طرق التفسير مع عدم مفارقة الطريق الأساس، ويفيد ذلك في استجلاب معاني أخرى تؤدي إلى اتساع التفسير وفتح آفاق بعيدة للاستنباط).
- ومن المفسرين من قرر التزام الاقتصار على ما هو مروي عن الصحابة والتابعين كابن جرير الطبري.
- لكن نجده يختار ويرجح أقوال على أخرى ويستدل للراجح بشواهد من كلام العرب.
- وقد سبق ابن جرير الطبري في هذا الطريق (بقي بن مخلد) ولم يوقف على تفسيره.
- أما من شاكل الطبري من معاصريه فهم: ابن أبي حاتم،
وابن مردويه، والحاكم.
- وممن خرج عن دائرة المأثور أيضا على اختلاف أزمنتهم: الفراء وأبي عبيدة، والزجاج والرماني، والزمخشري وابن عطية
.

* أمثلة ممن لزم التفسير بالرأي المذموم:
- ختم المؤلف كلامه في هذه المقدمة بذكر طائفتين ممن لزموا التفسير بالرأي المذموم، فانحرفوا وضلوا.
- فذكر الباطنية، ونماذج من أقوالهم في التفسيره ومدعاة اتجاههم ذلك الاتجاه والرد عليهم.
- وذكر الصوفية واستعمالاهم للإشارات وأبرز في نهاية المقدمة العلاقة بين قولي الباطنية والصوفية.

- الباطنية كطائفة التزمت التفسير بالرأي المذموم:
- أصلهم ومعتقدهم:
- هم فرقة من غلاة الشيعة، يعرفون بالباطنية عند أهل العلم كما عرفوهم، وبالإسماعيلية عند المؤرخين لانتساب مذهبهم إلى جعفر بن إسماعيل الصادق، ويعتقدون عصمته،وإمامته بعد أبيه بالوصاية، ويرون أنه لابد من إمام هدى من آل البيت هو الذي يقيم الدين، ويبين مراد الله.

-استمداد مذهبهم:
- مذهبهم مبني على قواعد الحكمة الإشراقية ومذهب التناسخ والحلولية فهو خليط من ذلك، ومن طقوس الديانات اليهودية والنصرانية وبعض طرائق الفلسفة ودين زرادشت.
-وعندهم أن الله يحل في كل رسول وإمام وفي الأماكن المقدسة، وأنه يشبه الخلق تعالى وتقدس وكل علوي يحل فيه الإله.

- قولهم في القرآن:
- صرفوا ألفاظ القرآن عن ظواهرها بما سموه الباطن، وزعموا أن القرآن إنما نزل متضمنا لكنايات ورموز عن أغراض.
- وذلك مبناه دفع الحجج التي تعارض بدعتهم، فأولوا النصوص، وادعوا أن للقرآن رموز لمعان خفية في صورة ألفاظ تفيد معاني ظاهرة ليشتغل بها عامة المسلمين.

- نماذج من تفسير الباطنية:
- تكلفوا لتفسير القرآن بما يساعد ما أسسوا من أصول، ومثاله:
* قولهم أن قول الله تعالى
: (وعلى الأعراف رجال) أن جبلا يقال له الأعراف هو مقر أهل المعارف الذين يعرفون كلا بسيماهم.
* وأن قول الله تعالى:
(وإن منكم إلا واردها) أي لا يصل أحد إلى الله إلا بعد جوازه على الآراء الفاسدة إما في أيام صباه، أو بعد ذلك، ثم ينجي الله من يشاء.
وإن قول الله تعالى:
(اذهبا إلى فرعون إنه طغى) أراد بفرعون القلب.
-ومن تفسير الباطنية تفسير القاشاني وكثير من أقوالهم مبثوث في (رسائل إخوان الصفاء).

- الرد على الباطنية:
- تصدى للرد عليهم الغزالي في كتابه الملقب بـ "المستظهري". وقال: (إذا قلنا بالباطن فالباطن لا ضبط له بل تتعارض فيه الخواطر فيمكن تنزيل الآية على وجوه شتى) اهـ.
- والمعنى أن الباطن الذي تحججوا به لا يمكن أن تقوم به حجة لأنه لا شيء يضبطه إلا لوقالوا أنه متلقى من معصوم وليسوا بقائلين، بخلاف الظاهر الذي مستنده اللغة فلا يمكن مخالفته.
- وبين ابن العربي في كتاب العواصم شيئا من فضائح مذهبهم بما لا حاجة إلى التطويل به هنا
.
- وذكر المؤلف ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن للقرآن ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا)، علق أنه لا يصح.
- وتطرق أيضا إلى ما روي عن ابن عباس أنه قال: (
إن للقرآن ظهرا وبطنا)، وعلق أيضا بعدم صحته.
-والأثر المروي عن ابن عباس، بتتبع بقية كلامه الذي ذكروه: (فظهره -ظهر القرآن- التلاوة وبطنه التأويل) فقد أوضح مراده إن صح عنه بأن الظهر هو اللفظ والبطن هو المعنى.

- الصوفية كطائفة التزمت التفسير بالرأي المذموم:
- قولهم في القرآن:
- والصوفية ادعوا أن كلامهم ليس تفسيرا للقرآن بل هو من باب التمثل بالآيات في الأغراض المتكلم فيها.
- فهم يقولون معان لا تجري على ألفاظ القرآن ظاهرا، ولكن يأولون المعاني ويسمون ذلك إشارات، فخالفوا الباطنية الذين سموها معان.

- أقوال العلماء في الصوفية:
القول الأول: قبول أقوالهم وفق اعتبارات :
- كالغزالي الذي ذكر في الإحياء:
(إذا قلنا في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة) فهذا ظاهره أو إشارته أن القلب بيت وهو مهبط الملائكة ومستقر آثارهم، والصفات الرديئة كالغضب والشهوة والحسد والحقد والعجب كلاب نابحة في القلب فلا تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب، ونور الله لا يقذفه في القلب إلا بواسطة الملائكة، فقلب كهذا لا يقذف فيه النور. وقال: (ولست أقول إن المراد من الحديث بلفظ البيت القلب وبالكلب الصفة المذمومة ولكن أقول هو تنبيه عليه، وفرق بين تغيير الظاهر وبين التنبيه على البواطن من ذكر الظواهر) اهـ.
- فبهذه الدقيقة فارق نزعة الباطنية. ومثل هذا قريب من تفسير لفظ عام في آية بخاص من جزئياته كما وقع في كتاب المغازي من صحيح البخاري عن عمرو بن عطاء في قوله تعالى:(ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا) قال هم كفار قريش، ومحمد نعمة الله(وأحلوا قومهم دار البوار) قال يوم بدر.

القول الثاني: رد أقوالهم :
- وهو ما يراه ابن العربي حيث أبطل الإشارات في كتاب (العواصم).
- وقد أطلق القول في إبطال أن يكون للقرآن باطن غير ظاهره.
- وعاب ابن العربي على الغزالي تأول إشارات الصوفية وإيجاد وجها مقبولا لها، مما أدى لمخالفته الحق، رغم ثنائه عليه في تصديه للباطنية.


* رأي ابن عاشور في إشارات الصوفية:
- قال المؤلف: (وعندي إن هذه الإشارات لا تعدو واحدا من ثلاثة أنحاء):
الأول ما كان يجري فيه معنى الآية مجرى التمثيل لحال شبيه بذلك المعنى :
* كما يقولون مثلا :
(ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) أنه إشارة للقلوب لأنها مواضع الخضوع لله تعالى إذ بها يعرف فتسجد له القلوب بفناء النفوس. ومنعها من ذكره هو الحيلولة بينها وبين المعارف اللدنية، (وسعى في خرابها) بتكديرها بالتعصبات وغلبة الهوى، فهذا يشبه ضرب المثل لحال من لا يزكي نفسه بالمعرفة ويمنع قلبه أن تدخله صفات الكمال الناشئة عنها بحال مانع المساجد أن يذكر فيها اسم الله، وذكر الآية عند تلك الحالة كالنطق بلفظ المثل، ومن هذا قولهم في حديث: ((لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب)) كما تقدم عن الغزالي.

الثاني: ما كان من نحو التفاؤل فقد يكون للكلمة معنى يسبق من صورتها إلى السمع هو غير معناها المراد:
-
وذلك من باب انصراف ذهن السامع إلى ما هو المهم عنده.
* وهذا كمن قال في قوله تعالى:
(من ذا الذي يشفع) من ذل ذي إشارة للنفس يصير من المقربين للشفعاء، فهذا يأخذ صدى موقع الكلام في السمع ويتأوله على ما شغل به قلبه.
- قال المؤلف: ورأيت الشيخ محيي الدين يسمي هذا النوع سماعا ولقد أبدع
.

الثالث: عبر ومواعظ وشأن أهل النفوس اليقظى أن ينتفعوا من كل شيء ويأخذوا الحكمة حيث وجدوها
- فإن اقتبسوا من قول الله تعالى:
(فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا) أن القلب الذي لم يمتثل رسول المعارف العليا تكون عاقبته وبالا.

- حقيقة نسبة الإشارة إلى لفظ القرآن وضابط ذلك:
- نسبة الإشارة إلى لفظ القرآن مجازية لأنها إنما تشير لمن استعدت عقولهم وتدبرهم في حال من الأحوال الثلاثة ولا ينتفع بها غير أولئك، فلما كانت آيات القرآن قد أنارت تدبرهم وأثارت اعتبارهم نسبوا تلك الإشارة للآية.
- وليست تلك الإشارة هي حق الدلالة اللفظية والاستعمالية حتى تكون من لوازم اللفظ وتوابعه كما قد تبين.
- وكل إشارة خرجت عن حد هذه الثلاثة الأحوال إلى ما عداها فهي تقترب إلى قول الباطنية حتى تبلغه.

* التفريق بين التفسير الإشاري (للصوفية) ودلالة الإشارة:
-وليس من الإشارة ما يعرف في الأصول بدلالة الإشارة، وفحوى الخطاب، وفهم الاستغراق من لام التعريف في المقام الخطابي، ودلالة التضمن والالتزام .
* كما أخذ العلماء من تنبيهات القرآن استدلالا لمشروعية أشياء، كاستدلالهم على مشروعية الوكالة من قوله تعالى: (فابعثوا أحدكم بورقكم هذه) ومشروعية الضمان من قوله:
(وأنا به زعيم). ومشروعية القياس من قوله: (لتحكم بين الناس بما أراك الله) ولا بما هو بالمعنى المجازي نحو (يا جبال أوبي معه) (فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) ولا ما هو من تنزيل الحال منزلة المقال نحو: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) لأن جميع هذا مما قامت فيه الدلالة العرفية مقام الوضعية واتحدت في إدراكه أفهام أهل العربية فكان من المدلولات التبعية.

- قال في الكشاف: (وكم من آية أنزلت في شأن الكافرين وفيها أوفر نصيب للمؤمنين تدبرا لها واعتبارا بموردها). يعني أنها في شأن الكافرين من دلالة العبارة وفي شأن المؤمنين من دلالة الإشارة.


* سبب تنبيه ابن عاشور على خطر التفسير بغير علم:
- استشعر ابن عاشور خطر التفسير بغير علم، وتهافت الناس على الخوض في تفسير آيات القرآن، ورأى أنه من واجب النصح في الدين التنبيه على ذلك، وأن سكوت العلماء على ذلك زيادة في الورطة.
- ومن التفسير بغير علم، القول فيه دون مستند من نقل صحيح عن أساطين المفسرين أو إبداء تفسير أو تأويل من قائله إذا كان القائل توفرت فيه شروط الضلاعة في العلوم التي سبق ذكرها في المقدمة الثانية.
* فممن يخوض في التفسير من يتصدى لبيان معنى الآيات على طريقة كتب التفسير.
* ومنهم من يضع الآية ثم يركض في أساليب المقالات تاركا معنى الآية ، مستجلبا من معاني الدعوة والموعظة.
- وقد دلت شواهد الحال على ضعف كفاية البعض لهذا العمل العلمي الجليل فيجب على العاقل أن يعرف قدره، وأن لا يتعدى طوره، وأن يرد الأشياء إلى أربابها، كي لا يختلط الخاثر بالزباد، ولا يكون في حالك سواد.




المقدمة الرابعة
فيما يحق أن يكون غرض المفسر

* المقصد الأعلى من القرآن:
- أنزل الله تعالى القرآن لصلاح أمر الناس كافة رحمة لهم لتبليغهم مراد الله منهم قال الله تعالى:
(ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين).

- أصناف الصلاح الذي عني به مقصد القرآن:
أولا: الصلاح الفردي:
- يعتمد تهذيب النفس وتزكيتها.
- ورأس الأمر فيه صلاح الاعتقاد لأن الاعتقاد مصدر الآداب والتفكير.
- ثم صلاح السريرة الخاصة، وهي العبادات الظاهرة كالصلاة، والباطنة كالتخلق بترك الحسد والحقد والكبر.

ثانيا: الصلاح الجماعي:
- ومبناه على الصلاح الفردي إذ الأفراد أجزاء المجتمع.
- ويحصل أيضا بما يسمى علم المعاملات، وهو ضبط تصرف الناس بعضهم مع بعض على وجه يعصمهم من مزاحمة الشهوات ومواثبة القوى النفسانية.
-ويعبر عنه عند الحكماء بالسياسة المدنية.

ثالثا: الصلاح العمراني:
- فهو أوسع من الصلاح الجماعي إذ هو حفظ نظام العالم الإسلامي.
- وضبط تصرف الجماعات والأقاليم بعضهم مع بعض على وجه يحفظ مصالح الجميع.
- ورعي المصالح الكلية الإسلامية، وحفظ المصلحة الجامعة عند معارضة المصلحة القاصرة لها.
- ويسمى هذا بعلم العمران وعلم الاجتماع
.
- فمراد الله من كتابه هو بيان تصاريف ما يرجع إلى حفظ مقاصد الدين.
- وقد أودع ذلك في ألفاظ القرآن التي خاطبنا بها خطابا بينا وتعبدنا بمعرفة مراده والاطلاع عليه فقال:
(كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب).

إمكانية الاطلاع على تمام مراد الله من كلامه:
والعلماء في ذلك فريقان:
- الأول: من يقول أنه يمكن الاطلاع على تمام مراد الله عز وجل، وهو قول علماء المؤلف وبعض من المعتزلة وهما المشائخي والسكاكي.
- الثاني: أن الاطلاع على مراد الله غير ممكن، وهو قول بقية المعتزلة.
- والقصد من هذه المسألة بيان الإمكان الوقوعي لا العقلي.
- فيرى المؤلف أنه يمكن الاستقصاء والبحث بحسب الطاقة والوسع وقد يتعذر الاطلاع على تمامه.
تعليق: (لكنه لا يتعذر الاطلاع على مراد الله بالكلية).

- مستودع مراد الله من كلامه :
- اختار الله تعالى أن يكون اللسان العربي مظهرا لوحيه، ومستودعا لمراده.
- والحكمة من اختيار اللسان العربي تكمن في أمور:
1.كون اللسان العربي هو أفصح الألسن وأسهلها انتشارا وأكثرها تحملا للمعاني مع إيجاز اللفظ، فجعل العرب هم المتلقين أولا لشرعه وإبلاغ مراده.
2. سلامة الأمة من ضعف الرأي عند المجادلة.
3. اتصاف حياتهم بالجد والحزم فلن تقعدهم الرفاهية عن النهوض بما كُلفوا به.

- عموم الخطاب القرآني:
- يقرر المؤلف أن عموم الشريعة ودوامها وكون القرآن معجزة ينافي اختصاص العرب بخطاب القرآن.
- العرب مخاطبون ابتداء قبل بقية الأمة وأحوالهم مراعاة في الخطاب القرآني بل أن كثيرا من القرآن خاطبهم خاصة،
كما قال الله تعالى:
(ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا) وقال تعالى: (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم) لكن ليس ذلك بوجه للاقتصار على أحوالهم.

* مقاصد القرآن الأصلية الواجب على المشتغل بالتفسير أن يعلمها:
- وبمعرفة تلك المقاصد يُتمكن من إدراك مدى قرب المفسر من غايته في التفسير وإلى أي حد أغرب عنها.

الأول: إصلاح الاعتقاد وتعليم العقد الصحيح.
- وهذا أعظم سبب لإصلاح الخلق، لأنه يزيل عن النفس عادة الإذعان لغير ما قام عليه الدليل.
- ويطهر القلب من الأوهام الناشئة عن الإشراك والدهرية وما بينهما، كما قال الله تعالى:
(فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب)فأسند لآلهتهم زيادة تتبيبهم، وليس هو من فعل الآلهة ولكنه من آثار الاعتقاد بالآلهة.

الثاني: تهذيب الأخلاق قال تعالى: (وإنك لعلى خلق عظيم).
- قالت عائشة رضي الله تعالى عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم: (كان خلقه القرآن).
- وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(بعثت لأتمم مكارم حسن الأخلاق).
- وهذا المقصد قد فهمه عامة العرب بل خاصة الصحابة، وقال أبو خراش الهذلي مشيرا إلى ما دخل على العرب من أحكام الإسلام بأحسن تعبير:

فليس كعهد الدار يأم مالك = ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل = سوى العدل شيئا فاستراح العواذل
أراد بإحاطة السلاسل بالرقاب أحكام الإسلام. والشاهد في قوله: وعاد الفتى كالكهل.

- الثالث: التشريع وهو الأحكام خاصة وعامة.
-قال الله تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله)، وقال تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله).
-
ولقد جمع القرآن جميع الأحكام جمعا كليا في الغالب، وجزئيا في المهم، فقوله: (تبيانا لكل شيء) وقوله: (اليوم أكملت لكم دينكم) المراد بهما إكمال الكليات التي منها الأمر بالاستنباط والقياس.
-
قال الشاطبي لأنه على اختصاره جامع والشريعة تمت بتمامه ولا يكون جامعا لتمام الدين إلا والمجموع فيه أمور كلية.

-الرابع: سياسة الأمة وهو باب عظيم في القرآن القصد منه صلاح الأمة وحفظ نظامها كالإرشاد إلى تكوين الجامعة بقوله: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) وقوله: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم فيشيء) وقوله: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) وقوله: )وأمرهم شورى بينهم).

- الخامس: القصص وأخبار الأمم السالفة للتأسي بصالح أحوالهم.
-قال: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين) (أولئك الذينهدى الله فبهداهم اقتده) وللتحذير من مساويهم قال: (وتبين لكم كيف فعلنا بهم) وفي خلالها تعليم.

- السادس: التعليم بما يناسب حالة عصر المخاطبين، وما يؤهلهم إلى تلقي الشريعة ونشرها.
-
وذلك علم الشرائع وعلم الأخبار وكان ذلك مبلغ علم مخالطي العرب من أهل الكتاب.
-وقد زاد القرآن على ذلك تعليم حكمة ميزان العقول وصحة الاستدلال في أفانين مجادلاته للضالين وفي دعوته إلى النظر، ثم نوه بشأن الحكمة فقال:
(يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) وهذا أوسع باب انبجست منه عيون المعارف، وانفتحت به عيون الأميين إلى العلم.
- وقد لحق به التنبيه المتكرر على فائدة العلم، وذلك شيء لم يطرق أسماع العرب من قبل، إنما قصارى علومهم أمور تجريبية، وكان حكماؤهم أفرادا اختصوا بفرط ذكاء تضم إليه تجربة وهم العرفاء فجاء القرآن بقوله:
(وما يعقلها إلا العالمون) (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) وقال (ن * والقلم) فنبه إلى مزية الكتابة.

- السابع: المواعظ والإنذار والتحذير والتبشير.
- وهذا يجمع جميع آيات الوعد والوعيد، وكذلك المحاجة والمجادلة للمعاندين، وهذا باب الترغيب والترهيب.

- الثامن: الإعجاز بالقرآن ليكون آية دالة على صدق الرسول؛ إذ التصديق يتوقف على دلالة المعجزة بعد التحدي، والقرآن جمع كونه معجزة بلفظه ومتحدي لأجله بمعناه والتحدي وقع فيه (قل فأتوا بسورة مثله) ولمعرفة أسباب النزول مدخل في ظهور مقتضى الحال ووضوحه.

- هذا ما بلغ إليه استقراء المؤلف كما ذكر. وللغزالي في إحياء علوم الدين بعض من ذلك
.

* غاية المفسر من التفسير:
- بيان ما يصل إليه أو ما يقصده من مراد الله تعالى في كتابه بأتم بيان يحتمله المعنى ولا يأباه اللفظ من كل ما يوضح المراد من مقاصد القرآن، أو ما يتوقف عليه فهمه أكمل فهم، أو يخدم المقصد تفصيلا وتفريعا .
- مع إقامة الحجة على ذلك إن كان به خفاء، أو لتوقع مكابرة من معاند أو جاهل.

- الواجب على المفسر لتحقيق غايته:
- معرفة مقاصد القرآن إجمالا.
- معرفة اصطلاح القرآن وعاداته في إطلاق الألفاظ.
* وقد تعرض الزمخشري إلى شيء من عادات القرآن في متناثر كلامه في تفسيره
.

* طرائق المفسرين للقرآن ثلاث:
الأولى: الاقتصار على الظاهر من المعنى الأصلي للتركيب مع بيانه وإيضاحه وهذا هو الأصل.

الثانية: استنباط معان من وراء الظاهر تقتضيها دلالة اللفظ أو المقام ولا يجافيها الاستعمال ولا مقصد القرآن.
- وهى من مستتبعات التراكيب ومن خصائص العربية التي عني بها علم البلاغة، مثل:
* كون التأكيد يدل على إنكار المخاطب أو تردده.
* وكفحوى الخطاب ودلالة الإشارة واحتمال المجاز مع الحقيقة.

الثالثة: جلب المسائل وبسطها لمناسبة بينها وبين المعنى، أو لأن زيادة فهم المعنى متوقفة عليها، أو للتوفيق بين المعنى القرآني وبين بعض العلوم مما له تعلق بمقصد من مقاصد التشريع لزيادة تنبيه إليه، أو لرد مطاعن من يزعم أنه ينافيه لا على أنها مما هو مراد الله من تلك الآية بل لقصد التوسع .

- نهج العلماء في الطريقة الثانية:
- فرع العلماء وفصلوا في الأحكام، وخصوها بالتآليف الواسعة.
- وكذلك تفاريع الأخلاق والآداب التي أكثر منها حجة الإسلام الغزالي في كتاب الإحياء.
* ولا يلام المفسر إذا أتى بشيء من تفاريع العلوم مما له خدمة للمقاصد القرآنية، وله مزيد تعلق بالأمور الإسلامية كما نفرض أن يفسر قوله تعالى:
(وكلم الله موسى تكليما) بما ذكره المتكلمون في إثبات الكلام النفسي والحجج لذلك، والقول في ألفاظ القرآن وما قاله أهل المذاهب في ذلك.
* وكذلك تفسير ما حكاه الله تعالى في قصة موسى مع الخضر بكثير من آداب المعلم والمتعلم كما فعل الغزالي، وقد قال ابن العربي إنه أملى عليها ثمانمائة مسألة.
* وكذلك تقرير مسائل من علم التشريع لزيادة بيان قوله تعالى في خلق الإنسان:
(من نطفة ثم من علقة) الآيات، فإنه راجع إلى المقصد وهو مزيد تقرير عظمة القدرة الإلهية
.

- نهج العلماء في الطريقة الثالثة:
- تجلب مسائل علمية من علوم لها مناسبة بمقصد الآية:
- إما أن بعضها يومئ إليه معنى الآية ولو بتلويح ما .
* كما يفسر أحد قوله تعالى:
)ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا( فيذكر تقسيم علوم الحكمة ومنافعها مدخلا ذلك تحت قوله: )خيرا كثيرا(فالحكمة وإن كانت علما اصطلاحيا وليس هو تمام المعنى للآية إلا أن معنى الآية الأصلي لا يفوت وتفاريع الحكمة تعين عليه.
*
وكذلك أن نأخذ من قوله تعالى: )لكي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم(تفاصيل من علم الاقتصاد السياسي وتوزيع الثروة العامة ونعلل بذلك مشروعية الزكاة والمواريث والمعاملات المركبة من رأس مال وعمل على أن ذلك تومئ إليه الآية إيماء.
- وأن بعض مسائل العلوم قد تكون أشد تعلقا بتفسير آي القرآن كما نفرض مسألة كلامية لتقرير دليل قرآني مثل برهان التمانع لتقرير معنى قوله تعالى:
(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا).
* وكتقرير مسألة المتشابه لتحقيق معنى نحو قوله تعالى
( والسماء بنيناها بأيد) فهذا كونه من غايات التفسير واضح. *وكذا قوله تعالى: (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج) فإن القصد منه الاعتبار بالحالة المشاهدة فلو زاد المفسر ففصل تلك الحالة وبين أسرارها وعللها بما هو مبين في علم الهيئة كان قد زاد المقصد خدمة.
- وإما على وجه التوفيق بين المعنى القرآني وبين المسائل الصحيحة من العلم حيث يمكن الجمع.
-وإما على وجه الاسترواح من الآية
كما يؤخذ من قوله تعالى: (ويوم نسير الجبال) أن فناء العالم يكون بالزلازل ومن قوله: (إذا الشمس كورت) الآية أن نظام الجاذبية يختل عند فناء العالم.
- وشرط كون ذلك مقبولا أن يسلك فيه مسلك الإيجاز فلا يجلب إلا الخلاصة من ذلك العلم ولا يصير الاستطراد كالغرض المقصود له لئلا يكون كقولهم: الشيء بالشيء يذكر
.

آراء العلماء إجمالا في سلوك الطريقة الثالثة:
1. جماعة منهم يرون من الحسن التوفيق بين العلوم غير الدينية وآلاتها وبين المعاني القرآنية:
- ويرون القرآن مشيرا إلى كثير منها.
* قال ابن رشد الحفيد في فصل المقال:
(أجمع المسلمون على أن ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشرع كلها على ظاهرها، ولا أن تخرج كلها عن ظاهرها بالتأويل، والسبب في ورود الشرع بظاهر وباطن هو اختلاف نظر الناس. وتباين قرائحهم في التصديق، وخلص إلى وجود علاقة بين العلوم الشرعية والفلسفية.
- وإلى مثل ذلك ذهب قطب الدين الشيرازي في شرح حكمة الإشراق، وهذا الغزالي والإمام الرازي وأبو بكر ابن العربي وأمثالهم ملأوا كتبهم من الاستدلال على المعاني القرآنية بقواعد العلوم الحكمية وغيرها وكذلك الفقهاء في كتب "أحكام القرآن".
- وكذلك ابن جني والزجاج وأبو حيان قد أشبعوا "تفاسيرهم" من الاستدلال على القواعد العربية.

- تقرير كيفية فهم الحقائق العلمية في ضوء القرآن الكريم عند ابن عاشور:
- كلام الله عز وجل لا يجب أن يُفهم من خلال طائفة واحدة.
- معاني القرآن تطابق الحقائق، فكل ما كان من الحقيقة في العلوم وكان له صلة بالآية، فالحقيقة العلمية مرادة بمقدار ما بلغت إليه أفهام البشر في كل عصر.
- وشرط ربط الحقيقة العلمية بتفسير الآية ومعناها أن لا يخرج عما يصلح له اللفظ عربية، ولا يبعد عن الظاهر إلا بدليل، ولا يكون تكلفا بينا ولا خروجا عن المعنى الأصلي حتى لا يكون في ذلك كتفاسير الباطنية
.

2. ومنهم يرون أنه لا يصح في مسلك الفهم والإفهام إلا ما كان عاما لجميع العرب، فلا يُتكلف غيره:
- ومن هؤلاء أبي إسحاق الشاطبي حيث قال في المسألة الرابعة من النوع الثاني ما خلاصته أن الشريعة جارية على مذاهب العرب، وأن إضافة كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين من علوم الطبيعات والمنطق وأشباهاه إلى القرآن هو تجاوز للحد، فالسلف كانوا أعلم الناس بالقرآن ولم يثبت عنهم التكلم في شيء من هذا سوى ما ثبت فيه من أحكام التكاليف وأحكام الآخرة، ولا يُنفى كونه تضمن علوما من جنس علوم العرب وما هو على معهودها مما يتعجب منه أولو الألباب ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة.

- وذهب ابن العربي في "العواصم" إلى إنكار التوفيق بين العلوم الفلسفية والمعاني القرآنية.
ولم يتكلم على غير هاته العلوم وذلك على عادته في تحقير الفلسفة لأجل ما خولطت به من الضلالات الاعتقادية وهو مفرط في ذلك مستخف بالحكماء
.

- رد ابن عاشور لما قرره أبو إسحاق الشاطبي:
- ما ذكره إبو إسحاق هذا مبني على أساس أن القرآن لما كان خطابا للأميين وهم العرب فإنما يعتمد في مسلك فهمه وإفهامه على مقدرتهم وطاقتهم، وأن الشريعة أمية.
- وهو أساس واه لوجوه ستة:
الأول: أن ما بناه عليه يقتضي أن القرآن لم يقصد منه انتقال العرب من حال إلى حال وهذا باطل ، قال تعالى: (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا).
الثاني: أن مقاصد القرآن راجعة إلى عموم الدعوة وهو معجزة باقية فلا بد أن يكون فيه ما يصلح لأن تتناوله أفهام من يأتي من الناس في عصور انتشار العلوم في الأمة.
الثالث: أن السلف قالوا: إن القرآن لا تنقضي عجائبه يعنون معانيه ولو كان كما قال الشاطبي لانقضت عجائبه بانحصار أنواع معانيه.
الرابع: أن من تمام إعجازه أن يتضمن من المعاني مع إيجاز لفظه ما لم تف به الأسفار المتكاثرة.
الخامس: أن مقدار أفهام المخاطبين به ابتداء لا يقضي إلا أن يكون المعنى الأصلي مفهوما لديهم فأما مازاد على المعاني الأساسية فقد يتهيأ لفهمه أقوام، وتحجب عنه أقوام.
السادس: أن عدم تكلم السلف عليها إن كان فيما ليس راجعا إلى مقاصده فنحن نساعد عليه، وإن كان فيما يرجع إليها فلا نسلم وقوفهم فيها عند ظواهر الآيات بل قد بينوا وفصلوا وفرعوا في علوم عنوا بها، ولا يمنعنا ذلك أن نقفي على آثارهم في علوم أخرى راجعة لخدمة المقاصد القرآنية أو لبيان سعة العلوم الإسلامية، أما ما وراء ذلك فإن كان ذكره لإيضاح المعنى فذلك تابع للتفسير أيضا.
* لأن العلوم العقلية إنما تبحث عن أحوال الأشياء على ما هي عليه، وإن كان فيما زاد على ذلك فذلك ليس من التفسير لكنه تكملة للمباحث العلمية واستطراد في العلم لمناسبة التفسير ليكون متعاطي التفسير أوسع قريحة في العلوم
.

- علاقة العلوم بالقرآن على أربع مراتب: (على تقسيم المؤلف):
الأولى: علوم تضمنها القرآن كأخبار الأنبياء والأمم، وتهذيب الأخلاق والفقه والتشريع والاعتقاد والأصول والعربية والبلاغة.
الثانية: علوم تزيد المفسر علما كالحكمة والهيئة وخواص المخلوقات.
الثالثة: علوم أشار إليها أو جاءت مؤيدة له كعلم طبقات الأرض والطب والمنطق.
الرابعة: علوم لا علاقة لها به إما لبطلانها كالزجر والعيافة والميثولوجيا، وإما لأنها لا تعين على خدمته كعلم العروض والقوافي.





رد مع اقتباس
  #5  
قديم 14 ذو الحجة 1442هـ/23-07-2021م, 04:08 PM
إنشاد راجح إنشاد راجح غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Sep 2016
المشاركات: 732
افتراضي

الجزء الثالث: (من المقدمة الخامسة حتى نهاية المقدمة السادسة)

المقدمة الخامسة

في أسباب النزول

* المراد بأسباب النزول:
-
هي حوادث يروى أن آيات من القرآن نزلت لأجلها لبيان حكمها أو لحكايتها أو إنكارها أو نحو ذلك.
- وتتضمن بعض الآيات إشارات لأسباب نزولها، وبعض الآيات لها أسباب نزول ثبتت بالنقل.

* أحوال المفسرين في التعامل ما أسباب النزول:
- تدور أسباب النزول عند المفسرين بين القصد والإسراف:
- فمنهم من أولع بتطلبها حتى كأنه تطلب لكل آية سببا لنزولها.
- ومنهم من غض النظر عنها، فأخل ذلك بفهم القرآن.

* أسباب تعرض المؤلف لمسألة أسباب النزول في مقدمته:
- موقف المفسرين السالف ذكره، وشدة الحاجة لتمحيصه.
- الاستغناء عن إعادة الكلام عند التعرض لهذه المسائل في التفسير.

* موقف المؤلف من تعامل المفسرين مع أسباب النزول:
- الإعذار لمتقدمي المؤلفين الذين ألفوا فأكثرواوتوسعوا، وتفهم ولعهم ورغبتهم في التوسع خاصة أن أسباب النزول لم تكن من الموضوعات المشبعة بحثا وتأليفا.
- في حين أنه لم يعذر الذين عجت تفاسيرهم بالروايات الضعيفة مع عدم تنبيهم على مراتبها قوةً وضعفا.
* وفعلهم هذا أوهم بأن نزول آيات القرآن لا يكون إلا لحوادث تدعو لذلك، وهو ينافي مقصد القرآن وأن نزوله كان لتشريع الأحكام.
-ولذا قال العلماء تحزرا: إن سبب النزول لا يخصص إلا طائفة شاذة ادعت التخصيص بها.
والقاعدة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

- ولكن وقع الغلط ممن أراد من أسباب النزول تعيين مراد من تخصيص عام أو تقييد مطلق أو إلجاء إلى محمل، وهذا يقف عرضة أمام معاني التفسير قبل التنبيه على ضعفها أو تأويلها.
- وقد قال الواحدي في أول كتابه في أسباب النزول:
(أما اليوم فكل أحد يخترع للآية سببا، ويختلق إفكا وكذبا، ملقيا زمامه إلى الجهالة، غير مفكر في الوعيد" وقال: "لا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل) اهـ.

* فائد معرفة أسباب النزول للمفسر:
1. بعض أسباب النزول فيها بيان للمجمل أو إيضاح لمخفي وموجز.
2. ومنها ما يعد تفسيرا للآية، يتضح معناها بمعرفة سبب نزولها.
3.ومنها ما يدل المفسر على طلب الأدلة التي بها تأويل الآية أو نحو ذلك.
* ومثاله ما روي في الموطأ عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها في قول الله تعالى:
(إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما). قالت: (إنما نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله عن ذلك ).
4. ومنها ما ينبه المفسر إلى إدراك خصوصيات بلاغية بحسب مقتضى المقام.


* أقسام أسباب النزولصحيحة الإسناد:
الأول:يتوقف فهم المراد من الآية على علمه.
- ومنه تفسير مبهمات القرآن، مثل قوله تعالى:
(قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها) ونحو (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا) ومثل بعض الآيات التي فيها (ومن الناس).

الثاني: تفيد في تفهم معنى الآية، ويُعد مثالا لحكمها.
- فهى حوادث نزلت فيها تشريعات أحكام، ولاتفيد تبيين المجمل، ولا تخالف مدلول الآية بتخصيص أو تعميم أو تقييد.

ولكنها إذا ذكرت أمثالها وجدت مساوية لمدلولات الآيات النازلة عند حدوثها.
* مثل حديث عويمر العجلاني الذي نزلت عنه آية اللعان.
* ومثل حديث كعب بن عجرة الذي نزلت عنه آية
(فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام) الآية فقد قال كعب بن عجرة: هي لي خاصة ولكم عامة.
* ومثل قول أم سلمة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: يغزو الرجال ولا نغزو، فنزل قوله تعالى
(ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض) الآية
.
- فالحكم هنا لا يختص بالحادثة سبب النزول، فسبب النزول هنا لا يخصص وأصل التشريع لا يكون خاصا.

الثالث: هو حوادث تكثر أمثالها تختص بشخص واحد فنزلت الآية لإعلانها وبيان أحكامها وزجر من يرتكبها.
- ويعبر عنها المفسرون بقولهم: نزلت في كذا وكذا، والمراد هو التمثيل لتلك الآية لا حقيقة سبب النزول.
* ومثاله ما جاء في صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله:
((من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان)) فأنزل الله تصديق ذلك (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) الآية فدخل الأشعث بن قيس فقال: ما حدثكم أبو عبد الرحمن؟ فقالوا كذا وكذا، قال في أنزلت، لي بئر في أرض ابن عم لي الخ.
فابن مسعود جعل الآية عامة لأنه جعلها تصديقا لحديث عام؟ والأشعث بن قيس ظنها خاصة به إذ قال: في أنزلت بصيغة الحصر
.
*ومثل الآيات النازلة في المنافقين في سورة براءة المفتتحة بقوله تعالى: (ومنهم- ومنهم) ولذلك قال ابن عباس: كنا نسمي سورة التوبة سورة الفاضحة.
* ومثل قوله تعالى:
(ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم) فلا حاجة لبيان أنها نزلت لما أظهر بعض اليهود مودة المؤمنين.
- وهذا القسم قد أكثر من ذكره أهل القصص وبعض المفسرين ولا فائدة في ذكره.
- بل أن ذكره قد يوهم البعض قصر الآية على تلك الحادثة لعدم ظهور العموم من ألفاظ تلك الآيات
.

والرابع: هو حوادث حدثت وفي القرآن آيات تناسب معانيها سابقة أو لاحقة فيقع في عبارات بعض السلف ما يوهم أن تلك الحوادث هي المقصود من تلك الآيات.
- والمراد أنها مما يدخل في معنى الآية.
- ويدل لهذا النوع وجود اختلاف كثير بين الصحابة في كثير من أسباب النزول كما هو مبسوط في المسألة الخامسة من بحث أسباب النزول من الإتقان.

* ومثاله ما روي عن ابن عباس أنه قرأ قوله تعالى: (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا) بألف بعد لام السلام وقال: كان رجل في غنيمة له تصغير غنم فلحقه المسلمون فقال: (السلام عليكم فقتلوه أي ظنوه مشركا يريد أن يتقي منهم بالسلام وأخذوا غنيمته فأنزل الله في ذلك (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام) الآية.
- فالقصة وقعت لابن عباس، لكن الآية ليست نازلة فيها بخصوصها ولكن نزلت في أحكام الجهاد بدليل السباق واللحاق من السياق.

- قول الصحابي والتابعي: (نزلت هذه الآية في كذا) هل يعد من أسباب النزول:
- نقل السيوطي في الإتقان عن الزركشي، أنه يكثر عن الصحابة والتابعين قولهم: (نزلت هذه الآية في كذا).
- ولا يراد بقولهم سبب النزول، بل يراد أن الآية تتضمن هذا الحكم.
- ومثال ذلك ما ورد في صحيح البخاري بعد أن ذكر نزاع الزبير والأنصاري في ماء شراج الحرة قال الزبير: فما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك
(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) الآية.

- قول الصحابي هل يحمل على المسند أم على التفسير:
- قال ابن تيمية أن العلماء تنازعوا في قول الصحابي والتابعي ذلك، هل يحمل على المسند أم على التفسير.
- فأكثر أهل المسانيد لا يدخلونه في المسند، ويدخله البخاري فيه.
- أما إذا ذكر سببا نزلت عقبه فإنهم كلهم يدخلونه في المسند
.

الخامس: قسم يبين مجملات، ويدفع متشابهات، وقسم يبين وجه تناسب الآي بعضها مع بعض.
- فمثال الأول: مثل قوله تعالى:
(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) فإذا ظن أحد أن من للشرط أشكل عليه كيف يكون الجور في الحكم كفرا، ثم إذا علم أن سبب النزول هم النصارى علم أن من موصولة وعلم أن الذين تركوا الحكم بالإنجيل لا يتعجب منهم أن يكفروا بمحمد.
* وكذلك حديث عبد الله بن مسعود قال لما نزل قوله تعالى:
(الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا أينا لم يلبس إيمانه بظلم ظنوا أن الظلم هو المعصية. فقال رسول الله: ((إنه ليس بذلك؟ ألا تسمع لقول لقمان لابنه (إن الشرك لظلم عظيم))).

- ومثال الثاني:
(وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء) الآية، فقد تخفى الملازمة بين الشرط وجزائه فيبينها ما في الصحيح، عن عائشة أن عروة بن الزبير سألها عنها فقالت: هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله فيريد أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن في الصداق، فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن.

* نزول آيات القرآن عند الحوادث (أسباب النزول):
- القرآن هدى للناس وقد جاء بكليات تشريعية وتهذيبية.
- وتقدم نزول الآيات أو تأخرها عن الحوادث، أو مخاطبة أقوما بها في بعض حالات، أو دخول من يصلح خطابه في جملة المخاطبين به، فهو لحكمة، ولا تنافي هذه الحكمة قدرة الله على إنزاله جملة واحدة متضمنا للأحكام والشرائع.
- أما الحكمة فلأسباب منها:
- أن يكون وعي الأمة لدينها سهلا عليها.
- وليمكن تواتر الدين.
- وليكون لعلماء الأمة مزية الاستنباط.
- التعامل مع أسباب النزول:
- لا يجوز حمل كلمات القرآن على خصوصيات جزئية لأن ذلك يبطل مراد الله.
- كذلك لا يجوز تعميم ما قصد منه الخصوص ولا إطلاق ما قصد منه التقييد؛ لأن ذلك قد يفضي إلى التخليط في المراد أو إلى إبطاله من أصله.
- وقد اغتر بعض الفرق بذلك. قال ابن سيرين في الخوارج: إنهم عمدوا إلى آيات الوعيد النازلة في المشركين فوضعوها على المسلمين فجاءوا ببدعة القول بالتكفير بالذنب.
وقد قال الحرورية لعلي رضي الله عنه يوم التحكيم:
(إن الحكم إلا لله) فقال علي كلمة حق أريد بها باطل وفسرها في خطبة له في "نهج البلاغة".
- نزول القرآن عند حدوث حوادث فيه دلالة على إعجازه من ناحية الارتجال، وهي إحدى طريقتين لبلغاء العرب في أقوالهم، فنزوله على حوادث يقطع دعوى من ادعوا أنه أساطير الأولين
.




المقدمة السادسة
في القراءات

*سبب التعرض للقراءات في المقدمة:
- أشار المؤلف إلى علم القراءات فقد خصه علماؤه بالتدوين والتأليف فأوفوا، وأغنوا غيرهم عن التكلم فيه.
- وذكر أن حديثه عن هذا العلم سيكون بقدر اتصاله بعلم التفسير، ومراتب القراءات قوة وضعفا.
- ونبه إلى أنه لن يتعرض لكثير من القراءات أثناء التفسير.

*أنواع القراءات من حيث اتصالها بعلم التفسير:
- أحداهما لا تعلق له بالتفسير بحال.
- والثاني لها تعلق به من جهات متفاوتة
.

* النوع الأول: وهو اختلاف القراءات من حيث طريقة الأداء:
- ويتعلق بوجوه نطق الحروف والحركات كالمدود والإمالات ونحو ذلك، مثل (عذابيْ) بسكون الياء و(عذابيَ) بفتحها.
- وتعدد وجوه الإعراب مثل:
(حتى يقول الرسول) بفتح لام يقول وضمها،
ونحو:(لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة) برفع الأسماء الثلاثة أو فتحها أو رفع بعض وفتح بعض.
- وهذا النوع لا علاقة له بالتفسير لعدم تأثير طريقة الأداء على المعنى.

- مزية هذا النوع:
- حفظ كيفيات نطق العرب بالحروف، وبيان اختلاف لهجاتهم، وذلك بما نقله الصحابة بالأسانيد الصحيحة.
- أنه مادة كبرى لعلوم العربية، بما فيه من بيان وجوه الاعراب.
- ووجه ذلك:
* أن أئمة العربية قرأوا القرآن بلهجات العرب الذين كانوا في الأمصار التي وزعت عليها المصاحف، وهى: المدينة، ومكة، والكوفة، والبصرة، والشام، قيل واليمن والبحرين، وكان في كل مصر قراء من الصحابة الذين قرأوا كلٌ بعربية قومه في وجوه الأداء، لا في زيادة ونقص الحروف، ولا في اختلاف الإعراب مع عدم مخالفة مصحف عثمان.
* ويحتمل أن يكون القارئ الواحد قد قرأ بوجهين ليري صحتهما في العربية قصدا لحفظ اللغة مع حفظ القرآن الذي أنزل بها.
- ويرجع المؤلف ذلك إلى الاختيار في القراءات.

- ما ترتب على اختلاف القراء في القراءات اختياريا:
- نقد بعض طرق القراء، كما فعل الزمخشري وابن العربي، وإن كان في بعض النقد نظر.
- كراهة بعض الأئمة للقراءة بالإمالة مع ثبوتها عن القراء كما فعل الإمام مالك، وفيه دليل على جواز الاختيار.
- ويدلل له أيضا ما ذكره الزجاج في جواز قراءة (طسم) بفتح النون وضم الميم الأخيرة، مع أنه لم يقرأ به أحد.
- ولا يمنع ابن عاشور الاختيار في القراءات مادام أن كلمات القرآن وجمله محفوظة على نحو ما كتب في المصحف العثماني.

- القراءات في الجمع العثماني:
- الجمع العثماني جمع موافق لما قرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حمل عثمانُ الناسَ على اتباعه وترك ما خالفه وأحرقه.
- وهذا الذي فعله عثمان أجمع عليه الصحابة إلا قليلا كابن مسعود.
- ونسخ عثمان المصحف المجمع عليه، ووزعه على الأمصار، وصار ما خالفه متروكا بما يقارب الإجماع
.
- وفعل عثمان في الجمع كان متمما لفعل أبي بكر رضي الله عنه الذي جمع ما قرأ به النبي صلى الله عليه وسلم.
- قال الأصفهاني في تفسيره: ( كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة، وهي قراءة العامة التي قرأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل في العام الذي قبض فيه، ويقال إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي عرضها رسول الله على جبريل) ا.هــ.

- مصير القراءات التي خالفت الجمع:
- بقي الذين قرأوا قراءات مخالفة لمصحف عثمان يقرأون بما رووه لا ينهاهم أحد عن قراءتهم.
-وعدوهم شذاذا ولم يكتبوا قراءتهم في مصاحف بعد أن أجمع الناس على مصحف عثمان.
- ومثال ذلك ما رواه البغوي في تفسير قول الله تعالى: ( وطلح منضود)، أنه روي عن علي أنه قرأ: (وطلع منضود)، وممن نسبت إليهم قراءة مخالفة لمصحف عثمان، عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وسالم مولى أبي حذيفة، إلى أن ترك الناس ذلك تدريجا
.
- وذكر أن البعض كان يقرأ بما كتبه من مصاحف كمن قرأ بقراءة ابن مسعود، وغفل عن تلك المصاحف لقلتها.

- وقد أفرط الزمخشري في توهين بعض القراءات لمخالفتها لما اصطلح عليه النحاة وذلك من إعراضه عن معرفة الأسانيد
.

- شروط اعتبار القراءة صحيحة:
- اتفق علماء القراءات والفقهاء على وضع شروطا متى توافرت في القراءة فهى صحيحة ولا ترد، وهى:
1. موافقة العربية ولو بوجه.
2. موافقة الرسم العثماني، ويدخل فيه المصاحف الأئمة المرسلة إلى الأمصار.
3. صحة سند القراءة.
- قال أبو بكر ابن العربي: ومعنى ذلك عندي أن تواترها تبع لتواتر المصحف الذي وافقته وما دون ذلك فهو شاذ، يعني وأن تواتر المصحف ناشئ عن تواتر الألفاظ التي كتبت فيه
.
- وأوضح ابن عاشور أن هذه الشروط تتعلق بالقراءة غير المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمتى صح سندها إليه، ولم تبلغ حد التواتر فهى بمنزلة الحديث الصحيح.
- أما القراءة المتواترة فهى حجة في العربية، ويكفيها موافقة المصحف المجمع عليه.

- الاختلاف بين مصحف عثمان ومصاحف الأئمة:
- الاختلاف بين مصحف عثمان والمصاحف الأئمة المرسلة إلى الأمصار اختلافا نادرا.
- فقد قرأ جمع من أهل القراءات المتواترة: (وما هو على الغيب بظنين) بظاء مشالة أي: بمتهم، وقد كتبت في المصاحف كلها بالضاد الساقطة
.
* مثل زيادة الواو في (وسارعوا إلى مغفرة) في مصحف الكوفة.
* ومثل زيادة الفاء في قوله: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم).
* ومثل (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا) - أو (إحسانا)

- وهذا الاختلاف لا يمس علم التفسير.
- وهو اختلاف ناشئ عن القراءة بالوجهين بين الحفاظ من زمن الصحابة، وقد أُثبت في مصحف عثمان عند الجمع، فلا ينافي التواتر إذ لا تعارض، إذا كان المنقول عنه قد نطق بما نقله عنه الناقلون في زمانين أو أزمنة، أو كان قد أذن للناقلين أن يقرأوا بأحد اللفظين أو الألفاظ.

- انحصر توفر الشروط في الروايات العشر للقراء، وهم:
* نافع بن أبي نعيم المدني، وعبد الله بن كثير المكي، وأبو عمرو المازني البصري وعبد الله بن عامر الدمشقي، وعاصم بن أبي النجود الكوفي، وحمزة بن حبيب الكوفي، والكسائي علي بن حمزة الكوفي، ويعقوب بن إسحاق الحضرمي البصري، وأبو جعفر يزيد بن القعقاع المدني، وخلف البزار بزاي فألف فراء مهملة الكوفي، وهذا العاشر ليست له رواية خاصة، وإنما اختار لنفسه قراءة تناسب قراءات أئمة الكوفة، فلم يخرج عن قراءات قراء الكوفة إلا قليلا.

- حكم القراءة بما دون العشر:
- لا تجوز القراءة بما دون العشر من القراءات، ولا يؤخذ منها حكما، وهو الذي عليه مالك والشافعي.
- وعدم جواز ذلك لمخالفته المتواتر المجمع عليه في المصحف.
- ولا يجوز القراءة بالآحاد من القراءات إلا ما كان ما وقع من الصحابة الذين سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم.
- ومتى بلغ الرواي ما تواتر من القراءة وجب عليه الالتزام بها.

- تسمية غير المتواتر من القراءات بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم:
- اصطلح المفسرون على إطلاق قراءة النبي صلى الله عليه وسلم على غير المتواتر.
- وذلك لعدم نسبتها لأحد من أئمة الرواية في القراءات.
- ويكثر ذكر هذا العنوان في تفاسير ابن جرير، والزمخشري، وابن عطية وسبقهم إليه أبو الفتح ابن جني.
-ولا يظن أنها وحدها الماثورة عنه صلى الله عليه وسلم، ولا ترجح على المشهور من القراءات والتي رويت بأسانيد أقوى.
- ويرى المؤلف أنه ما كان ينبغي إطلاق وصف قراءة النبي عليها لأنه يوهم من ليسوا من أهل الفهم الصحيح أن غيرها لم يقرأ به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يرجع إلى تبجح أصحاب الرواية بمروياتهم
.

*النوع الثاني: وهو اختلاف القراءات بما له تعلق بالتفسير:
- فهو اختلاف القراء في حروف الكلمات مثل (مالك يوم الدين) (ملك يوم الدين) و(ننشرها) و(ننشزها) و(وظنوا أنهم قد كذبوا) بتشديد الذال أو بتخفيفها.
- واختلافهم في الحركات الذي يختلف معه معنى الفعل .
*كقوله (ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون) قرأ نافع بضم الصاد وقرأ حمزة بكسر الصاد،
فالأولى بمعنى يصدون غيرهم عن الإيمان، والثانية بمعنى صدودهم في أنفسهم وكلا المعنيين حاصل منهم.

- فائدة النوع الثاني من القراءات للمفسر:
- يستفاد من ذلك تفسير قراءة لقراءة غيرها ببيان المراد من تلك القراءة أو إثارة معنى جديد.
- تكثير المعاني في الآية الواحدة، ومثاله: (حتى يطهرن) بفتح الطاء المشددة والهاء المشددة، وبسكون الطاء وضم الهاء مخففة، ونحو (لامستم النساء) و(لمستم النساء).
- ولا مانع من أن يكون مجيء ألفاظ القرآن على ما يحتمل تلك الوجوه مرادا لله تعالى ليقرأ القراء بوجوه فتكثر من جراء ذلك المعاني، فيكون وجود الوجهين فأكثر في مختلف القراءات مجزئا عن آيتين فأكثر.
- تعليق: (وهذا ربما يحمل على قاعدة: تعدد القراءات بمنزلة تعدد الآيات).

- التعامل مع القراءات في الآية الواحدة:
- وجود وجهين فأكثر في الآية الواحدة يجزئ عن آيتين فأكثر.
- وهذا نظير التضمين في استعمال العرب، ونظير التورية والتوجيه في البديع، ونظير مستتبعات التراكيب في علم المعاني، وهو من زيادة ملاءمة بلاغة القرآن، ولذلك كان اختلاف القراء في اللفظ الواحد من القرآن قد يكون معه
- ولم يكن حمل أحد القراءتين على الأخرى متعينا ولا مرجحا.

- مذاهب العلماء في القراءات الورادة في الآية:
- يؤخذ من كلام أبي علي الفارسي في كتاب الحجة أنه يختار حمل معنى إحدى القراءتين على معنى الأخرى.
* ومثاله قوله في قراءة الجمهور قوله تعالى: (فإن الله هو الغني الحميد) وقراءة نافع وابن عامر (فإن الله الغني الحميد) بإسقاط هو أن من أثبت هو يحسن أن يعتبره ضمير فصل لا مبتدأ، لأنه لو كان مبتدأ لم يجز حذفه في قراءة نافع وابن عامر.
- ورده أبو حيان فقال: (وما ذهب إليه ليس بشيء لأنه بنى ذلك على توافق القراءتين وليس كذلك، ألا ترى أنه قد يكون قراءتان في لفظ واحد لكل منهما توجيه يخالف الآخر، كقراءة (والله أعلم بما وضعت) بضم التاء أو سكونها).
- يرى ابن عاشور أن المفسر عليه أن يبين اختلاف القراءات المتواترة لأن في اختلافها توفيرا لمعاني الآية غالبا فيقوم تعدد القراءات مقام تعدد كلمات القرآن.

* ثبوت اختلاف القراءات عن النبي صلى الله عليه وسلم:
- ويدل عليه حديث عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم.
- قال المؤلف، أن للعلماء في معناه أقوال ترجع إلى اعتبارين:
- أحدهما اعتبار الحديث منسوخا والآخر اعتباره محكما
.

- القول الأول: اعتبار الحديث منسوخا:
- فكان كل يقرأ بلغته، وذلك كان رخصة في صدر الإسلام، ثم نسخ بحمل الناس على لغة قريش لنزول القرآن بها.
- وبكثرة الحفظ وتيسير الكتابة زال ذلك العذر الذي جاءت فيه الرخصة.
- وهو رأي جماعة منهم: منهم أبو بكر الباقلاني وابن عبد البر وأبو بكر بن العربي والطبري والطحاوي، وينسب إلى ابن عيينة وابن وهب، وذهب ابن العربي أن الرخصة كانت مدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وظاهر كلامه أن النسخ وقع بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بإجماع الصحابة أو بوصاية منه صلى الله عليه وسلم.
- واستدلوا على ذلك بالتالي:
* قول عمر: إن القرآن نزل بلسان قريش.
* وبنهي عمر بن الخطاب عبد الله بن مسعود أن يقرأ (فتول عنهم عتى حين) وهي لغة هذيل في (حتى).
* وبقول عثمان لكتاب المصاحف فإذا اختلفتم في حرف فاكتبوه بلغة قريش فإنما نزل بلسانهم.


- المراد بالأحرف السبعة ورخصة القراءة بها وفيه ثلاثة أقوال:
- القول الأول: أن يكون المراد بالأحرف الكلمات المترادفة للمعنى الواحد، فيختار القارئ اللفظ الذي يحضره من المرادافات ليحيط بالمعنى.
- وعليه فالمراد بالسبعة أحرف: العدد، وهو قول الجمهور.
- فيكون تحديدا للرخصة بأن لا يتجاوز سبعة مرادفات أو سبع لهجات أي من سبع لغات؛ إذ لا يستقيم غير ذلك لأنه لا يتأتى في كلمة من القرآن أن يكون لها ستة مرادفات أصلا، ولا في كلمة أن يكون فيها سبع لهجات إلا كلمات قليلة مثل (أف) و(وجبريل) و(أرجه)
.

- المراد بالسبع لغات:
- قال البعض: هي من عموم لغات العرب، ومن القائلين: أبو عبيدة وابن عطية وأبو حاتم والباقلاني.
- وأما العرب المقصودة لغتهم باللغات السبع: قريش، وهذيل، وتيم الرباب، والأزد، وربيعة، وهوازن، وسعد بن بكر من هوازن، وبعضهم يعد قريشا، وبني دارم، والعليا من هوازن وهم سعد بن بكر، وجشم بن بكر، ونصر بن معاوية، وثقيف.
- قال أبو عمرو بن العلاء أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم وهم بنو دارم. وبعضهم يعد خزاعة ويطرح تميما.
- وقال البعض: هي لغات قبائل من مضر وهم قريش، وهذيل، وكنانة، وقيس، وضبة، وتيم الرباب، وأسد بن خزيمة، وكلها من مضر
. قاله أبو علي الأهوازي، وابن عبد البر، وابن قتيبة.

- القول الثاني: أن المراد بالعدد الكناية عن التعدد والتوسع لا العدد سبعة نفسه.
- قال بذلك جماعة منهم عياض.
- وكذلك المرادفات ولو من لغة واحدة كقوله: (كالعهن المنفوش) وقرأ ابن مسعود (كالصوف المنفوش).
* وقرأ أبي (كلما أضاء لهم مشوا فيه) "مروا فيه" "سعوا فيه"، وقرأ ابن مسعود (انظرونا نقتبس من نوركم) "أخرونا"، "أمهلونا".
* وأقر ابن مسعود رجل أن يقرأ: (طعام الفاجر) لعدم تمكنه من القراءة: ( طعام الأثيم).
- واختلاف عمر وهشام وقع ولغتهم واحدة.

- القول الثالث: أن المراد التوسعة في نحو (كان الله سميعا عليما) أن يقرأ عليما حكيما ما لم يخرج عن المناسبة.
- كذكره عقب آية عذاب أن يقول (وكان الله غفورا رحيما) أو عكسه .
-وإلى هذا ذهب ابن عبد البر
.

- القول الثاني: اعتبار الحديث محكما:
- وذهب العلماء فيه إلى تأويلات:
- الأول: أن المراد من الأحرف أنواع أغراض القرآن كالأمر والنهي، والحلال والحرام، أو أنواع كلامه كالخبر والإنشاء، والحقيقة والمجاز: أو أنواع دلالته كالعموم والخصوص، والظاهر والمؤول.
- القائلون به: جماعة منهم البيهقي وأبو الفضل الرازي.
- ولا يخفى أن كل ذلك لا يناسب سياق الحديث على اختلاف رواياته من قصد التوسعة والرخصة.
- وقد تكلف هؤلاء حصر ما زعموه من الأغراض ونحوها في سبعة فذكروا كلاما لا يسلم من النقض
.

- الثاني: أن المراد أنه أنزل مشتملا على سبع لغات من لغات العرب مبثوثة في آيات القرآن لكن لا على تخيير القارئ.

- القائلون به: جماعة منهم أبو عبيد وثعلب والأزهري .
- وذهبوا في تعيينها إلى نحو ما ذهب إليه القائلون بالنسخ لكنهم أرادوا أن القرآن مبثوثة فيه كلمات من تلك اللغات، على وجه التعيين لا على وجه التخيير كما ذهب الأولين إلى تخيير القارئ في الكلمة الواحدة.
- وما استدل له أصحاب القول الثاني هذا، من قول أبي هريرة في قوله تعالى: (وآتت كل واحدة منهن سكينا) ما كنا نقول إلا المدية ، وغيره مما رواه البخاري في قصة سليمان، لا يتسق مع التوسعة في الحديث ولا مع جهة العدد لأن المحققين ذكروا أن في القرآن كلمات كثيرة من لغات قبائل العرب، وأنهاها السيوطي نقلا عن أبي بكر الواسطي إلى خمسين لغة
.

- الثالث: أن المراد من الأحرف لهجات العرب في كيفيات النطق كالفتح والإمالة، والمد والقصر، والهمز والتخفيف، على معنى أن ذلك رخصة للعرب مع المحافظة على كلمات القرآن.
- وهذا أحسن الأجوبة كما ذكر المؤلف.
- وهنالك أجوبة أخرى ضعيفة لا ينبغي للعالم التعريج عليها وقد أنهى بعضهم جملة الأجوبة إلى خمسة وثلاثين جوابا
.

- قول ابن عاشور في الأحرف السبعة:
- الأحرف السبعة رخصة، يقرأ الناس بها موافقة لقراءة الرسول صلى الله عليه وسلم.
- ولم يزل الناس يتوخون بقراءتهم موافقة قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان ترتيب المصحف في زمن أبي بكر على نحو العرضة الأخيرة التي عرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجمع الصحابة في عهد أبي بكر على ذلك لعلمهم بزوال موجب الرخصة
.
- واعتقاد أن السبع أحرف الواردة في الحديث هى القراءات السبع غلط، ولم يقل به أحد من أهل العلم.
- وأجمع العلماء على خلافه كما ذكر أبو شامة، أن انحصار القراءات في سبعة لا يدل عليه دليل.

- القراءات السبع:
- اقتصر تصنيف ابن جبير المكي في القراءات على خمسة أئمة وذلك بعدد المصاحف المرسلة إلى الأمصار في عهد عثمان، كما ذكر السيوطي.

- ثم تبعه مجاهد وهو أول من جمع القراءات في سبع. ذكره ابن العربي في العواصم.
- وعَدَ مجاهد قراءة يعقوب سابعا ثم عوضها بقراءة الكسائي.
- وقراءة يعقوب من القراءات الصحيحة مثل بقية السبعة، وكذلك قراءة أبي جعفر وشيبة، كما ذكر السيوطي.

- أهمية صحة السند لقبول القراءة:

- صحة السند الذي تروى به القراءة لتكون مقبولة فهو شرط لا محيد عنه.
- وقد تكون القراءة موافقة لرسم المصحف وموافقة لوجوه العربية لكنها لا تكون مروية بسند صحيح، كما ذكر في المزهر أن حماد بن الزبرقان قرأ (إلا عن موعدة وعدها أباه) بالباء الموحدة وإنما هي (إياه) بتحتية، وغير ذلك من أمثلة، وهو لم يقرأ القرآن على أحد وإنما حفظه من المصحف
.

*مراتب القراءات الصحيحة والترجيح بينها:
- اتفق الأئمة على أن القراءات المتواترة هى ما وافقت ألفاظها ما كتب في مصحف عثمان وإن اختلفت في وجه الأداء.
- ما صح من القراءات وخرج عن متواترها:
- ما كان موافقا لرسم المصحف رسما ونطقا، واختلف فيه فهو مقبول، لكنه ليس بمتواتر.
- ومثال ما خرج عن المتواتر من القراءات قراءة ابن مسعود لمخالفتها رسم مصحف عثمان، وقراءة ابن مسعود أسانيدها من الآحاد.
- وأقوى القراءات غير المتواترة سندا ما كان له
راويان عن الصحابة.
* مثل قراءة نافع بن أبي نعيم وقد جزم ابن العربي، وابن عبد السلام التونسي، وأبو العباس بن إدريس فقيه بجاية من المالكية، والأبياري من الشافعية بأنها غير متواترة.
- وقال المؤلف: وهو الحق لأن تلك الأسانيد لا تقتضي إلا أن فلانا قرأ كذا وأن فلانا قرأ بخلافه.

- ومن قال بتواتر تلك القراءات كإمام الحرمين في البرهان، رده عليه الأبياري.
-وقال المازري في شرحه: هي متواترة عند القراء وليست متواترة عند عموم الأمة، وهذا توسط بين إمام الحرمين والأبياري، ووافق إمام الحرمين ابن سلامة الأنصاري من المالكية.
- و تنتهي أسانيد القراءات العشر إلى ثمانية من الصحابة وهم: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله من مسعود، وأبي بن كعب، وأبو الدرداء، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، فبعضها ينتهي إلى جميع الثمانية وبعضها إلى بعضهم وتفصيل ذلك في علم القرآن
.

- التواتر في وجوه الإعراب:
- وجوه الإعراب في القرآن فأكثرها متواتر إلا ما ساغ فيه إعرابان مع اتحاد المعاني.
* نحو: (ولات حين مناص) بنصب حين ورفعه، ونحو (وزلزلوا حتى يقول الرسول) بنصب (يقول) ورفعه.
- ويخرج عن تواتر الإعراب المبتدعة ، فقد أجمعت الأمةعلى رفع اسم الجلالة في قوله تعالى: (وكلم الله موسى تكليما) وقرأه بعض المعتزلة بنصب اسم الجلالة لئلا يثبتوا لله كلاما، وقرأ بعض الرافضة (وما كنت متخذ المضلين عضدا) بصيغة التثنية، وفسروها بأبي بكر وعمر حاشاهما، وقاتلهم الله
.

- ما خالف الوجوه الصحيحة في العربية:
- قال المؤلف أن فيه نظر قوي لأنا لا ثقة لنا بانحصار فصيح كلام العرب فيما صار إلى نحاة البصرة والكوفة.
- وقد أبطل المؤلف ما نحا إليه الزمخشري من اعتماد تواتر قراءات بحجة أن لها وجها في العربية ولو كان ضعيفا.
- ولو كان ذلك له وجه مرجوح، فهو لا يعدو أن يكون من الاختلاف في كيفية النطق التي لا يتأكد بها التواتر.
- وقد ألف أبو علي الفارسي كتابا سماه الحجة احتج فيه للقراءات المأثورة احتجاجا من جانب العربية
.

- الترجيح بين القراءات العشر الصحيحة المتواترة:

- قد تتفاوت بما يشتمل عليه بعضها من خصوصيات البلاغة أو الفصاحة أو كثرة المعاني أو الشهرة، وهو تمايز متقارب.
- وقل أن يكسب إحدى القراءات في تلك الآية رجحانا.
- لكن كثيرا من العلماء كان لا يرى مانعا من ترجيح قراءة على غيرها، ومن هؤلاء الإمام ابن جرير، والعلامة الزمخشري وفي أكثر ما رجح به نظر.
- ومما يرجح به المفسرون والمعربون قراءة متواترة على أخرى متواترة، كون أحداها أظهر من جهة الإعراب، وأصح في النقل، وأيس في اللفظ.
- وأجاب ابن رشد على ذلك أنه لا ينكر، ومثال لذلك، قال:
* كرواية ورش التي اختارها الشيوخ المتقدمون عندنا أي بالأندلس فكان الإمام في الجامع لا يقرأ إلا بها لما فيها من تسهيل النبرات وترك تحقيقها في جميع المواضع، وقد تؤول ذلك فيما روي عن مالك من كراهية النبر في القرآن في الصلاة
.
- والنبر المراد هنا هو إظهار الهمزة في كل موضع على الأصل، وهو ما كرهه مالك واستحب التسهيل فيه، لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الكلمات المهموزة،مثل (ياجوج وماجوج) بالألف دون الهمز.

*الترجيح بين القراءات العشر هل يفضي إلى كون المرجوحة أضعف في الإعجاز؟
- تعريف الإعجاز:
- حد الإعجاز مطابقة الكلام لجميع مقتضى الحال، وهو لا يقبل التفاوت.

- الإعجاز في القرآن يشمل القراءات المتواترة:
- ويجوز مع ذلك أن يكون بعض الكلام المعجز مشتملا على لطائف وخصوصيات تتعلق بوجوه الحسن كالجناس والمبالغة، أو تتعلق بزيادة الفصاحة، أو بالتفنن مثل (أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير).
- ويجوز أن تكون قراءة متميزة من جهة أنها البالغة غاية البلاغة، والأخرى متميزة من كونها جاءت للتوسعة والرخصة، وكلاهما لا يخرج عن الطرف الأعلى من البلاغة وهو ما يقرب حد الإعجاز.

- تحقق الإعجاز في آيات القرآن:
- الإعجاز لا يلزم أن يتحقق في كل آية من آي القرآن لأن التحدي إنما وقع بسورة مثل سور القرآن، وأقصر سورة ثلاث آيات فكل مقدار ينتظم من ثلاث آيات من القرآن يجب أن يكون مجموعه معجزا
.

* مورد المؤلف في تفسيره في التعرض للقراءات:
- الاقتصار على التعرض لاختلاف القراءات العشر المشهورة خاصة في أشهر روايات الراوين عن أصحابها لأنها متواترة، وإن كانت القراءات السبع قد امتازت على بقية القراءات بالشهرة بين المسلمين في أقطار الإسلام.
- القراءة الأولى التي يعتمدها عند التفسير: قراءة نافع برواية عيسى ابن مينا المدني الملقب بقالون.
* لأنها القراءة المدنية إماما وراويا ولأنها التي يقرأ بها معظم أهل تونس.
- ذكر خلاف بقية القراء العشرة خاصة.

- القراءات التي يقرأ بها اليوم في بلاد الإسلام من العشر:
- قراءة نافع:
* برواية قالون في بعض القطر التونسي وبعض القطر المصري، وفي ليبيا.
* وبرواية ورش في بعض القطر التونسي وبعض القطر المصري وفي جميع القطر الجزائري وجميع المغرب الأقصى، وما يتبعه من البلاد، والسودان
.
- قراءة عاصم :
*برواية حفص عنه في جميع الشرق من العراق والشام وغالب البلاد المصرية والهند وباكستان وتركيا والأفغان.
- وقيل أن
قراءة أبي عمرو البصري يقرأ بها في السودان المجاور مصر.

الحمد لله رب العالمين

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 5 صفر 1443هـ/12-09-2021م, 10:10 PM
محمد العبد اللطيف محمد العبد اللطيف غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى السابع
 
تاريخ التسجيل: Nov 2017
المشاركات: 564
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم
المجلس السادس
مجلس مذاكرة القسم الأول مقدمة تفسيرالتحرير والتنوير - الجزء الاول


فهرسة مسائل القسم الأول من مقدمة تفسير التحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور(ت:1393هـ)

مقدمة المصنف


- هدف المصنف من تأليف كتابه

هدف المصنف الى أن يبدي في تفسير القرآن نكتا لم يسبق إليها، وأن يقف موقف الحكم بين طوائف المفسرين تارة لها وآونة عليها.

- كيف يتعامل المصنف مع تفسير الأقدمين

أن يعمد إلى ما أشاده الأقدمون فيهذبه ويزيده، عالما بأن غمض فضلهم كفران للنعمة، وجحد مزايا سلفها ليس من حميد خصال الأمة.

- أهم التفاسير التي اعتمد عليها المصنف

أهم التفاسير تفسير "الكشاف" و"المحرر الوجيز" لابن عطية و"مفاتيح الغيب" لفخر الدين الرازي، "وتفسير البيضاوي" الملخص من "الكشاف" ومن "مفاتيح الغيب" بتحقيق بديع، و"تفسير الشهاب الآلوسي"، وما كتبه الطيبي والقزويني والقطب والتفتزاني على "الكشاف"، وما كتبه الخفاجي على "تفسير البيضاوي"، و"تفسير أبي السعود"، و"تفسير القرطبي" والموجود من "تفسير الشيخ محمد بن عرفة التونسي" من تقييد تلميذه الأبي وهو بكونه تعليقا على "تفسير ابن عطية" أشبه منه بالتفسير لذلك لا يأتي على جميع آي القرآن و"تفاسير الأحكام"، و"تفسير الإمام محمد ابن جرير الطبري"، وكتاب "درة التنزيل" المنسوب لفخر الدين الرازي، وربما ينسب للراغب الأصفهاني. ولقصد الاختصار يعرض عن العزو إليها.

- بيان تنوع التفاسير بناء على تنوع معاني القرآن ومقاصده

. نحا كثير من المفسرين مناحي متعدده بناء على تعدد معاني القرآن ومقاصده الموزعة على آياته فالأحكام مبينة في آيات الأحكام، والآداب في آياتها، والقصص في مواقعها، وربما اشتملت الآية الواحدة على فنين من ذلك أو أكثر تلك .

- بيان العلم الذي لم يخصه المفسرون بكتاب

إن فن دقائق البلاغة هو الذي لم يخصه أحد من المفسرين بكتاب كما خصوا الأفانين الأخرى، فينبه المؤلف على ما يلوح له من هذا الفن العظيم في آية من آي القرآن بحسب مبلغ الفهم وطاقة التدبر.

- المواضيع التى أهتم بها المصنف في تفسيره

اهتم المؤلف ببيان وجوه الإعجاز ونكت البلاغة العربية وأساليب الاستعمال، واهتم أيضا ببيان تناسب اتصال الآي بعضها ببعض، وهو منزع جليل قد عني به فخر الدين الرازي، وألف فيه برهان الدين البقاعي كتابه المسمى "نظم الدرر في تناسب الآي والسور" إلا أنهما لم يأتيا في كثير من الآي بما فيه مقنع، فلم تزل أنظار المتأملين لفصل القول تتطلع، أما البحث عن تناسب مواقع السور بعضها إثر بعض، فلا أراه حقا على المفسر.

ولم يغادر سورة إلا بينّ ما أحيط به من أغراضها لئلا يكون الناظر في تفسير القرآن مقصورا على بيان مفرداته ومعاني جمله كأنها فقر متفرقة تصرفه عن روعة انسجامه وتحجب عنه روائع جماله.

واهتم بتبيين معاني المفردات في اللغة العربية بضبط وتحقيق مما خلت عن ضبط كثير منه قواميس اللغة. وعسى أن يجد فيه المطالع تحقيق مراده، ويتناول منه فوائد ونكتا على قدر استعداده، كما بذل الجهد في الكشف عن نكت من معاني القرآن وإعجازه خلت عنها التفاسير، ومن أساليب الاستعمال الفصيح ما تصبو إليه همم النحارير،

- بيان اسم الكتاب ومختصره

سمى المؤلف كتابه "تحرير المعنى السديد، وتنوير العقل الجديد، من تفسير الكتاب المجيد" واختصر هذا الاسم باسم "التحرير والتنوير من التفسير".

ا
لمقدمة الأولى : في التفسير والتأويل وكون التفسير علما


- المعني اللغوي للتفسير

التفسير مصدر فسر بتشديد السين الذي هو مضاعف فسر بالتخفيف من بابي نصر وضرب الذي مصدره الفسر، وكلاهما فعل متعد فالتضعيف ليس للتعدية. والفسر الإبانة والكشف لمدلول كلام أو لفظ بكلام آخر هو أوضح لمعنى المفسر عند السامع، ثم قيل المصدران والفعلان متساويان في المعنى، وقيل يختص المضاعف بإبانة المعقولات، قاله الراغب وصاحب البصائر، و يرى ابن عاشور أن استفادة معنى التكثير في حال استعمال التضعيف للتعدية أمر من مستتبعات الكلام حاصل من قرينة عدول المتكلم البليغ عن المهموز. الذي هو خفيف إلى المضعف الذي هو ثقيل، فذلك العدول قرينة على المراد وكذلك الجمع بينهما في مثل كلام الكشاف قرينة على إرادة التكثير.

- موضوع علم التفسير

موضوع التفسير: ألفاظ القرآن من حيث البحث عن معانيه، وما يستنبط منه وبهذه الحيثية خالف علم القراءات لأن تمايز العلوم-كما يقولون-بتمايز الموضوعات، وحيثيات الموضوعات.

- هل يعد التفسير علما

يرى لبن عاشور آن في عد التفسير علما تسامح؛ إذ العلم إذا أطلق، إما أن يراد به نفس الإدراك، نحو قول أهل المنطق، العلم إما تصور وإما تصديق، وإما أن يراد به الملكة المسماة بالعقل وإما أن يراد به التصديق الجازم وهو مقابل الجهل وهذا غير مراد في عد العلوم وإما أن يراد بالعلم المسائل المعلومات وهي مطلوبات خبرية يبرهن عليها في ذلك العلم وهي قضايا كلية، ومباحث هذا العلم ليست بقضايا يبرهن عليها فما هي بكلية، بل هي تصورات جزئية غالبا لأنه تفسير ألفاظ أو استنباط معان.

- بيان وجوه اعتداد التفسير اللفظي لمفردات القرآن علما

الذين عدوا تفسير ألفاظ القرآن علما مستقلا فعلوا ذلك لواحد من وجوه ستة:

الأول: أن مباحثه لكونها تؤدي إلى استنباط علوم كثيرة وقواعد كلية، نزلت منزلة القواعد الكلية لأنها مبدأ لها، ومنشأ، تنزيلا للشيء منزلة ما هو شديد الشبه به بقاعدة ما قارب الشيء يعطى حكمه.
والثاني إن اشتراط كون مسائل العلم قضايا كلية يبرهن عليها في العلم خاص بالعلوم المعقولة، لأن هذا اشتراط ذكره الحكماء في تقسيم العلوم، أما العلوم الشرعية والأدبية فلا يشترط فيها ذلك، بل يكفي أن تكون مباحثها مفيدة كمالا علميا لمزاولها، والتفسير أعلاها في ذلك.
والثالث أن التعاريف اللفظية تصديقات على رأي بعض المحققين فهي تؤول إلى قضايا، وتفرع المعاني الجمة عنها نزلها منزلة الكلية، والاحتجاج عليها بشعر العرب وغيره يقوم مقام البرهان على المسألة، وهذا الوجه يشترك مع الوجه الأول في تنزيل مباحث التفسير منزلة المسائل، إلا أن وجه التنزيل في الأول راجع إلى ما يتفرع عنها، وهنا راجع إلى ذاتها مع أن التنزيل في الوجه الأول في جميع الشروط الثلاثة وهنا في شرطين، لأن كونها قضايا إنما يجيء على مذهب بعض المنطقيين.
الرابع إن علم التفسير لا يخلو من قواعد كلية في أثنائه مثل تقرير قواعد النسخ عند تفسير {ما ننسخ من آية} وتقرير قواعد التأويل عند تقرير {وما يعلم تأويله} وقواعد المحكم عند تقرير {منه آيات محكمات} فسمي مجموع ذلك وما معه علما تغليبا.
الخامس: أن حق التفسير أن يشتمل على بيان أصول التشريع وكلياته فكان بذلك حقيقا بأن يسمى علما ولكن المفسرين ابتدأوا بتقصي معاني القرآن فطفحت عليهم وحسرت دون كثرتها قواهم، فانصرفوا عن الاشتغال بانتزاع كليات التشريع إلا في مواضع قليلة.
السادس وهو الفصل: أن التفسير كان أول ما اشتغل به علماء الإسلام قبل الاشتغال بتدوين بقية العلوم، وفيه كثرت مناظراتهم. وكان يحصل من مزاولته والدربة فيه لصاحبه ملكة يدرك بها أساليب القرآن ودقائق نظمه، فكان بذلك مفيدا علوما كلية لها مزيد اختصاص بالقرآن المجيد، فمن أجل ذلك سمي علما.

- بداية التصنيف في علم التفسير وصحة المنقول منها

التفسير أول العلوم الإسلامية ظهورا، إذ قد ظهر الخوض فيه في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، إذ كان بعض أصحابه قد سأل عن بعض معاني القرآن كما سأله عمر رضي الله عنه عن الكلالة، ثم اشتهر فيه بعد من الصحابة علي وابن عباس وهما أكثر الصحابة قولا في التفسير، وزيد بن ثابت وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم، وكثر الخوض فيه، حين دخل في الإسلام من لم يكن عربي السجية، فلزم التصدي لبيان معاني القرآن لهم، وشاع عن التابعين وأشهرهم في ذلك مجاهد وابن جبير، وهو أيضا أشرف العلوم الإسلامية ورأسها على التحقيق.

وأما تصنيفه فأول من صنف فيه عبد الملك بن جريج المكي المولود سنة 80 هـ والمتوفى سنة 149 هـ صنف كتابه في تفسير آيات كثيرة وجمع فيه آثارا وغيرها وأكثر روايته عن أصحاب ابن عباس مثل عطاء ومجاهد، وصنفت تفاسير ونسبت روايتها إلى ابن عباس، لكن أهل الأثر تكلموا فيها وهي "تفسير محمد بن السائب الكلبي" المتوفى سنة 146 هـ عن أبي صالح عن ابن عباس، وقد رمي أبو صالح بالكذب حتى لقب بكلمة دروغدت بالفارسية بمعنى الكذاب وهي أوهى الروايات فإذا انضم إليها رواية محمد بن مروان السدي عن الكلبي فهي سلسلة الكذب، أرادوا بذلك أنها ضد ما لقبوه بسلسلة الذهب، وهي مالك عن نافع عن ابن عمر. وقد قيل: إن الكلبي كان من أصحاب عبد الله بن سبأ اليهودي الأصل، الذي أسلم وطعن في الخلفاء الثلاثة وغلا في حب علي بن أبي طالب، وقال: إن عليا لم يمت وأنه يرجع إلى الدنيا وقد قيل إنه ادعى إلهية علي.

وهنالك رواية مقاتل ورواية الضحاك، ورواية علي بن أبي طلحة الهاشمي كلها عن ابن عباس، وأصحها رواية علي بن أبي طلحة، وهي التي اعتمدها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه فيما يصدر به من تفسير المفردات على طريقة التعليق، وقد خرج في الإتقان، جميع ما ذكره البخاري من تفسير المفردات، عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس مرتبة على سور القرآن. والحاصل أن الرواية عن ابن عباس، قد اتخذها الوضاعون والمدلسون ملجأ لتصحيح ما يروونه كدأب الناس في نسبة كل أمر مجهول من الأخبار والنوادر، لأشهر الناس في ذلك المقصد.

وهنالك روايات تسند لعلي رضي الله عنه، أكثرها من الموضوعات، إلا ما روي بسند صحيح، مثل ما في صحيح البخاري ونحوه، لأن لعلي أفهاما في القرآن كما ورد في صحيح البخاري، عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي هل عندكم شيء من الوحي ليس في كتاب الله? فقال: لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ما أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن ثم تلاحق العلماء في تفسير القرآن وسلك كل فريق مسلكا يأوي إليه وذوقا يعتمد عليه.

فمنهم من سلك مسلك نقل ما يؤثر عن السلف، وأول من صنف في هذا المعنى، مالك ابن أنس، وكذلك الداودي تلميذ السيوطي في طبقات المفسرين، وذكره عياض في المدارك إجمالا. وأشهر أهل هذه الطريقة فيما هو بأيدي الناس محمد بن جرير الطبري.

ومنهم من سلك مسلك النظر كأبي إسحاق الزجاج وأبي علي الفارسي، وشغف كثير بنقل القصص عن الإسرائيليات، فكثرت في كتبهم الموضوعات، إلى أن جاء في عصر واحد عالمان جليلان أحدهما بالمشرق، وهو العلامة أبو القاسم محمود الزمخشري، صاحب "الكشاف"، والآخر بالمغرب بالأندلس وهو الشيخ عبد الحق بن عطية، فألف تفسيره المسمى بـ"المحرر الوجيز". كلاهما يغوص على معاني الآيات، ويأتي بشواهدها من كلام العرب ويذكر كلام المفسرين إلا أن منحى البلاغة والعربية بالزمخشري أخص، ومنحى الشريعة على ابن عطية أغلب، وكلاهما عضادتا الباب، ومرجع من بعدهما من أولي الألباب.

- الفرق بين التفسير والتأويل

جرت عادة المفسرين بالخوض في بيان معنى التأويل، وهل هو مساو للتفسير أو أخص منه أو مباين. وجماع القول في ذلك أن من العلماء من جعلهما متساويين، وإلى ذلك ذهب ثعلب وابن الأعرابي وأبو عبيدة، وهو ظاهر كلام الراغب، ومنهم من جعل التفسير للمعنى الظاهر والتأويل للمتشابه، ومنهم من قال: التأويل صرف اللفظ عن ظاهر معناه إلى معنى آخر محتمل لدليل فيكون هنا بالمعنى الأصولي، فإذا فسر قوله تعالى: {يخرج الحي من الميت} بإخراج الطير من البيضة، فهو التفسير، أو بإخراج المسلم من الكافر فهو التأويل، وهنالك أقوال أخر لا عبرة بها.

المقدمة الثانية في استمداد علم التفسير


- بيان معنى الاستمداد

استمداد العلم يراد به توقفه على معلومات سابق وجودها على وجود ذلك العلم عند مدونيه لتكون عونا لهم على إتقان تدوين ذلك العلم، وسمي ذلك في الاصطلاح بالاستمداد عن تشبيه احتياج العلم لتلك المعلومات بطلب المدد.

- بيان مجمل استمدادات علم التفسير

استمداد علم التفسير للمفسر العربي والمولد، من المجموع الملتئم من علم العربية وعلم الآثار، ومن أخبار العرب وأصول الفقه قيل وعلم الكلام وعلم القراءات.

- بيان استمداد علم التفسير من علم العربية

المراد بعلم العربية معرفة مقاصد العرب من كلامهم وأدب لغتهم سواء حصلت تلك المعرفة، بالسجية والسليقة، كالمعرفة الحاصلة للعرب الذين نزل القرآن بين ظهرانيهم، أم حصلت بالتلقي والتعلم كالمعرفة الحاصلة للمولدين الذين شافهوا بقية العرب ومارسوهم، والمولدين الذين درسوا علوم اللسان ودونوها. إن القرآن كلام عربي فكانت قواعد العربية طريقا لفهم معانيه، وبدون ذلك يقع الغلط وسوء الفهم، لمن ليس بعربي بالسليقة، ونعني بقواعد العربية مجموع علوم اللسان العربي، وهي: متن اللغة، والتصريف، والنحو، والمعاني، والبيان.

ومن وراء ذلك استعمال العرب المتبع من أساليبهم في خطبهم وأشعارهم وتراكيب بلغائهم، ويدخل في ذلك ما يجري مجرى التمثيل والاستئناس للتفسير من أفهام أهل اللسان أنفسهم لمعاني آيات غير واضحة الدلالة عند المولدين.

- بيان اهمية علمي المعاني والبيان لطالب التفسير

أورد ابن عاشور قول الشيخ عبد القاهر في "دلائل الإعجاز". في آخر فصل المجاز الحكمي: "ومن عادة قوم ممن يتعاطى التفسير بغير علم، أن يتوهموا ألباب الألفاظ الموضوعة على المجاز والتمثيل أنها على ظواهرها "أي على الحقيقة"، فيفسدوا المعنى بذلك ويبطلوا الغرض ويمنعوا أنفسهم والسامع منهم العلم بموضع البلاغة وبمكان الشرف، وناهيك بهم إذا أخذوا في ذكر الوجوه وجعلوا يكثرون في غير طائل، هنالك ترى ما شئت من باب جهل قد فتحوه، وزند ضلالة قد قدحوا به".

- بيان المراد بإستعمال العرب وعلاقته بعلم التفسير

استعمال العرب، فهو التملي من أساليبهم في خطبهم وأشعارهم وأمثالهم وعوائدهم ومحادثاتهم، ليحصل بذلك لممارسة المولد ذوق يقوم عنده مقام السليقة والسجية عند العربي القح والذوق كيفية للنفس بها تدرك الخواص والمزايا التي للكلام البليغ واضاف ابن عاشور بقوله " قال شيخنا الجد الوزير: "وهي ناشئة عن تتبع استعمال البلغاء فتحصل لغير العربي بتتبع موارد الاستعمال والتدبر في الكلام المقطوع ببلوغه غاية البلاغة، فدعوى معرفة الذوق لا تقبل إلا من الخاصة وهو يضعف ويقوى بحسب مثافنة ذلك التدبر" اهـ..
ولذلك أي لإيجاد الذوق أو تكميله لم يكن غنى للمفسر في بعض المواضع من الاستشهاد على المراد في الآية، ببيت من الشعر، أو بشيء من كلام العرب لتكميل ما عنده من الذوق، عند خفاء المعنى، ولإقناع السامع والمتعلم اللذين لم يكمل لهما الذوق في المشكلات".
ويدخل في مادة الاستعمال العربي ما يؤثر عن بعض السلف في فهم معاني بعض الآيات على قوانين استعمالهم، كما روى مالك في الموطأ عن عروة بن الزبير قال: قلت لعائشة وأنا يومئذ حديث السن: أرأيت قول الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} فما على الرجل شيء أن لا يطوف بهما، فقالت عائشة: كلا لو كان كما تقول، لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة الطاغية، وكانت مناة حذو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله عن ذلك، فأنزل الله: {إن الصفا والمروة} الآية اهـ، فبينت له ابتداء طريقة استعمال العرب لو كان المعنى كما وهمه عروة ثم بينت له مثار شبهته الناشئة عن قوله تعالى: {فلا جناح عليه} الذي ظاهره رفع الجناح عن الساعي الذي يصدق بالإباحة دون الوجوب.

- بيان استمداد علم التفسير من الاثار

معنى الآثارا، ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، من بيان المراد من بعض القرآن في مواضع الإشكال والإجمال، وذلك شيء قليل. قال ابن عطية عن عائشة ما كان رسول الله يفسر من القرآن إلا آيات معدودات علمه إياهن جبريل، قال معناه في مغيبات القرآن وتفسير مجمله مما لا سبيل إليه إلا بتوقيف، قلت: أو كان تفسير لا توقيف فيه، كما بين لعدي بن حاتم أن الخيط الأبيض والخيط الأسود هما سواد الليل وبياض النهار، وقال له: ((إنك لعريض الوسادة))، وفي رواية ((إنك لعريض القفا))، وما نقل عن الصحابة الذين شاهدوا نزول الوحي من بيان سبب النزول، وناسخ ومنسوخ، وتفسير مبهم، وتوضيح واقعة من كل ما طريقهم فيه الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم، دون الرأي وذلك مثل كون المراد من المغضوب عليهم اليهود ومن الضالين النصارى، ومثل كون المراد من قوله تعالى: {ذرني ومن خلقت وحيدا} الوليد بن المغيرة المخزومي أبا خالد بن الوليد، وكون المراد من قوله تعالى: {أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا} الآية، العاصي بن وائل السهمي في خصومته بينه وبين خباب بن الأرت كما في صحيح البخاري في تفسير سورة المدثر.

- بيان استمداد علم التفسير من علم القراءات

يرى ابن عاشورأن القراءات لا يحتاج إليها إلا في حين الاستدلال بالقراءة على تفسير غيرها، وإنما يكون في معنى الترجيح لأحد المعاني القائمة من الآية أو لاستظهار على المعنى، فذكر القراءة كذكر الشاهد من كلام العرب؛ لأنها إن كانت مشهورة، فلا جرم أنها تكون حجة لغوية، وإن كانت شاذة فحجتها لا من حيث الرواية، لأنها لا تكون صحيحة الرواية، ولكن من حيث إن قارئها ما قرأ بها إلا استنادا لاستعمال عربي صحيح، إذ لا يكون القارئ معتدا به إلا إذا عرفت سلامة عربيته، كما احتجوا على أن أصل {الحمد لله} أنه منصوب على المفعول المطلق بقراءة هارون العتكي (الحمدَ لله) بالنصب كما في الكشاف، وبذلك يظهر أن القراءة لا تعد تفسيرا من حيث هي طريق في أداء ألفاظ القرآن، بل من حيث أنها شاهد لغوي فرجعت إلى علم اللغة.

- استمداد علم التفسير من علم أخبار العرب

أخبار العرب من جملة أدبهم. وخصت بالذكر تنبيها لمن يتوهم أن الاشتغال بها من اللغو فهي يستعان بها على فهم ما أوجزه القرآن في سوقها لأن القرآن إنما يذكر القصص والأخبار للموعظة والاعتبار، لا لأن يتحادث بها الناس في الأسمار، فبمعرفة الأخبار يعرف ما أشارت له الآيات من دقائق المعاني، فنحو قوله تعالى: {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا} وقوله: {قتل أصحاب الأخدود} يتوقف على معرفة أخبارهم عند العرب.

- العلوم التي لا تدخل في استمدادات علم التفسير

لا يعد أصول الفقه من مادة التفسير، ولكنهم يذكرون أحكام الأوامر والنواهي والعموم وهي من أصول الفقه، فتحصل أن بعضه يكون مادة للتفسير، وذلك من جهتين: إحداهما أن علم الأصول قد أودعت فيه مسائل كثيرة هي من طرق استعمال كلام العرب وفهم موارد اللغة أهمل التنبيه عليها علماء العربية مثل مسائل الفحوى ومفهوم المخالفة، وقد عد الغزالي علم الأصول من جملة العلوم التي تتعلق بالقرآن وبأحكامه فلا جرم أن يكون مادة للتفسير.
الجهة الثانية: أن علم الأصول يضبط قواعد الاستنباط ويفصح عنها فهو آلة للمفسر في استنباط المعاني الشرعية من آياتها.

- بيان اساب عدم اعتبار الفقه من مادة التفسير

ولم يعد الفقه من مادة علم التفسير كما فعل السيوطي، لعدم توقف فهم القرآن، على مسائل الفقه، فإن علم الفقه متأخر عن التفسير وفرع عنه، وإنما يحتاج المفسر إلى مسائل الفقه، عند قصد التوسع في تفسيره، للتوسع في طرق الاستنباط وتفصيل المعاني تشريعا وآدابا وعلوما، ولذلك لا يكاد يحصر ما يحتاجه المتبحر في ذلك من العلوم، ويوشك أن يكون المفسر المتوسع محتاجا إلى الإلمام بكل العلوم وهذا المقام هو الذي أشار له البيضاوي بقوله: "لا يليق لتعاطيه، والتصدي للتكلم فيه، إلا من برع في العلوم الدينية كلها أصولها وفروعها وفي الصناعات العربية والفنون الأدبية بأنواعها".

- بيان العلوم التي لا تعد من استمداد علم التفسير

لا يعد من استمداد علم التفسير، الآثار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير آيات، ولا ما يروى عن الصحابة في ذلك لأن ذلك من التفسير لا من مدده، ولا يعد أيضا من استمداد التفسير ما في بعض آي القرآن من معنى يفسر بعضا آخر منها، لأن ذلك من قبيل حمل بعض الكلام على بعض، كتخصيص العموم وتقييد المطلق وبيان المجمل وتأويل الظاهر ودلالة الاقتضاء وفحوى الخطاب ولحن الخطاب، ومفهوم المخالفة.

- بيان عدم تنافي استمداد علم التفسير مع كونه رأس العلوم الاسلامية

أن استمداد علم التفسير، من هذه المواد لا ينافي كونه رأس العلوم الإسلامية كما تقدم، لأن كونه رأس العلوم الإسلامية، معناه أنه أصل لعلوم الإسلام على وجه الإجمال، فأما استمداده من بعض العلوم الإسلامية، فذلك استمداد لقصد تفصيل التفسير على وجه أتم من الإجمال.

المقدمة الثالثة : في صحة التفسير بغير المأثور ومعنى التفسير بالرأي ونحوه


- بيان حال التحذير بالقول في القرآن بالراي الوارد في الحديث

لو كان التفسير مقصورا على بيان معاني مفردات القرآن من جهة العربية لكان التفسير نزرا، ونحن نشاهد كثرة أقوال السلف من الصحابة، فمن يليهم في تفسير آيات القرآن وما أكثر ذلك الاستنباط برأيهم وعلمهم. قال الغزالي والقرطبي: لا يصح أن يكون كل ما قاله الصحابة في التفسير مسموعا من النبي صلى الله عليه وسلم لوجهين: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه من التفسير إلا تفسير آيات قليلة وهي ما تقدم عن عائشة. الثاني أنهم اختلفوا في التفسير على وجوه مختلفة لا يمكن الجمع بينها. وسماع جميعها من رسول الله محال، ولو كان بعضها مسموعا لترك الآخر، أي لو كان بعضها مسموعا لقال قائله: إنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إليه من خالفه، فتبين على القطع أن كل مفسر قال في معنى الآية بما ظهر له باستنباطه.

- بيان ادلة التفسير بالرأي من الصحابة والتابعين

روى البخاري في صحيحه عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله? قال: "لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لا أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن" إلخ وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس فقال: ((اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)) واتفق العلماء على أن المراد بالتأويل تأويل القرآن، وقد ذكر فقهاؤنا في آداب قراءة القرآن أن التفهم مع قلة القراءة أفضل من كثرة القراءة بلا تفهم، قال الغزالي في الإحياء: "التدبر في قراءته إعادة النظر في الآية والتفهم أن يستوضح من كل آية ما يليق بها كي تتكشف له من الأسرار معان مكنونة لا تتكشف إلا للموفقين قال: ومن موانع الفهم أن يكون قد قرأ تفسيرا واعتقد أن لا معنى لكلمات القرآن إلا ما تناوله النقل عن ابن عباس وابن مجاهد، وأن ما وراء ذلك تفسير بالرأي فهذا من الحجب العظيمة".

وقال فخر الدين في تفسير قوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} في سورة النساء وقد ثبت في أصول الفقه أن المتقدمين إذا ذكروا وجها في تفسير الآية فذلك لا يمنع المتأخرين من استخراج وجه آخر في تفسيرها وإلا لصارت الدقائق التي يستنبطها المتأخرون في التفسير مردودة، وذلك لا يقوله إلا مقلد خلف بضم الخاء ا هـ. وقال سفيان بن عيينة في قوله تعالى: {ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون} هي تسلية للمظلوم وتهديد للظالم، فقيل له: من قال هذا? فغضب وقال: إنما قاله من علمه يريد نفسه، وقال أبو بكر ابن العربي في العواصم إنه أملى على سورة نوح خمسمائة مسألة وعلى قصة موسى ثمانمائة مسألة.
وهل استنباط الأحكام التشريعية من القرآن في خلال القرون الثلاثة الأولى من قرون الإسلام إلا من قبيل التفسير لآيات القرآن بما لم يسبق تفسيرها به قبل ذلك? وهذا الإمام الشافعي يقول: تطلبت دليلا على حجية الإجماع فظفرت به في قوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا}.

قال شرف الدين الطيبي في شرح الكشاف في سورة الشعراء: شرط التفسير الصحيح أن يكون مطابقا للفظ من حيث الاستعمال، سليما من التكلف عريا من التعسف، وصاحب الكشاف يسمي ما كان على خلاف ذلك بدع التفاسير.

- بيان محمل ما يروى من تحاشي بعض السلف عن التفسير بغير توقيف

روي عن أبي بكر الصديق أنه سئل عن تفسير الأب في قوله {وفاكهة وأبا }. فقال: "أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأيي". ويروى عن سعيد بن المسيب والشعبي إحجامهما عن ذلك.
وأما الجواب عن الشبهة التي نشأت من الآثار المروية في التحذير من تفسير القرآن بالرأي فمرجعه إلى أحد خمسة وجوه:
أولها: أن المراد بالرأي هو القول عن مجرد خاطر دون استناد إلى نظر في أدلة العربية ومقاصد الشريعة وتصاريفها، وما لا بد منه من معرفة الناسخ والمنسوخ وسبب النزول، فهذا لا محالة إن أصاب فقد أخطأ في تصوره بلا علم، لأنه لم يكن مضمون الصواب كقول المثل: "رمية من غير رام" وهذا كمن فسر {الم} إن الله أنزل جبريل على محمد بالقرآن فإنه لا مستند لذلك، وأما ما روي عن الصديق رضي الله عنه فيما تقدم في تفسير الآية فذلك من الورع خشية الوقوع في الخطأ في كل ما لم يقم له فيه دليل أو في مواضع لم تدع الحاجة إلى التفسير فيها، ألم تر أنه سئل عن الكلالة في آية النساء فقال: أقول فيها برأي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان إلخ. وعلى هذا المحمل ما روي عن الشعبي وسعيد أي أنهما تباعدا عما يوقع في ذلك ولو على احتمال بعيد مبالغة في الورع ودفعا للاحتمال الضعيف، وإلا فإن الله تعالى ما تعبدنا في مثل هذا إلا ببذل الوسع مع ظن الإصابة.

ثانيها: أن لا يتدبر القرآن حق تدبره فيفسره بما يخطر له من بادئ الرأي دون إحاطة بجوانب الآية ومواد التفسير مقتصرا على بعض الأدلة دون بعض كأن يعتمد على ما يبدو من وجه في العربية فقط، كمن يفسر قوله تعالى: {ما أصابك من حسنة فمن الله} الآية على ظاهر معناها يقول، إن الخير من الله والشر من فعل الإنسان بقطع النظر على الأدلة الشرعية التي تقتضي أن لا يقع إلا ما أراد الله غافلا عما سبق من قوله تعالى: {قل كل من عند الله} أو بما يبدو من ظاهر اللغة دون استعمال العرب كمن يقول في قوله تعالى: {وآتينا ثمود الناقة مبصرة} فيفسر مبصرة بأنها ذات بصر لم تكن عمياء، فهذا من الرأي المذموم لفساده.

ثالثها: أن يكون له ميل إلى نزعة أو مذهب أو نحلة فيتأول القرآن على وفق رأيه ويصرفه عن المراد ويرغمه على تحمله ما لا يساعد عليه المعنى المتعارف، فيجر شهادة القرآن لتقرير رأيه ويمنعه عن فهم القرآن حق فهمه ما قيد عقله من التعصب، عن أن يجاوزه فلا يمكنه أن يخطر بباله غير مذهبه حتى إن لمع له بارق حق وبدا له معنى يباين مذهبه حمل عليه شيطان التعصب حملة وقال كيف يخطر هذا ببالك، وهو خلاف معتقدك كمن يعتقد من الاستواء على العرش التمكن والاستقرار، فإن خطر له أن معنى قوله تعالى: {القدوس} أنه المنزه عن كل صفات المحدثات حجبه تقليده عن أن يتقرر ذلك في نفسه، ولو تقرر لتوصل فهمه فيه إلى كشف معنى ثان أو ثالث، ولكنه يسارع إلى دفع ذلك عن خاطره لمناقضته مذهبه. وجمود الطبع على الظاهر مانع من التوصل للغور. كذلك تفسير المعتزلة قوله: {إلى ربها ناظرة} بمعنى أنها تنتظر نعمة ربها على أن إلى واحد الآلاء مع ما في ذلك من الخروج عن الظاهر وعن المأثور وعن المقصود من الآية.
وقالت البيانية في قوله تعالى: {هذا بيان للناس}: إنه بيان ابن سمعان كبير مذهبهم. وكانت المنصورية أصحاب أبي منصور الكسف يزعمون أن المراد من قوله تعالى: {وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم} أن الكسف إمامهم نازل من السماء، وهذا إن صح عنهم ولم يكن من ملصقات أضدادهم فهو تبديل للقرآن ومروق عن الدين.

رابعها: أن يفسر القرآن برأي مستند إلى ما يقتضيه اللفظ ثم يزعم أن ذلك هو المراد دون غيره لما في ذلك من التضييق على

خامسها: أن يكون القصد من التحذير أخذ الحيطة في التدبر والتأويل ونبذ التسرعإلى ذلك، وهذا مقام تفاوت العلماء فيه واشتد الغلو في الورع ببعضهم حتى كان لا يذكر تفسير شيء غير عازيه إلى غيره. وكان الأصمعي لا يفسر كلمة من العربية إذا كانت واقعة في القرآن، ذكر ذلك في المزهر فأبى أن يتكلم في أن سرى وأسرى بمعنى واحد، لأن أسرى ذكرت في القرآن، ولا في أن عصفت الريح وأعصفت بمعنى واحد لأنها في القرآن، وقال: الذي سمعته في معنى الخليل أنه أصفى المودة وأصمها ولا أزيد فيه شيئا لأنه في القرآن اهـ.

- بيان القول بالتفسير المأثور

إن الذين جمدوا على القول بأن تفسير القرآن يجب أن لا يعدو ما هو مأثور فهم رموا هذه الكلمة على عواهنها ولم يضبطوا مرادهم من المأثور عمن يؤثر، فإن أرادوا به ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من تفسير بعض آيات إن كان مرويا بسند مقبول من صحيح أو حسن، فإذا التزموا هذا الظن بهم فقد ضيقوا سعة معاني القرآن وينابيع ما يستنبط من علومه، وناقضوا أنفسهم فيما دونوه من التفاسير، وغلطوا سلفهم فيما تأولوه، إذ لا ملجأ لهم من الاعتراف بأن أئمة المسلمين من الصحابة فمن بعدهم لم يقصروا أنفسهم على أن يرووا ما بلغهم من تفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد سأل عمر بن الخطاب أهل العلم عن معاني آيات كثيرة ولم يشترط عليهم أن يرووا له ما بلغهم في تفسيرها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن أرادوا بالمأثور ما روي عن النبي وعن الصحابة خاصة وهو ما يظهر من صنيع السيوطي في تفسيره الدر المنثور، لم يتسع ذلك المضيق إلا قليلا ولم يغن عن أهل التفسير فتيلا، لأن أكثر الصحابة لا يؤثر عنهم في التفسير إلا شيء قليل سوى ما يروى عن علي بن أبي طالب على ما فيه من صحيح وضعيف وموضوع، وقد ثبت عنه أنه قال: ما عندي مما ليس في كتاب الله شيء إلا فهما يؤتيه الله. وما يروى عن ابن مسعود وعبد الله بن عمر وأنس وأبي هريرة. وأما ابن عباس فكان أكثر ما يروى عنه قولا برأيه على تفاوت بين رواته. وإن أرادوا بالمأثور ما كان مرويا قبل تدوين التفاسير الأول مثل ما يروى عن أصحاب ابن عباس وأصحاب ابن مسعود، فقد أخذوا يفتحون الباب من شقه، ويقربون ما بعد من الشقة، إذ لا محيص لهم من الاعتراف بأن التابعين قالوا أقوالا في معاني القرآن لم يسندوها ولا ادعوا أنها محذوفة الأسانيد، وقد اختلفت أقوالهم في معاني آيات كثيرة اختلافا ينبئ إنباء واضحا بأنهم إنما تأولوا تلك الآيات من أفهامهم كما يعلمه من له علم بأقوالهم، وهي ثابتة في تفسير الطبري ونظرائه، وقد التزم الطبري في تفسيره أن يقتصر على ما هو مروي عن الصحابة والتابعين، لكنه لا يلبث في كل آية أن يتخطى ذلك إلى اختياره منها وترجيح بعضها على بعض بشواهد من كلام العرب، وحسبه بذلك تجاوزا لما حدده من الاقتصار على التفسير بالمأثور وذلك طريق ليس بنهج، وقد سبقه إليه بقي بن مخلد ولم نقف على تفسيره، وشاكل الطبري فيه معاصروه، مثل ابن حاتم[1] وابن مردويه والحاكم، فلله در الذين لم يحبسوا أنفسهم في تفسير القرآن على ما هو مأثور مثل الفراء وأبي عبيدة من الأولين، والزجاج والرماني ممن بعدهم، ثم الذين سلكوا طريقهم مثل الزمخشري وابن عطية.

- بيان التفسير بالرأي المذموم وأدلته

يجب التنبيه إلى حال طائفة التزمت تفسير القرآن بما يوافق هواها، وصرفوا ألفاظ القرآن عن ظواهرها بما سموه الباطن، وزعموا أن القرآن إنما نزل متضمنا لكنايات ورموز عن أغراض، وأصل هؤلاء طائفة من غلاة الشيعة عرفوا عند أهل العلم بالباطنية فلقبوهم بالوصف الذي عرفوهم به، وهم يعرفون عند المؤرخين بالإسماعيلية لأنهم ينسبون مذهبهم إلى جعفر بن إسماعيل الصادق، ويعتقدون عصمته وإمامته بعد أبيه بالوصاية، ويرون أن لا بد للمسلمين من إمام هدى من آل البيت هو الذي يقيم الدين، ويبين مراد الله. ولما توقعوا أن يحاجهم العلماء بأدلة القرآن والسنة رأوا أن لا محيص لهم من تأويل تلك الحجج التي تقوم في وجه بدعتهم، وأنهم إن خصوها بالتأويل وصرف اللفظ إلى الباطن اتهمهم الناس بالتعصب والتحكم فرأوا صرف جميع القرآن عن ظاهره وبنوه على أن القرآن رموز لمعان خفية في صورة ألفاظ تفيد معاني ظاهرة ليشتغل بها عامة المسلمين، وزعموا أن ذلك شأن الحكماء، فمذهبهم مبني على قواعد الحكمة الإشراقية ومذهب التناسخ والحلولية فهو خليط من ذلك، ومن طقوس الديانات اليهودية والنصرانية وبعض طرائق الفلسفة ودين زرادشت. وعندهم أن الله يحل في كل رسول وإمام وفي الأماكن المقدسة، وأنه يشبه الخلق تعالى وتقدس وكل علوي يحل فيه الإله. وتكلفوا لتفسير القرآن بما يساعد الأصول التي أسسوها. ولهم في التفسير تكلفات ثقيلة منها قولهم أن قوله تعالى: {وعلى الأعراف رجال} أن جبلا يقال له الأعراف هو مقر أهل المعارف الذين يعرفون كلا بسيماهم. وأن قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} أي لا يصل أحد إلى الله إلا بعد جوازه على الآراء الفاسدة إما في أيام صباه، أو بعد ذلك، ثم ينجي الله من يشاء. وإن قوله تعالى: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى} أراد بفرعون القلب.

وأما روي عن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن للقرآن ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا)). وعن ابن عباس أنه قال: إن للقرآن ظهرا وبطنا. فلم يصح ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، بله المروي عن ابن عباس فمن هو المتصدي لروايته عنه? على أنهم ذكروا من بقية كلام ابن عباس أنه قال فظهره التلاوة وبطنه التأويل فقد أوضح مراده إن صح عنه بأن الظهر هو اللفظ والبطن هو المعنى. ومن تفسير الباطنية تفسير القاشاني وكثير من أقوالهم مبثوث في "رسائل إخوان الصفاء. "

- بيان اشارات الصوفية في بعض آيات القرآن

إن ما يتكلم به أهل الإشارات من الصوفية في بعض آيات القرآن من معان لا تجري على ألفاظ القرآن ظاهرا ولكن بتأويل ونحوه فينبغي أن يعلم أنهم ما كانوا يدعون أن كلامهم في ذلك تفسير للقرآن، بل يعنون أن الآية تصلح للتمثل بها في الغرض المتكلم فيه، وحسبهم في ذلك أنهم سموها إشارات ولم يسموها معاني، فبذلك فارق قولهم قول الباطنية. ولعلماء الحق فيها رأيان: فالغزالي يراها مقبولة، قال في كتاب من "الإحياء": إذا قلنا في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة)) فهذا ظاهره أو إشارته أن القلب بيت وهو مهبط الملائكة ومستقر آثارهم، والصفات الرديئة كالغضب والشهوة والحسد والحقد والعجب كلاب نابحة في القلب فلا تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب، ونور الله لا يقذفه في القلب إلا بواسطة الملائكة، فقلب كهذا لا يقذف فيه النور. وقال: ولست أقول إن المراد من الحديث بلفظ البيت القلب وبالكلب الصفة المذمومة ولكن أقول هو تنبيه عليه، وفرق بين تغيير الظاهر وبين التنبيه على البواطن من ذكر الظواهر اهـ. فبهذه الدقيقة فارق نزعة الباطنية. ومثل هذا قريب من تفسير لفظ عام في آية بخاص من جزئياته كما وقع في كتاب المغازي من صحيح البخاري عن عمرو بن عطاء في قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا} قال هم كفار قريش، ومحمد نعمة الله {وأحلوا قومهم دار البوار} قال يوم بدر.
وابن العربي في كتاب "العواصم" يرى إبطال هذه الإشارات كلها حتى أنه بعد أن ذكر نحلة الباطنية وذكر "رسائل إخوان الصفاء" أطلق القول في إبطال أن يكون للقرآن باطن غير ظاهره، وحتى أنه بعد ما نوه بالثناء على الغزالي في تصديه للرد على الباطنية والفلاسفة قال: "وقد كان أبو حامد بدرا في ظلمة الليالي، وعقدا في لبة المعالي، حتى أوغل في التصوف، وأكثر معهم التصرف، فخرج عن الحقيقة، وحاد في أكثر أقواله عن الطريقة" .

وقال ابن عاشور " إن هذه الإشارات لا تعدو واحدا من ثلاثة أنحاء: الأول ما كان يجري فيه معنى الآية مجرى التمثيل لحال شبيه بذلك المعنى كما يقولون مثلا {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} أنه إشارة للقلوب لأنها مواضع الخضوع لله تعالى إذ بها يعرف فتسجد له القلوب بفناء النفوس. ومنعها من ذكره هو الحيلولة بينها وبين المعارف اللدنية، {وسعى في خرابها} بتكديرها بالتعصبات وغلبة الهوى، فهذا يشبه ضرب المثل لحال من لا يزكي نفسه بالمعرفة ويمنع قلبه أن تدخله صفات الكمال الناشئة عنها بحال مانع المساجد أن يذكر فيها اسم الله، وذكر الآية عند تلك الحالة كالنطق بلفظ المثل، ومن هذا قولهم في حديث: ((لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب)) كما تقدم عن الغزالي.
الثاني: ما كان من نحو التفاؤل فقد يكون للكلمة معنى يسبق من صورتها إلى السمع هو غير معناها المراد وذلك من باب انصراف ذهن السامع إلى ما هو المهم عنده، والذي يجول في خاطره وهذا كمن قال في قوله تعالى: {من ذا الذي يشفع} من ذل ذي إشارة للنفس يصير من المقربين للشفعاء، فهذا يأخذ صدى موقع الكلام في السمع ويتأوله على ما شغل به قلبه. ورأيت الشيخ محيي الدين يسمي هذا النوع سماعا ولقد أبدع.
الثالث: عبر ومواعظ وشأن أهل النفوس اليقظى أن ينتفعوا من كل شيء ويأخذوا الحكمة حيث وجدوها فما ظنك بهم إذا قرأوا القرآن وتدبروه فاتعظوا بمواعظه فإذا أخذوا من قوله تعالى: {فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا} اقتبسوا أن القلب الذي لم يمتثل رسول المعارف العليا تكون عاقبته وبالا.
ومن حكاياتهم في غير باب التفسير أن بعضهم مر برجل يقول لآخر: هذا العود لا ثمرة فيه فلم يعد صالحا إلا للنار، فجعل يبكي ويقول: إذن فالقلب غير المثمر لا يصلح إلا للنار.
فنسبة الإشارة إلى لفظ القرآن مجازية لأنها إنما تشير لمن استعدت عقولهم وتدبرهم في حال من الأحوال الثلاثة ولا ينتفع بها غير أولئك، فلما كانت آيات القرآن قد أنارت تدبرهم وأثارت اعتبارهم نسبوا تلك الإشارة للآية. فليست تلك الإشارة هي حق الدلالة اللفظية والاستعمالية حتى تكون من لوازم اللفظ وتوابعه كما قد تبين. وكل إشارة خرجت عن حد هذه الثلاثة الأحوال إلى ما عداها فهي تقترب إلى قول الباطنية رويدا رويدا إلى أن تبلغ عين مقالاتهم وقد بصرناكم بالحد الفارق بينهما، فإذا رأيتم اختلاطه فحققوا مناطه، وفي أيديكم فيصل الحق فدونكم

- بيان الفرق بين الاشارة الواردة عند الصوفية وما جاء في علم الاصول

ليس من الإشارة ما يعرف في الأصول بدلالة الإشارة، وفحوى الخطاب، وفهم الاستغراق من لام التعريف في المقام الخطابي، ودلالة التضمن والالتزام كما أخذ العلماء من تنبيهات القرآن استدلالا لمشروعية أشياء، كاستدلالهم على مشروعية الوكالة من قوله تعالى: {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه} ومشروعية الضمان من قوله: {وأنا به زعيم}. ومشروعية القياس من قوله: {لتحكم بين الناس بما أراك الله} ولا بما هو بالمعنى المجازي نحو {يا جبال أوبي معه} {فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين} ولا ما هو من تنزيل الحال منزلة المقال نحو: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} لأن جميع هذا مما قامت فيه الدلالة العرفية مقام الوضعية واتحدت في إدراكه أفهام أهل العربية فكان من المدلولات التبعية.

قال في الكشاف: وكم من آية أنزلت في شأن الكافرين وفيها أوفر نصيب للمؤمنين تدبرا لها واعتبارا بموردها. يعني أنها في شأن الكافرين من دلالة العبارة وفي شأن المؤمنين من دلالة الإشارة.

- بيان أهمية خطر أمر التفسير

إن واجب النصح في الدين والتنبيه إلى ما يغفل عنه المسلمون مما يحسبونه هينا وهو عند الله عظيم قضي علي أن أنبه إلى خطر أمر تفسير الكتاب والقول فيه دون مستند من نقل صحيح عن أساطين المفسرين أو إبداء تفسير أو تأويل من قائله إذا كان القائل توفرت فيه شروط الضلاعة في العلوم التي يحتاجها المفسر.

وإن تهافت كثير من الناس على الخوض في تفسير آيات من القرآن فمنهم من يتصدى لبيان معنى الآيات على طريقة كتب التفسير ومنهم من يضع الآية ثم يركض في أساليب المقالات تاركا معنى الآية جانبا، جالبا من معاني الدعوة والموعظة ما كان جالبا، وقد دلت شواهد الحال على ضعف كفاية البعض لهذا العمل العلمي الجليل فيجب على العاقل أن يعرف قدره، وأن لا يتعدى طوره، وأن يرد الأشياء إلى أربابها، كي لا يختلط الخاثر بالزباد، ولا يكون في حالك سواد، وإن سكوت العلماء على ذلك زيادة في الورطة، وإفحاش لأهل هذه الغلطة، فمن يركب متن عمياء، ويخبط خبط عشواء، فحق على أساطين العلم تقويم اعوجاجه، وتمييز حلوه من أجاجه، تحذيرا للمطالع، وتنزيلا في البرج والطالع.

المقدمة الرابعة : فيما يحق أن يكون غرض المفسر


- بيان المقصد الاعلى لنزول للقرآن

إن القرآن أنزله الله تعالى كتابا لصلاح أمر الناس كافة رحمة لهم لتبليغهم مراد الله منهم قال الله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} فكان المقصد الأعلى منه صلاح الأحوال الفردية، والجماعية، والعمرانية. فالصلاح الفردي يعتمد تهذيب النفس وتزكيتها، ورأس الأمر فيه صلاح الاعتقاد لأن الاعتقاد مصدر الآداب والتفكير، ثم صلاح السريرة الخاصة، وهي العبادات الظاهرة كالصلاة، والباطنة كالتخلق بترك الحسد والحقد والكبر. وأما الصلاح الجماعي فيحصل أولا من الصلاح الفردي إذ الأفراد أجزاء المجتمع، ولا يصلح الكل إلا بصلاح أجزائه، ومن شيء زائد على ذلك وهو ضبط تصرف الناس بعضهم مع بعض على وجه يعصمهم من مزاحمة الشهوات ومواثبة القوى النفسانية. وهذا هو علم المعاملات، ويعبر عنه عند الحكماء بالسياسة المدنية. وأما الصلاح العمراني فهو أوسع من ذلك إذ هو حفظ نظام العالم الإسلامي، وضبط تصرف الجماعات والأقاليم بعضهم مع بعض على وجه يحفظ مصالح الجميع، ورعي المصالح الكلية الإسلامية، وحفظ المصلحة الجامعة عند معارضة المصلحة القاصرة لها، ويسمى هذا بعلم العمران وعلم الاجتماع.
إن القرآن أنزله الله تعالى كتابا لصلاح أمر الناس كافة رحمة لهم لتبليغهم مراد الله منهم قال الله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} فكان المقصد الأعلى منه صلاح الأحوال الفردية، والجماعية، والعمرانية. فالصلاح الفردي يعتمد تهذيب النفس وتزكيتها، ورأس الأمر فيه صلاح الاعتقاد لأن الاعتقاد مصدر الآداب والتفكير، ثم صلاح السريرة الخاصة، وهي العبادات الظاهرة كالصلاة، والباطنة كالتخلق بترك الحسد والحقد والكبر. وأما الصلاح الجماعي فيحصل أولا من الصلاح الفردي إذ الأفراد أجزاء المجتمع، ولا يصلح الكل إلا بصلاح أجزائه، ومن شيء زائد على ذلك وهو ضبط تصرف الناس بعضهم مع بعض على وجه يعصمهم من مزاحمة الشهوات ومواثبة القوى النفسانية. وهذا هو علم المعاملات، ويعبر عنه عند الحكماء بالسياسة المدنية. وأما الصلاح العمراني فهو أوسع من ذلك إذ هو حفظ نظام العالم الإسلامي، وضبط تصرف الجماعات والأقاليم بعضهم مع بعض على وجه يحفظ مصالح الجميع، ورعي المصالح الكلية الإسلامية، وحفظ المصلحة الجامعة عند معارضة المصلحة القاصرة لها، ويسمى هذا بعلم العمران وعلم الاجتماع.

فمراد الله من كتابه هو بيان تصاريف ما يرجع إلى حفظ مقاصد الدين وقد أودع ذلك في ألفاظ القرآن التي خاطبنا بها خطابا بينا وتعبدنا بمعرفة مراده والاطلاع عليه فقال: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} سواء قلنا إنه يمكن الاطلاع على تمام مراد الله تعالى وهو قول علمائنا والمشائخي والسكاكي وهما من المعتزلة، أم قال قائل بقول بقية المعتزلة إن الاطلاع على تمام مراد الله تعالى غير ممكن وهو خلاف لا طائل تحته إذ القصد هو الإمكان الوقوعي لا العقلي، فلا مانع من التكليف باستقصاء البحث عنه بحسب الطاقة ومبلغ العلم مع تعذر الاطلاع على تمامه.

- بيان نزول القرآن باللسان العربي

وقد اختار الله تعالى أن يكون اللسان العربي مظهرا لوحيه، ومستودعا لمراده، وأن يكون العرب هم المتلقين أولا لشرعه وإبلاغ مراده لحكمة علمها: منها كون لسانهم أفصح الألسن وأسهلها انتشارا، وأكثرها تحملا للمعاني مع إيجاز لفظه، ولتكون الأمة المتلقية للتشريع والناشرة له أمة قد سلمت من أفن الرأي عند المجادلة، ولم تقعد بها عن النهوض أغلال التكالب على الرفاهية، ولا عن تلقي الكمال الحقيقي إذ يسبب لها خلطه بما يجر إلى اضمحلاله فيجب أن تعلموا قطعا أن ليس المراد من خطاب العرب بالقرآن أن يكون التشريع قاصرا عليهم أو مراعيا لخاصة أحوالهم، بل إن عموم الشريعة ودوامها وكون القرآن معجزة دائمة مستمرة على تعاقب السنين ينافي ذلك، نعم إن مقاصده تصفية نفوس العرب الذين اختارهم كما قلنا لتلقي شريعته وبثها ونشرها، فهم المخاطبون ابتداء قبل بقية أمة الدعوة فكانت أحوالهم مرعية لا محالة، وكان كثير من القرآن مقصودا به خطابهم خاصة، وإصلاح أحوالهم قال تعالى: {ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا} وقال {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم} لكن ليس ذلك بوجه للاقتصار على أحوالهم.

- بيان مقاصد القرآن الاصلية

أليس قد وجب على الآخذ في هذا الفن أن يعلم المقاصد الأصلية التي جاء القرآن لتبيانها فلنلم بها الآن بحسب ما بلغ إليه استقراؤنا وهي ثمانية أمور:

الأول: إصلاح الاعتقاد وتعليم العقد الصحيح. وهذا أعظم سبب لإصلاح الخلق، لأنه يزيل عن النفس عادة الإذعان لغير ما قام عليه الدليل، ويطهر القلب من الأوهام الناشئة عن الإشراك والدهرية وما بينهما، وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى: {فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب} فأسند لآلهتهم زيادة تتبيبهم، وليس هو من فعل الآلهة ولكنه من آثار الاعتقاد بالآلهة.

الثاني: تهذيب الأخلاق قال تعالى {وإنك لعلى خلق عظيم}.
وفسرت عائشة رضي الله تعالى عنها لما سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن. وفي الحديث الذي رواه مالك في الموطأ بلاغا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بعثت لأتمم مكارم حسن الأخلاق)) وهذا المقصد قد فهمه عامة العرب بله خاصة الصحابة.

الثالث: التشريع وهو الأحكام خاصة وعامة. قال تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله} ولقد جمع القرآن جميع الأحكام جمعا كليا في الغالب، وجزئيا في المهم، فقوله: {تبيانا لكل شيء} وقوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} المراد بهما إكمال الكليات التي منها الأمر بالاستنباط والقياس. قال الشاطبي لأنه على اختصاره جامع والشريعة تمت بتمامه ولا يكون جامعا لتمام الدين إلا والمجموع فيه أمور كلية.

الرابع: سياسة الأمة وهو باب عظيم في القرآن القصد منه صلاح الأمة وحفظ نظامها كالإرشاد إلى تكوين الجامعة بقوله: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها} وقوله: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} وقوله: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} وقوله: {وأمرهم شورى بينهم}.

الخامس: القصص وأخبار الأمم السالفة للتأسي بصالح أحوالهم قال: {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين} {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} وللتحذير من مساويهم قال: {وتبين لكم كيف فعلنا بهم} وفي خلالها تعليم، وكنا أشرنا إليها في المقدمة الثانية.

السادس: التعليم بما يناسب حالة عصر المخاطبين، وما يؤهلهم إلى تلقي الشريعة ونشرها وذلك علم الشرائع وعلم الأخبار وكان ذلك مبلغ علم مخالطي العرب من أهل الكتاب. وقد زاد القرآن على ذلك تعليم حكمة ميزان العقول وصحة الاستدلال في أفانين مجادلاته للضالين وفي دعوته إلى النظر، ثم نوه بشأن الحكمة فقال: {يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} وهذا أوسع باب انبجست منه عيون المعارف، وانفتحت به عيون الأميين إلى العلم. وقد لحق به التنبيه المتكرر على فائدة العلم، وذلك شيء لم يطرق أسماع العرب من قبل، إنما قصارى علومهم أمور تجريبية، وكان حكماؤهم أفرادا اختصوا بفرط ذكاء تضم إليه تجربة وهم العرفاء فجاء القرآن بقوله: {وما يعقلها إلا العالمون} {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} وقال {ن * والقلم} فنبه إلى مزية الكتابة.

السابع: المواعظ والإنذار والتحذير والتبشير، وهذا يجمع جميع آيات الوعد والوعيد، وكذلك المحاجة والمجادلة للمعاندين، وهذا باب الترغيب والترهيب.
الثامن: الإعجاز بالقرآن ليكون آية دالة على صدق الرسول؛ إذ التصديق يتوقف على دلالة المعجزة بعد التحدي، والقرآن جمع كونه معجزة بلفظه ومتحدي لأجله بمعناه والتحدي وقع فيه {قل فأتوا بسورة مثله} ولمعرفة أسباب النزول مدخل في ظهور مقتضى الحال ووضوحه. هذا ما بلغ إليه استقرائي. وللغزالي في إحياء علوم الدين بعض من ذلك.

- بيان طرائق المفسرين للقرآن

فغرض المفسر بيان ما يصل إليه أو ما يقصده من مراد الله تعالى في كتابه بأتم بيان يحتمله المعنى ولا يأباه اللفظ من كل ما يوضح المراد من مقاصد القرآن، أو ما يتوقف عليه فهمه أكمل فهم، أو يخدم المقصد تفصيلا وتفريعا كما أشرنا إليه في المقدمة الأولى، مع إقامة الحجة على ذلك إن كان به خفاء، أو لتوقع مكابرة من معاند أو جاهل، فلا جرم كان رائد المفسر في ذلك أن يعرف على الإجمال مقاصد القرآن مما جاء لأجله، ويعرف اصطلاحه في إطلاق الألفاظ، وللتنزيل اصطلاح وعادات، وتعرض صاحب الكشاف إلى شيء من عادات القرآن في متناثر كلامه في تفسيره.

فطرائق المفسرين للقرآن ثلاث، إما الاقتصار على الظاهر من المعنى الأصلي للتركيب مع بيانه وإيضاحه وهذا هو الأصل. وإما استنباط معان من وراء الظاهر تقتضيها دلالة اللفظ أو المقام ولا يجافيها الاستعمال ولا مقصد القرآن، وتلك هي مستتبعات التراكيب وهي من خصائص اللغة العربية المبحوث فيها في علم البلاغة ككون التأكيد يدل على إنكار المخاطب أو تردده، وكفحوى الخطاب ودلالة الإشارة واحتمال المجاز مع الحقيقة، وإما أن يجلب المسائل ويبسطها لمناسبة بينها وبين المعنى، أو لأن زيادة فهم المعنى متوقفة عليها، أو للتوفيق بين المعنى القرآني وبين بعض العلوم مما له تعلق بمقصد من مقاصد التشريع لزيادة تنبيه إليه، أو لرد مطاعن من يزعم أنه ينافيه لا على أنها مما هو مراد الله من تلك الآية بل لقصد التوسع.

ففي الطريقة الثانية قد فرع العلماء وفصلوا في الأحكام، وخصوها بالتآليف الواسعة، وكذلك تفاريع الأخلاق والآداب التي أكثر منها حجة الإسلام الغزالي في كتاب الإحياء فلا يلام المفسر إذا أتى بشيء من تفاريع العلوم مما له خدمة للمقاصد القرآنية، وله مزيد تعلق بالأمور الإسلامية كما نفرض أن يفسر قوله تعالى: {وكلم الله موسى تكليما} بما ذكره المتكلمون في إثبات الكلام النفسي والحجج لذلك، والقول في ألفاظ القرآن وما قاله أهل المذاهب في ذلك. وكذا أن يفسر ما حكاه الله تعالى في قصة موسى مع الخضر بكثير من آداب المعلم والمتعلم كما فعل الغزالي. وقد قال ابن العربي إنه أملى عليها ثمانمائة مسألة. وكذلك تقرير مسائل من علم التشريع لزيادة بيان قوله تعالى في خلق الإنسان: {من نطفة ثم من علقة} الآيات، فإنه راجع إلى المقصد وهو مزيد تقرير عظمة القدرة الإلهية.

وفي الطريقة الثالثة تجلب مسائل علمية من علوم لها مناسبة بمقصد الآية: إما على أن بعضها يومئ إليه معنى الآية ولو بتلويح ما كما يفسر أحد قوله تعالى: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} فيذكر تقسيم علوم الحكمة ومنافعها مدخلا ذلك تحت قوله: {خيرا كثيرا} فالحكمة وإن كانت علما اصطلاحيا وليس هو تمام المعنى للآية إلا أن معنى الآية الأصلي لا يفوت وتفاريع الحكمة تعين عليه. وكذلك أن نأخذ من قوله تعالى: {كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم} تفاصيل من علم الاقتصاد السياسي وتوزيع الثروة العامة ونعلل بذلك مشروعية الزكاة والمواريث والمعاملات المركبة من رأس مال وعمل على أن ذلك تومئ إليه الآية إيماء. وأن بعض مسائل العلوم قد تكون أشد تعلقا بتفسير آي القرآن كما نفرض مسألة كلامية لتقرير دليل قرآني مثل برهان التمانع لتقرير معنى قوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}. وكتقرير مسألة المتشابه لتحقيق معنى نحو قوله تعالى { والسماء بنيناها بأيد} فهذا كونه من غايات التفسير واضح، وكذا قوله تعالى: {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج} فإن القصد منه الاعتبار بالحالة المشاهدة فلو زاد المفسر ففصل تلك الحالة وبين أسرارها وعللها بما هو مبين في علم الهيئة كان قد زاد المقصد خدمة.
وإما على وجه التوفيق بين المعنى القرآني وبين المسائل الصحيحة من العلم حيث يمكن الجمع. وإما على وجه الاسترواح من الآية كما يؤخذ من قوله تعالى: {ويوم نسير الجبال} أن فناء العالم يكون بالزلازل ومن قوله: {إذا الشمس كورت} الآية أن نظام الجاذبية يختل عند فناء العالم. وشرط كون ذلك مقبولا أن يسلك فيه مسلك الإيجاز فلا يجلب إلا الخلاصة من ذلك العلم ولا يصير الاستطراد كالغرض المقصود له لئلا يكون كقولهم: الشيء بالشيء يذكر.

- بيان آراء العلماء في علاقة العلوم بالمعاني القرآنية

وللعلماء في سلوك هذه الطريقة الثالثة على الإجمال آراء: فأما جماعة منهم فيرون من الحسن التوفيق بين العلوم غير الدينية وآلاتها وبين المعاني القرآنية، ويرون القرآن مشيرا إلى كثير منها. قال ابن رشد الحفيد في فصل المقال: أجمع المسلمون على أن ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشرع كلها على ظاهرها، ولا أن تخرج كلها عن ظاهرها بالتأويل، والسبب في ورود الشرع بظاهر وباطن هو اختلاف نظر الناس. وتباين قرائحهم في التصديق وتخلص إلى القول بأن بين العلوم الشرعية والفلسفية اتصالا. وإلى مثل ذلك ذهب قطب الدين الشيرازي في شرح حكمة الإشراق، وهذا الغزالي والإمام الرازي وأبو بكر ابن العربي وأمثالهم صنيعهم يقتضي التبسط وتوفيق المسائل العلمية، فقد ملأوا كتبهم من الاستدلال على المعاني القرآنية بقواعد العلوم الحكمية وغيرها وكذلك الفقهاء في كتب "أحكام القرآن"، وقد علمت ما قاله ابن العربي فيما أملاه على سورة نوح وقصة الخضر وكذلك ابن جني والزجاج وأبو حيان قد أشبعوا "تفاسيرهم" من الاستدلال على القواعد العربية، ولا شك أن الكلام الصادر عن علام الغيوب تعالى وتقدس لا تبنى معانيه على فهم طائفة واحدة ولكن معانيه تطابق الحقائق، وكل ما كان من الحقيقة في علم من العلوم وكانت الآية لها اعتلاق بذلك فالحقيقة العلمية مرادة بمقدار ما بلغت إليه أفهام البشر وبمقدار ما ستبلغ إليه. وذلك يختلف باختلاف المقامات ويبنى على توفر الفهم، وشرطه أن لا يخرج عما يصلح له اللفظ عربية، ولا يبعد عن الظاهر إلا بدليل، ولا يكون تكلفا بينا ولا خروجا عن المعنى الأصلي حتى لا يكون في ذلك كتفاسير الباطنية.
وأما أبو إسحاق الشاطبي فقال في الفصل الثالث من المسألة الرابعة: لا يصح في مسلك الفهم والإفهام إلا ما يكون عاما لجميع العرب. فلا يتكلف فيه فوق ما يقدرون عليه وقال في المسألة الرابعة من النوع الثاني: "ما تقرر من أمية الشريعة وأنها جارية على مذاهب أهلها وهم العرب تنبني عليه قواعد، منها: أن كثيرا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين من علوم الطبيعيات والتعاليم والمنطق وعلم الحروف وأشباهها وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح فإن السلف الصالح كانوا أعلم بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه، ولم يبلغنا أن أحدا منهم تكلم في شيء من هذا سوى ما ثبت فيه من أحكام التكاليف وأحكام الآخرة. نعم تضمن علوما من جنس علوم العرب وما هو على معهودها مما يتعجب منه أولو الألباب ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة" إلخ. وهذا مبني على ما أسسه من كون القرآن لما كان خطابا للأميين وهم العرب فإنما يعتمد في مسلك فهمه وإفهامه على مقدرتهم وطاقتهم، وأن الشريعة أمية. وهو أساس واه لوجوه ستة: الأول أن ما بناه عليه يقتضي أن القرآن لم يقصد منه انتقال العرب من حال إلى حال وهذا باطل لما قدمناه، قال تعالى: {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا}. الثاني أن مقاصد القرآن راجعة إلى عموم الدعوة وهو معجزة باقية فلا بد أن يكون فيه ما يصلح لأن تتناوله أفهام من يأتي من الناس في عصور انتشار العلوم في الأمة. الثالث أن السلف قالوا: إن القرآن لا تنقضي عجائبه يعنون معانيه ولو كان كما قال الشاطبي لانقضت عجائبه بانحصار أنواع معانيه. الرابع أن من تمام إعجازه أن يتضمن من المعاني مع إيجاز لفظه ما لم تف به الأسفار المتكاثرة. الخامس أن مقدار أفهام المخاطبين به ابتداء لا يقضي إلا أن يكون المعنى الأصلي مفهوما لديهم فأما مازاد على المعاني الأساسية فقد يتهيأ لفهمه أقوام، وتحجب عنه أقوام، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. السادس أن عدم تكلم السلف عليها إن كان فيما ليس راجعا إلى مقاصده فنحن نساعد عليه، وإن كان فيما يرجع إليها فلا نسلم وقوفهم فيها عند ظواهر الآيات بل قد بينوا وفصلوا وفرعوا في علوم عنوا بها، ولا يمنعنا ذلك أن نقفي على آثارهم في علوم أخرى راجعة لخدمة المقاصد القرآنية أو لبيان سعة العلوم الإسلامية، أما ما وراء ذلك فإن كان ذكره لإيضاح المعنى فذلك تابع للتفسير أيضا. لأن العلوم العقلية إنما تبحث عن أحوال الأشياء على ما هي عليه، وإن كان فيما زاد على ذلك فذلك ليس من التفسير لكنه تكملة للمباحث العلمية واستطراد في العلم لمناسبة التفسير ليكون متعاطي التفسير أوسع قريحة في العلوم.
وذهب ابن العربي في "العواصم" إلى إنكار التوفيق بين العلوم الفلسفية والمعاني القرآنية ولم يتكلم على غير هاته العلوم وذلك على عادته في تحقير الفلسفة لأجل ما خولطت به من الضلالات الاعتقادية وهو مفرط في ذلك مستخف بالحكماء.

- رآي ابن عاشور في علاقة العلوم بالقرآن

وأنا أقول: إن علاقة العلوم بالقرآن على أربع مراتب:
الأولى: علوم تضمنها القرآن كأخبار الأنبياء والأمم، وتهذيب الأخلاق والفقه والتشريع والاعتقاد والأصول والعربية والبلاغة.
الثانية: علوم تزيد المفسر علما كالحكمة والهيئة وخواص المخلوقات.
الثالثة: علوم أشار إليها أو جاءت مؤيدة له كعلم طبقات الأرض والطب والمنطق.
الرابعة: علوم لا علاقة لها به إما لبطلانها كالزجر والعيافة والميثولوجيا، وإما لأنها لا تعين على خدمته كعلم العروض والقوافي.

المقدمة الخامسة في أسباب النزول


- بيان معنى أسباب النزول

أسباب نزول آي القرآن، وهي حوادث يروى أن آيات من القرآن نزلت لأجلها لبيان حكمها أو لحكايتها أو إنكارها أو نحو ذلك، وزاد بعض من كتب في هذا الباب وأكثروا حتى كاد بعضهم أن يوهم الناس أن كل آية من القرآن نزلت على سبب، وحتى رفعوا الثقة بما ذكروا. بيد أنا نجد في بعض آي القرآن إشارة إلى الأسباب التي دعت إلى نزولها ونجد لبعض الآي أسبابا ثبتت بالنقل دون احتمال أن يكون ذلك رأي الناقل، فكان أمر أسباب نزول القرآن دائرا بين القصد والإسراف، وكان في غض النظر عنه وإرسال حبله على غاربه خطر عظيم في فهم القرآن. فذلك الذي دعاني إلى خوض هذا الغرض في مقدمات التفسير لظهور شدة الحاجة إلى تمحيصه في أثناء التفسير، وللاستغناء عن إعادة الكلام عليه عند عروض تلك المسائل، غير مدخر ما أراه في ذلك رأيا يجمع شتاتها.

- بيان ما يقبل في تأليف المتقدمين في أسباب النزول وما لا يقبل

هناك عذر للمتقدمين الذين ألفوا في أسباب النزول فاستكثروا منها، بأن كل من يتصدى لتأليف كتاب في موضوع غير مشبع تمتلكه محبة التوسع فيه فلا ينفك يستزيد من ملتقطاته ليذكي قبسه، ويمد نفسه، فيرضى بما يجد رضى الصب بالوعد، ويقول زدني من حديثك يا سعد. غير هياب لعاذل، ولا متطلب معذرة عاذر، وكذلك شأن الولع إذا امتلك القلب ولكني لا لعذر لاساطين المفسرين الذين تلقفوا الروايات الضعيفة فأثبتوها في كتبهم ولم ينبهوا على مراتبها قوة وضعفا، حتى أوهموا كثيرا من الناس أن القرآن لا تنزل آياته إلا لأجل حوادث تدعو إليها، وبئس هذا الوهم فإن القرآن جاء هاديا إلى ما به صلاح الأمة في أصناف الصلاح فلا يتوقف نزوله على حدوث الحوادث الداعية إلى تشريع الأحكام. نعم إن العلماء توجسوا منها فقالوا: إن سبب النزول لا يخصص، إلا طائفة شاذة ادعت التخصيص بها، ولو أن أسباب النزول كانت كلها متعلقة بآيات عامة لما دخل من ذلك ضر على عمومها إذ قد أراحنا أئمة الأصول حين قالوا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ولكن أسبابا كثيرة رام رواتها تعيين مراد من تخصيص عام أو تقييد مطلق أو إلجاء إلى محمل، فتلك هي التي قد تقف عرضة أمام معاني التفسير قبل التنبيه على ضعفها أو تأويلها. وقد قال الواحدي في أول كتابه في أسباب النزول: "أما اليوم فكل أحد يخترع للآية سببا، ويختلق إفكا وكذبا، ملقيا زمامه إلى الجهالة، غير مفكر في الوعيد" وقال: "لا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل".

- أسباب النزول التي لا غنى للمفسر عن علمها

إن من أسباب النزول ما ليس المفسر بغنى عن علمه لأن فيها بيان مجمل أو إيضاح خفي وموجز، ومنها ما يكون وحده تفسيرا. ومنها ما يدل المفسر على طلب الأدلة التي بها تأويل الآية أو نحو ذلك. ففي صحيح البخاري أن مروان بن الحكم أرسل إلى ابن عباس يقول لئن كان كل امرئ فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون يشير إلى قوله تعالى: (لا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم) فأجاب ابن عباس قائلا: "إنما دعا النبي اليهود فسألهم على شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فأروه أنهم قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما أتوا من كتمانهم"، ثم قرأ ابن عباس: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون لا يحسبن الذين يفرحون) الآيات. وفي الموطأ عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه أنه قال: قلت لعائشة أم المؤمنين وأنا يومئذ حديث السن: أرأيت قول الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} فما على الرجل شيء ألا يطوف بهما، قالت عائشة: كلا، لو كان كما تقول لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله عن ذلك فأنزل الله تعالى {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} اهـ.
ومنها ما ينبه المفسر إلى إدراك خصوصيات بلاغية تتبع مقتضى المقامات فإن من أسباب النزول ما يعين على تصوير مقام الكلام.

- بيان أقسام أسباب النزول

قسّم المصنف اسباب النزول الى خمسة أقسام:

الأول: هو المقصود من الآية يتوقف فهم المراد منها على علمه فلابد من البحث عنه للمفسر، وهذا منه تفسير مبهمات القرآن مثل قوله تعالى {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} ونحو {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا} ومثل بعض الآيات التي فيها {ومن الناس}.

والثاني: هو حوادث تسببت عليها تشريعات أحكام وصور تلك الحوادث لا تبين مجملا ولا تخالف مدلول الآية بوجه تخصيص أو تعميم أو تقييد، ولكنها إذا ذكرت أمثالها وجدت مساوية لمدلولات الآيات النازلة عند حدوثها، مثل حديث عويمر العجلاني الذي نزلت عنه آية اللعان، ومثل حديث كعب بن عجرة الذي نزلت عنه آية {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام} الآية فقد قال كعب بن عجرة: هي لي خاصة ولكم عامة، ومثل قول أم سلمة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: يغزو الرجال ولا نغزو، فنزل قوله تعالى {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} الآية. وهذا القسم لا يفيد البحث فيه إلا زيادة تفهم في معنى الآية وتمثيلا لحكمها، ولا يخشى توهم تخصيص الحكم بتلك الحادثة، إذ قد اتفق العلماء أو كادوا على أن سبب النزول في مثل هذا لا يخصص، واتفقوا على أن أصل التشريع أن لا يكون خاصا.

والثالث: هو حوادث تكثر أمثالها تختص بشخص واحد فنزلت الآية لإعلانها وبيان أحكامها وزجر من يرتكبها، فكثيرا ما تجد المفسرين وغيرهم يقولون نزلت في كذا وكذا، وهم يريدون أن من الأحوال التي تشير إليها تلك الآية تلك الحالة الخاصة فكأنهم يريدون التمثيل. ففي كتاب الأيمان من صحيح البخاري في باب قول الله تعالى {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا} أن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله: ((من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان)) فأنزل الله تصديق ذلك {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا} الآية فدخل الأشعث بن قيس فقال: ما حدثكم أبو عبد الرحمن? فقالوا كذا وكذا، قال في أنزلت، لي بئر في أرض ابن عم لي الخ، فابن مسعود جعل الآية عامة لأنه جعلها تصديقا لحديث عام? والأشعث بن قيس ظنها خاصة به إذ قال: في أنزلت بصيغة الحصر.
ومثل الآيات النازلة في المنافقين في سورة براءة المفتتحة بقوله تعالى: {ومنهم- ومنهم} ولذلك قال ابن عباس: كنا نسمي سورة التوبة سورة الفاضحة. ومثل قوله تعالى: {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم} فلا حاجة لبيان أنها نزلت لما أظهر بعض اليهود مودة المؤمنين. وهذا القسم قد أكثر من ذكره أهل القصص وبعض المفسرين ولا فائدة في ذكره، على أن ذكره قد يوهم القاصرين قصر الآية على تلك الحادثة لعدم ظهور العموم من ألفاظ تلك الآيات.

والرابع: هو حوادث حدثت وفي القرآن آيات تناسب معانيها سابقة أو لاحقة فيقع في عبارات بعض السلف ما يوهم أن تلك الحوادث هي المقصود من تلك الآيات، مع أن المراد أنها مما يدخل في معنى الآية ويدل لهذا النوع وجود اختلاف كثير بين الصحابة في كثير من أسباب النزول كما هو مبسوط في المسألة الخامسة من بحث أسباب النزول من الإتقان فارجعوا إليه ففيه أمثلة كثيرة.
وفي "صحيح البخاري" في سورة النساء أن ابن عباس قرأ قوله تعالى: {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا} بألف بعد لام السلام وقال: كان رجل في غنيمة له تصغير غنم فلحقه المسلمون فقال: السلام عليكم فقتلوه أي ظنوه مشركا يريد أن يتقي منهم بالسلام وأخذوا غنيمته فأنزل الله في ذلك {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام} الآية. فالقصة لا بد أن تكون قد وقعت لأن ابن عباس رواها لكن الآية ليست نازلة فيها بخصوصها ولكن نزلت في أحكام الجهاد بدليل ما قبلها وما بعدها فإن قبلها: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا} وبعدها {فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل}.
وفي تفسير تلك السورة من صحيح البخاري بعد أن ذكر نزاع الزبير والأنصاري في ماء شراج الحرة قال الزبير: فما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} الآية قال السيوطي في "الإتقان" عن الزركشي قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال نزلت هذه الآية في كذا، فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم لا أن هذا كان السبب في نزولها. وفيه عن ابن تيمية قد تنازع العلماء في قول الصحابي: نزلت هذه الآية في كذا، هل يجري مجرى المسند أو يجري مجرى التفسير? فالبخاري يدخله في المسند، وأكثر أهل المسانيد لا يدخلونه فيه، بخلاف ما إذا ذكر سببا نزلت عقبه فإنهم كلهم يدخلونه في المسند.

والخامس: قسم يبين مجملات، ويدفع متشابهات مثل قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} فإذا ظن أحد أن من للشرط أشكل عليه كيف يكون الجور في الحكم كفرا، ثم إذا علم أن سبب النزول هم النصارى علم أن من موصولة وعلم أن الذين تركوا الحكم بالإنجيل لا يتعجب منهم أن يكفروا بمحمد. وكذلك حديث عبد الله بن مسعود قال لما نزل قوله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا أينا لم يلبس إيمانه بظلم ظنوا أن الظلم هو المعصية. فقال رسول الله: ((إنه ليس بذلك? ألا تسمع لقول لقمان لابنه {إن الشرك لظلم عظيم})). ومن هذا القسم ما لا يبين مجملا ولا يؤول متشابها ولكنه يبين وجه تناسب الآي بعضها مع بعض كما في قوله تعالى، في سورة النساء: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء} الآية، فقد تخفى الملازمة بين الشرط وجزائه فيبينها ما في الصحيح، عن عائشة أن عروة بن الزبير سألها عنها فقالت: هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله فيريد أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن في الصداق، فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن.

- بيان علاقة القرآن بأسباب النزول

إن القرآن كتاب جاء لهدي أمة والتشريع لها، وهذا الهدي قد يكون واردا قبل الحاجة، وقد يكون مخاطبا به قوم على وجه الزجر أو الثناء أو غيرهما، وقد يكون مخاطبا به جميع من يصلح لخطابه، وهو في جميع ذلك قد جاء بكليات تشريعية وتهذيبية، والحكمة في ذلك أن يكون وعي الأمة لدينها سهلا عليها، وليمكن تواتر الدين، وليكون لعلماء الأمة مزية الاستنباط، وإلا فإن الله قادر أن يجعل القرآن أضعاف هذا المنزل وأن يطيل عمر النبي صلى الله عليه وسلم للتشريع أكثر مما أطال عمر إبراهيم وموسى، ولذلك قال تعالى: {وأتممت عليكم نعمتي}، فكما لا يجوز حمل كلماته على خصوصيات جزئية لأن ذلك يبطل مراد الله، كذلك لا يجوز تعميم ما قصد منه الخصوص ولا إطلاق ما قصد منه التقييد؛ لأن ذلك قد يفضي إلى التخليط في المراد أو إلى إبطاله من أصله، وقد اغتر بعض الفرق بذلك. قال ابن سيرين في الخوارج: إنهم عمدوا إلى آيات الوعيد النازلة في المشركين فوضعوها على المسلمين فجاءوا ببدعة القول بالتكفير بالذنب، وقد قال الحرورية لعلي رضي الله عنه يوم التحكيم: {إن الحكم إلا لله} فقال علي كلمة حق أريد بها باطل وفسرها في خطبة له في "نهج البلاغة".
وثمة فائدة أخرى عظيمة لأسباب النزول وهي أن في نزول القرآن عند حدوث حوادث دلالة على إعجازه من ناحية الارتجال، وهي إحدى طريقتين لبلغاء العرب في أقوالهم، فنزوله على حوادث يقطع دعوى من ادعوا أنه أساطير الأولين.

المقدمة السادسة في القراءات


- سبب عناية المصنف بعلم القراءات

لولا عناية كثير من المفسرين بذكر اختلاف القراءات في ألفاظ القرآن حتى في كيفيات الأداء، لكان المصنف بمعزل عن التكلم في ذلك لأن علم القراءات علم جليل مستقل قد خص بالتدوين والتأليف وقد أشبع فيه أصحابه وأسهبوا بما ليس عليه مزيد.

- حالات تعلق علم القراءات وعلم التفسير

يرى ابن عاشور أن للقراءات حالتين: إحداهما لا تعلق لها بالتفسير بحال، والثانية لها تعلق به من جهات متفاوتة.

- بيان حالة علم القراءات التي ليس لها تعلق بعلم التفسير

الحالة الأولى هي اختلاف القراء في وجوه النطق بالحروف والحركات كمقادير المد والإمالات والتخفيف والتسهيل والتحقيق والجهر والهمس والغنة، مثل {عذابيْ} بسكون الياء و(عذابيَ) بفتحها، وفي تعدد وجوه الإعراب مثل {حتى يقول الرسول} بفتح لام يقول وضمها. ونحو: {لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة} برفع الأسماء الثلاثة أو فتحها أو رفع بعض وفتح بعض، ومزية القراءات من هذه الجهة عائدة إلى أنها حفظت على أبناء العربية ما لم يحفظه غيرها وهو تحديد كيفيات نطق العرب بالحروف في مخارجها وصفاتها وبيان اختلاف العرب في لهجات النطق بتلقي ذلك عن قراء القرآن من الصحابة بالأسانيد الصحيحة،

- بيان علاقة علم القراءات بعلم لغة العرب

لم يعرف لفن القراءات حقه من جهة علاقته بالعربية، وفيها أيضا سعة من بيان وجوه الإعراب في العربية، فهي لذلك مادة كبرى لعلوم اللغة العربية. فأئمة العربية لما قرأوا القرآن قرأوه بلهجات العرب الذين كانوا بين ظهرانيهم في الأمصار التي وزعت عليها المصاحف: المدينة، ومكة، والكوفة، والبصرة، والشام، قيل واليمن والبحرين، وكان في هذه الأمصار قراؤها من الصحابة قبل ورود مصحف عثمان إليهم فقرأ كل فريق بعربية قومه في وجوه الأداء، لا في زيادة الحروف ونقصها، ولا في اختلاف الإعراب دون مخالفته مصحف عثمان، ويحتمل أن يكون القارئ الواحد قد قرأ بوجهين ليري صحتهما في العربية قصدا لحفظ اللغة مع حفظ القرآن الذي أنزل بها، ولذلك يجوز أن يكون كثير من اختلاف القراء في هذه الناحية اختيارا، وعليه يحمل ما يقع في كتابي الزمخشري وابن العربي من نقد بعض طرق القراء، على أن في بعض نقدهم نظرا، وقد كره مالك رحمه الله القراءة بالإمالة مع ثبوتها عن القراء، وهي مروية عن مقرئ المدينة نافع من رواية ورش عنه وانفرد بروايته أهل مصر، فدلت كراهته على أنه يرى أن القارئ بها ما قرأ إلا بمجرد الاختيار، وفي تفسير القرطبي في سورة الشعراء عن أبي إسحاق الزجاج، يجوز أن يقرأ "طسين ميم" بفتح النون من "طسين" وضم الميم الأخيرة كما يقال هذا معد يكرب اهـ مع أنه لم يقرأ به أحد. قلت: ولا ضير في ذلك ما دامت كلمات القرآن وجمله محفوظة على نحو ما كتب في المصحف الذي أجمع عليه أصحاب رسوا الله إلا نفرا قليلا شذوا منهم، كان عبد الله بن مسعود منهم، فإن عثمان لما أمر بكتب المصحف على نحو ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأثبته كتاب المصحف، رأى أن يحمل الناس على اتباعه وترك قراءة ما خالفه، وجمع جميع المصاحف المخالفة له وأحرقها ووافقه جمهور الصحابة على ما فعله. قال شمس الدين الأصفهاني في المقدمة الخامسة من تفسيره. كان على طول أيامه يقرأ مصحف عثمان ويتخذه إماما. وقلت: إنما كان فعل عثمان إتماما لما فعله أبو بكر من جمعه القرآن الذي كان يقرأ في حياة الرسول، وأن عثمان نسخه في مصاحف لتوزع على الأمصار، فصار المصحف الذي كتب لعثمان قريبا من المجمع عليه وعلى كل قراءة توافقه وصار ما خالفه متروكا بما يقارب الإجماع.

- بيان ان قراءة الصحابة هي قراءة العامة

قال الأصفهاني في تفسيره كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة، وهي قراءة العامة التي قرأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل في العام الذي قبض فيه، ويقال إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي عرضها رسول الله على جبريل اهـ وبقي الذين قرأوا قراءات مخالفة لمصحف عثمان يقرأون بما رووه لا ينهاهم أحد عن قراءتهم ولكن يعدوهم شذاذا ولكنهم لم يكتبوا قراءتهم في مصاحف بعد أن أجمع الناس على مصحف عثمان، قال البغوي في تفسير قوله تعالى {وطلح منضود}.
عن مجاهد وفي الكشاف والقرطبي- قرأ علي بن أبي طالب (وطلع منضود) بعين في موضع الحاء، وقرأ قارئ بين يديه {وطلح منضود} فقال: وما شأن الطلح? إنما هو (وطلع) وقرأ: {لها طلع نضيد} فقالوا أفلا نحولها? فقال إن آي القرآن لا تهاج اليوم ولا تحول، أي لا تغير حروفها ولا تحول عن مكانها فهو قد منع من تغيير المصحف، ومع ذلك لم يترك القراءة التي رواها، وممن نسبت إليهم قراءات مخالفة لمصحف عثمان، عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وسالم مولى أبي حذيفة، إلى أن ترك الناس ذلك تدريجا.
ذكر الفخر في تفسير قوله تعالى: {إذ تلقونه بألسنتكم} من سورة النور أن سفيان قال: سمعت أمي تقرأ: (إذ تثقفونه بألسنتكم) وكان أبوها يقرأ بقراءة ابن مسعود، ومع ذلك فقد شذت مصاحف بقيت مغفولا عنها بأيدي أصحابها، منها ما ذكره الزمخشري في الكشاف في سورة الفتح أن الحارث بن سويد صاحب عبد الله بن مسعود كان له مصحف دفنه في مدة الحجاج، قال في الكشاف لأنه كان مخالفا للمصحف الإمام، وقد أفرط الزمخشري في توهين بعض القراءات لمخالفتها لما اصطلح عليه النجاة وذلك من إعراضه عن معرفة الأسانيد.

- بيان شروط قبول القراءات عند علماء القراءات ،الفقهاء

من أجل ذلك اتفق علماء القراءات والفقهاء على أن كل قراءة وافقت وجها في العربية ووافقت خط المصحف أي مصحف عثمان وصح سند راويها؛ فهي قراءة صحيحة لا يجوز ردها، قال أبو بكر ابن العربي: ومعنى ذلك عندي أن تواترها تبع لتواتر المصحف الذي وافقته وما دون ذلك فهو شاذ، يعني وأن تواتر المصحف ناشئ عن تواتر الألفاظ التي كتبت فيه.
وهذه الشروط الثلاثة، هي شروط في قبول القراءة إذا كانت غير متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، بأن كانت صحيحة السند إلى النبي ولكنها لم تبلغ حد التواتر فهي بمنزلة الحديث الصحيح، وأما القراءة المتواترة فهي غنية عن هذه الشروط لأن تواترها يجعلها حجة في العربية، ويغنيها عن الاعتضاد بموافقة المصحف المجمع عليه، ألا ترى أن جمعا من أهل القراءات المتواترة قرأوا قوله تعالى: (وما هو على الغيب بظنين) بظاء مشالة أي: بمتهم، وقد كتبت في المصاحف كلها بالضاد الساقطة.

- بيان المراد بموافقة خط المصحف في القراءات

المراد بموافقة خط المصحف موافقة أحد المصاحف الأئمة التي وجه بها عثمان بن عفان إلى أمصار الإسلام إذ قد يكون اختلاف يسير نادر بين بعضها، مثل زيادة الواو في {وسارعوا إلى مغفرة} في مصحف الكوفة ومثل زيادة الفاء في قوله: { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} في سورة الشورى {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا} - أو (إحسانا) فذلك اختلاف ناشئ عن القراءة بالوجهين بين الحفاظ من زمن الصحابة الذين تلقوا القرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه قد أثبته ناسخو المصحف في زمن عثمان فلا ينافي التواتر إذ لا تعارض، إذا كان المنقول عنه قد نطق بما نقله عنه الناقلون في زمانين أو أزمنة، أو كان قد أذن للناقلين أن يقرأوا بأحد اللفظين أو الألفاظ، وقد انحصر توفر الشروط في الروايات العشر للقراء وهم، نافع بن أبي نعيم المدني، وعبد الله بن كثير المكي، وأبو عمرو المازني البصري وعبد الله بن عامر الدمشقي، وعاصم بن أبي النجود الكوفي، وحمزة بن حبيب الكوفي، والكسائي علي بن حمزة الكوفي، ويعقوب بن إسحاق الحضرمي البصري، وأبو جعفر يزيد بن القعقاع المدني، وخلف البزار بزاي فألف فراء مهملة الكوفي، وهذا العاشر ليست له رواية خاصة، وإنما اختار لنفسه قراءة تناسب قراءات أئمة الكوفة، فلم يخرج عن قراءات قراء الكوفة إلا قليلا، وبعض العلماء يجعل قراءة ابن محيصن واليزيدي والحسن، والأعمش، مرتبة دون العشر، وقد عد الجمهور ما سوى ذلك شاذا لأنه لم ينقل بتواتر حفاظ القرآن.
والذي قاله مالك والشافعي، أن ما دون العشر لا تجوز القراءة به ولا أخذ حكم منه لمخالفته المصحف الذي كتب فيه ما تواتر، فكان ما خالفه غير متواتر فلا يكون قرآنا، وقد تروى قراءات عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد صحيحة في كتب الصحيح مثل صحيح البخاري ومسلم وأضرابهما إلا أنها لا يجوز لغير من سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم القراءة بها لأنها غير متواترة النقل فلا يترك المتواتر للآحاد وإذا كان راويها قد بلغته قراءة أخرى متواترة تخالف ما رواه وتحقق لديه التواتر وجب عليه أن يقرأ بالمروية تواترا، وقد اصطلح المفسرون على أن يطلقوا عليها قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، لأنها غير منتسبة إلى أحد من أئمة الرواية في القراءات، ويكثر ذكر هذا العنوان في تفسير محمد بن جرير الطبري وفي الكشاف وفي المحرر الوجيز لعبد الحق ابن عطية، وسبقهم إليه أبو الفتح ابن جني، فلا تحسبوا أنهم أرادوا بنسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أنها وحدها المأثورة عنه ولا ترجيحها على القراءات المشهورة لأن القراءات المشهورة قد رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد أقوى وهي متواترة على الجملة كما سنذكره، وما كان ينبغي إطلاق وصف قراءة النبي عليها لأنه يوهم من ليسوا من أهل الفهم الصحيح أن غيرها لم يقرأ به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يرجع إلى تبجح أصحاب الرواية بمروياتهم.

- بيان الحالة الثانية : ما يتعلق من علم القراءات بعلم التفسير

الحالة الثانية: فهي اختلاف القراء في حروف الكلمات مثل {مالك يوم الدين} (ملك يوم الدين) و(ننشرها) و{ننشزها} و{وظنوا أنهم قد كذبوا} بتشديد الذال أو (قد كذبوا) بتخفيفه، وكذلك اختلاف الحركات الذي يختلف معه معنى الفعل كقوله {ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون} قرأ نافع بضم الصاد وقرأ حمزة بكسر الصاد، فالأولى بمعنى يصدون غيرهم عن الإيمان، والثانية بمعنى صدودهم في أنفسهم وكلا المعنيين حاصل منهم، وهي من هذه الجهة لها مزيد تعلق بالتفسير لأن ثبوت أحد اللفظين في قراءة قد يبين المراد من نظيره في القراءة الأخرى، أو يثير معنى غيره، ولأن اختلاف القراءات في ألفاظ القرآن يكثر المعاني في الآية الواحدة نحو {حتى يطهرن} بفتح الطاء المشددة والهاء المشددة، وبسكون الطاء وضم الهاء مخففة، ونحو {لامستم النساء} و(لمستم النساء)، وقراءة (وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن إناثا) مع قراءة {الذين هم عباد الرحمن} والظن أن الوحي نزل بالوجهين وأكثر، تكثيرا للمعاني إذا جزمنا بأن جميع الوجوه في القراءات المشهورة هي مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، على أنه لا مانع من أن يكون مجيء ألفاظ القرآن على ما يحتمل تلك الوجوه مرادا لله تعالى ليقرأ القراء بوجوه فتكثر من جراء ذلك المعاني، فيكون وجود الوجهين فأكثر في مختلف القراءات مجزئا عن آيتين فأكثر، وهذا نظير التضمين في استعمال العرب، ونظير التورية والتوجيه في البديع، ونظير مستتبعات التراكيب في علم المعاني، وهو من زيادة ملاءمة بلاغة القرآن، ولذلك كان اختلاف القراء في اللفظ الواحد من القرآن قد يكون معه اختلاف المعنى؛ ولم يكن حمل أحد القراءتين على الأخرى متعينا ولا مرجحا، وإن كان قد يؤخذ من كلام أبي علي الفارسي في كتاب الحجة أنه يختار حمل معنى إحدى القراءتين على معنى الأخرى، ومثال هذا قوله في قراءة الجمهور قوله تعالى {فإن الله هو الغني الحميد} في سورة الحديد، وقراءة نافع وابن عامر (فإن الله الغني الحميد) بإسقاط هو أن من أثبت هو يحسن أن يعتبره ضمير فصل لا مبتدأ، لأنه لو كان مبتدأ لم يجز حذفه في قراءة نافع وابن عامر، قال أبو حيان: وما ذهب إليه ليس بشيء لأنه بنى ذلك على توافق القراءتين وليس كذلك، ألا ترى أنه قد يكون قراءتان في لفظ واحد لكل منهما توجيه يخالف الآخر، كقراءة {والله أعلم بما وضعت} بضم التاء أو سكونها.

ويرى ابن عاشور أن على المفسر أن يبين اختلاف القراءات المتواترة لأن في اختلافها توفيرا لمعاني الآية غالبا فيقوم تعدد القراءات مقام تعدد كلمات القرآن. وهذا يبين لنا أن اختلاف القراءات قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في حديث عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم بن حزام ففي صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ في الصلاة سورة الفرقان في حياة رسول الله فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله، فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلببته بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ? قال: أقرأنيها رسول الله، فقلت: كذبت فإن رسول الله أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله فقلت إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله: ((اقرأ يا هشام)) فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله: ((كذلك أنزلت))، ثم قال: ((اقرأ يا عمر)) فقرأت القراءة التي أقرأني فقال رسول الله: ((كذلك أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه))

- بيان ما جاء في نزول القرأن على سبعة إحرف

في الحديث إشكال، وللعلماء في معناه أقوال يرجع إلى اعتبارين: أحدهما اعتبار الحديث منسوخا والآخر اعتباره محكما.
فأما الذين اعتبروا الحديث منسوخا وهو رأي جماعة منهم أبو بكر الباقلاني وابن عبد البر وأبو بكر بن العربي والطبري والطحاوي، وينسب إلى ابن عيينة وابن وهب قالوا كان ذلك رخصة في صدر الإسلام أباح الله للعرب أن يقرأوا القرآن بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها، ثم نسخ ذلك بحمل الناس على لغة قريش لأنها التي بها نزل القرآن وزال العذر لكثرة الحفظ وتيسير الكتابة، وقال ابن العربي: دامت الرخصة مدة حياة النبي عليه السلام، وظاهر كلامه أن ذلك نسخ بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإما نسخ بإجماع الصحابة أو بوصاية من النبي صلى الله عليه وسلم، واستدلوا على ذلك بقول عمر: إن القرآن نزل بلسان قريش، وبنهيه عبد الله بن مسعود أن يقرأ (فتول عنهم عتى حين) وهي لغة هذيل في حتى، وبقول عثمان لكتاب المصاحف فإذا اختلفتم في حرف فاكتبوه بلغة قريش فإنما نزل بلسانهم، يريد أن لسان قريش هو الغالب على القرآن، أو أراد أنه نزل بما نطقوا به من لغتهم وما غلب على لغتهم من لغات القبائل إذ كان عكاظ بأرض قريش وكانت مكة مهبط القبائل كلها.
ولهم في تحديد معنى الرخصة بسبعة أحرف ثلاثة أقوال: الأول أن المراد بالأحرف الكلمات المترادفة للمعنى الواحد، أي أنزل بتخيير قارئه أن يقرأه باللفظ الذي يحضره من المرادفات تسهيلا عليهم حتى يحيطوا بالمعنى. وعلى هذا الجواب فقيل المراد بالسبعة حقيقة العدد وهو قول الجمهور فيكون تحديدا للرخصة بأن لا يتجاوز سبعة مرادفات أو سبع لهجات أي من سبع لغات؛ إذ لا يستقيم غير ذلك لأنه لا يتأتى في كلمة من القرآن أن يكون لها ستة مرادفات أصلا، ولا في كلمة أن يكون فيها سبع لهجات إلا كلمات قليلة مثل {أف}– {وجبريل}– و{أرجه}.
وقد اختلفوا في تعيين اللغات السبع، فقال أبو عبيدة وابن عطية وأبو حاتم والباقلاني: هي من عموم لغات العرب وهم: قريش، وهذيل، وتيم الرباب، والأزد، وربيعة، وهوازن، وسعد بن بكر من هوازن، وبعضهم يعد قريشا، وبني دارم، والعليا من هوازن وهم سعد بن بكر، وجشم بن بكر، ونصر بن معاوية، وثقيف، قال أبو عمرو بن العلاء أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم وهم بنو دارم. وبعضهم يعد خزاعة ويطرح تميما، وقال أبو علي الأهوازي، وابن عبد البر، وابن قتيبة هي لغات قبائل من مضر وهم قريش، وهذيل، وكنانة، وقيس، وضبة، وتيم الرباب، وأسد بن خزيمة، وكلها من مضر.
القول الثاني: لجماعة منهم عياض: أن العدد غير مراد به حقيقته، بل هو كناية عن التعدد والتوسع، وكذلك المرادفات ولو من لغة واحدة كقوله: {كالعهن المنفوش} وقرأ ابن مسعود (كالصوف المنفوش)، وقرأ أبي {كلما أضاء لهم مشوا فيه} "مروا فيه" "سعوا فيه"، وقرأ ابن مسعود {انظرونا نقتبس من نوركم} "أخرونا"، "أمهلونا"، وأقرأ ابن مسعود رجلا {إن شجرت الزقوم طعام الأثيم} فقال الرجل: (طعام اليتيم)، فأعاد له فلم يستطع أن يقول: {الأثيم} فقال له ابن مسعود: أتستطيع أن تقول طعام الفاجر? قال: نعم، قال: فاقرأ كذلك، وقد اختلف عمر وهشام بن حكيم ولغتهما واحدة.
القول الثالث: أن المراد التوسعة في نحو {كان الله سميعا عليما} أن يقرأ عليما حكيما ما لم يخرج عن المناسبة كذكره عقب آية عذاب أن يقول "وكان الله غفورا رحيما" أو عكسه وإلى هذا ذهب ابن عبد البر.

وأما الذين اعتبروا الحديث محكما غير منسوخ فقد ذهبوا في تأويله مذاهب: فقال جماعة منهم البيهقي وأبو الفضل الرازي أن المراد من الأحرف أنواع أغراض القرآن كالأمر والنهي، والحلال والحرام، أو أنواع كلامه كالخبر والإنشاء، والحقيقة والمجاز: أو أنواع دلالته كالعموم والخصوص، والظاهر والمؤول. ولا يخفى أن كل ذلك لا يناسب سياق الحديث على اختلاف رواياته من قصد التوسعة والرخصة. وقد تكلف هؤلاء حصر ما زعموه من الأغراض ونحوها في سبعة فذكروا كلاما لا يسلم من النقض.

وذهب جماعة منهم أبو عبيد وثعلب والأزهري وعزي لابن عباس أن المراد أنه أنزل مشتملا على سبع لغات من لغات العرب مبثوثة في آيات القرآن لكن لا على تخيير القارئ، وذهبوا في تعيينها إلى نحو ما ذهب إليه القائلون بالنسخ إلا أن الخلاف بين الفريقين في أن الأولين ذهبوا إلى تخيير القارئ في الكلمة الواحدة، وهؤلاء أرادوا أن القرآن مبثوثة فيه كلمات من تلك اللغات، لكن على وجه التعيين لا على وجه التخيير، وهذا كما قال أبو هريرة: ما سمعت السكين إلا في قوله تعالى: {وآتت كل واحدة منهن سكينا} ما كنا نقول إلا المدية، وفي البخاري: إلا من النبيء في قصة حكم سليمان بين المرأتين من قول سليمان: (ايتوني بالسكين أقطعه بينكما)، وهذا الجواب لا يلاقي مساق الحديث من التوسعة، ولا يستقيم من جهة العدد لأن المحققين ذكروا أن في القرآن كلمات كثيرة من لغات قبائل العرب، وأنهاها السيوطي نقلا عن أبي بكر الواسطي إلى خمسين لغة.

وذهب جماعة أن المراد من الأحرف لهجات العرب في كيفيات النطق كالفتح والإمالة، والمد والقصر، والهمز والتخفيف، على معنى أن ذلك رخصة للعرب مع المحافظة على كلمات القرآن، وهذا أحسن الأجوبة لمن تقدمنا، وهنالك أجوبة أخرى ضعيفة لا ينبغي للعالم التعريج عليها وقد أنهى بعضهم جملة الأجوبة إلى خمسة وثلاثين جوابا.

وقال ابن عاشور " أنه إن كان حديث عمر وهشام بن حكيم قد حسن إفصاح راويه عن مقصد عمر فيما حدث به بأن لا يكون مرويا بالمعنى مع إخلال بالمقصود أنه يحتمل أن يرجع إلى ترتيب آي السور بأن يكون هشام قرأ سورة الفرقان على غير الترتيب الذي قرأ به عمر فتكون تلك رخصة لهم في أن يحفظوا سور القرآن بدون تعيين ترتيب الآيات من السورة، وقد ذكر الباقلاني احتمال أن يكون ترتيب السور من اجتهاد الصحابة كما يأتي في المقدمة الثامنة. فعلى رأينا هذا تكون هذه رخصة. ثم لم يزل الناس يتوخون بقراءتهم موافقة قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان ترتيب المصحف في زمن أبي بكر على نحو العرضة الأخيرة التي عرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجمع الصحابة في عهد أبي بكر على ذلك لعلمهم بزوال موجب الرخصة."

- بيان الفرق بين ما ورد في نزول القرآن على سبعة أحرف والقراءات السبع

من الناس من يظن المراد بالسبع في الحديث ما يطابق القراءات السبع التي اشتهرت بين أهل فن القراءات، وذلك غلط ولم يقله أحد من أهل العلم، وأجمع العلماء على خلافه كما قال أبو شامة: فإن انحصار القراءات في سبع لم يدل عليه دليل، ولكنه أمر حصل إما بدون قصد أو بقصد التيمن بعدد السبعة أو بقصد إيهام أن هذه السبعة هي المرادة من الحديث تنويها بشأنها بين العامة، ونقل السيوطي عن أبي العباس ابن عمار أنه قال: لقد فعل جاعل عدد القراءات سبعا ما لا ينبغي، وأشكل به الأمر على العامة إذ أوهمهم أن هذه السبعة هي المرادة في الحديث، وليت جامعها نقص عن السبعة أو زاد عليها.
قال السيوطي: وقد صنف ابن جبير المكي وهو قبل ابن مجاهد كتابا في القراءات فاقتصر على خمسة أئمة من كل مصر إماما، وإنما اقتصر على ذلك لأن المصاحف التي أرسلها عثمان إلى الأمصار كانت إلى خمسة أمصار.

قال ابن العربي في العواصم: أول من جمع القراءات في سبع ابن مجاهد غير أنه عد قراءة يعقوب سابعا ثم عوضها بقراءة الكسائي، قال السيوطي وذلك على رأس الثلاثمائة: وقد اتفق الأئمة على أن قراءة يعقوب من القراءات الصحيحة مثل بقية السبعة، وكذلك قراءة أبي جعفر وشيبة، وإذ قد كان الاختلاف بين القراء سابقا على تدوين المصحف الإمام في زمن عثمان وكان هو الداعي لجمع المسلمين على مصحف واحد تعين أن الاختلاف لم يكن ناشئا عن الاجتهاد في قراءة ألفاظ المصحف فيما عدا اللهجات.

وأما صحة السند الذي تروى به القراءة لتكون مقبولة فهو شرط لا محيد عنه إذ قد تكون القراءة موافقة لرسم المصحف وموافقة لوجوه العربية لكنها لا تكون مروية بسند صحيح، كما ذكر في المزهر أن حماد بن الزبرقان قرأ (إلا عن موعدة وعدها أباه) بالباء الموحدة وإنما هي {إياه} بتحتية، وقرأ (بل الذين كفروا في غرة) بغين معجمة وراء مهملة وإنما هي {عزة} بعين مهملة وزاي، وقرأ (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يعنيه) بعين مهملة، وإنما هي {يغنيه} بغين معجمة، ذلك أنه لم يقرأ القرآن على أحد وإنما حفظه من المصحف.

- مراتب القراءات الصحيحة والترجيح بينها

قال أبو بكر بن العربي في كتاب العواصم: اتفق الأئمة على أن القراءات التي لا تخالف الألفاظ التي كتبت في مصحف عثمان هي متواترة وإن اختلفت في وجوه الأداء وكيفيات النطق ومعنى ذلك أن تواترها تبع لتواتر صورة كتابة المصحف، وما كان نطقه صالحا لرسم المصحف، واختلف فيه فهو مقبول، وما هو بمتواتر لأن وجود الاختلاف فيه مناف لدعوى التواتر، فخرج بذلك ما كان من القراءات مخالفا لمصحف عثمان، مثل ما نقل من قراءة ابن مسعود، ولما قرأ المسلمون بهذه القراءات من عصر الصحابة ولم يغير عليهم، فقد صارت متواترة على التخيير، وإن كانت أسانيدها المعينة آحادا، وليس المراد ما يتوهمه بعض القراء من أن القراءات كلها بما فيها من طرائق أصحابها ورواياتهم متواترة وكيف وقد ذكروا أسانيدهم فيها فكانت أسانيد أحاد، وأقواها سندا ما كان له راويان عن الصحابة مثل قراءة نافع بن أبي نعيم وقد جزم ابن العربي، وابن عبد السلام التونسي، وأبو العباس بن إدريس فقيه بجاية من المالكية، والأبياري من الشافعية بأنها غير متواترة، وهو الحق لأن تلك الأسانيد لا تقتضي إلا أن فلانا قرأ كذا وأن فلانا قرأ بخلافه، وأما اللفظ المقروء فغير محتاج إلى تلك الأسانيد لأنه ثبت بالتواتر كما علمت آنفا، وإن اختلفت كيفيات النطق بحروفه فضلا عن كيفيات أدائه.
وقال إمام الحرمين في البرهان: هي متواترة ورده عليه الأبياري، وقال المازري في شرحه: هي متواترة عند القراء وليست متواترة عند عموم الأمة، وهذا توسط بين إمام الحرمين والأبياري، ووافق إمام الحرمين ابن سلامة الأنصاري من المالكية. وهذه مسألة مهمة جرى فيها حوار بين الشيخين ابن عرفة التونسي وابن لب الأندلسي ذكرها الونشريسي في المعيار.
وتنتهي أسانيد القراءات العشر إلى ثمانية من الصحابة وهم: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله من مسعود، وأبي بن كعب، وأبو الدرداء، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، فبعضها ينتهي إلى جميع الثمانية وبعضها إلى بعضهم وتفصيل ذلك في علم القرآن.
وأما وجوه الإعراب في القرآن فأكثرها متواتر إلا ما ساغ فيه إعرابان مع اتحاد المعاني نحو: {ولات حين مناص} بنصب حين ورفعه، ونحو {وزلزلوا حتى يقول الرسول} بنصب (يقول) ورفعه، ألا ترى أن الأمة أجمعت على رفع اسم الجلالة في قوله تعالى: {وكلم الله موسى تكليما} وقرأه بعض المعتزلة بنصب اسم الجلالة لئلا يثبتوا لله كلاما، وقرأ بعض الرافضة (وما كنت متخذ المضلين عضدا) بصيغة التثنية، وفسروها بأبي بكر وعمر حاشاهما، وقاتلهم الله.
وأما ما خالف الوجوه الصحيحة في العربية ففيه نظر قوي لأنا لا ثقة لنا بانحصار فصيح كلام العرب فيما صار إلى نحاة البصرة والكوفة، وبهذا نبطل كثيرا مما زيفه الزمخشري من القراءات المتواترة بعلة أنها جرت على وجوه ضعيفة في العربية لا سيما ما كان منه في قراءة مشهورة كقراءة عبد الله بن عامر قوله تعالى: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم) ببناء "زين" للمفعول وبرفع (قتل)، ونصب (أولادهم) وخفض (شركاؤهم) ولو سلمنا أن ذلك وجه مرجوح، فهو لا يعدو أن يكون من الاختلاف في كيفية النطق التي لا تناكد التواتر كما قدمناه آنفا على ما في اختلاف الإعرابين من إفادة معنى غير الذي يفيده الآخر، لأن لإضافة المصدر إلى المفعول خصائص غير التي لإضافته إلى فاعله، ولأن لبناء الفعل للمجهول نكتا غير التي لبنائه للفاعل، على أن أبا علي الفارسي ألف كتابا سماه الحجة احتج فيه للقراءات المأثورة احتجاجا من جانب العربية.

-بيان تفاوت القراءات العشر في خصوصيات البلاغة والفصاحة

إن القراءات العشر الصحيحة المتواترة، قد تتفاوت بما يشتمل عليه بعضها من خصوصيات البلاغة أو الفصاحة أو كثرة المعاني أو الشهرة، وهو تمايز متقارب، وقل أن يكسب إحدى القراءات في تلك الآية رجحانا، على أن كثيرا من العلماء كان لا يرى مانعا من ترجيح قراءة على غيرها، ومن هؤلاء الإمام محمد بن جرير الطبري، والعلامة الزمخشري وفي أكثر ما رجح به نظر سنذكره في مواضعه، وقد سئل ابن رشد عما يقع في كتب المفسرين والمعربين من اختيار إحدى القراءتين المتواترتين وقولهم هذه القراءة أحسن: أذاك صحيح أم لا? فأجاب: أما ما سألت عنه مما يقع في كتب المفسرين والمعربين من تحسين بعض القراءات واختيارها على بعض لكونها أظهر من جهة الإعراب، وأصح في النقل، وأيسر في اللفظ فلا ينكر ذلك، كرواية ورش التي اختارها الشيوخ المتقدمون عندنا أي بالأندلس فكان الإمام في الجامع لا يقرأ إلا بها لما فيها من تسهيل النبرات وترك تحقيقها في جميع المواضع، وقد تؤول ذلك فيما روي عن مالك من كراهية النبر في القرآن في الصلاة.

- بيان إن ترجيح القراءات لا يعني ضعف المرجوح في الاعجاز

في بيان هل يفضي ترجيح بعض القراءات على بعض إلى أن تكون الراجحة أبلغ من المرجوحة فيفضي إلى أن المرجوحة أضعف في الإعجاز.اوضح ابن عاشور إن حد الإعجاز مطابقة الكلام لجميع مقتضى الحال، وهو لا يقبل التفاوت، ويجوز مع ذلك أن يكون بعض الكلام المعجز مشتملا على لطائف وخصوصيات تتعلق بوجوه الحسن كالجناس والمبالغة، أو تتعلق بزيادة الفصاحة، أو بالتفنن مثل {أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير} على أنه يجوز أن تكون إحدى القراءات نشأت عن ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم للقارئ أن يقرأ بالمرادف تيسيرا على الناس كما يشعر به حديث تنازع عمر مع هشام بن حكيم، فتروى تلك القراءة للخلف فيكون تمييز غيرها عليها بسبب أن المتميزة هي البالغة غاية البلاغة وأن الأخرى توسعة ورخصة، ولا يعكر ذلك على كونها أيضا بالغة الطرف الأعلى من البلاغة وهو ما يقرب من حد الإعجاز. وأما الإعجاز فلا يلزم أن يتحقق في كل آية من آي القرآن لأن التحدي إنما وقع بسورة مثل سور القرآن، وأقصر سورة ثلاث آيات فكل مقدار ينتظم من ثلاث آيات من القرآن يجب أن يكون مجموعه معجزا.

- بيان ما اقتصر عليه المصنف من اختلاف القراءات

أقتصر المؤلف في هذا التفسير على التعرض لاختلاف القراءات العشر المشهورة خاصة في أشهر روايات الراوين عن أصحابها لأنها متواترة، وإن كانت القراءات السبع قد امتازت على بقية القراءات بالشهرة بين المسلمين في أقطار الإسلام. وأبني أول التفسير على قراءة نافع برواية عيسى ابن مينا المدني الملقب بقالون لأنها القراءة المدنية إماما وراويا ولأنها التي يقرأ بها معظم أهل تونس، ثم أذكر خلاف بقية القراء العشرة خاصة. والقراءات التي يقرأ بها اليوم في بلاد الإسلام من هذه القراءات العشر، هي قراءة نافع برواية قالون في بعض القطر التونسي وبعض القطر المصري، وفي ليبيا وبرواية ورش في بعض القطر التونسي وبعض القطر المصري وفي جميع القطر الجزائري وجميع المغرب الأقصى، وما يتبعه من البلاد. والسودان.
وقراءة عاصم برواية حفص عنه في جميع الشرق من العراق والشام وغالب البلاد المصرية والهند وباكستان وتركيا والأفغان. وبلغني أن قراءة أبي عمرو البصري يقرأ بها في السودان المجاور مصر.

والله إعلم.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 12 صفر 1443هـ/19-09-2021م, 08:19 PM
هيئة التصحيح 11 هيئة التصحيح 11 غير متواجد حالياً
هيئة التصحيح
 
تاريخ التسجيل: Jan 2016
المشاركات: 2,525
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة سارة عبدالله مشاهدة المشاركة
التفسير في اللغة:
التفسير مصدر فسر بتشديد السين وفسر بالتخفيف. والفسر الإبانة والكشف لمدلول كلام أو لفظ بكلام آخر هو أوضح لمعنى المفسر عند السامع.
- الفرق بين الفعل بالتخفيف والفعل بالتشديد:
ثم قيل المصدران والفعلان متساويان في المعنى، وقيل يختص المضاعف بإبانة المعقولات
وعزا شهاب الدين أن فرق بالتشديد، فجعلوا الأول للمعاني والثاني للأجسام بناء على أن كثرة الحروف تقتضي زيادة المعنى أو قوته، والمعاني لطيفة يناسبها المخفف، والأجسام كثيفة يناسبها التشديد.
-الرد على تفريق شهاب الدين بين الفعل المضاعف والمخفف:
واستشكله هو بعدم اطراده، وهو ليس من التحرير بالمحل اللائق، بل هو أشبه باللطائف منه بالحقائق، إذ لم يراع العرب في هذا الاستعمال معقولا ولا محسوسا وإنما راعوا الكثرة الحقيقية أو المجازية كما قررنا، ودل عليه استعمال القرآن، ألا ترى أن الاستعمالين ثابتان في الموضع الواحد، كقوله تعالى {وقرآنا فرقناه} قرئ بالتشديد والتخفيف، وقال تعالى حكاية لقول المؤمنين: {لا نفرق بين أحد من رسله} .
- التفسير في الاصطلاح:
اسم للعلم الباحث عن بيان معاني ألفاظ القرآن وما يستفاد منها باختصار أو توسع. والمناسبة بين المعنى الأصلي والمعنى المنقول إليه لا يحتاج إلى تطويل.
- موضوع التفسير:
وموضوع التفسير: ألفاظ القرآن من حيث البحث عن معانيه، وما يستنبط منه وبهذه الحيثية خالف علم القراءات لأن تمايز العلوم-كما يقولون-بتمايز الموضوعات، وحيثيات الموضوعات.
- هل التفسير يعد علما: [الأفضل أن نقول : المآخذ على عد علم التفسير علمًا]
هذا وفي عد التفسير علما تسامح؛ إذ العلم إذا أطلق، إما أن يراد به نفس الإدراك، نحو قول أهل المنطق، العلم إما تصور وإما تصديق، وإما أن يراد به الملكة المسماة بالعقل وإما أن يراد به التصديق الجازم وهو مقابل الجهل وهذا غير مراد في عد العلوم وإما أن يراد بالعلم المسائل المعلومات وهي مطلوبات خبرية يبرهن عليها في ذلك العلم وهي قضايا كلية، ومباحث هذا العلم ليست بقضايا يبرهن عليها فما هي بكلية، بل هي تصورات جزئية غالبا لأنه تفسير ألفاظ أو استنباط معان. فأما تفسير الألفاظ فهو من قبيل التعريف اللفظي وأما الاستنباط فمن دلالة الالتزام وليس ذلك من القضية.
فإذ قلنا إن يوم الدين في قوله تعالى: {مالك يوم الدين} هو يوم الجزاء، وإذا قلنا إن قوله تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} مع قوله: {وفصاله في عامين} يؤخذ منه أن أقل الحمل ستة أشهر عند من قال ذلك، لم يكن شيء من ذلك قضية، بل الأول تعريف لفظي، والثاني من دلالة الالتزام .
- سبب اطلاق العلماء على التفسير بأنه علم:
لواحد من وجوه ستة:
الأول: أن مباحثه لكونها تؤدي إلى استنباط علوم كثيرة وقواعد كلية، نزلت منزلة القواعد الكلية لأنها مبدأ لها، ومنشأ، تنزيلا للشيء منزلة ما هو شديد الشبه به بقاعدة ما قارب الشيء يعطى حكمه، ولا شك أن ما تستخرج منه القواعد الكلية والعلوم أجدر بأن يعد علما من عد فروعه علما، وهم قد عدوا تدوين الشعر علما لما فى حفظه من استخراج نكت بلاغية وقواعد لغوية.
والثاني أن نقول: إن اشتراط كون مسائل العلم قضايا كلية يبرهن عليها في العلم خاص بالعلوم المعقولة، لأن هذا اشتراط ذكره الحكماء في تقسيم العلوم، أما العلوم الشرعية والأدبية فلا يشترط فيها ذلك، بل يكفي أن تكون مباحثها مفيدة كمالا علميا لمزاولها، والتفسير أعلاها في ذلك.
الثالث: التعاريف اللفظية تصديقات على رأي بعض المحققين فهي تؤول إلى قضايا، وتفرع المعاني الجمة عنها نزلها منزلة الكلية، والاحتجاج عليها بشعر العرب وغيره يقوم مقام البرهان على المسألة، وهذا الوجه يشترك مع الوجه الأول في تنزيل مباحث التفسير منزلة المسائل، إلا أن وجه التنزيل في الأول راجع إلى ما يتفرع عنها، وهنا راجع إلى ذاتها مع أن التنزيل في الوجه الأول في جميع الشروط الثلاثة وهنا في شرطين، لأن كونها قضايا إنما يجيء على مذهب بعض المنطقيين.
الرابع أن نقول: إن علم التفسير لا يخلو من قواعد كلية في أثنائه مثل تقرير قواعد النسخ عند تفسير {ما ننسخ من آية} وتقرير قواعد التأويل عند تقرير {وما يعلم تأويله} وقواعد المحكم عند تقرير {منه آيات محكمات} فسمي مجموع ذلك وما معه علما تغليبا، وقد اعتنى العلماء بإحصاء كليات تتعلق بالقرآن، وجمعها ابن فارس، وذكرها عنه في الإتقان وعنى بها أبو البقاء الكفوي في كلياته، فلا بدع أن تزاد تلك في وجوه شبه مسائل التفسير بالقواعد الكلية.
الخامس: أن حق التفسير أن يشتمل على بيان أصول التشريع وكلياته فكان بذلك حقيقا بأن يسمى علما ولكن المفسرين ابتدأوا بتقصي معاني القرآن فطفحت عليهم وحسرت دون كثرتها قواهم، فانصرفوا عن الاشتغال بانتزاع كليات التشريع إلا في مواضع قليلة.
السادس وهو الفصل: أن التفسير كان أول ما اشتغل به علماء الإسلام قبل الاشتغال بتدوين بقية العلوم، وفيه كثرت مناظراتهم. وكان يحصل من مزاولته والدربة فيه لصاحبه ملكة يدرك بها أساليب القرآن ودقائق نظمه، فكان بذلك مفيدا علوما كلية لها مزيد اختصاص بالقرآن المجيد، فمن أجل ذلك سمي علما.
- مكانة التفسير بين العلوم الشرعية:
والتفسير أول العلوم الإسلامية ظهورا، إذ قد ظهر الخوض فيه في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، إذ كان بعض أصحابه قد سأل عن بعض معاني القرآن كما سأله عمر رضي الله عنه عن الكلالة، ثم اشتهر فيه بعد من الصحابة علي وابن عباس وهما أكثر الصحابة قولا في التفسير، وزيد بن ثابت وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم، وكثر الخوض فيه، حين دخل في الإسلام من لم يكن عربي السجية، فلزم التصدي لبيان معاني القرآن لهم، وشاع عن التابعين وأشهرهم في ذلك مجاهد وابن جبير، وهو أيضا أشرف العلوم الإسلامية ورأسها على التحقيق.
- أول من صنف في التفسير:
وأما تصنيفه فأول من صنف فيه عبد الملك بن جريج المكي المولود سنة 80 هـ والمتوفى سنة 149 هـ صنف كتابه في تفسير آيات كثيرة وجمع فيه آثارا وغيرها وأكثر روايته عن أصحاب ابن عباس مثل عطاء ومجاهد، وصنفت تفاسير ونسبت روايتها إلى ابن عباس، لكن أهل الأثر تكلموا فيها وهي "تفسير محمد بن السائب الكلبي" المتوفى سنة 146 هـ عن أبي صالح عن ابن عباس، وقد رمي أبو صالح بالكذب حتى لقب بكلمة دروغدت بالفارسية بمعنى الكذاب وهي أوهى الروايات فإذا انضم إليها رواية محمد بن مروان السدي عن الكلبي فهي سلسلة الكذب.
- روايات التفسير: [هذا تابع لما قبله، لكن الأولى تصنيف مسائله]
وهنالك رواية مقاتل ورواية الضحاك، ورواية علي بن أبي طلحة الهاشمي كلها عن ابن عباس، وأصحها رواية علي بن أبي طلحة، وهي التي اعتمدها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه فيما يصدر به من تفسير المفردات على طريقة التعليق، وقد خرج في الإتقان، جميع ما ذكره البخاري من تفسير المفردات، عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس مرتبة على سور القرآن. والحاصل أن الرواية عن ابن عباس، قد اتخذها الوضاعون والمدلسون ملجأ لتصحيح ما يروونه كدأب الناس في نسبة كل أمر مجهول من الأخبار والنوادر، لأشهر الناس في ذلك المقصد.
وهنالك روايات تسند لعلي رضي الله عنه، أكثرها من الموضوعات، إلا ما روي بسند صحيح، مثل ما في صحيح البخاري ونحوه، لأن لعلي أفهاما في القرآن كما ورد في صحيح البخاري، عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي هل عندكم شيء من الوحي ليس في كتاب الله? فقال: لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ما أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن ثم تلاحق العلماء في تفسير القرآن وسلك كل فريق مسلكا يأوي إليه وذوقا يعتمد عليه.
- مناهج المفسرين:
فمنهم من سلك مسلك نقل ما يؤثر عن السلف، وأول من صنف في هذا المعنى، مالك ابن أنس، وكذلك الداودي تلميذ السيوطي في طبقات المفسرين، وذكره عياض في المدارك إجمالا. وأشهر أهل هذه الطريقة فيما هو بأيدي الناس محمد بن جرير الطبري.
ومنهم من سلك مسلك النظر كأبي إسحاق الزجاج وأبي علي الفارسي، وشغف كثير بنقل القصص عن الإسرائيليات، فكثرت في كتبهم الموضوعات.
- مكانة تفسير الزمخشري وابن عطية:
إلى أن جاء في عصر واحد عالمان جليلان أحدهما بالمشرق، وهو العلامة أبو القاسم محمود الزمخشري، صاحب "الكشاف"، والآخر بالمغرب بالأندلس وهو الشيخ عبد الحق بن عطية، فألف تفسيره المسمى بـ"المحرر الوجيز". كلاهما يغوص على معاني الآيات، ويأتي بشواهدها من كلام العرب ويذكر كلام المفسرين إلا أن منحى البلاغة والعربية بالزمخشري أخص، ومنحى الشريعة على ابن عطية أغلب، وكلاهما عضادتا الباب، ومرجع من بعدهما من أولي الألباب.
- معنى التأويل:
1- من العلماء من جعلهما متساويين، وإلى ذلك ذهب ثعلب وابن الأعرابي وأبو عبيدة، وهو ظاهر كلام الراغب.
2- ومنهم من جعل التفسير للمعنى الظاهر والتأويل للمتشابه.
3- ومنهم من قال: التأويل صرف اللفظ عن ظاهر معناه إلى معنى آخر محتمل لدليل فيكون هنا بالمعنى الأصولي، فإذا فسر قوله تعالى: {يخرج الحي من الميت} بإخراج الطير من البيضة، فهو التفسير، أو بإخراج المسلم من الكافر فهو التأويل.
- معنى التأويل في اللغة : [الأولى البدء ببيان المعنى لغة ثم بيان معناه اصطلاحًا]
التأويل مصدر أوله إذا أرجعه إلى الغاية المقصودة، والغاية المقصودة من اللفظ هو معناه وما أراده منه المتكلم به من المعاني، فساوى التفسير، على أنه لا يطلق إلا على ما فيه تفصيل معنى خفي معقول.
- الأدلة على التأويل:
قال الله تعالى: {هل ينظرون إلا تأويله} أي ينتظرون إلا بيانه الذي هو المراد منه، وقال صلى الله عليه وسلم في دعائه لابن عباس: ((اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل))، أي فهم معاني القرآن، وفي حديث عائشة رضي الله عنها كان صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه: ((سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي)) يتأول القرآن أي يعمل بقوله تعالى: {فسبح بحمد ربك واستغفره} فلذلك جمع في دعائه التسبيح والحمد وذكر لفظ الرب وطلب المغفرة فقولها: "يتأول"، صريح في أنه فسر الآية بالظاهر منها ولم يحملها على ما تشير إليه من انتهاء مدة الرسالة وقرب انتقاله صلى الله عليه وسلم، الذي فهمه منها عمر وابن عباس رضي الله عنهما.


- معنى استمداد علم التفسير:

استمداد العلم يراد به توقفه على معلومات سابق وجودها على وجود ذلك العلم عند مدونيه لتكون عونا لهم على إتقان تدوين ذلك العلم.
- الاستمداد لغة: [نفس الملحوظة سابقًا]
وسمي ذلك في الاصطلاح بالاستمداد عن تشبيه احتياج العلم لتلك المعلومات بطلب المدد، والمدد العون والغواث، فقرنوا الفعل بحرفي الطلب وهما السين والتاء.
- المراد بالعربية:
معرفة مقاصد العرب من كلامهم وأدب لغتهم سواء حصلت تلك المعرفة، بالسجية والسليقة، كالمعرفة الحاصلة للعرب الذين نزل القرآن بين ظهرانيهم، أم حصلت بالتلقي والتعلم كالمعرفة الحاصلة للمولدين الذين شافهوا بقية العرب ومارسوهم، والمولدين الذين درسوا علوم اللسان ودونوها.
-علاقة العربية بفهم القرآن:
إن القرآن كلام عربي فكانت قواعد العربية طريقا لفهم معانيه، وبدون ذلك يقع الغلط وسوء الفهم، لمن ليس بعربي بالسليقة.
- المقصود بقواعد العربية وعلاقتها بالتفسير:
مجموع علوم اللسان العربي، وهي: متن اللغة، والتصريف، والنحو، والمعاني، والبيان. ومن وراء ذلك استعمال العرب المتبع من أساليبهم في خطبهم وأشعارهم وتراكيب بلغائهم، ويدخل في ذلك ما يجري مجرى التمثيل والاستئناس للتفسير من أفهام أهل اللسان أنفسهم لمعاني آيات غير واضحة الدلالة عند المولدين، قال في الكشاف: ومن حق مفسر كتاب الله الباهر، وكلامه المعجز أن يتعاهد في مذاهبه بقاء النظم على حسنه والبلاغة على كمالها، وما وقع به التحدي سليما من القادح، فإذا لم يتعاهد أوضاع اللغة فهو من تعاهد النظم والبلاغة على مراحل" .
- علاقة علم البيان والبلاغة بالتفسير:
ولعلمي البيان والمعاني مزيد اختصاص بعلم التفسير لأنهما وسيلة لإظهار خصائص البلاغة القرآنية، وما تشتمل عليه الآيات من تفاصيل المعاني وإظهار وجه الإعجاز ولذلك كان هذان العلمان يسميان في القديم علم دلائل الإعجاز.
- نقولات للعلماء في بيان أهمية علمي البيان والمعاني للمفسر:
قال في الكشاف: علم التفسير الذي لا يتم لتعاطيه وإجالة النظر فيه كل ذي علم، فالفقيه وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام، والمتكلم وإن برز أهل الدنيا في صناعة الكلام، وحافظ القصص والأخبار وإن كان من ابن القرية أحفظ، والواعظ وإن كان من الحسن البصري أوعظ، والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه، واللغوي وإن علك اللغات بقوة لحييه، لا يتصدى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق، إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن وهما علما البيان والمعاني اهـ".
وقال في آخر فن البيان من "المفتاح": "لا أعلم في باب التفسير بعد علم الأصول أقرأ على المرء لمراد الله من كلامه، من علمي المعاني والبيان، ولا أعون على تعاطي تأويل متشابهاته، ولا أنفع في درك لطائف نكته وأسراره، ولا أكشف للقناع عن وجه إعجازه، ولكم آية من آيات القرآن تراها قد ضيمت حقها واستلبت ماءها ورونقها أن وقعت إلى من ليسوا من أهل هذا العلم، فأخذوا بها في مآخذ مردودة، وحملوها على محامل غير مقصودة إلخ".
وقال الشيخ عبد القاهر في "دلائل الإعجاز". في آخر فصل المجاز الحكمي: "ومن عادة قوم ممن يتعاطى التفسير بغير علم، أن يتوهموا ألباب الألفاظ الموضوعة على المجاز والتمثيل أنها على ظواهرها "أي على الحقيقة"، فيفسدوا المعنى بذلك ويبطلوا الغرض ويمنعوا أنفسهم والسامع منهم العلم بموضع البلاغة وبمكان الشرف، وناهيك بهم إذا أخذوا في ذكر الوجوه وجعلوا يكثرون في غير طائل، هنالك ترى ما شئت من باب جهل قد فتحوه، وزند ضلالة قد قدحوا به".
وأما استعمال العرب، فهو التملي من أساليبهم في خطبهم وأشعارهم وأمثالهم وعوائدهم ومحادثاتهم، ليحصل بذلك لممارسة المولد ذوق يقوم عنده مقام السليقة والسجية عند العربي القح والذوق كيفية للنفس بها تدرك الخواص والمزايا التي للكلام البليغ قال شيخنا الجد الوزير: "وهي ناشئة عن تتبع استعمال البلغاء فتحصل لغير العربي بتتبع موارد الاستعمال والتدبر في الكلام المقطوع ببلوغه غاية البلاغة، فدعوى معرفة الذوق لا تقبل إلا من الخاصة وهو يضعف ويقوى بحسب مثافنة ذلك التدبر" اهـ.
-أهمية ديوان العرب في التفسير:
روى أئمة الأدب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ على المنبر قوله تعالى: {أو يأخذهم على تخوف} ثم قال: ما تقولون فيها? أي في معنى التخوف، فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا، التخوف التنقص، فقال عمر: وهل تعرف العرب ذلك في كلامها? قال: نعم. قال: أبو كبير الهذلي:
تخوف الرحل منها تامكا قردا = كما تخوف عود النبعة السفن
فقال عمر: "عليكم بديوانكم لا تضلوا، هو شعر العرب فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم" وعن ابن عباس: الشعر ديوان العرب فإذا خفي علينا الحرف من القرآن، الذي أنزله الله بلغتهم رجعنا إلى ديوانهم فالتمسنا معرفة ذلك منه وكان كثيرا ما ينشد الشعر إذا سئل عن بعض حروف القرآن.
- هل النبي صلى الله عليه وسلم فسر القرآن:
ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، من بيان المراد من بعض القرآن في مواضع الإشكال والإجمال، وذلك شيء قليل. قال ابن عطية عن عائشة ما كان رسول الله يفسر من القرآن إلا آيات معدودات علمه إياهن جبريل، قال معناه في مغيبات القرآن وتفسير مجمله مما لا سبيل إليه إلا بتوقيف.
- أسباب النزول من التفسيرالتوقيفي :
قلت: أو كان تفسير لا توقيف فيه، كما بين لعدي بن حاتم أن الخيط الأبيض والخيط الأسود هما سواد الليل وبياض النهار، وقال له: ((إنك لعريض الوسادة))، وفي رواية ((إنك لعريض القفا))، وما نقل عن الصحابة الذين شاهدوا نزول الوحي من بيان سبب النزول، وناسخ ومنسوخ، وتفسير مبهم، وتوضيح واقعة من كل ما طريقهم فيه الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم، دون الرأي وذلك مثل كون المراد من المغضوب عليهم اليهود ومن الضالين النصارى، ومثل كون المراد من قوله تعالى: {ذرني ومن خلقت وحيدا} الوليد بن المغيرة المخزومي أبا خالد بن الوليد، وكون المراد من قوله تعالى: {أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا} الآية، العاصي بن وائل السهمي في خصومته بينه وبين خباب بن الأرت كما في صحيح البخاري في تفسير سورة المدثر.
قال ابن عباس مكثت سنين أريد أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يمنعني إلا مهابته، ثم سألته فقال: هما حفصة وعائشة.
- العبرة في سبب النزول بعموم اللفظ لا بخصوص السبب":
ومعنى كون أسباب النزول من مادة التفسير، أنها تعين على تفسير المراد، وليس المراد أن لفظ الآية يقصر عليها؛ لأن سبب النزول لا يخصص، قال تقي الدين السبكي: وكما أن سبب النزول لا يخصص، كذلك خصوص غرض الكلام لا يخصص، كأن يرد خاص ثم يعقبه عام للمناسبة فلا يقتضي تخصيص العام، نحو: {فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير}. وقد يكون المروي في سبب النزول مبينا ومؤولا لظاهر غير مقصود، فقد توهم قدامة بن مظعون من قوله تعالى: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا} فاعتذر بها لعمر بن الخطاب في شرب قدامة خمرا، روي أن عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين فقدم الجارود على عمر فقال: إن قدامة شرب فسكر، فقال عمر: من يشهد على ما تقول? قال الجارود: أبو هريرة يشهد على ما أقول وذكر الحديث، فقال عمر: يا قدامة إني جالدك، قال: والله لو شربت كما يقولون ما كان لك أن تجلدني، قال عمر: ولم? قال لأن الله يقول: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح} إلخ، فقال عمر: إنك أخطأت التأويل يا قدامة، إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله. وفي رواية فقال: لم تجلدني بيني وبينك كتاب الله، فقال عمر: وأي كتاب الله تجد أن لا أجلدك? قال: إن الله يقول في كتابه {ليس على الذين آمنوا} إلى آخر الآية فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وأحسنوا، شهدت مع رسول الله بدرا وأحدا والخندق والمشاهد، فقال عمر: ألا تردون عليه قوله فقال ابن عباس: إن هؤلاء الآيات أنزلن عذرا للماضين وحجة على الباقين، فعذر الماضين بأنهم لقوا الله قبل أن تحرم عليهم الخمر، وحجة على الباقين لأن الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر} ثم قرأ إلى آخر الآية الأخرى، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا وأحسنوا فإن الله قد نهى أن يشرب الخمر، قال عمر: صدقت الحديث.
- الاجماع في التفسير:
وتشمل الآثار إجماع الأمة على تفسير معنى، إذ لا يكون إلا عن مستند كإجماعهم على أن المراد من الأخت في آية الكلالة الأولى هي الأخت للأم، وأن المراد من الصلاة في سورة الجمعة هي صلاة الجمعة، وكذلك المعلومات بالضرورة كلها ككون الصلاة مرادا منها الهيئة المخصوصة دون الدعاء، والزكاة المال المخصوص المدفوع.
- القراءات وحاجة التفسير إليها:
وأما القراءات فلا يحتاج إليها إلا في حين الاستدلال بالقراءة على تفسير غيرها، وإنما يكون في معنى الترجيح لأحد المعاني القائمة من الآية أو لاستظهار على المعنى، فذكر القراءة كذكر الشاهد من كلام العرب؛ لأنها إن كانت مشهورة، فلا جرم أنها تكون حجة لغوية، وإن كانت شاذة فحجتها لا من حيث الرواية، لأنها لا تكون صحيحة الرواية، ولكن من حيث إن قارئها ما قرأ بها إلا استنادا لاستعمال عربي صحيح، إذ لا يكون القارئ معتدا به إلا إذا عرفت سلامة عربيته، كما احتجوا على أن أصل {الحمد لله} أنه منصوب على المفعول المطلق بقراءة هارون العتكي (الحمدَ لله) بالنصب كما في الكشاف، وبذلك يظهر أن القراءة لا تعد تفسيرا من حيث هي طريق في أداء ألفاظ القرآن، بل من حيث أنها شاهد لغوي فرجعت إلى علم اللغة.
- أخبار العرب هل نحتاجها في التفسير؟
وأما أخبار العرب فهي من جملة أدبهم. وإنما خصصتها بالذكر تنبيها لمن يتوهم أن الاشتغال بها من اللغو فهي يستعان بها على فهم ما أوجزه القرآن في سوقها لأن القرآن إنما يذكر القصص والأخبار للموعظة والاعتبار، لا لأن يتحادث بها الناس في الأسمار، فبمعرفة الأخبار يعرف ما أشارت له الآيات من دقائق المعاني، فنحو قوله تعالى: {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا} وقوله: {قتل أصحاب الأخدود} يتوقف على معرفة أخبارهم عند العرب.
- علاقة أصول الفقه بالتفسير:
وأما أصول الفقه فلم يكونوا يعدونه من مادة التفسير، ولكنهم يذكرون أحكام الأوامر والنواهي والعموم وهي من أصول الفقه، فتحصل أن بعضه يكون مادة للتفسير، وذلك من جهتين: إحداهما أن علم الأصول قد أودعت فيه مسائل كثيرة هي من طرق استعمال كلام العرب وفهم موارد اللغة أهمل التنبيه عليها علماء العربية مثل مسائل الفحوى ومفهوم المخالفة، وقد عد الغزالي علم الأصول من جملة العلوم التي تتعلق بالقرآن وبأحكامه فلا جرم أن يكون مادة للتفسير.
الجهة الثانية: أن علم الأصول يضبط قواعد الاستنباط ويفصح عنها فهو آلة للمفسر في استنباط المعاني الشرعية من آياتها.
- هل علم الكلام يحتاجه المفسر؟
وقال الآلوسي لتوقف فهم ما يجوز على الله ويستحيل على الكلام يعني من آيات التشابه في الصفات مثل {الرحمن على العرش استوى}، وهذا التوجيه أقرب من توجيه عبد الحكيم، وهو مأخوذ من كلام السيد الجرجاني في شرح المفتاح، وكلاهما اشتباه لأن كون القرآن كلام الله قد تقرر عند سلف الأمة قبل علم الكلام، ولا أثر له في التفسير، وأما معرفة ما يجوز وما يستحيل فكذلك، ولا يحتاج لعلم الكلام إلا في التوسع في إقامة الأدلة على استحالة بعض المعاني، وقد أبنت أن ما يحتاج إليه المتوسع لا يصير مادة للتفسير.
-هل المفسر يحتاج الفقه؟
ولم نعد الفقه من مادة علم التفسير كما فعل السيوطي، لعدم توقف فهم القرآن، على مسائل الفقه، فإن علم الفقه متأخر عن التفسير وفرع عنه، وإنما يحتاج المفسر إلى مسائل الفقه، عند قصد التوسع في تفسيره، للتوسع في طرق الاستنباط وتفصيل المعاني تشريعا وآدابا وعلوما، ولذلك لا يكاد يحصر ما يحتاجه المتبحر في ذلك من العلوم، ويوشك أن يكون المفسر المتوسع محتاجا إلى الإلمام بكل العلوم وهذا المقام هو الذي أشار له البيضاوي بقوله: "لا يليق لتعاطيه، والتصدي للتكلم فيه، إلا من برع في العلوم الدينية كلها أصولها وفروعها وفي الصناعات العربية والفنون الأدبية بأنواعها".
- الخلاصة في استمداد علم التفسير:
تنبيه: اعلم أنه لا يعد من استمداد علم التفسير، الآثار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير آيات، ولا ما يروى عن الصحابة في ذلك لأن ذلك من التفسير لا من مدده، ولا يعد أيضا من استمداد التفسير ما في بعض آي القرآن من معنى يفسر بعضا آخر منها، لأن ذلك من قبيل حمل بعض الكلام على بعض، كتخصيص العموم وتقييد المطلق وبيان المجمل وتأويل الظاهر ودلالة الاقتضاء وفحوى الخطاب ولحن الخطاب، ومفهوم المخالفة.
ذكر ابن هشام، في مغني اللبيب، في حرف لا، عن أبي علي الفارسي، أن القرآن كله كالسورة الواحدة، ولهذا يذكر الشيء في سورة وجوابه في سورة أخرى، نحو: {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} وجوابه {ما أنت بنعمة ربك بمجنون} اهـ.
وهذا كلام لا يحسن إطلاقه، لأن القرآن قد يحمل بعض آياته على بعض وقد يستقل بعضها عن بعض، إذ ليس يتعين أن يكون المعنى المقصود في بعض الآيات مقصودا في جميع نظائرها، بله ما يقارب غرضها.
واعلم أن استمداد علم التفسير، من هذه المواد لا ينافي كونه رأس العلوم الإسلامية كما تقدم، لأن كونه رأس العلوم الإسلامية، معناه أنه أصل لعلوم الإسلام على وجه الإجمال، فأما استمداده من بعض العلوم الإسلامية، فذلك استمداد لقصد تفصيل التفسير على وجه أتم من الإجمال، وهو أصل لما استمد منه باختلاف الاعتبار على ما حققه عبد الحكيم.
[في المسائل التارلية مناشة ابن عاشور لحد التفسير بالمأثور والرد على من ال أن التفسير يكون بالمأثور فقط]
- حذرالصحابة من التفسير بالرأي:
إن قلت: أتراك بما عددت من علوم التفسير تثبت أن تفسيرا كثيرا للقرآن لم يستند إلى مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، وتبيح لمن استجمع من تلك العلوم حظا كافيا وذوقا ينفتح له بهما من معاني القرآن ما ينفتح عليه، أن يفسر من آي القرآن بما لم يؤثر عن هؤلاء، فيفسر بمعان تقتضيها العلوم التي يستمد منها علم التفسير، وكيف حال التحذير الواقع في الحديث الذي رواه الترمذي عن ابن عباس أن رسول الله قال: ((من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار))، وفي رواية: ((من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار)). والحديث الذي رواه أبو داود والترمذي والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ" وكيف محمل ما روي من تحاشي بعض السلف عن التفسير بغير توقيف?
هل التفسير مقتصرا على التفسير بالمأثورة فحسب؟
فقد روي عن أبي بكر الصديق أنه سئل عن تفسير الأب في قوله {وفاكهة وأبا }. فقال: "أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأيي". ويروى عن سعيد بن المسيب والشعبي إحجامهما عن ذلك.
قلت: أراني كما حسبت أثبت ذلك وأبيحه، وهل اتسعت التفاسير وتفننت مستنبطات معاني القرآن إلا بما رزقه الذين أوتوا العلم من فهم في كتاب الله. وهل يتحقق قول علمائنا: إن القرآن لا تنقضي عجائبه إلا بازدياد المعاني باتساع التفسير? ولولا ذلك لكان تفسير القرآن مختصرا في ورقات قليلة. وقد قالت عائشة: ما كان رسول الله يفسر من كتاب الله إلا آيات معدودات علمه جبريل إياهن كما تقدم في المقدمة الثانية.
ثم لو كان التفسير مقصورا على بيان معاني مفردات القرآن من جهة العربية لكان التفسير نزرا، ونحن نشاهد كثرة أقوال السلف من الصحابة، فمن يليهم في تفسير آيات القرآن وما أكثر ذلك الاستنباط برأيهم وعلمهم.
-
قال الغزالي والقرطبي: لا يصح أن يكون كل ما قاله الصحابة في التفسير مسموعا من النبي صلى الله عليه وسلم لوجهين: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه من التفسير إلا تفسير آيات قليلة وهي ما تقدم عن عائشة. الثاني أنهم اختلفوا في التفسير على وجوه مختلفة لا يمكن الجمع بينها. وسماع جميعها من رسول الله محال، ولو كان بعضها مسموعا لترك الآخر، أي لو كان بعضها مسموعا لقال قائله: إنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إليه من خالفه.
- هل فسر الصحابة القرآن الكريم؟
فتبين على القطع أن كل مفسر قال في معنى الآية بما ظهر له باستنباطه. روى البخاري في صحيحه عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله? قال: "لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لا أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن" إلخ وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس فقال: ((اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)) واتفق العلماء على أن المراد بالتأويل تأويل القرآن، وقد ذكر فقهاؤنا في آداب قراءة القرآن أن التفهم مع قلة القراءة أفضل من كثرة القراءة بلا تفهم، قال الغزالي في الإحياء: "التدبر في قراءته إعادة النظر في الآية والتفهم أن يستوضح من كل آية ما يليق بها كي تتكشف له من الأسرار معان مكنونة لا تتكشف إلا للموفقين قال: ومن موانع الفهم أن يكون قد قرأ تفسيرا واعتقد أن لا معنى لكلمات القرآن إلا ما تناوله النقل عن ابن عباس وابن مجاهد، وأن ما وراء ذلك تفسير بالرأي فهذا من الحجب العظيمة".
- هل يجوز التفسير بالرأي؟
وقال فخر الدين في تفسير قوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} في سورة النساء وقد ثبت في أصول الفقه أن المتقدمين إذا ذكروا وجها في تفسير الآية فذلك لا يمنع المتأخرين من استخراج وجه آخر في تفسيرها وإلا لصارت الدقائق التي يستنبطها المتأخرون في التفسير مردودة، وذلك لا يقوله إلا مقلد خلف بضم الخاء ا هـ. وقال سفيان بن عيينة في قوله تعالى: {ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون} هي تسلية للمظلوم وتهديد للظالم، فقيل له: من قال هذا? فغضب وقال: إنما قاله من علمه يريد نفسه، وقال أبو بكر ابن العربي في العواصم إنه أملى على سورة نوح خمسمائة مسألة وعلى قصة موسى ثمانمائة مسألة.
وهل استنباط الأحكام التشريعية من القرآن في خلال القرون الثلاثة الأولى من قرون الإسلام إلا من قبيل التفسير لآيات القرآن بما لم يسبق تفسيرها به قبل ذلك? وهذا الإمام الشافعي يقول: تطلبت دليلا على حجية الإجماع فظفرت به في قوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا}.
قال شرف الدين الطيبي في شرح الكشاف في سورة الشعراء: شرط التفسير الصحيح أن يكون مطابقا للفظ من حيث الاستعمال، سليما من التكلف عريا من التعسف، وصاحب الكشاف يسمي ما كان على خلاف ذلك بدع التفاسير.

- الجواب عن الشبهة التي نشأت من الآثار المروية في التحذير من تفسير القرآن بالرأي :
مرجعه إلى أحد خمسة وجوه:
أولها: أن المراد بالرأي هو القول عن مجرد خاطر دون استناد إلى نظر في أدلة العربية ومقاصد الشريعة وتصاريفها، وما لا بد منه من معرفة الناسخ والمنسوخ وسبب النزول، فهذا لا محالة إن أصاب فقد أخطأ في تصوره بلا علم، لأنه لم يكن مضمون الصواب كقول المثل: "رمية من غير رام" وهذا كمن فسر {الم} إن الله أنزل جبريل على محمد بالقرآن فإنه لا مستند لذلك.
- الرد على أن مقولة الصديق "أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأيي"
أن ذلك من الورع خشية الوقوع في الخطأ في كل ما لم يقم له فيه دليل أو في مواضع لم تدع الحاجة إلى التفسير فيها، ألم تر أنه سئل عن الكلالة في آية النساء فقال: أقول فيها برأي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان إلخ. وعلى هذا المحمل ما روي عن الشعبي وسعيد أي أنهما تباعدا عما يوقع في ذلك ولو على احتمال بعيد مبالغة في الورع ودفعا للاحتمال الضعيف، وإلا فإن الله تعالى ما تعبدنا في مثل هذا إلا ببذل الوسع مع ظن الإصابة.
ثانيها: أن لا يتدبر القرآن حق تدبره فيفسره بما يخطر له من بادئ الرأي دون إحاطة بجوانب الآية ومواد التفسير مقتصرا على بعض الأدلة دون بعض كأن يعتمد على ما يبدو من وجه في العربية فقط، كمن يفسر قوله تعالى: {ما أصابك من حسنة فمن الله} الآية على ظاهر معناها يقول، إن الخير من الله والشر من فعل الإنسان بقطع النظر على الأدلة الشرعية التي تقتضي أن لا يقع إلا ما أراد الله غافلا عما سبق من قوله تعالى: {قل كل من عند الله} أو بما يبدو من ظاهر اللغة دون استعمال العرب كمن يقول في قوله تعالى: {وآتينا ثمود الناقة مبصرة} فيفسر مبصرة بأنها ذات بصر لم تكن عمياء، فهذا من الرأي المذموم لفساده.
ثالثها: أن يكون له ميل إلى نزعة أو مذهب أو نحلة فيتأول القرآن على وفق رأيه ويصرفه عن المراد , كمن يتأول آيات الصفات.
رابعها: أن يفسر القرآن برأي مستند إلى ما يقتضيه اللفظ ثم يزعم أن ذلك هو المراد دون غيره لما في ذلك من التضييق على المتأولين.
خامسها: أن يكون القصد من التحذير أخذ الحيطة في التدبر والتأويل ونبذ التسرع إلى ذلك، وهذا مقام تفاوت العلماء فيه واشتد الغلو في الورع ببعضهم حتى كان لا يذكر تفسير شيء غير عازيه إلى غيره.
- اختلاف رأي العلماء في التفسير بالرأي:
أما الذين جمدوا على القول بأن تفسير القرآن يجب أن لا يعدو ما هو مأثور فهم رموا هذه الكلمة على عواهنها ولم يضبطوا مرادهم من المأثور عمن يؤثر، فإن أرادوا به ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من تفسير بعض آيات إن كان مرويا بسند مقبول من صحيح أو حسن، فإذا التزموا هذا الظن بهم فقد ضيقوا سعة معاني القرآن وينابيع ما يستنبط من علومه، وناقضوا أنفسهم فيما دونوه من التفاسير، وغلطوا سلفهم فيما تأولوه، إذ لا ملجأ لهم من الاعتراف بأن أئمة المسلمين من الصحابة فمن بعدهم لم يقصروا أنفسهم على أن يرووا ما بلغهم من تفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد سأل عمر بن الخطاب أهل العلم عن معاني آيات كثيرة ولم يشترط عليهم أن يرووا له ما بلغهم في تفسيرها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن أرادوا بالمأثور ما روي عن النبي وعن الصحابة خاصة وهو ما يظهر من صنيع السيوطي في تفسيره الدر المنثور، لم يتسع ذلك المضيق إلا قليلا ولم يغن عن أهل التفسير فتيلا، لأن أكثر الصحابة لا يؤثر عنهم في التفسير إلا شيء قليل سوى ما يروى عن علي بن أبي طالب على ما فيه من صحيح وضعيف وموضوع، وقد ثبت عنه أنه قال: ما عندي مما ليس في كتاب الله شيء إلا فهما يؤتيه الله. وما يروى عن ابن مسعود وعبد الله بن عمر وأنس وأبي هريرة. وأما ابن عباس فكان أكثر ما يروى عنه قولا برأيه على تفاوت بين رواته. وإن أرادوا بالمأثور ما كان مرويا قبل تدوين التفاسير الأول مثل ما يروى عن أصحاب ابن عباس وأصحاب ابن مسعود، فقد أخذوا يفتحون الباب من شقه، ويقربون ما بعد من الشقة، إذ لا محيص لهم من الاعتراف بأن التابعين قالوا أقوالا في معاني القرآن لم يسندوها ولا ادعوا أنها محذوفة الأسانيد، وقد اختلفت أقوالهم في معاني آيات كثيرة اختلافا ينبئ إنباء واضحا بأنهم إنما تأولوا تلك الآيات من أفهامهم كما يعلمه من له علم بأقوالهم، وهي ثابتة في تفسير الطبري ونظرائه، وقد التزم الطبري في تفسيره أن يقتصر على ما هو مروي عن الصحابة والتابعين، لكنه لا يلبث في كل آية أن يتخطى ذلك إلى اختياره منها وترجيح بعضها على بعض بشواهد من كلام العرب، وحسبه بذلك تجاوزا لما حدده من الاقتصار على التفسير بالمأثور وذلك طريق ليس بنهج، وقد سبقه إليه بقي بن مخلد ولم نقف على تفسيره، وشاكل الطبري فيه معاصروه، مثل ابن حاتم[وابن مردويه والحاكم، فلله در الذين لم يحبسوا أنفسهم في تفسير القرآن على ما هو مأثور مثل الفراء وأبي عبيدة من الأولين، والزجاج والرماني ممن بعدهم، ثم الذين سلكوا طريقهم مثل الزمخشري وابن عطية.
- طائفة الباطنية:
طائفة التزمت تفسير القرآن بما يوافق هواها، وصرفوا ألفاظ القرآن عن ظواهرها بما سموه الباطن، وزعموا أن القرآن إنما نزل متضمنا لكنايات ورموز عن أغراض، وأصل هؤلاء طائفة من غلاة الشيعة عرفوا عند أهل العلم بالباطنية فلقبوهم بالوصف الذي عرفوهم به، وهم يعرفون عند المؤرخين بالإسماعيلية لأنهم ينسبون مذهبهم إلى جعفر بن إسماعيل الصادق، ويعتقدون عصمته وإمامته بعد أبيه بالوصاية، ويرون أن لا بد للمسلمين من إمام هدى من آل البيت هو الذي يقيم الدين، ويبين مراد الله.
- سبب نشوء المذهب الباطني في التفسير:
ولما توقعوا أن يحاجهم العلماء بأدلة القرآن والسنة رأوا أن لا محيص لهم من تأويل تلك الحجج التي تقوم في وجه بدعتهم، وأنهم إن خصوها بالتأويل وصرف اللفظ إلى الباطن اتهمهم الناس بالتعصب والتحكم فرأوا صرف جميع القرآن عن ظاهره وبنوه على أن القرآن رموز لمعان خفية في صورة ألفاظ تفيد معاني ظاهرة ليشتغل بها عامة المسلمين، وزعموا أن ذلك شأن الحكماء.
- أصل المذهب الباطني:
فمذهبهم مبني على قواعد الحكمة الإشراقية ومذهب التناسخ والحلولية فهو خليط من ذلك، ومن طقوس الديانات اليهودية والنصرانية وبعض طرائق الفلسفة ودين زرادشت. وعندهم أن الله يحل في كل رسول وإمام وفي الأماكن المقدسة، وأنه يشبه الخلق تعالى وتقدس وكل علوي يحل فيه الإله. وتكلفوا لتفسير القرآن بما يساعد الأصول التي أسسوها.
-موقف العلماء من مذهب الباطنية:
وقد تصدى للرد عليهم الغزالي في كتابه الملقب بـ "المستظهري". وقال: إذا قلنا بالباطن فالباطن لا ضبط له بل تتعارض فيه الخواطر فيمكن تنزيل الآية على وجوه شتى اهـ. يعني والذي يتخذونه حجة لهم يمكن أن نقلبه عليهم وندعي أنه باطن القرآن لأن المعنى الظاهر هو الذي لا يمكن اختلاف الناس فيه لاستناده للغة الموضوعة من قبل. وأما الباطن فلا يقوم فهم أحد فيه حجة على غيره اللهم إلا إذا زعموا أنه لا يتلقى إلا من الإمام المعصوم ولا إخالهم إلا قائلين ذلك. ويؤيد هذا ما وقع في بعض قراطيسهم قالوا إنما ينتقل إلى البدل مع عدم الأصل، والنظر بدل من الخبر فإن كلام الله هو الأصل فهو خلق الإنسان وعلمه البيان والإمام هو خليفته ومع وجود الخليفة الذي يبين قوله فلا ينتقل إلى النظر اهـ وبين ابن العربي في كتاب العواصم شيئا من فضائح مذهبهم بما لا حاجة إلى التطويل به هنا.
- الرد على من زعم أن للباطن أصل في الأثر:
فإن قلت فما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن للقرآن ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا)). وعن ابن عباس أنه قال: إن للقرآن ظهرا وبطنا. قلت لم يصح ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، بله المروي عن ابن عباس فمن هو المتصدي لروايته عنه? على أنهم ذكروا من بقية كلام ابن عباس أنه قال فظهره التلاوة وبطنه التأويل فقد أوضح مراده إن صح عنه بأن الظهر هو اللفظ والبطن هو المعنى. ومن تفسير الباطنية تفسير القاشاني وكثير من أقوالهم مبثوث في "رسائل إخوان الصفاء. "
- الفرق بين الباطنية والصوفيه في التفسير:
أما ما يتكلم به أهل الإشارات من الصوفية في بعض آيات القرآن من معان لا تجري على ألفاظ القرآن ظاهرا ولكن بتأويل ونحوه فينبغي أن تعلموا أنهم ما كانوا يدعون أن كلامهم في ذلك تفسير للقرآن، بل يعنون أن الآية تصلح للتمثل بها في الغرض المتكلم فيه، وحسبكم في ذلك أنهم سموها إشارات ولم يسموها معاني، فبذلك فارق قولهم قول الباطنية. ولعلماء الحق فيها رأيان: فالغزالي يراها مقبولة، قال في كتاب من "الإحياء": إذا قلنا في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة)) فهذا ظاهره أو إشارته أن القلب بيت وهو مهبط الملائكة ومستقر آثارهم، والصفات الرديئة كالغضب والشهوة والحسد والحقد والعجب كلاب نابحة في القلب فلا تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب، ونور الله لا يقذفه في القلب إلا بواسطة الملائكة، فقلب كهذا لا يقذف فيه النور. وقال: ولست أقول إن المراد من الحديث بلفظ البيت القلب وبالكلب الصفة المذمومة ولكن أقول هو تنبيه عليه، وفرق بين تغيير الظاهر وبين التنبيه على البواطن من ذكر الظواهر اهـ. فبهذه الدقيقة فارق نزعة الباطنية. ومثل هذا قريب من تفسير لفظ عام في آية بخاص من جزئياته كما وقع في كتاب المغازي من صحيح البخاري عن عمرو بن عطاء في قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا} قال هم كفار قريش، ومحمد نعمة الله {وأحلوا قومهم دار البوار} قال يوم بدر.
-موقف العلماء من الصوفية والاشارات في التفسير:
وابن العربي في كتاب "العواصم" يرى إبطال هذه الإشارات كلها حتى أنه بعد أن ذكر نحلة الباطنية وذكر "رسائل إخوان الصفاء" أطلق القول في إبطال أن يكون للقرآن باطن غير ظاهره، وحتى أنه بعد ما نوه بالثناء على الغزالي في تصديه للرد على الباطنية والفلاسفة قال: "وقد كان أبو حامد بدرا في ظلمة الليالي، وعقدا في لبة المعالي، حتى أوغل في التصوف، وأكثر معهم التصرف، فخرج عن الحقيقة، وحاد في أكثر أقواله عن الطريقة" اهـ.
-انحاء الاشارة المقبولة في القرآن:
وعندي إن هذه الإشارات لا تعدو واحدا من ثلاثة أنحاء: الأول ما كان يجري فيه معنى الآية مجرى التمثيل لحال شبيه بذلك المعنى كما يقولون مثلا {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} أنه إشارة للقلوب لأنها مواضع الخضوع لله تعالى إذ بها يعرف فتسجد له القلوب بفناء النفوس.
الثاني: ما كان من نحو التفاؤل فقد يكون للكلمة معنى يسبق من صورتها إلى السمع هو غير معناها المراد وذلك من باب انصراف ذهن السامع إلى ما هو المهم عنده، والذي يجول في خاطره .
الثالث: عبر ومواعظ وشأن أهل النفوس اليقظى أن ينتفعوا من كل شيء ويأخذوا الحكمة حيث وجدوها فما ظنك بهم إذا قرأوا القرآن وتدبروه فاتعظوا بمواعظه فإذا أخذوا من قوله تعالى: {فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا} اقتبسوا أن القلب الذي لم يمتثل رسول المعارف العليا تكون عاقبته وبالا.
- هل ينسب للقرآن المعنى الاشاري؟
فنسبة الإشارة إلى لفظ القرآن مجازية لأنها إنما تشير لمن استعدت عقولهم وتدبرهم في حال من الأحوال الثلاثة ولا ينتفع بها غير أولئك، فلما كانت آيات القرآن قد أنارت تدبرهم وأثارت اعتبارهم نسبوا تلك الإشارة للآية. فليست تلك الإشارة هي حق الدلالة اللفظية والاستعمالية حتى تكون من لوازم اللفظ وتوابعه كما قد تبين. وكل إشارة خرجت عن حد هذه الثلاثة الأحوال إلى ما عداها فهي تقترب إلى قول الباطنية رويدا رويدا إلى أن تبلغ عين مقالاتهم وقد بصرناكم بالحد الفارق بينهما، فإذا رأيتم اختلاطه فحققوا مناطه، وفي أيديكم فيصل الحق فدونكم اختراطه.
 هل دلالة الاشارة تتعلق بالمعنى الاشاري؟
وليس من الإشارة ما يعرف في الأصول بدلالة الإشارة، وفحوى الخطاب، وفهم الاستغراق من لام التعريف في المقام الخطابي، ودلالة التضمن والالتزام كما أخذ العلماء من تنبيهات القرآن استدلالا لمشروعية أشياء، كاستدلالهم على مشروعية الوكالة من قوله تعالى: {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه} ومشروعية الضمان من قوله: {وأنا به زعيم}. ومشروعية القياس من قوله: {لتحكم بين الناس بما أراك الله} ولا بما هو بالمعنى المجازي نحو {يا جبال أوبي معه} {فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين} ولا ما هو من تنزيل الحال منزلة المقال نحو: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} لأن جميع هذا مما قامت فيه الدلالة العرفية مقام الوضعية واتحدت في إدراكه أفهام أهل العربية فكان من المدلولات التبعية.
قال في الكشاف: وكم من آية أنزلت في شأن الكافرين وفيها أوفر نصيب للمؤمنين تدبرا لها واعتبارا بموردها. يعني أنها في شأن الكافرين من دلالة العبارة وفي شأن المؤمنين من دلالة الإشارة.

 المقصد من انزال القرآن:
إن القرآن أنزله الله تعالى كتابا لصلاح أمر الناس كافة رحمة لهم لتبليغهم مراد الله منهم قال الله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} فكان المقصد الأعلى منه صلاح الأحوال الفردية، والجماعية، والعمرانية. فالصلاح الفردي يعتمد تهذيب النفس وتزكيتها، ورأس الأمر فيه صلاح الاعتقاد لأن الاعتقاد مصدر الآداب والتفكير، ثم صلاح السريرة الخاصة، وهي العبادات الظاهرة كالصلاة، والباطنة كالتخلق بترك الحسد والحقد والكبر. وأما الصلاح الجماعي فيحصل أولا من الصلاح الفردي إذ الأفراد أجزاء المجتمع، ولا يصلح الكل إلا بصلاح أجزائه، ومن شيء زائد على ذلك وهو ضبط تصرف الناس بعضهم مع بعض على وجه يعصمهم من مزاحمة الشهوات ومواثبة القوى النفسانية. وهذا هو علم المعاملات، ويعبر عنه عند الحكماء بالسياسة المدنية. وأما الصلاح العمراني فهو أوسع من ذلك إذ هو حفظ نظام العالم الإسلامي، وضبط تصرف الجماعات والأقاليم بعضهم مع بعض على وجه يحفظ مصالح الجميع، ورعي المصالح الكلية الإسلامية، وحفظ المصلحة الجامعة عند معارضة المصلحة القاصرة لها، ويسمى هذا بعلم العمران وعلم الاجتماع.
فمراد الله من كتابه هو بيان تصاريف ما يرجع إلى حفظ مقاصد الدين وقد أودع ذلك في ألفاظ القرآن التي خاطبنا بها خطابا بينا وتعبدنا بمعرفة مراده والاطلاع عليه فقال: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب}.
الحكمة من نزول القرآن باللسان العربي :
وقد اختار الله تعالى أن يكون اللسان العربي مظهرا لوحيه، ومستودعا لمراده، وأن يكون العرب هم المتلقين أولا لشرعه وإبلاغ مراده لحكمة علمها: منها كون لسانهم أفصح الألسن وأسهلها انتشارا، وأكثرها تحملا للمعاني مع إيجاز لفظه، ولتكون الأمة المتلقية للتشريع والناشرة له أمة قد سلمت من أفن الرأي عند المجادلة، ولم تقعد بها عن النهوض أغلال التكالب على الرفاهية، ولا عن تلقي الكمال الحقيقي إذ يسبب لها خلطه بما يجر إلى اضمحلاله فيجب أن تعلموا قطعا أن ليس المراد من خطاب العرب بالقرآن أن يكون التشريع قاصرا عليهم أو مراعيا لخاصة أحوالهم، بل إن عموم الشريعة ودوامها وكون القرآن معجزة دائمة مستمرة على تعاقب السنين ينافي ذلك، نعم إن مقاصده تصفية نفوس العرب الذين اختارهم كما قلنا لتلقي شريعته وبثها ونشرها، فهم المخاطبون ابتداء قبل بقية أمة الدعوة فكانت أحوالهم مرعية لا محالة، وكان كثير من القرآن مقصودا به خطابهم خاصة، وإصلاح أحوالهم قال تعالى: {ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا} وقال {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم} لكن ليس ذلك بوجه للاقتصار على أحوالهم كما سيأتي.
 المقاصد الأصلية التي جاء القرآن لتبيانها:
ثمانية أمور:
الأول: إصلاح الاعتقاد وتعليم العقد الصحيح. وهذا أعظم سبب لإصلاح الخلق، لأنه يزيل عن النفس عادة الإذعان لغير ما قام عليه الدليل، ويطهر القلب من الأوهام الناشئة عن الإشراك والدهرية وما بينهما، وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى: {فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب} فأسند لآلهتهم زيادة تتبيبهم، وليس هو من فعل الآلهة ولكنه من آثار الاعتقاد بالآلهة.
الثاني: تهذيب الأخلاق قال تعالى {وإنك لعلى خلق عظيم}.
وفسرت عائشة رضي الله تعالى عنها لما سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن. وفي الحديث الذي رواه مالك في الموطأ بلاغا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بعثت لأتمم مكارم حسن الأخلاق)) .
الثالث: التشريع وهو الأحكام خاصة وعامة. قال تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله.
الرابع: سياسة الأمة وهو باب عظيم في القرآن القصد منه صلاح الأمة وحفظ نظامها كالإرشاد إلى تكوين الجامعة بقوله: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها} .
الخامس: القصص وأخبار الأمم السالفة للتأسي بصالح أحوالهم قال: {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين}.
السادس: التعليم بما يناسب حالة عصر المخاطبين، وما يؤهلهم إلى تلقي الشريعة ونشرها وذلك علم الشرائع وعلم الأخبار وكان ذلك مبلغ علم مخالطي العرب من أهل الكتاب. وقد زاد القرآن على ذلك تعليم حكمة ميزان العقول وصحة الاستدلال في أفانين مجادلاته للضالين وفي دعوته إلى النظر، ثم نوه بشأن الحكمة فقال: {يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} .
السابع: المواعظ والإنذار والتحذير والتبشير، وهذا يجمع جميع آيات الوعد والوعيد، وكذلك المحاجة والمجادلة للمعاندين، وهذا باب الترغيب والترهيب.
الثامن: الإعجاز بالقرآن ليكون آية دالة على صدق الرسول؛ إذ التصديق يتوقف على دلالة المعجزة بعد التحدي، والقرآن جمع كونه معجزة بلفظه ومتحدي لأجله بمعناه والتحدي وقع فيه {قل فأتوا بسورة مثله} ولمعرفة أسباب النزول مدخل في ظهور مقتضى الحال ووضوحه.
بيان غرض المفسر:
فغرض المفسر بيان ما يصل إليه أو ما يقصده من مراد الله تعالى في كتابه بأتم بيان يحتمله المعنى ولا يأباه اللفظ من كل ما يوضح المراد من مقاصد القرآن، أو ما يتوقف عليه فهمه أكمل فهم، أو يخدم المقصد تفصيلا وتفريعا ، مع إقامة الحجة على ذلك إن كان به خفاء، أو لتوقع مكابرة من معاند أو جاهل، فلا جرم كان رائد المفسر في ذلك أن يعرف على الإجمال مقاصد القرآن مما جاء لأجله، ويعرف اصطلاحه في إطلاق الألفاظ، وللتنزيل اصطلاح وعادات.
طرائق المفسرين للقرآن:
فطرائق المفسرين للقرآن ثلاث، إما الاقتصار على الظاهر من المعنى الأصلي للتركيب مع بيانه وإيضاحه وهذا هو الأصل. وإما استنباط معان من وراء الظاهر تقتضيها دلالة اللفظ أو المقام ولا يجافيها الاستعمال ولا مقصد القرآن، وتلك هي مستتبعات التراكيب وهي من خصائص اللغة العربية المبحوث فيها في علم البلاغة ككون التأكيد يدل على إنكار المخاطب أو تردده، وكفحوى الخطاب ودلالة الإشارة واحتمال المجاز مع الحقيقة، وإما أن يجلب المسائل ويبسطها لمناسبة بينها وبين المعنى، أو لأن زيادة فهم المعنى متوقفة عليها، أو للتوفيق بين المعنى القرآني وبين بعض العلوم مما له تعلق بمقصد من مقاصد التشريع لزيادة تنبيه إليه، أو لرد مطاعن من يزعم أنه ينافيه لا على أنها مما هو مراد الله من تلك الآية بل لقصد التوسع .
رأي العلماء في التوفيق بين المعنى القرآني وبين بعض العلوم مما له تعلق بمقصد من مقاصد التشريع :
- جماعة منهم فيرون من الحسن التوفيق بين العلوم غير الدينية وآلاتها وبين المعاني القرآنية، ويرون القرآن مشيرا إلى كثير منها. قال ابن رشد الحفيد في فصل المقال: أجمع المسلمون على أن ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشرع كلها على ظاهرها، ولا أن تخرج كلها عن ظاهرها بالتأويل، والسبب في ورود الشرع بظاهر وباطن هو اختلاف نظر الناس. وتباين قرائحهم في التصديق وتخلص إلى القول بأن بين العلوم الشرعية والفلسفية اتصالا. ابن جني والزجاج وأبو حيان قد أشبعوا "تفاسيرهم" من الاستدلال على القواعد العربية، ولا شك أن الكلام الصادر عن علام الغيوب تعالى وتقدس لا تبنى معانيه على فهم طائفة واحدة ولكن معانيه تطابق الحقائق، وكل ما كان من الحقيقة في علم من العلوم وكانت الآية لها اعتلاق بذلك فالحقيقة العلمية مرادة بمقدار ما بلغت إليه أفهام البشر وبمقدار ما ستبلغ إليه. وذلك يختلف باختلاف المقامات ويبنى على توفر الفهم.


شرط التوفيق بين المعنى القرآني وبين بعض العلوم مما له تعلق بمقصد من مقاصد التشريع :

وشرطه أن لا يخرج عما يصلح له اللفظ عربية، ولا يبعد عن الظاهر إلا بدليل، ولا يكون تكلفا بينا ولا خروجا عن المعنى الأصلي حتى لا يكون في ذلك كتفاسير الباطنية.
- أبو إسحاق الشاطبي فقال في الفصل الثالث من المسألة الرابعة: لا يصح في مسلك الفهم والإفهام إلا ما يكون عاما لجميع العرب. فلا يتكلف فيه فوق ما يقدرون عليه وقال في المسألة الرابعة من النوع الثاني: "ما تقرر من أمية الشريعة وأنها جارية على مذاهب أهلها وهم العرب تنبني عليه قواعد، منها: أن كثيرا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين من علوم الطبيعيات والتعاليم والمنطق وعلم الحروف وأشباهها وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح فإن السلف الصالح كانوا أعلم بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه، ولم يبلغنا أن أحدا منهم تكلم في شيء من هذا سوى ما ثبت فيه من أحكام التكاليف وأحكام الآخرة. نعم تضمن علوما من جنس علوم العرب وما هو على معهودها مما يتعجب منه أولو الألباب ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة" إلخ.

الرد عل من يرى أن القرآن يعتمد في مسلك فهمه وإفهامه على مقدرة العرب وطاقتهم، وأن الشريعة أمية.
هذا أساس واه لوجوه ستة: الأول أن ما بناه عليه يقتضي أن القرآن لم يقصد منه انتقال العرب من حال إلى حال وهذا باطل ، قال تعالى: {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا}.
الثاني أن مقاصد القرآن راجعة إلى عموم الدعوة وهو معجزة باقية فلا بد أن يكون فيه ما يصلح لأن تتناوله أفهام من يأتي من الناس في عصور انتشار العلوم في الأمة.
الثالث أن السلف قالوا: إن القرآن لا تنقضي عجائبه يعنون معانيه ولو كان كما قال الشاطبي لانقضت عجائبه بانحصار أنواع معانيه.
الرابع أن من تمام إعجازه أن يتضمن من المعاني مع إيجاز لفظه ما لم تف به الأسفار المتكاثرة.
الخامس أن مقدار أفهام المخاطبين به ابتداء لا يقضي إلا أن يكون المعنى الأصلي مفهوما لديهم فأما مازاد على المعاني الأساسية فقد يتهيأ لفهمه أقوام، وتحجب عنه أقوام، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه.
السادس أن عدم تكلم السلف عليها إن كان فيما ليس راجعا إلى مقاصده فنحن نساعد عليه، وإن كان فيما يرجع إليها فلا نسلم وقوفهم فيها عند ظواهر الآيات بل قد بينوا وفصلوا وفرعوا في علوم عنوا بها.

- ذهب ابن العربي في "العواصم" إلى إنكار التوفيق بين العلوم الفلسفية والمعاني القرآنية ولم يتكلم على غير هاته العلوم وذلك على عادته في تحقير الفلسفة لأجل ما خولطت به من الضلالات الاعتقادية وهو مفرط في ذلك مستخف بالحكماء.
رأي ابن عاشور في التوفيق بين المعنى القرآني وبين بعض العلوم مما له تعلق بمقصد من مقاصد التشريع :
وأنا أقول: إن علاقة العلوم بالقرآن على أربع مراتب:
الأولى: علوم تضمنها القرآن كأخبار الأنبياء والأمم، وتهذيب الأخلاق والفقه والتشريع والاعتقاد والأصول والعربية والبلاغة.
الثانية: علوم تزيد المفسر علما كالحكمة والهيئة وخواص المخلوقات.
الثالثة: علوم أشار إليها أو جاءت مؤيدة له كعلم طبقات الأرض والطب والمنطق.
الرابعة: علوم لا علاقة لها به إما لبطلانها كالزجر والعيافة والميثولوجيا، وإما لأنها لا تعين على خدمته كعلم العروض والقوافي.

- موقف بعض المفسرين من أسباب النزول:
أولع كثير من المفسرين بتطلب أسباب نزول آي القرآن، وهي حوادث يروى أن آيات من القرآن نزلت لأجلها لبيان حكمها أو لحكايتها أو إنكارها أو نحو ذلك، وأغربوا في ذلك وأكثروا حتى كاد بعضهم أن يوهم الناس أن كل آية من القرآن نزلت على سبب، وحتى رفعوا الثقة بما ذكروا. بيد أنا نجد في بعض آي القرآن إشارة إلى الأسباب التي دعت إلى نزولها ونجد لبعض الآي أسبابا ثبتت بالنقل دون احتمال أن يكون ذلك رأي الناقل، فكان أمر أسباب نزول القرآن دائرا بين القصد والإسراف، وكان في غض النظر عنه وإرسال حبله على غاربه خطر عظيم في فهم القرآن.
 اعتذار ابن عاشورللمؤلفين في أسباب النزول:
وأنا عاذر المتقدمين الذين ألفوا في أسباب النزول فاستكثروا منها، بأن كل من يتصدى لتأليف كتاب في موضوع غير مشبع تمتلكه محبة التوسع فيه فلا ينفك يستزيد من ملتقطاته ليذكي قبسه، ويمد نفسه، فيرضى بما يجد رضى الصب بالوعد، ويقول زدني من حديثك يا سعد. غير هياب لعاذل، ولا متطلب معذرة عاذر، وكذلك شأن الولع إذا امتلك القلب.
 رد ابن عاشور على الناقلين لأسباب النزول:
ولكني لا أعذر أساطين المفسرين الذين تلقفوا الروايات الضعيفة فأثبتوها في كتبهم ولم ينبهوا على مراتبها قوة وضعفا، حتى أوهموا كثيرا من الناس أن القرآن لا تنزل آياته إلا لأجل حوادث تدعو إليها، وبئس هذا الوهم فإن القرآن جاء هاديا إلى ما به صلاح الأمة في أصناف الصلاح فلا يتوقف نزوله على حدوث الحوادث الداعية إلى تشريع الأحكام. نعم إن العلماء توجسوا منها فقالوا: إن سبب النزول لا يخصص، إلا طائفة شاذة ادعت التخصيص بها، ولو أن أسباب النزول كانت كلها متعلقة بآيات عامة لما دخل من ذلك ضر على عمومها إذ قد أراحنا أئمة الأصول حين قالوا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ولكن أسبابا كثيرة رام رواتها تعيين مراد من تخصيص عام أو تقييد مطلق أو إلجاء إلى محمل، فتلك هي التي قد تقف عرضة أمام معاني التفسير قبل التنبيه على ضعفها أو تأويلها. وقد قال الواحدي في أول كتابه في أسباب النزول: "أما اليوم فكل أحد يخترع للآية سببا، ويختلق إفكا وكذبا، ملقيا زمامه إلى الجهالة، غير مفكر في الوعيد" وقال: "لا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل" اهـ.
حاجة المفسر للعلم بأسباب النزول:
إن من أسباب النزول ما ليس المفسر بغنى عن علمه لأن فيها بيان مجمل أو إيضاح خفي وموجز، ومنها ما يكون وحده تفسيرا. ومنها ما يدل المفسر على طلب الأدلة التي بها تأويل الآية أو نحو ذلك. ففي صحيح البخاري أن مروان بن الحكم أرسل إلى ابن عباس يقول لئن كان كل امرئ فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون يشير إلى قوله تعالى: (لا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم) فأجاب ابن عباس قائلا: "إنما دعا النبي اليهود فسألهم على شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فأروه أنهم قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما أتوا من كتمانهم"، ثم قرأ ابن عباس: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون لا يحسبن الذين يفرحون) الآيات. وفي الموطأ عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه أنه قال: قلت لعائشة أم المؤمنين وأنا يومئذ حديث السن: أرأيت قول الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} فما على الرجل شيء ألا يطوف بهما، قالت عائشة: كلا، لو كان كما تقول لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله عن ذلك فأنزل الله تعالى {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} اهـ.
ومنها ما ينبه المفسر إلى إدراك خصوصيات بلاغية تتبع مقتضى المقامات فإن من أسباب النزول ما يعين على تصوير مقام الكلام.
 أقسام الأسانيد الصحيحة لأسباب النزول:
وقد تصفحت أسباب النزول التي صحت أسانيدها فوجدتها خمسة أقسام:
الأول: هو المقصود من الآية يتوقف فهم المراد منها على علمه فلابد من البحث عنه للمفسر، وهذا منه تفسير مبهمات القرآن مثل قوله تعالى {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} ونحو {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا} ومثل بعض الآيات التي فيها {ومن الناس}.
والثاني: هو حوادث تسببت عليها تشريعات أحكام وصور تلك الحوادث لا تبين مجملا ولا تخالف مدلول الآية بوجه تخصيص أو تعميم أو تقييد، ولكنها إذا ذكرت أمثالها وجدت مساوية لمدلولات الآيات النازلة عند حدوثها، مثل حديث عويمر العجلاني الذي نزلت عنه آية اللعان، ومثل حديث كعب بن عجرة الذي نزلت عنه آية {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام} الآية فقد قال كعب بن عجرة: هي لي خاصة ولكم عامة، ومثل قول أم سلمة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: يغزو الرجال ولا نغزو، فنزل قوله تعالى {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} الآية. وهذا القسم لا يفيد البحث فيه إلا زيادة تفهم في معنى الآية وتمثيلا لحكمها، ولا يخشى توهم تخصيص الحكم بتلك الحادثة، إذ قد اتفق العلماء أو كادوا على أن سبب النزول في مثل هذا لا يخصص، واتفقوا على أن أصل التشريع أن لا يكون خاصا.
والثالث: هو حوادث تكثر أمثالها تختص بشخص واحد فنزلت الآية لإعلانها وبيان أحكامها وزجر من يرتكبها، فكثيرا ما تجد المفسرين وغيرهم يقولون نزلت في كذا وكذا، وهم يريدون أن من الأحوال التي تشير إليها تلك الآية تلك الحالة الخاصة فكأنهم يريدون التمثيل. ففي كتاب الأيمان من صحيح البخاري في باب قول الله تعالى {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا} أن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله: ((من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان)) فأنزل الله تصديق ذلك {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا} الآية فدخل الأشعث بن قيس فقال: ما حدثكم أبو عبد الرحمن? فقالوا كذا وكذا، قال في أنزلت، لي بئر في أرض ابن عم لي الخ، فابن مسعود جعل الآية عامة لأنه جعلها تصديقا لحديث عام? والأشعث بن قيس ظنها خاصة به إذ قال: في أنزلت بصيغة الحصر.
وهذا القسم قد أكثر من ذكره أهل القصص وبعض المفسرين ولا فائدة في ذكره، على أن ذكره قد يوهم القاصرين قصر الآية على تلك الحادثة لعدم ظهور العموم من ألفاظ تلك الآيات.
والرابع: هو حوادث حدثت وفي القرآن آيات تناسب معانيها سابقة أو لاحقة فيقع في عبارات بعض السلف ما يوهم أن تلك الحوادث هي المقصود من تلك الآيات، مع أن المراد أنها مما يدخل في معنى الآية ويدل لهذا النوع وجود اختلاف كثير بين الصحابة في كثير من أسباب النزول .
وفي "صحيح البخاري" في سورة النساء أن ابن عباس قرأ قوله تعالى: {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا} بألف بعد لام السلام وقال: كان رجل في غنيمة له تصغير غنم فلحقه المسلمون فقال: السلام عليكم فقتلوه أي ظنوه مشركا يريد أن يتقي منهم بالسلام وأخذوا غنيمته فأنزل الله في ذلك {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام} الآية. فالقصة لا بد أن تكون قد وقعت لأن ابن عباس رواها لكن الآية ليست نازلة فيها بخصوصها ولكن نزلت في أحكام الجهاد بدليل ما قبلها وما بعدها فإن قبلها: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا} وبعدها {فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل}.
قال السيوطي في "الإتقان" عن الزركشي قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال نزلت هذه الآية في كذا، فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم لا أن هذا كان السبب في نزولها.
والخامس: قسم يبين مجملات، ويدفع متشابهات مثل قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} فإذا ظن أحد أن من للشرط أشكل عليه كيف يكون الجور في الحكم كفرا، ثم إذا علم أن سبب النزول هم النصارى علم أن من موصولة وعلم أن الذين تركوا الحكم بالإنجيل لا يتعجب منهم أن يكفروا بمحمد. وكذلك حديث عبد الله بن مسعود قال لما نزل قوله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا أينا لم يلبس إيمانه بظلم ظنوا أن الظلم هو المعصية. فقال رسول الله: ((إنه ليس بذلك? ألا تسمع لقول لقمان لابنه {إن الشرك لظلم عظيم})).
 فوائد أسباب النزول:
هذا وإن القرآن كتاب جاء لهدي أمة والتشريع لها، وهذا الهدي قد يكون واردا قبل الحاجة، وقد يكون مخاطبا به قوم على وجه الزجر أو الثناء أو غيرهما، وقد يكون مخاطبا به جميع من يصلح لخطابه، وهو في جميع ذلك قد جاء بكليات تشريعية وتهذيبية، والحكمة في ذلك أن يكون وعي الأمة لدينها سهلا عليها، وليمكن تواتر الدين، وليكون لعلماء الأمة مزية الاستنباط، وإلا فإن الله قادر أن يجعل القرآن أضعاف هذا المنزل وأن يطيل عمر النبي صلى الله عليه وسلم للتشريع أكثر مما أطال عمر إبراهيم وموسى، ولذلك قال تعالى: {وأتممت عليكم نعمتي}، فكما لا يجوز حمل كلماته على خصوصيات جزئية لأن ذلك يبطل مراد الله، كذلك لا يجوز تعميم ما قصد منه الخصوص ولا إطلاق ما قصد منه التقييد؛ لأن ذلك قد يفضي إلى التخليط في المراد أو إلى إبطاله من أصله، وقد اغتر بعض الفرق بذلك. قال ابن سيرين في الخوارج: إنهم عمدوا إلى آيات الوعيد النازلة في المشركين فوضعوها على المسلمين فجاءوا ببدعة القول بالتكفير بالذنب، وقد قال الحرورية لعلي رضي الله عنه يوم التحكيم: {إن الحكم إلا لله} فقال علي كلمة حق أريد بها باطل وفسرها في خطبة له في "نهج البلاغة".
وثمة فائدة أخرى عظيمة لأسباب النزول وهي أن في نزول القرآن عند حدوث حوادث دلالة على إعجازه من ناحية الارتجال، وهي إحدى طريقتين لبلغاء العرب في أقوالهم، فنزوله على حوادث يقطع دعوى من ادعوا أنه أساطير الأولين.

حالات القراءات عند ابن عاشور:.
أرى أن للقراءات حالتين: إحداهما لا تعلق لها بالتفسير بحال، والثانية لها تعلق به من جهات متفاوتة.
أما الحالة الأولى فهي اختلاف القراء في وجوه النطق بالحروف والحركات كمقادير المد والإمالات والتخفيف والتسهيل والتحقيق والجهر والهمس والغنة، مثل {عذابيْ} بسكون الياء و(عذابيَ) بفتحها، وفي تعدد وجوه الإعراب مثل {حتى يقول الرسول} بفتح لام يقول وضمها. ونحو: {لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة} برفع الأسماء الثلاثة أو فتحها أو رفع بعض وفتح بعض،
 مزية الحالة الأولى:
ومزية القراءات من هذه الجهة عائدة إلى أنها حفظت على أبناء العربية ما لم يحفظه غيرها وهو تحديد كيفيات نطق العرب بالحروف في مخارجها وصفاتها وبيان اختلاف العرب في لهجات النطق بتلقي ذلك عن قراء القرآن من الصحابة بالأسانيد الصحيحة، وهذا غرض مهم جدا لكنه لا علاقة له بالتفسير لعدم تأثيره في اختلاف معاني الآي، ولم أر من عرف لفن القراءات حقه من هذه الجهة، وفيها أيضا سعة من بيان وجوه الإعراب في العربية، فهي لذلك مادة كبرى لعلوم اللغة العربية. فأئمة العربية لما قرأوا القرآن قرأوه بلهجات العرب الذين كانوا بين ظهرانيهم في الأمصار التي وزعت عليها المصاحف: المدينة، ومكة، والكوفة، والبصرة، والشام، قيل واليمن والبحرين، وكان في هذه الأمصار قراؤها من الصحابة قبل ورود مصحف عثمان إليهم فقرأ كل فريق بعربية قومه في وجوه الأداء، لا في زيادة الحروف ونقصها، ولا في اختلاف الإعراب دون مخالفته مصحف عثمان، ويحتمل أن يكون القارئ الواحد قد قرأ بوجهين ليري صحتهما في العربية قصدا لحفظ اللغة مع حفظ القرآن الذي أنزل بها، ولذلك يجوز أن يكون كثير من اختلاف القراء في هذه الناحية اختيارا، وعليه يحمل ما يقع في كتابي الزمخشري وابن العربي من نقد بعض طرق القراء، على أن في بعض نقدهم نظرا، وقد كره مالك رحمه الله القراءة بالإمالة مع ثبوتها عن القراء، وهي مروية عن مقرئ المدينة نافع من رواية ورش عنه وانفرد بروايته أهل مصر، فدلت كراهته على أنه يرى أن القارئ بها ما قرأ إلا بمجرد الاختيار، وفي تفسير القرطبي في سورة الشعراء عن أبي إسحاق الزجاج، يجوز أن يقرأ "طسين ميم" بفتح النون من "طسين" وضم الميم الأخيرة كما يقال هذا معد يكرب اهـ مع أنه لم يقرأ به أحد. قلت: ولا ضير في ذلك ما دامت كلمات القرآن وجمله محفوظة على نحو ما كتب في المصحف الذي أجمع عليه أصحاب رسوا الله إلا نفرا قليلا شذوا منهم، كان عبد الله بن مسعود منهم، فإن عثمان لما أمر بكتب المصحف على نحو ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأثبته كتاب المصحف، رأى أن يحمل الناس على اتباعه وترك قراءة ما خالفه، وجمع جميع المصاحف المخالفة له وأحرقها ووافقه جمهور الصحابة على ما فعله. قال شمس الدين الأصفهاني في المقدمة الخامسة من تفسيره. كان على طول أيامه يقرأ مصحف عثمان ويتخذه إماما. وقلت: إنما كان فعل عثمان إتماما لما فعله أبو بكر من جمعه القرآن الذي كان يقرأ في حياة الرسول، وأن عثمان نسخه في مصاحف لتوزع على الأمصار، فصار المصحف الذي كتب لعثمان قريبا من المجمع عليه وعلى كل قراءة توافقه وصار ما خالفه متروكا بما يقارب الإجماع.
قال الأصفهاني في تفسيره كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة، وهي قراءة العامة التي قرأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل في العام الذي قبض فيه، ويقال إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي عرضها رسول الله على جبريل اهـ وبقي الذين قرأوا قراءات مخالفة لمصحف عثمان يقرأون بما رووه لا ينهاهم أحد عن قراءتهم ولكن يعدوهم شذاذا ولكنهم لم يكتبوا قراءتهم في مصاحف بعد أن أجمع الناس على مصحف عثمان، قال البغوي في تفسير قوله تعالى {وطلح منضود}.
بعض القراءات المخالفة لمصحف عثمان:
عن مجاهد وفي الكشاف والقرطبي- قرأ علي بن أبي طالب (وطلع منضود) بعين في موضع الحاء، وقرأ قارئ بين يديه {وطلح منضود} فقال: وما شأن الطلح? إنما هو (وطلع) وقرأ: {لها طلع نضيد} فقالوا أفلا نحولها? فقال إن آي القرآن لا تهاج اليوم ولا تحول، أي لا تغير حروفها ولا تحول عن مكانها فهو قد منع من تغيير المصحف، ومع ذلك لم يترك القراءة التي رواها، وممن نسبت إليهم قراءات مخالفة لمصحف عثمان، عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وسالم مولى أبي حذيفة، إلى أن ترك الناس ذلك تدريجا.
ذكر الفخر في تفسير قوله تعالى: {إذ تلقونه بألسنتكم} من سورة النور أن سفيان قال: سمعت أمي تقرأ: (إذ تثقفونه بألسنتكم) وكان أبوها يقرأ بقراءة ابن مسعود، ومع ذلك فقد شذت مصاحف بقيت مغفولا عنها بأيدي أصحابها، منها ما ذكره الزمخشري في الكشاف في سورة الفتح أن الحارث بن سويد صاحب عبد الله بن مسعود كان له مصحف دفنه في مدة الحجاج، قال في الكشاف لأنه كان مخالفا للمصحف الإمام، وقد أفرط الزمخشري في توهين بعض القراءات لمخالفتها لما اصطلح عليه النحاة وذلك من إعراضه عن معرفة الأسانيد.
شروط الرواية الصحيحة الشاذة التي لم تبلغ حد التواتر عند علماء القراءات :
من أجل ذلك اتفق علماء القراءات والفقهاء على أن كل قراءة وافقت وجها في العربية ووافقت خط المصحف أي مصحف عثمان وصح سند راويها؛ فهي قراءة صحيحة لا يجوز ردها، قال أبو بكر ابن العربي: ومعنى ذلك عندي أن تواترها تبع لتواتر المصحف الذي وافقته وما دون ذلك فهو شاذ، يعني وأن تواتر المصحف ناشئ عن تواتر الألفاظ التي كتبت فيه.
قلت- وهذه الشروط الثلاثة، هي شروط في قبول القراءة إذا كانت غير متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، بأن كانت صحيحة السند إلى النبي ولكنها لم تبلغ حد التواتر فهي بمنزلة الحديث الصحيح، وأما القراءة المتواترة فهي غنية عن هذه الشروط لأن تواترها يجعلها حجة في العربية، ويغنيها عن الاعتضاد بموافقة المصحف المجمع عليه، ألا ترى أن جمعا من أهل القراءات المتواترة قرأوا قوله تعالى: (وما هو على الغيب بظنين) بظاء مشالة أي: بمتهم، وقد كتبت في المصاحف كلها بالضاد الساقطة.
على أن أبا علي الفارسي صنف كتاب الحجة للقراءات، وهو معتمد عند المفسرين وقد رأيت نسخة منه في مكاتب الآستانة. فالقراءات من هذه الجهة لا تفيد في علم التفسير والمراد بموافقة خط المصحف موافقة أحد المصاحف الأئمة التي وجه بها عثمان بن عفان إلى أمصار الإسلام إذ قد يكون اختلاف يسير نادر بين بعضها، مثل زيادة الواو في {وسارعوا إلى مغفرة} في مصحف الكوفة ومثل زيادة الفاء في قوله: { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} في سورة الشورى {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا} - أو (إحسانا) فذلك اختلاف ناشئ عن القراءة بالوجهين بين الحفاظ من زمن الصحابة الذين تلقوا القرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه قد أثبته ناسخو المصحف في زمن عثمان فلا ينافي التواتر إذ لا تعارض، إذا كان المنقول عنه قد نطق بما نقله عنه الناقلون في زمانين أو أزمنة، أو كان قد أذن للناقلين أن يقرأوا بأحد اللفظين أو الألفاظ.
 القراء العشرة:
وقد انحصر توفر الشروط في الروايات العشر للقراء وهم، نافع بن أبي نعيم المدني، وعبد الله بن كثير المكي، وأبو عمرو المازني البصري وعبد الله بن عامر الدمشقي، وعاصم بن أبي النجود الكوفي، وحمزة بن حبيب الكوفي، والكسائي علي بن حمزة الكوفي، ويعقوب بن إسحاق الحضرمي البصري، وأبو جعفر يزيد بن القعقاع المدني، وخلف البزار بزاي فألف فراء مهملة الكوفي، وهذا العاشر ليست له رواية خاصة، وإنما اختار لنفسه قراءة تناسب قراءات أئمة الكوفة، فلم يخرج عن قراءات قراء الكوفة إلا قليلا، وبعض العلماء يجعل قراءة ابن محيصن واليزيدي والحسن، والأعمش، مرتبة دون العشر، وقد عد الجمهور ما سوى ذلك شاذا لأنه لم ينقل بتواتر حفاظ القرآن.
حكم القراءة بما دون العشر:
والذي قاله مالك والشافعي، أن ما دون العشر لا تجوز القراءة به ولا أخذ حكم منه لمخالفته المصحف الذي كتب فيه ما تواتر، فكان ما خالفه غير متواتر فلا يكون قرآنا، وقد تروى قراءات عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد صحيحة في كتب الصحيح مثل صحيح البخاري ومسلم وأضرابهما إلا أنها لا يجوز لغير من سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم القراءة بها لأنها غير متواترة النقل فلا يترك المتواتر للآحاد وإذا كان راويها قد بلغته قراءة أخرى متواترة تخالف ما رواه وتحقق لديه التواتر وجب عليه أن يقرأ بالمروية تواترا، وقد اصطلح المفسرون على أن يطلقوا عليها قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، لأنها غير منتسبة إلى أحد من أئمة الرواية في القراءات، ويكثر ذكر هذا العنوان في تفسير محمد بن جرير الطبري وفي الكشاف وفي المحرر الوجيز لعبد الحق ابن عطية، وسبقهم إليه أبو الفتح ابن جني، فلا تحسبوا أنهم أرادوا بنسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أنها وحدها المأثورة عنه ولا ترجيحها على القراءات المشهورة لأن القراءات المشهورة قد رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد أقوى وهي متواترة على الجملة كما سنذكره، وما كان ينبغي إطلاق وصف قراءة النبي عليها لأنه يوهم من ليسوا من أهل الفهم الصحيح أن غيرها لم يقرأ به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يرجع إلى تبجح أصحاب الرواية بمروياتهم.
وأما الحالة الثانية: فهي اختلاف القراء في حروف الكلمات مثل {مالك يوم الدين} (ملك يوم الدين) و(ننشرها) و{ننشزها} و{وظنوا أنهم قد كذبوا} بتشديد الذال أو (قد كذبوا) بتخفيفه، وكذلك اختلاف الحركات الذي يختلف معه معنى الفعل كقوله {ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون} قرأ نافع بضم الصاد وقرأ حمزة بكسر الصاد، فالأولى بمعنى يصدون غيرهم عن الإيمان، والثانية بمعنى صدودهم في أنفسهم وكلا المعنيين حاصل منهم، وهي من هذه الجهة لها مزيد تعلق بالتفسير.
سبب تعلق الحالة الثانية بعلم التفسير:
لأن ثبوت أحد اللفظين في قراءة قد يبين المراد من نظيره في القراءة الأخرى، أو يثير معنى غيره، ولأن اختلاف القراءات في ألفاظ القرآن يكثر المعاني في الآية الواحدة نحو {حتى يطهرن} بفتح الطاء المشددة والهاء المشددة، وبسكون الطاء وضم الهاء مخففة، ونحو {لامستم النساء} و(لمستم النساء)، وقراءة (وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن إناثا) مع قراءة {الذين هم عباد الرحمن} والظن أن الوحي نزل بالوجهين وأكثر، تكثيرا للمعاني إذا جزمنا بأن جميع الوجوه في القراءات المشهورة هي مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، على أنه لا مانع من أن يكون مجيء ألفاظ القرآن على ما يحتمل تلك الوجوه مرادا لله تعالى ليقرأ القراء بوجوه فتكثر من جراء ذلك المعاني، فيكون وجود الوجهين فأكثر في مختلف القراءات مجزئا عن آيتين فأكثر، وهذا نظير التضمين في استعمال العرب، ونظير التورية والتوجيه في البديع، ونظير مستتبعات التراكيب في علم المعاني، وهو من زيادة ملاءمة بلاغة القرآن، ولذلك كان اختلاف القراء في اللفظ الواحد من القرآن قد يكون معه اختلاف المعنى؛ ولم يكن حمل أحد القراءتين على الأخرى متعينا ولا مرجحا، وإن كان قد يؤخذ من كلام أبي علي الفارسي في كتاب الحجة أنه يختار حمل معنى إحدى القراءتين على معنى الأخرى، ومثال هذا قوله في قراءة الجمهور قوله تعالى {فإن الله هو الغني الحميد} في سورة الحديد، وقراءة نافع وابن عامر (فإن الله الغني الحميد) بإسقاط هو أن من أثبت هو يحسن أن يعتبره ضمير فصل لا مبتدأ، لأنه لو كان مبتدأ لم يجز حذفه في قراءة نافع وابن عامر، قال أبو حيان: وما ذهب إليه ليس بشيء لأنه بنى ذلك على توافق القراءتين وليس كذلك، ألا ترى أنه قد يكون قراءتان في لفظ واحد لكل منهما توجيه يخالف الآخر، كقراءة {والله أعلم بما وضعت} بضم التاء أو سكونها.
وأنا أرى أن على المفسر أن يبين اختلاف القراءات المتواترة لأن في اختلافها توفيرا لمعاني الآية غالبا فيقوم تعدد القراءات مقام تعدد كلمات القرآن. وهذا يبين لنا أن اختلاف القراءات قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في حديث عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم بن حزام ففي صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ في الصلاة سورة الفرقان في حياة رسول الله فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله، فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلببته بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ? قال: أقرأنيها رسول الله، فقلت: كذبت فإن رسول الله أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله فقلت إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله: ((اقرأ يا هشام)) فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله: ((كذلك أنزلت))، ثم قال: ((اقرأ يا عمر)) فقرأت القراءة التي أقرأني فقال رسول الله: ((كذلك أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه)) اهـ.
رد الاشكال في حديث عمربن الخطاب وهشام بن حكيم:
وفي الحديث إشكال، وللعلماء في معناه أقوال يرجع إلى اعتبارين: أحدهما اعتبار الحديث منسوخا والآخر اعتباره محكما.
فأما الذين اعتبروا الحديث منسوخا وهو رأي جماعة منهم أبو بكر الباقلاني وابن عبد البر وأبو بكر بن العربي والطبري والطحاوي، وينسب إلى ابن عيينة وابن وهب قالوا كان ذلك رخصة في صدر الإسلام أباح الله للعرب أن يقرأوا القرآن بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها، ثم نسخ ذلك بحمل الناس على لغة قريش لأنها التي بها نزل القرآن وزال العذر لكثرة الحفظ وتيسير الكتابة، وقال ابن العربي: دامت الرخصة مدة حياة النبي عليه السلام، وظاهر كلامه أن ذلك نسخ بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإما نسخ بإجماع الصحابة أو بوصاية من النبي صلى الله عليه وسلم، واستدلوا على ذلك بقول عمر: إن القرآن نزل بلسان قريش، وبنهيه عبد الله بن مسعود أن يقرأ (فتول عنهم عتى حين) وهي لغة هذيل في حتى، وبقول عثمان لكتاب المصاحف فإذا اختلفتم في حرف فاكتبوه بلغة قريش فإنما نزل بلسانهم، يريد أن لسان قريش هو الغالب على القرآن، أو أراد أنه نزل بما نطقوا به من لغتهم وما غلب على لغتهم من لغات القبائل إذ كان عكاظ بأرض قريش وكانت مكة مهبط القبائل كلها.
معنى القرآن نزل على سبع أحرف:
ولهم في تحديد معنى الرخصة بسبعة أحرف ثلاثة أقوال: الأول أن المراد بالأحرف الكلمات المترادفة للمعنى الواحد، أي أنزل بتخيير قارئه أن يقرأه باللفظ الذي يحضره من المرادفات تسهيلا عليهم حتى يحيطوا بالمعنى. وعلى هذا الجواب فقيل المراد بالسبعة حقيقة العدد وهو قول الجمهور فيكون تحديدا للرخصة بأن لا يتجاوز سبعة مرادفات أو سبع لهجات أي من سبع لغات؛ إذ لا يستقيم غير ذلك لأنه لا يتأتى في كلمة من القرآن أن يكون لها ستة مرادفات أصلا، ولا في كلمة أن يكون فيها سبع لهجات إلا كلمات قليلة مثل {أف}– {وجبريل}– و{أرجه}.
وقد اختلفوا في تعيين اللغات السبع، فقال أبو عبيدة وابن عطية وأبو حاتم والباقلاني: هي من عموم لغات العرب وهم: قريش، وهذيل، وتيم الرباب، والأزد، وربيعة، وهوازن، وسعد بن بكر من هوازن، وبعضهم يعد قريشا، وبني دارم، والعليا من هوازن وهم سعد بن بكر، وجشم بن بكر، ونصر بن معاوية، وثقيف، قال أبو عمرو بن العلاء أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم وهم بنو دارم. وبعضهم يعد خزاعة ويطرح تميما، وقال أبو علي الأهوازي، وابن عبد البر، وابن قتيبة هي لغات قبائل من مضر وهم قريش، وهذيل، وكنانة، وقيس، وضبة، وتيم الرباب، وأسد بن خزيمة، وكلها من مضر.
القول الثاني: لجماعة منهم عياض: أن العدد غير مراد به حقيقته، بل هو كناية عن التعدد والتوسع، وكذلك المرادفات ولو من لغة واحدة كقوله: {كالعهن المنفوش} وقرأ ابن مسعود (كالصوف المنفوش)، وقرأ أبي {كلما أضاء لهم مشوا فيه} "مروا فيه" "سعوا فيه"، وقرأ ابن مسعود {انظرونا نقتبس من نوركم} "أخرونا"، "أمهلونا"، وأقرأ ابن مسعود رجلا {إن شجرت الزقوم طعام الأثيم} فقال الرجل: (طعام اليتيم)، فأعاد له فلم يستطع أن يقول: {الأثيم} فقال له ابن مسعود: أتستطيع أن تقول طعام الفاجر? قال: نعم، قال: فاقرأ كذلك، وقد اختلف عمر وهشام بن حكيم ولغتهما واحدة.
القول الثالث: أن المراد التوسعة في نحو {كان الله سميعا عليما} أن يقرأ عليما حكيما ما لم يخرج عن المناسبة كذكره عقب آية عذاب أن يقول "وكان الله غفورا رحيما" أو عكسه وإلى هذا ذهب ابن عبد البر.
 السبع أحرف عند من يرون أن حديث عمر وهشام محكم:
وأما الذين اعتبروا الحديث محكما غير منسوخ فقد ذهبوا في تأويله مذاهب: فقال جماعة منهم البيهقي وأبو الفضل الرازي أن المراد من الأحرف أنواع أغراض القرآن كالأمر والنهي، والحلال والحرام، أو أنواع كلامه كالخبر والإنشاء، والحقيقة والمجاز: أو أنواع دلالته كالعموم والخصوص، والظاهر والمؤول. ولا يخفى أن كل ذلك لا يناسب سياق الحديث على اختلاف رواياته من قصد التوسعة والرخصة. وقد تكلف هؤلاء حصر ما زعموه من الأغراض ونحوها في سبعة فذكروا كلاما لا يسلم من النقض.
الرد على من قال أن الأحرف السبعة هي سبع لغات مبثوثة في القرآن:
وذهب جماعة منهم أبو عبيد وثعلب والأزهري وعزي لابن عباس أن المراد أنه أنزل مشتملا على سبع لغات من لغات العرب مبثوثة في آيات القرآن لكن لا على تخيير القارئ، وذهبوا في تعيينها إلى نحو ما ذهب إليه القائلون بالنسخ إلا أن الخلاف بين الفريقين في أن الأولين ذهبوا إلى تخيير القارئ في الكلمة الواحدة، وهؤلاء أرادوا أن القرآن مبثوثة فيه كلمات من تلك اللغات، لكن على وجه التعيين لا على وجه التخيير، وهذا كما قال أبو هريرة: ما سمعت السكين إلا في قوله تعالى: {وآتت كل واحدة منهن سكينا} ما كنا نقول إلا المدية، وفي البخاري: إلا من النبيء في قصة حكم سليمان بين المرأتين من قول سليمان: (ايتوني بالسكين أقطعه بينكما)، وهذا الجواب لا يلاقي مساق الحديث من التوسعة، ولا يستقيم من جهة العدد لأن المحققين ذكروا أن في القرآن كلمات كثيرة من لغات قبائل العرب، وأنهاها السيوطي نقلا عن أبي بكر الواسطي إلى خمسين لغة.
أفضل تفسير للأحرف السبعة:
وذهب جماعة أن المراد من الأحرف لهجات العرب في كيفيات النطق كالفتح والإمالة، والمد والقصر، والهمز والتخفيف، على معنى أن ذلك رخصة للعرب مع المحافظة على كلمات القرآن، وهذا أحسن الأجوبة لمن تقدمنا، وهنالك أجوبة أخرى ضعيفة لا ينبغي للعالم التعريج عليها وقد أنهى بعضهم جملة الأجوبة إلى خمسة وثلاثين جوابا.
وعندي أنه إن كان حديث عمر وهشام بن حكيم قد حسن إفصاح راويه عن مقصد عمر فيما حدث به بأن لا يكون مرويا بالمعنى مع إخلال بالمقصود أنه يحتمل أن يرجع إلى ترتيب آي السور بأن يكون هشام قرأ سورة الفرقان على غير الترتيب الذي قرأ به عمر فتكون تلك رخصة لهم في أن يحفظوا سور القرآن بدون تعيين ترتيب الآيات من السورة، وقد ذكر الباقلاني احتمال أن يكون ترتيب السور من اجتهاد الصحابة كما يأتي في المقدمة الثامنة. فعلى رأينا هذا تكون هذه رخصة. ثم لم يزل الناس يتوخون بقراءتهم موافقة قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان ترتيب المصحف في زمن أبي بكر على نحو العرضة الأخيرة التي عرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجمع الصحابة في عهد أبي بكر على ذلك لعلمهم بزوال موجب الرخصة.
هل الأحرف السبعة هي القراءات السبعة؟
ومن الناس من يظن المراد بالسبع في الحديث ما يطابق القراءات السبع التي اشتهرت بين أهل فن القراءات، وذلك غلط ولم يقله أحد من أهل العلم، وأجمع العلماء على خلافه كما قال أبو شامة: فإن انحصار القراءات في سبع لم يدل عليه دليل، ولكنه أمر حصل إما بدون قص د أو بقصد التيمن بعدد السبعة أو بقصد إيهام أن هذه السبعة هي المرادة من الحديث تنويها بشأنها بين العامة، ونقل السيوطي عن أبي العباس ابن عمار أنه قال: لقد فعل جاعل عدد القراءات سبعا ما لا ينبغي، وأشكل به الأمر على العامة إذ أوهمهم أن هذه السبعة هي المرادة في الحديث، وليت جامعها نقص عن السبعة أو زاد عليها.
قال السيوطي: وقد صنف ابن جبير المكي وهو قبل ابن مجاهد كتابا في القراءات فاقتصر على خمسة أئمة من كل مصر إماما، وإنما اقتصر على ذلك لأن المصاحف التي أرسلها عثمان إلى الأمصار كانت إلى خمسة أمصار.
قال ابن العربي في العواصم: أول من جمع القراءات في سبع ابن مجاهد غير أنه عد قراءة يعقوب سابعا ثم عوضها بقراءة الكسائي، قال السيوطي وذلك على رأس الثلاثمائة: وقد اتفق الأئمة على أن قراءة يعقوب من القراءات الصحيحة مثل بقية السبعة، وكذلك قراءة أبي جعفر وشيبة، وإذ قد كان الاختلاف بين القراء سابقا على تدوين المصحف الإمام في زمن عثمان وكان هو الداعي لجمع المسلمين على مصحف واحد تعين أن الاختلاف لم يكن ناشئا عن الاجتهاد في قراءة ألفاظ المصحف فيما عدا اللهجات.
وأما صحة السند الذي تروى به القراءة لتكون مقبولة فهو شرط لا محيد عنه إذ قد تكون القراءة موافقة لرسم المصحف وموافقة لوجوه العربية لكنها لا تكون مروية بسند صحيح، كما ذكر في المزهر أن حماد بن الزبرقان قرأ (إلا عن موعدة وعدها أباه) بالباء الموحدة وإنما هي {إياه} بتحتية، وقرأ (بل الذين كفروا في غرة) بغين معجمة وراء مهملة وإنما هي {عزة} بعين مهملة وزاي، وقرأ (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يعنيه) بعين مهملة، وإنما هي {يغنيه} بغين معجمة، ذلك أنه لم يقرأ القرآن على أحد وإنما حفظه من المصحف.
مراتب القراءات الصحيحة والترجيح بينها
قال أبو بكر بن العربي في كتاب العواصم: اتفق الأئمة على أن القراءات التي لا تخالف الألفاظ التي كتبت في مصحف عثمان هي متواترة وإن اختلفت في وجوه الأداء وكيفيات النطق ومعنى ذلك أن تواترها تبع لتواتر صورة كتابة المصحف، وما كان نطقه صالحا لرسم المصحف، واختلف فيه فهو مقبول، وما هو بمتواتر لأن وجود الاختلاف فيه مناف لدعوى التواتر، فخرج بذلك ما كان من القراءات مخالفا لمصحف عثمان، مثل ما نقل من قراءة ابن مسعود.
هل القراءات السبع متواترة؟
ولما قرأ المسلمون بهذه القراءات من عصر الصحابة ولم يغير عليهم، فقد صارت متواترة على التخيير، وإن كانت أسانيدها المعينة آحادا، وليس المراد ما يتوهمه بعض القراء من أن القراءات كلها بما فيها من طرائق أصحابها ورواياتهم متواترة وكيف وقد ذكروا أسانيدهم فيها فكانت أسانيد أحاد، وأقواها سندا ما كان له راويان عن الصحابة مثل قراءة نافع بن أبي نعيم وقد جزم ابن العربي، وابن عبد السلام التونسي، وأبو العباس بن إدريس فقيه بجاية من المالكية، والأبياري من الشافعية بأنها غير متواترة، وهو الحق لأن تلك الأسانيد لا تقتضي إلا أن فلانا قرأ كذا وأن فلانا قرأ بخلافه، وأما اللفظ المقروء فغير محتاج إلى تلك الأسانيد لأنه ثبت بالتواتر كما علمت آنفا، وإن اختلفت كيفيات النطق بحروفه فضلا عن كيفيات أدائه.
وقال إمام الحرمين في البرهان: هي متواترة ورده عليه الأبياري، وقال المازري في شرحه: هي متواترة عند القراء وليست متواترة عند عموم الأمة، وهذا توسط بين إمام الحرمين والأبياري، ووافق إمام الحرمين ابن سلامة الأنصاري من المالكية. وهذه مسألة مهمة جرى فيها حوار بين الشيخين ابن عرفة التونسي وابن لب الأندلسي ذكرها الونشريسي في المعيار.
 الصحابة اللذين تنتهي إليهم القراءات العشر:
وتنتهي أسانيد القراءات العشر إلى ثمانية من الصحابة وهم: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله من مسعود، وأبي بن كعب، وأبو الدرداء، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، فبعضها ينتهي إلى جميع الثمانية وبعضها إلى بعضهم وتفصيل ذلك في علم القرآن.
وجوه الاعراب في القرآن:
وأما وجوه الإعراب في القرآن فأكثرها متواتر إلا ما ساغ فيه إعرابان مع اتحاد المعاني نحو: {ولات حين مناص} بنصب حين ورفعه، ونحو {وزلزلوا حتى يقول الرسول} بنصب (يقول) ورفعه، ألا ترى أن الأمة أجمعت على رفع اسم الجلالة في قوله تعالى: {وكلم الله موسى تكليما} وقرأه بعض المعتزلة بنصب اسم الجلالة لئلا يثبتوا لله كلاما، وقرأ بعض الرافضة (وما كنت متخذ المضلين عضدا) بصيغة التثنية، وفسروها بأبي بكر وعمر حاشاهما، وقاتلهم الله.
وأما ما خالف الوجوه الصحيحة في العربية ففيه نظر قوي لأنا لا ثقة لنا بانحصار فصيح كلام العرب فيما صار إلى نحاة البصرة والكوفة، وبهذا نبطل كثيرا مما زيفه الزمخشري من القراءات المتواترة بعلة أنها جرت على وجوه ضعيفة في العربية لا سيما ما كان منه في قراءة مشهورة كقراءة عبد الله بن عامر قوله تعالى: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم) ببناء "زين" للمفعول وبرفع (قتل)، ونصب (أولادهم) وخفض (شركاؤهم) ولو سلمنا أن ذلك وجه مرجوح، فهو لا يعدو أن يكون من الاختلاف في كيفية النطق التي لا تناكد التواتر كما قدمناه آنفا على ما في اختلاف الإعرابين من إفادة معنى غير الذي يفيده الآخر، لأن لإضافة المصدر إلى المفعول خصائص غير التي لإضافته إلى فاعله، ولأن لبناء الفعل للمجهول نكتا غير التي لبنائه للفاعل، على أن أبا علي الفارسي ألف كتابا سماه الحجة احتج فيه للقراءات المأثورة احتجاجا من جانب العربية.
ثم إن القراءات العشر الصحيحة المتواترة، قد تتفاوت بما يشتمل عليه بعضها من خصوصيات البلاغة أو الفصاحة أو كثرة المعاني أو الشهرة، وهو تمايز متقارب، وقل أن يكسب إحدى القراءات في تلك الآية رجحانا، على أن كثيرا من العلماء كان لا يرى مانعا من ترجيح قراءة على غيرها، ومن هؤلاء الإمام محمد بن جرير الطبري، والعلامة الزمخشري وفي أكثر ما رجح به نظر سنذكره في مواضعه، وقد سئل ابن رشد عما يقع في كتب المفسرين والمعربين من اختيار إحدى القراءتين المتواترتين وقولهم هذه القراءة أحسن: أذاك صحيح أم لا? فأجاب: أما ما سألت عنه مما يقع في كتب المفسرين والمعربين من تحسين بعض القراءات واختيارها على بعض لكونها أظهر من جهة الإعراب، وأصح في النقل، وأيسر في اللفظ فلا ينكر ذلك، كرواية ورش التي اختارها الشيوخ المتقدمون عندنا أي بالأندلس فكان الإمام في الجامع لا يقرأ إلا بها لما فيها من تسهيل النبرات وترك تحقيقها في جميع المواضع، وقد تؤول ذلك فيما روي عن مالك من كراهية النبر في القرآن في الصلاة.
القراءة بالنبر:
وفي كتاب الصلاة الأول من العتبية: سئل مالك عن النبر في القرآن فقال: إني لأكرهه وما يعجبني ذلك، قال ابن رشد في البيان يعني بالنبر ههنا إظهار الهمزة في كل موضع على الأصل فكره ذلك واستحب فيه التسهيل على رواية ورش، لما جاء من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن لغته الهمز أي إظهار الهمز في الكلمات المهموزة بل كان ينطق بالهمزة مسهلة إلى أحرف علة من جنس حركتها، مثل {ياجوج وماجوج} بالألف دون الهمز، ومثل الذيب في {الذئب} ومثل مومن في {مؤمن}. ثم قال: ولهذا المعنى كان العمل جاريا في قرطبة قديما أن لا يقرأ الإمام بالجامع في الصلاة إلا برواية ورش، وإنما تغير ذلك وتركت المحافظة عليه منذ زمن قريب، اهـ. وهذا خلف بن هشام البزار راوي حمزة، قد اختار لنفسه قراءة من بين قراءات الكوفيين، ومنهم شيخة حمزة بن حبيب وميزها قراءة خاصة فعدت عاشرة القراءات العشر وما هي إلا اختيار من قراءات الكوفيين، ولم يخرج عن قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر عن عاصم إلا في قراءة قوله تعالى: {وحرام على قرية} قرأها بالألف بعد الراء مثل حفص والجمهور.
 هل يفضي ترجيح بعض القراءات على بعض إلى أن تكون الراجحة أبلغ من المرجوحة فيفضي إلى أن المرجوحة أضعف في الإعجاز؟
قلت: حد الإعجاز مطابقة الكلام لجميع مقتضى الحال، وهو لا يقبل التفاوت، ويجوز مع ذلك أن يكون بعض الكلام المعجز مشتملا على لطائف وخصوصيات تتعلق بوجوه الحسن كالجناس والمبالغة، أو تتعلق بزيادة الفصاحة، أو بالتفنن مثل {أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير} على أنه يجوز أن تكون إحدى القراءات نشأت عن ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم للقارئ أن يقرأ بالمرادف تيسيرا على الناس كما يشعر به حديث تنازع عمر مع هشام بن حكيم، فتروى تلك القراءة للخلف فيكون تمييز غيرها عليها بسبب أن المتميزة هي البالغة غاية البلاغة وأن الأخرى توسعة ورخصة، ولا يعكر ذلك على كونها أيضا بالغة الطرف الأعلى من البلاغة وهو ما يقرب من حد الإعجاز.
 هل الاعجاز في كل آية من القرآن؟
وأما الإعجاز فلا يلزم أن يتحقق في كل آية من آي القرآن لأن التحدي إنما وقع بسورة مثل سور القرآن، وأقصر سورة ثلاث آيات فكل مقدار ينتظم من ثلاث آيات من القرآن يجب أن يكون مجموعه معجزا.
منهج ابن عاشور في التعرض للقراءات العشر في تفسيره:
تنبيه: أنا أقتصر في هذا التفسير على التعرض لاختلاف القراءات العشر المشهورة خاصة في أشهر روايات الراوين عن أصحابها لأنها متواترة، وإن كانت القراءات السبع قد امتازت على بقية القراءات بالشهرة بين المسلمين في أقطار الإسلام. وأبني أول التفسير على قراءة نافع برواية عيسى ابن مينا المدني الملقب بقالون لأنها القراءة المدنية إماما وراويا ولأنها التي يقرأ بها معظم أهل تونس، ثم أذكر خلاف بقية القراء العشرة خاصة. والقراءات التي يقرأ بها اليوم في بلاد الإسلام من هذه القراءات العشر، هي قراءة نافع برواية قالون في بعض القطر التونسي وبعض القطر المصري، وفي ليبيا وبرواية ورش في بعض القطر التونسي وبعض القطر المصري وفي جميع القطر الجزائري وجميع المغرب الأقصى، وما يتبعه من البلاد. والسودان.
وقراءة عاصم برواية حفص عنه في جميع الشرق من العراق والشام وغالب البلاد المصرية والهند وباكستان وتركيا والأفغان. وبلغني أن قراءة أبي عمرو البصري يقرأ بها في السودان المجاور مصر.

- التفسير في اللغة:
- الفرق بين الفعل بالتخفيف والفعل بالتشديد:
-الرد على تفريق شهاب الدين بين الفعل المضاعف والمخفف:
- التفسير في الاصطلاح:
- موضوع التفسير:
- هل التفسير يعد علما:
- سبب اطلاق العلماء على التفسير بأنه علم:
- مكانة التفسير بين العلوم الشرعية:
- أول من صنف في التفسير:
- روايات التفسير:
- مناهج المفسرين:
- مكانة تفسير الزمخشري وابن عطية:
- معنى التأويل:
- الأدلة على التأويل:
- معنى استمداد علم التفسير:
- الاستمداد لغة:
- المراد بالعربية:
-علاقة العربية بفهم القرآن:
- المقصود بقواعد العربية وعلاقتها بالتفسير:
- علاقة علم البيان والبلاغة بالتفسير:
- نقولات للعلماء في بيان أهمية علمي البيان والمعاني للمفسر:
-أهمية ديوان العرب في التفسير:
- هل النبي صلى الله عليه وسلم فسر القرآن:
- أسباب النزول من التفسيرالتوقيفي :
- العبرة في سبب النزول بعموم اللفظ لا بخصوص السبب":
- الاجماع في التفسير:
- القراءات وحاجة التفسير إليها:
- أخبار العرب هل نحتاجها في التفسير؟
- علاقة أصول الفقه بالتفسير:
- هل علم الكلام يحتاجه المفسر؟
-هل المفسر يحتاج الفقه؟
- الخلاصة في استمداد علم التفسير:
- حذرالصحابة من التفسير:
- هل التفسير مقصورا على تفسير النبي صلى الله عليه وسلم فحسب؟
- هل فسر الصحابة القرآن الكريم؟
- هل يجوز التفسير بالرأي؟
- الجواب عن الشبهة التي نشأت من الآثار المروية في التحذير من تفسير القرآن بالرأي :
- الرد على أن مقولة الصديق "أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأيي"
- اختلاف رأي العلماء في التفسير بالرأي:
- طائفة الباطنية:
- سبب نشوء المذهب الباطني في التفسير:
- أصل المذهب الباطني:
-موقف العلماء من مذهب الباطنية:
- الفرق بين الباطنية والصوفيه في التفسير:
-انحاء الاشارة المقبولة في القرآن:
- هل ينسب للقرآن المعنى الاشاري؟
- هل دلالة الاشارة تتعلق بالمعنى الاشاري؟
 المقصد من انزال القرآن:
 الحكمة من نزول القرآن باللسان العربي :
 المقاصد الأصلية التي جاء القرآن لتبيانها:
 بيان غرض المفسر:
 طرائق المفسرين للقرآن:
 رأي العلماء في التوفيق بين المعنى القرآني وبين بعض العلوم مما له تعلق بمقصد من مقاصد التشريع :

-شرط التوفيق بين المعنى القرآني وبين بعض العلوم مما له تعلق بمقصد من مقاصد التشريع :

-الرد عل من يرى أن القرآن يعتمد في مسلك فهمه وإفهامه على مقدرة العرب وطاقتهم، وأن الشريعة أمية.
 رأي ابن عاشور في التوفيق بين المعنى القرآني وبين بعض العلوم مما له تعلق بمقصد من مقاصد التشريع :

- موقف بعض المفسرين من أسباب النزول:
 اعتذار ابن عاشورللمؤلفين في أسباب النزول:
 رد ابن عاشور على الناقلين لأسباب النزول:
 حاجة المفسر للعلم بأسباب النزول:
 أقسام الأسانيد الصحيحة لأسباب النزول:
 فوائد أسباب النزول:

 حالات القراءات عند ابن عاشور:.
 مزية الحالة الأولى:
 بعض القراءات المخالفة لمصحف عثمان:
 شروط الرواية الصحيحة الشاذة التي لم تبلغ حد التواتر عند علماء القراءات :
 القراء العشرة:
 حكم القراءة بما دون العشر:
 سبب تعلق الحالة الثانية بعلم التفسير:
 رد الاشكال في حديث عمربن الخطاب وهشام بن حكيم:
 معنى القرآن نزل على سبع أحرف:
 السبع أحرف عند من يرون أن حديث عمر وهشام محكم:
 الرد على من قال أن الأحرف السبعة هي سبع لغات مبثوثة في القرآن:
 أفضل تفسير للأحرف السبعة:
 هل الأحرف السبعة هي القراءات السبعة؟
 مراتب القراءات الصحيحة والترجيح بينها
 هل القراءات السبع متواترة؟
 الصحابة اللذين تنتهي إليهم القراءات العشر:
 وجوه الاعراب في القرآن:
 القراءة بالنبر:
 هل يفضي ترجيح بعض القراءات على بعض إلى أن تكون الراجحة أبلغ من المرجوحة فيفضي إلى أن المرجوحة أضعف في الإعجاز؟
 هل الاعجاز في كل آية من القرآن؟
 منهج ابن عاشور في التعرض للقراءات العشر:
بارك الله فيكِ ونفع بكِ.
أرجو الاعتناء بهذه الملحوظات:
1. يلاحظ اعتمادكِ على نص ابن عاشور عند التحرير وعلى ترتيبه للمسائل
وترتيب المسائل عند بسطها من المؤلف يختلف عن ترتيبها عند إرادة الفهرسة والتلخيص
لهذا أقترح النظر في القائمة التي أوردتيها في نهاية واجبك، والنظر في إعادة ترتيبها بحيث تكون متسلسلة
وإذا خفي عليكِ صياغة بعض المسائل، أعيدي قراءة ما ورد تحتها، فربما يفتح لكِ ذلك صياغة أفضل.
2. التحرير بأسلوبك أنسب لاختصار الألفاظ وحتى يسهل عليكِ بعد ذلك المراجعة، أما مجرد نسخ كلام المفسر فلا يفيدكِ كثيرًا.
3. أغفلتِ فهرسة خطبة المصنف وفيها بيان منهجه في التفسير.
التقويم: ج
وفقكِ الله وسددكِ.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 12 صفر 1443هـ/19-09-2021م, 08:53 PM
هيئة التصحيح 11 هيئة التصحيح 11 غير متواجد حالياً
هيئة التصحيح
 
تاريخ التسجيل: Jan 2016
المشاركات: 2,525
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد العبد اللطيف مشاهدة المشاركة
بسم الله الرحمن الرحيم
المجلس السادس
مجلس مذاكرة القسم الأول مقدمة تفسيرالتحرير والتنوير - الجزء الاول


فهرسة مسائل القسم الأول من مقدمة تفسير التحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور(ت:1393هـ)

مقدمة المصنف


- هدف المصنف من تأليف كتابه

هدف المصنف الى أن يبدي في تفسير القرآن نكتا لم يسبق إليها، وأن يقف موقف الحكم بين طوائف المفسرين تارة لها وآونة عليها.

- كيف يتعامل المصنف مع تفسير الأقدمين

أن يعمد إلى ما أشاده الأقدمون فيهذبه ويزيده، عالما بأن غمض فضلهم كفران للنعمة، وجحد مزايا سلفها ليس من حميد خصال الأمة.
[فصّل ابن عاشور في بيان منهجه في هذا التفسير، وهذا أحد الأوجه]
- أهم التفاسير التي اعتمد عليها المصنف

أهم التفاسير تفسير "الكشاف" و"المحرر الوجيز" لابن عطية و"مفاتيح الغيب" لفخر الدين الرازي، "وتفسير البيضاوي" الملخص من "الكشاف" ومن "مفاتيح الغيب" بتحقيق بديع، و"تفسير الشهاب الآلوسي"، وما كتبه الطيبي والقزويني والقطب والتفتزاني على "الكشاف"، وما كتبه الخفاجي على "تفسير البيضاوي"، و"تفسير أبي السعود"، و"تفسير القرطبي" والموجود من "تفسير الشيخ محمد بن عرفة التونسي" من تقييد تلميذه الأبي وهو بكونه تعليقا على "تفسير ابن عطية" أشبه منه بالتفسير لذلك لا يأتي على جميع آي القرآن و"تفاسير الأحكام"، و"تفسير الإمام محمد ابن جرير الطبري"، وكتاب "درة التنزيل" المنسوب لفخر الدين الرازي، وربما ينسب للراغب الأصفهاني. ولقصد الاختصار يعرض عن العزو إليها.

- بيان تنوع التفاسير بناء على تنوع معاني القرآن ومقاصده

. نحا كثير من المفسرين مناحي متعدده بناء على تعدد معاني القرآن ومقاصده الموزعة على آياته فالأحكام مبينة في آيات الأحكام، والآداب في آياتها، والقصص في مواقعها، وربما اشتملت الآية الواحدة على فنين من ذلك أو أكثر تلك .

- بيان العلم الذي لم يخصه المفسرون بكتاب

إن فن دقائق البلاغة هو الذي لم يخصه أحد من المفسرين بكتاب كما خصوا الأفانين الأخرى، فينبه المؤلف على ما يلوح له من هذا الفن العظيم في آية من آي القرآن بحسب مبلغ الفهم وطاقة التدبر.
- المواضيع التى أهتم [اهتم] بها المصنف في تفسيره

اهتم المؤلف ببيان وجوه الإعجاز ونكت البلاغة العربية وأساليب الاستعمال، واهتم أيضا ببيان تناسب اتصال الآي بعضها ببعض، وهو منزع جليل قد عني به فخر الدين الرازي، وألف فيه برهان الدين البقاعي كتابه المسمى "نظم الدرر في تناسب الآي والسور" إلا أنهما لم يأتيا في كثير من الآي بما فيه مقنع، فلم تزل أنظار المتأملين لفصل القول تتطلع، أما البحث عن تناسب مواقع السور بعضها إثر بعض، فلا أراه حقا على المفسر.

ولم يغادر سورة إلا بينّ ما أحيط به من أغراضها لئلا يكون الناظر في تفسير القرآن مقصورا على بيان مفرداته ومعاني جمله كأنها فقر متفرقة تصرفه عن روعة انسجامه وتحجب عنه روائع جماله.

واهتم بتبيين معاني المفردات في اللغة العربية بضبط وتحقيق مما خلت عن ضبط كثير منه قواميس اللغة. وعسى أن يجد فيه المطالع تحقيق مراده، ويتناول منه فوائد ونكتا على قدر استعداده، كما بذل الجهد في الكشف عن نكت من معاني القرآن وإعجازه خلت عنها التفاسير، ومن أساليب الاستعمال الفصيح ما تصبو إليه همم النحارير،
[يمكن أن تضاف هذه المسألة - بعد اختصار عباراتها- إلى منهج ابن عاشور في تفسيره]
- بيان اسم الكتاب ومختصره

سمى المؤلف كتابه "تحرير المعنى السديد، وتنوير العقل الجديد، من تفسير الكتاب المجيد" واختصر هذا الاسم باسم "التحرير والتنوير من التفسير".

ا
لمقدمة الأولى : في التفسير والتأويل وكون التفسير علما


- المعني اللغوي للتفسير

التفسير مصدر فسر بتشديد السين الذي هو مضاعف فسر بالتخفيف من بابي نصر وضرب الذي مصدره الفسر، وكلاهما فعل متعد فالتضعيف ليس للتعدية. والفسر الإبانة والكشف لمدلول كلام أو لفظ بكلام آخر هو أوضح لمعنى المفسر عند السامع، ثم قيل المصدران والفعلان متساويان في المعنى، وقيل يختص المضاعف بإبانة المعقولات، قاله الراغب وصاحب البصائر، و يرى ابن عاشور أن استفادة معنى التكثير في حال استعمال التضعيف للتعدية أمر من مستتبعات الكلام حاصل من قرينة عدول المتكلم البليغ عن المهموز. الذي هو خفيف إلى المضعف الذي هو ثقيل، فذلك العدول قرينة على المراد وكذلك الجمع بينهما في مثل كلام الكشاف قرينة على إرادة التكثير.

- موضوع علم التفسير

موضوع التفسير: ألفاظ القرآن من حيث البحث عن معانيه، وما يستنبط منه وبهذه الحيثية خالف علم القراءات لأن تمايز العلوم-كما يقولون-بتمايز الموضوعات، وحيثيات الموضوعات.

- هل يعد التفسير علما
[المآخذ على عد التفسير علمًا]
يرى لبن عاشور آن في عد التفسير علما تسامح؛ إذ العلم إذا أطلق، إما أن يراد به نفس الإدراك، نحو قول أهل المنطق، العلم إما تصور وإما تصديق، وإما أن يراد به الملكة المسماة بالعقل وإما أن يراد به التصديق الجازم وهو مقابل الجهل وهذا غير مراد في عد العلوم وإما أن يراد بالعلم المسائل المعلومات وهي مطلوبات خبرية يبرهن عليها في ذلك العلم وهي قضايا كلية، ومباحث هذا العلم ليست بقضايا يبرهن عليها فما هي بكلية، بل هي تصورات جزئية غالبا لأنه تفسير ألفاظ أو استنباط معان.

- بيان وجوه اعتداد التفسير اللفظي لمفردات القرآن علما

الذين عدوا تفسير ألفاظ القرآن علما مستقلا فعلوا ذلك لواحد من وجوه ستة:

الأول: أن مباحثه لكونها تؤدي إلى استنباط علوم كثيرة وقواعد كلية، نزلت منزلة القواعد الكلية لأنها مبدأ لها، ومنشأ، تنزيلا للشيء منزلة ما هو شديد الشبه به بقاعدة ما قارب الشيء يعطى حكمه.
والثاني إن اشتراط كون مسائل العلم قضايا كلية يبرهن عليها في العلم خاص بالعلوم المعقولة، لأن هذا اشتراط ذكره الحكماء في تقسيم العلوم، أما العلوم الشرعية والأدبية فلا يشترط فيها ذلك، بل يكفي أن تكون مباحثها مفيدة كمالا علميا لمزاولها، والتفسير أعلاها في ذلك.
والثالث أن التعاريف اللفظية تصديقات على رأي بعض المحققين فهي تؤول إلى قضايا، وتفرع المعاني الجمة عنها نزلها منزلة الكلية، والاحتجاج عليها بشعر العرب وغيره يقوم مقام البرهان على المسألة، وهذا الوجه يشترك مع الوجه الأول في تنزيل مباحث التفسير منزلة المسائل، إلا أن وجه التنزيل في الأول راجع إلى ما يتفرع عنها، وهنا راجع إلى ذاتها مع أن التنزيل في الوجه الأول في جميع الشروط الثلاثة وهنا في شرطين، لأن كونها قضايا إنما يجيء على مذهب بعض المنطقيين.
الرابع إن علم التفسير لا يخلو من قواعد كلية في أثنائه مثل تقرير قواعد النسخ عند تفسير {ما ننسخ من آية} وتقرير قواعد التأويل عند تقرير {وما يعلم تأويله} وقواعد المحكم عند تقرير {منه آيات محكمات} فسمي مجموع ذلك وما معه علما تغليبا.
الخامس: أن حق التفسير أن يشتمل على بيان أصول التشريع وكلياته فكان بذلك حقيقا بأن يسمى علما ولكن المفسرين ابتدأوا بتقصي معاني القرآن فطفحت عليهم وحسرت دون كثرتها قواهم، فانصرفوا عن الاشتغال بانتزاع كليات التشريع إلا في مواضع قليلة.
السادس وهو الفصل: أن التفسير كان أول ما اشتغل به علماء الإسلام قبل الاشتغال بتدوين بقية العلوم، وفيه كثرت مناظراتهم. وكان يحصل من مزاولته والدربة فيه لصاحبه ملكة يدرك بها أساليب القرآن ودقائق نظمه، فكان بذلك مفيدا علوما كلية لها مزيد اختصاص بالقرآن المجيد، فمن أجل ذلك سمي علما.

- بداية التصنيف في علم التفسير وصحة المنقول منها

التفسير أول العلوم الإسلامية ظهورا، إذ قد ظهر الخوض فيه في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، إذ كان بعض أصحابه قد سأل عن بعض معاني القرآن كما سأله عمر رضي الله عنه عن الكلالة، ثم اشتهر فيه بعد من الصحابة علي وابن عباس وهما أكثر الصحابة قولا في التفسير، وزيد بن ثابت وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم، وكثر الخوض فيه، حين دخل في الإسلام من لم يكن عربي السجية، فلزم التصدي لبيان معاني القرآن لهم، وشاع عن التابعين وأشهرهم في ذلك مجاهد وابن جبير، وهو أيضا أشرف العلوم الإسلامية ورأسها على التحقيق.

وأما تصنيفه فأول من صنف فيه عبد الملك بن جريج المكي المولود سنة 80 هـ والمتوفى سنة 149 هـ صنف كتابه في تفسير آيات كثيرة وجمع فيه آثارا وغيرها وأكثر روايته عن أصحاب ابن عباس مثل عطاء ومجاهد، وصنفت تفاسير ونسبت روايتها إلى ابن عباس، لكن أهل الأثر تكلموا فيها وهي "تفسير محمد بن السائب الكلبي" المتوفى سنة 146 هـ عن أبي صالح عن ابن عباس، وقد رمي أبو صالح بالكذب حتى لقب بكلمة دروغدت بالفارسية بمعنى الكذاب وهي أوهى الروايات فإذا انضم إليها رواية محمد بن مروان السدي عن الكلبي فهي سلسلة الكذب، أرادوا بذلك أنها ضد ما لقبوه بسلسلة الذهب، وهي مالك عن نافع عن ابن عمر. وقد قيل: إن الكلبي كان من أصحاب عبد الله بن سبأ اليهودي الأصل، الذي أسلم وطعن في الخلفاء الثلاثة وغلا في حب علي بن أبي طالب، وقال: إن عليا لم يمت وأنه يرجع إلى الدنيا وقد قيل إنه ادعى إلهية علي.

وهنالك رواية مقاتل ورواية الضحاك، ورواية علي بن أبي طلحة الهاشمي كلها عن ابن عباس، وأصحها رواية علي بن أبي طلحة، وهي التي اعتمدها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه فيما يصدر به من تفسير المفردات على طريقة التعليق، وقد خرج في الإتقان، جميع ما ذكره البخاري من تفسير المفردات، عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس مرتبة على سور القرآن. والحاصل أن الرواية عن ابن عباس، قد اتخذها الوضاعون والمدلسون ملجأ لتصحيح ما يروونه كدأب الناس في نسبة كل أمر مجهول من الأخبار والنوادر، لأشهر الناس في ذلك المقصد.

وهنالك روايات تسند لعلي رضي الله عنه، أكثرها من الموضوعات، إلا ما روي بسند صحيح، مثل ما في صحيح البخاري ونحوه، لأن لعلي أفهاما في القرآن كما ورد في صحيح البخاري، عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي هل عندكم شيء من الوحي ليس في كتاب الله? فقال: لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ما أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن ثم تلاحق العلماء في تفسير القرآن وسلك كل فريق مسلكا يأوي إليه وذوقا يعتمد عليه.

فمنهم من سلك مسلك نقل ما يؤثر عن السلف، وأول من صنف في هذا المعنى، مالك ابن أنس، وكذلك الداودي تلميذ السيوطي في طبقات المفسرين، وذكره عياض في المدارك إجمالا. وأشهر أهل هذه الطريقة فيما هو بأيدي الناس محمد بن جرير الطبري.

ومنهم من سلك مسلك النظر كأبي إسحاق الزجاج وأبي علي الفارسي، وشغف كثير بنقل القصص عن الإسرائيليات، فكثرت في كتبهم الموضوعات، إلى أن جاء في عصر واحد عالمان جليلان أحدهما بالمشرق، وهو العلامة أبو القاسم محمود الزمخشري، صاحب "الكشاف"، والآخر بالمغرب بالأندلس وهو الشيخ عبد الحق بن عطية، فألف تفسيره المسمى بـ"المحرر الوجيز". كلاهما يغوص على معاني الآيات، ويأتي بشواهدها من كلام العرب ويذكر كلام المفسرين إلا أن منحى البلاغة والعربية بالزمخشري أخص، ومنحى الشريعة على ابن عطية أغلب، وكلاهما عضادتا الباب، ومرجع من بعدهما من أولي الألباب.

- الفرق بين التفسير والتأويل

جرت عادة المفسرين بالخوض في بيان معنى التأويل، وهل هو مساو للتفسير أو أخص منه أو مباين. وجماع القول في ذلك أن من العلماء من جعلهما متساويين، وإلى ذلك ذهب ثعلب وابن الأعرابي وأبو عبيدة، وهو ظاهر كلام الراغب، ومنهم من جعل التفسير للمعنى الظاهر والتأويل للمتشابه، ومنهم من قال: التأويل صرف اللفظ عن ظاهر معناه إلى معنى آخر محتمل لدليل فيكون هنا بالمعنى الأصولي، فإذا فسر قوله تعالى: {يخرج الحي من الميت} بإخراج الطير من البيضة، فهو التفسير، أو بإخراج المسلم من الكافر فهو التأويل، وهنالك أقوال أخر لا عبرة بها.

المقدمة الثانية في استمداد علم التفسير


- بيان معنى الاستمداد

استمداد العلم يراد به توقفه على معلومات سابق وجودها على وجود ذلك العلم عند مدونيه لتكون عونا لهم على إتقان تدوين ذلك العلم، وسمي ذلك في الاصطلاح بالاستمداد عن تشبيه احتياج العلم لتلك المعلومات بطلب المدد.

- بيان مجمل استمدادات علم التفسير

استمداد علم التفسير للمفسر العربي والمولد، من المجموع الملتئم من علم العربية وعلم الآثار، ومن أخبار العرب وأصول الفقه قيل وعلم الكلام وعلم القراءات.

- بيان استمداد علم التفسير من علم العربية

المراد بعلم العربية معرفة مقاصد العرب من كلامهم وأدب لغتهم سواء حصلت تلك المعرفة، بالسجية والسليقة، كالمعرفة الحاصلة للعرب الذين نزل القرآن بين ظهرانيهم، أم حصلت بالتلقي والتعلم كالمعرفة الحاصلة للمولدين الذين شافهوا بقية العرب ومارسوهم، والمولدين الذين درسوا علوم اللسان ودونوها. إن القرآن كلام عربي فكانت قواعد العربية طريقا لفهم معانيه، وبدون ذلك يقع الغلط وسوء الفهم، لمن ليس بعربي بالسليقة، ونعني بقواعد العربية مجموع علوم اللسان العربي، وهي: متن اللغة، والتصريف، والنحو، والمعاني، والبيان.

ومن وراء ذلك استعمال العرب المتبع من أساليبهم في خطبهم وأشعارهم وتراكيب بلغائهم، ويدخل في ذلك ما يجري مجرى التمثيل والاستئناس للتفسير من أفهام أهل اللسان أنفسهم لمعاني آيات غير واضحة الدلالة عند المولدين.

- بيان اهمية علمي المعاني والبيان لطالب التفسير

أورد ابن عاشور قول الشيخ عبد القاهر في "دلائل الإعجاز". في آخر فصل المجاز الحكمي: "ومن عادة قوم ممن يتعاطى التفسير بغير علم، أن يتوهموا ألباب الألفاظ الموضوعة على المجاز والتمثيل أنها على ظواهرها "أي على الحقيقة"، فيفسدوا المعنى بذلك ويبطلوا الغرض ويمنعوا أنفسهم والسامع منهم العلم بموضع البلاغة وبمكان الشرف، وناهيك بهم إذا أخذوا في ذكر الوجوه وجعلوا يكثرون في غير طائل، هنالك ترى ما شئت من باب جهل قد فتحوه، وزند ضلالة قد قدحوا به".

- بيان المراد بإستعمال [باستعمال، بهمزة وصل لأنه مصدر سداسي] العرب وعلاقته بعلم التفسير

استعمال العرب، فهو التملي من أساليبهم في خطبهم وأشعارهم وأمثالهم وعوائدهم ومحادثاتهم، ليحصل بذلك لممارسة المولد ذوق يقوم عنده مقام السليقة والسجية عند العربي القح والذوق كيفية للنفس بها تدرك الخواص والمزايا التي للكلام البليغ واضاف ابن عاشور بقوله " قال شيخنا الجد الوزير: "وهي ناشئة عن تتبع استعمال البلغاء فتحصل لغير العربي بتتبع موارد الاستعمال والتدبر في الكلام المقطوع ببلوغه غاية البلاغة، فدعوى معرفة الذوق لا تقبل إلا من الخاصة وهو يضعف ويقوى بحسب مثافنة ذلك التدبر" اهـ..
ولذلك أي لإيجاد الذوق أو تكميله لم يكن غنى للمفسر في بعض المواضع من الاستشهاد على المراد في الآية، ببيت من الشعر، أو بشيء من كلام العرب لتكميل ما عنده من الذوق، عند خفاء المعنى، ولإقناع السامع والمتعلم اللذين لم يكمل لهما الذوق في المشكلات".
ويدخل في مادة الاستعمال العربي ما يؤثر عن بعض السلف في فهم معاني بعض الآيات على قوانين استعمالهم، كما روى مالك في الموطأ عن عروة بن الزبير قال: قلت لعائشة وأنا يومئذ حديث السن: أرأيت قول الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} فما على الرجل شيء أن لا يطوف بهما، فقالت عائشة: كلا لو كان كما تقول، لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة الطاغية، وكانت مناة حذو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله عن ذلك، فأنزل الله: {إن الصفا والمروة} الآية اهـ، فبينت له ابتداء طريقة استعمال العرب لو كان المعنى كما وهمه عروة ثم بينت له مثار شبهته الناشئة عن قوله تعالى: {فلا جناح عليه} الذي ظاهره رفع الجناح عن الساعي الذي يصدق بالإباحة دون الوجوب.

- بيان استمداد علم التفسير من الاثار

معنى الآثارا، ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، من بيان المراد من بعض القرآن في مواضع الإشكال والإجمال، وذلك شيء قليل. قال ابن عطية عن عائشة ما كان رسول الله يفسر من القرآن إلا آيات معدودات علمه إياهن جبريل، قال معناه في مغيبات القرآن وتفسير مجمله مما لا سبيل إليه إلا بتوقيف، قلت: أو كان تفسير لا توقيف فيه، كما بين لعدي بن حاتم أن الخيط الأبيض والخيط الأسود هما سواد الليل وبياض النهار، وقال له: ((إنك لعريض الوسادة))، وفي رواية ((إنك لعريض القفا))، وما نقل عن الصحابة الذين شاهدوا نزول الوحي من بيان سبب النزول، وناسخ ومنسوخ، وتفسير مبهم، وتوضيح واقعة من كل ما طريقهم فيه الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم، دون الرأي وذلك مثل كون المراد من المغضوب عليهم اليهود ومن الضالين النصارى، ومثل كون المراد من قوله تعالى: {ذرني ومن خلقت وحيدا} الوليد بن المغيرة المخزومي أبا خالد بن الوليد، وكون المراد من قوله تعالى: {أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا} الآية، العاصي بن وائل السهمي في خصومته بينه وبين خباب بن الأرت كما في صحيح البخاري في تفسير سورة المدثر.

- بيان استمداد علم التفسير من علم القراءات

يرى ابن عاشورأن القراءات لا يحتاج إليها إلا في حين الاستدلال بالقراءة على تفسير غيرها، وإنما يكون في معنى الترجيح لأحد المعاني القائمة من الآية أو لاستظهار على المعنى، فذكر القراءة كذكر الشاهد من كلام العرب؛ لأنها إن كانت مشهورة، فلا جرم أنها تكون حجة لغوية، وإن كانت شاذة فحجتها لا من حيث الرواية، لأنها لا تكون صحيحة الرواية، ولكن من حيث إن قارئها ما قرأ بها إلا استنادا لاستعمال عربي صحيح، إذ لا يكون القارئ معتدا به إلا إذا عرفت سلامة عربيته، كما احتجوا على أن أصل {الحمد لله} أنه منصوب على المفعول المطلق بقراءة هارون العتكي (الحمدَ لله) بالنصب كما في الكشاف، وبذلك يظهر أن القراءة لا تعد تفسيرا من حيث هي طريق في أداء ألفاظ القرآن، بل من حيث أنها شاهد لغوي فرجعت إلى علم اللغة.

- استمداد علم التفسير من علم أخبار العرب

أخبار العرب من جملة أدبهم. وخصت بالذكر تنبيها لمن يتوهم أن الاشتغال بها من اللغو فهي يستعان بها على فهم ما أوجزه القرآن في سوقها لأن القرآن إنما يذكر القصص والأخبار للموعظة والاعتبار، لا لأن يتحادث بها الناس في الأسمار، فبمعرفة الأخبار يعرف ما أشارت له الآيات من دقائق المعاني، فنحو قوله تعالى: {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا} وقوله: {قتل أصحاب الأخدود} يتوقف على معرفة أخبارهم عند العرب.

- العلوم التي لا تدخل في استمدادات علم التفسير

لا يعد أصول الفقه من مادة التفسير، ولكنهم يذكرون أحكام الأوامر والنواهي والعموم وهي من أصول الفقه، فتحصل أن بعضه يكون مادة للتفسير، وذلك من جهتين: إحداهما أن علم الأصول قد أودعت فيه مسائل كثيرة هي من طرق استعمال كلام العرب وفهم موارد اللغة أهمل التنبيه عليها علماء العربية مثل مسائل الفحوى ومفهوم المخالفة، وقد عد الغزالي علم الأصول من جملة العلوم التي تتعلق بالقرآن وبأحكامه فلا جرم أن يكون مادة للتفسير.
الجهة الثانية: أن علم الأصول يضبط قواعد الاستنباط ويفصح عنها فهو آلة للمفسر في استنباط المعاني الشرعية من آياتها.

- بيان اساب عدم اعتبار الفقه من مادة التفسير

ولم يعد الفقه من مادة علم التفسير كما فعل السيوطي، لعدم توقف فهم القرآن، على مسائل الفقه، فإن علم الفقه متأخر عن التفسير وفرع عنه، وإنما يحتاج المفسر إلى مسائل الفقه، عند قصد التوسع في تفسيره، للتوسع في طرق الاستنباط وتفصيل المعاني تشريعا وآدابا وعلوما، ولذلك لا يكاد يحصر ما يحتاجه المتبحر في ذلك من العلوم، ويوشك أن يكون المفسر المتوسع محتاجا إلى الإلمام بكل العلوم وهذا المقام هو الذي أشار له البيضاوي بقوله: "لا يليق لتعاطيه، والتصدي للتكلم فيه، إلا من برع في العلوم الدينية كلها أصولها وفروعها وفي الصناعات العربية والفنون الأدبية بأنواعها".

- بيان العلوم التي لا تعد من استمداد علم التفسير

لا يعد من استمداد علم التفسير، الآثار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير آيات، ولا ما يروى عن الصحابة في ذلك لأن ذلك من التفسير لا من مدده، ولا يعد أيضا من استمداد التفسير ما في بعض آي القرآن من معنى يفسر بعضا آخر منها، لأن ذلك من قبيل حمل بعض الكلام على بعض، كتخصيص العموم وتقييد المطلق وبيان المجمل وتأويل الظاهر ودلالة الاقتضاء وفحوى الخطاب ولحن الخطاب، ومفهوم المخالفة.
[هذه المسألة مع المسألتين قبلها يمكن دمجهم في مسألة واحدة، مع تنظيم تحريرها]
- بيان عدم تنافي استمداد علم التفسير مع كونه رأس العلوم الاسلامية

أن استمداد علم التفسير، من هذه المواد لا ينافي كونه رأس العلوم الإسلامية كما تقدم، لأن كونه رأس العلوم الإسلامية، معناه أنه أصل لعلوم الإسلام على وجه الإجمال، فأما استمداده من بعض العلوم الإسلامية، فذلك استمداد لقصد تفصيل التفسير على وجه أتم من الإجمال.

المقدمة الثالثة : في صحة التفسير بغير المأثور ومعنى التفسير بالرأي ونحوه


- بيان حال التحذير بالقول في القرآن بالراي الوارد في الحديث

لو كان التفسير مقصورا على بيان معاني مفردات القرآن من جهة العربية لكان التفسير نزرا، ونحن نشاهد كثرة أقوال السلف من الصحابة، فمن يليهم في تفسير آيات القرآن وما أكثر ذلك الاستنباط برأيهم وعلمهم. قال الغزالي والقرطبي: لا يصح أن يكون كل ما قاله الصحابة في التفسير مسموعا من النبي صلى الله عليه وسلم لوجهين: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه من التفسير إلا تفسير آيات قليلة وهي ما تقدم عن عائشة. الثاني أنهم اختلفوا في التفسير على وجوه مختلفة لا يمكن الجمع بينها. وسماع جميعها من رسول الله محال، ولو كان بعضها مسموعا لترك الآخر، أي لو كان بعضها مسموعا لقال قائله: إنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إليه من خالفه، فتبين على القطع أن كل مفسر قال في معنى الآية بما ظهر له باستنباطه.

- بيان ادلة التفسير بالرأي من الصحابة والتابعين

روى البخاري في صحيحه عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله? قال: "لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لا أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن" إلخ وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس فقال: ((اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)) واتفق العلماء على أن المراد بالتأويل تأويل القرآن، وقد ذكر فقهاؤنا في آداب قراءة القرآن أن التفهم مع قلة القراءة أفضل من كثرة القراءة بلا تفهم، قال الغزالي في الإحياء: "التدبر في قراءته إعادة النظر في الآية والتفهم أن يستوضح من كل آية ما يليق بها كي تتكشف له من الأسرار معان مكنونة لا تتكشف إلا للموفقين قال: ومن موانع الفهم أن يكون قد قرأ تفسيرا واعتقد أن لا معنى لكلمات القرآن إلا ما تناوله النقل عن ابن عباس وابن مجاهد، وأن ما وراء ذلك تفسير بالرأي فهذا من الحجب العظيمة".

وقال فخر الدين في تفسير قوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} في سورة النساء وقد ثبت في أصول الفقه أن المتقدمين إذا ذكروا وجها في تفسير الآية فذلك لا يمنع المتأخرين من استخراج وجه آخر في تفسيرها وإلا لصارت الدقائق التي يستنبطها المتأخرون في التفسير مردودة، وذلك لا يقوله إلا مقلد خلف بضم الخاء ا هـ. وقال سفيان بن عيينة في قوله تعالى: {ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون} هي تسلية للمظلوم وتهديد للظالم، فقيل له: من قال هذا? فغضب وقال: إنما قاله من علمه يريد نفسه، وقال أبو بكر ابن العربي في العواصم إنه أملى على سورة نوح خمسمائة مسألة وعلى قصة موسى ثمانمائة مسألة.
وهل استنباط الأحكام التشريعية من القرآن في خلال القرون الثلاثة الأولى من قرون الإسلام إلا من قبيل التفسير لآيات القرآن بما لم يسبق تفسيرها به قبل ذلك? وهذا الإمام الشافعي يقول: تطلبت دليلا على حجية الإجماع فظفرت به في قوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا}.

قال شرف الدين الطيبي في شرح الكشاف في سورة الشعراء: شرط التفسير الصحيح أن يكون مطابقا للفظ من حيث الاستعمال، سليما من التكلف عريا من التعسف، وصاحب الكشاف يسمي ما كان على خلاف ذلك بدع التفاسير.

- بيان محمل ما يروى من تحاشي بعض السلف عن التفسير بغير توقيف

روي عن أبي بكر الصديق أنه سئل عن تفسير الأب في قوله {وفاكهة وأبا }. فقال: "أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأيي". ويروى عن سعيد بن المسيب والشعبي إحجامهما عن ذلك.
وأما الجواب عن الشبهة التي نشأت من الآثار المروية في التحذير من تفسير القرآن بالرأي فمرجعه إلى أحد خمسة وجوه:
أولها: أن المراد بالرأي هو القول عن مجرد خاطر دون استناد إلى نظر في أدلة العربية ومقاصد الشريعة وتصاريفها، وما لا بد منه من معرفة الناسخ والمنسوخ وسبب النزول، فهذا لا محالة إن أصاب فقد أخطأ في تصوره بلا علم، لأنه لم يكن مضمون الصواب كقول المثل: "رمية من غير رام" وهذا كمن فسر {الم} إن الله أنزل جبريل على محمد بالقرآن فإنه لا مستند لذلك، وأما ما روي عن الصديق رضي الله عنه فيما تقدم في تفسير الآية فذلك من الورع خشية الوقوع في الخطأ في كل ما لم يقم له فيه دليل أو في مواضع لم تدع الحاجة إلى التفسير فيها، ألم تر أنه سئل عن الكلالة في آية النساء فقال: أقول فيها برأي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان إلخ. وعلى هذا المحمل ما روي عن الشعبي وسعيد أي أنهما تباعدا عما يوقع في ذلك ولو على احتمال بعيد مبالغة في الورع ودفعا للاحتمال الضعيف، وإلا فإن الله تعالى ما تعبدنا في مثل هذا إلا ببذل الوسع مع ظن الإصابة.

ثانيها: أن لا يتدبر القرآن حق تدبره فيفسره بما يخطر له من بادئ الرأي دون إحاطة بجوانب الآية ومواد التفسير مقتصرا على بعض الأدلة دون بعض كأن يعتمد على ما يبدو من وجه في العربية فقط، كمن يفسر قوله تعالى: {ما أصابك من حسنة فمن الله} الآية على ظاهر معناها يقول، إن الخير من الله والشر من فعل الإنسان بقطع النظر على الأدلة الشرعية التي تقتضي أن لا يقع إلا ما أراد الله غافلا عما سبق من قوله تعالى: {قل كل من عند الله} أو بما يبدو من ظاهر اللغة دون استعمال العرب كمن يقول في قوله تعالى: {وآتينا ثمود الناقة مبصرة} فيفسر مبصرة بأنها ذات بصر لم تكن عمياء، فهذا من الرأي المذموم لفساده.

ثالثها: أن يكون له ميل إلى نزعة أو مذهب أو نحلة فيتأول القرآن على وفق رأيه ويصرفه عن المراد ويرغمه على تحمله ما لا يساعد عليه المعنى المتعارف، فيجر شهادة القرآن لتقرير رأيه ويمنعه عن فهم القرآن حق فهمه ما قيد عقله من التعصب، عن أن يجاوزه فلا يمكنه أن يخطر بباله غير مذهبه حتى إن لمع له بارق حق وبدا له معنى يباين مذهبه حمل عليه شيطان التعصب حملة وقال كيف يخطر هذا ببالك، وهو خلاف معتقدك كمن يعتقد من الاستواء على العرش التمكن والاستقرار، فإن خطر له أن معنى قوله تعالى: {القدوس} أنه المنزه عن كل صفات المحدثات حجبه تقليده عن أن يتقرر ذلك في نفسه، ولو تقرر لتوصل فهمه فيه إلى كشف معنى ثان أو ثالث، ولكنه يسارع إلى دفع ذلك عن خاطره لمناقضته مذهبه. وجمود الطبع على الظاهر مانع من التوصل للغور. كذلك تفسير المعتزلة قوله: {إلى ربها ناظرة} بمعنى أنها تنتظر نعمة ربها على أن إلى واحد الآلاء مع ما في ذلك من الخروج عن الظاهر وعن المأثور وعن المقصود من الآية.
وقالت البيانية في قوله تعالى: {هذا بيان للناس}: إنه بيان ابن سمعان كبير مذهبهم. وكانت المنصورية أصحاب أبي منصور الكسف يزعمون أن المراد من قوله تعالى: {وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم} أن الكسف إمامهم نازل من السماء، وهذا إن صح عنهم ولم يكن من ملصقات أضدادهم فهو تبديل للقرآن ومروق عن الدين.

رابعها: أن يفسر القرآن برأي مستند إلى ما يقتضيه اللفظ ثم يزعم أن ذلك هو المراد دون غيره لما في ذلك من التضييق على

خامسها: أن يكون القصد من التحذير أخذ الحيطة في التدبر والتأويل ونبذ التسرعإلى ذلك، وهذا مقام تفاوت العلماء فيه واشتد الغلو في الورع ببعضهم حتى كان لا يذكر تفسير شيء غير عازيه إلى غيره. وكان الأصمعي لا يفسر كلمة من العربية إذا كانت واقعة في القرآن، ذكر ذلك في المزهر فأبى أن يتكلم في أن سرى وأسرى بمعنى واحد، لأن أسرى ذكرت في القرآن، ولا في أن عصفت الريح وأعصفت بمعنى واحد لأنها في القرآن، وقال: الذي سمعته في معنى الخليل أنه أصفى المودة وأصمها ولا أزيد فيه شيئا لأنه في القرآن اهـ.

- بيان القول بالتفسير المأثور

إن الذين جمدوا على القول بأن تفسير القرآن يجب أن لا يعدو ما هو مأثور فهم رموا هذه الكلمة على عواهنها ولم يضبطوا مرادهم من المأثور عمن يؤثر، فإن أرادوا به ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من تفسير بعض آيات إن كان مرويا بسند مقبول من صحيح أو حسن، فإذا التزموا هذا الظن بهم فقد ضيقوا سعة معاني القرآن وينابيع ما يستنبط من علومه، وناقضوا أنفسهم فيما دونوه من التفاسير، وغلطوا سلفهم فيما تأولوه، إذ لا ملجأ لهم من الاعتراف بأن أئمة المسلمين من الصحابة فمن بعدهم لم يقصروا أنفسهم على أن يرووا ما بلغهم من تفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد سأل عمر بن الخطاب أهل العلم عن معاني آيات كثيرة ولم يشترط عليهم أن يرووا له ما بلغهم في تفسيرها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن أرادوا بالمأثور ما روي عن النبي وعن الصحابة خاصة وهو ما يظهر من صنيع السيوطي في تفسيره الدر المنثور، لم يتسع ذلك المضيق إلا قليلا ولم يغن عن أهل التفسير فتيلا، لأن أكثر الصحابة لا يؤثر عنهم في التفسير إلا شيء قليل سوى ما يروى عن علي بن أبي طالب على ما فيه من صحيح وضعيف وموضوع، وقد ثبت عنه أنه قال: ما عندي مما ليس في كتاب الله شيء إلا فهما يؤتيه الله. وما يروى عن ابن مسعود وعبد الله بن عمر وأنس وأبي هريرة. وأما ابن عباس فكان أكثر ما يروى عنه قولا برأيه على تفاوت بين رواته. وإن أرادوا بالمأثور ما كان مرويا قبل تدوين التفاسير الأول مثل ما يروى عن أصحاب ابن عباس وأصحاب ابن مسعود، فقد أخذوا يفتحون الباب من شقه، ويقربون ما بعد من الشقة، إذ لا محيص لهم من الاعتراف بأن التابعين قالوا أقوالا في معاني القرآن لم يسندوها ولا ادعوا أنها محذوفة الأسانيد، وقد اختلفت أقوالهم في معاني آيات كثيرة اختلافا ينبئ إنباء واضحا بأنهم إنما تأولوا تلك الآيات من أفهامهم كما يعلمه من له علم بأقوالهم، وهي ثابتة في تفسير الطبري ونظرائه، وقد التزم الطبري في تفسيره أن يقتصر على ما هو مروي عن الصحابة والتابعين، لكنه لا يلبث في كل آية أن يتخطى ذلك إلى اختياره منها وترجيح بعضها على بعض بشواهد من كلام العرب، وحسبه بذلك تجاوزا لما حدده من الاقتصار على التفسير بالمأثور وذلك طريق ليس بنهج، وقد سبقه إليه بقي بن مخلد ولم نقف على تفسيره، وشاكل الطبري فيه معاصروه، مثل ابن حاتم[1] وابن مردويه والحاكم، فلله در الذين لم يحبسوا أنفسهم في تفسير القرآن على ما هو مأثور مثل الفراء وأبي عبيدة من الأولين، والزجاج والرماني ممن بعدهم، ثم الذين سلكوا طريقهم مثل الزمخشري وابن عطية.

- بيان التفسير بالرأي المذموم وأدلته
[حبذا تخصيص تفسير الباطنية بمسألة مستقلة ليتضح لك ما ورد فيه]
يجب التنبيه إلى حال طائفة التزمت تفسير القرآن بما يوافق هواها، وصرفوا ألفاظ القرآن عن ظواهرها بما سموه الباطن، وزعموا أن القرآن إنما نزل متضمنا لكنايات ورموز عن أغراض، وأصل هؤلاء طائفة من غلاة الشيعة عرفوا عند أهل العلم بالباطنية فلقبوهم بالوصف الذي عرفوهم به، وهم يعرفون عند المؤرخين بالإسماعيلية لأنهم ينسبون مذهبهم إلى جعفر بن إسماعيل الصادق، ويعتقدون عصمته وإمامته بعد أبيه بالوصاية، ويرون أن لا بد للمسلمين من إمام هدى من آل البيت هو الذي يقيم الدين، ويبين مراد الله. ولما توقعوا أن يحاجهم العلماء بأدلة القرآن والسنة رأوا أن لا محيص لهم من تأويل تلك الحجج التي تقوم في وجه بدعتهم، وأنهم إن خصوها بالتأويل وصرف اللفظ إلى الباطن اتهمهم الناس بالتعصب والتحكم فرأوا صرف جميع القرآن عن ظاهره وبنوه على أن القرآن رموز لمعان خفية في صورة ألفاظ تفيد معاني ظاهرة ليشتغل بها عامة المسلمين، وزعموا أن ذلك شأن الحكماء، فمذهبهم مبني على قواعد الحكمة الإشراقية ومذهب التناسخ والحلولية فهو خليط من ذلك، ومن طقوس الديانات اليهودية والنصرانية وبعض طرائق الفلسفة ودين زرادشت. وعندهم أن الله يحل في كل رسول وإمام وفي الأماكن المقدسة، وأنه يشبه الخلق تعالى وتقدس وكل علوي يحل فيه الإله. وتكلفوا لتفسير القرآن بما يساعد الأصول التي أسسوها. ولهم في التفسير تكلفات ثقيلة منها قولهم أن قوله تعالى: {وعلى الأعراف رجال} أن جبلا يقال له الأعراف هو مقر أهل المعارف الذين يعرفون كلا بسيماهم. وأن قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} أي لا يصل أحد إلى الله إلا بعد جوازه على الآراء الفاسدة إما في أيام صباه، أو بعد ذلك، ثم ينجي الله من يشاء. وإن قوله تعالى: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى} أراد بفرعون القلب.

وأما روي عن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن للقرآن ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا)). وعن ابن عباس أنه قال: إن للقرآن ظهرا وبطنا. فلم يصح ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، بله المروي عن ابن عباس فمن هو المتصدي لروايته عنه? على أنهم ذكروا من بقية كلام ابن عباس أنه قال فظهره التلاوة وبطنه التأويل فقد أوضح مراده إن صح عنه بأن الظهر هو اللفظ والبطن هو المعنى. ومن تفسير الباطنية تفسير القاشاني وكثير من أقوالهم مبثوث في "رسائل إخوان الصفاء. "

- بيان اشارات الصوفية في بعض آيات القرآن

إن ما يتكلم به أهل الإشارات من الصوفية في بعض آيات القرآن من معان لا تجري على ألفاظ القرآن ظاهرا ولكن بتأويل ونحوه فينبغي أن يعلم أنهم ما كانوا يدعون أن كلامهم في ذلك تفسير للقرآن، بل يعنون أن الآية تصلح للتمثل بها في الغرض المتكلم فيه، وحسبهم في ذلك أنهم سموها إشارات ولم يسموها معاني، فبذلك فارق قولهم قول الباطنية. ولعلماء الحق فيها رأيان: فالغزالي يراها مقبولة، قال في كتاب من "الإحياء": إذا قلنا في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة)) فهذا ظاهره أو إشارته أن القلب بيت وهو مهبط الملائكة ومستقر آثارهم، والصفات الرديئة كالغضب والشهوة والحسد والحقد والعجب كلاب نابحة في القلب فلا تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب، ونور الله لا يقذفه في القلب إلا بواسطة الملائكة، فقلب كهذا لا يقذف فيه النور. وقال: ولست أقول إن المراد من الحديث بلفظ البيت القلب وبالكلب الصفة المذمومة ولكن أقول هو تنبيه عليه، وفرق بين تغيير الظاهر وبين التنبيه على البواطن من ذكر الظواهر اهـ. فبهذه الدقيقة فارق نزعة الباطنية. ومثل هذا قريب من تفسير لفظ عام في آية بخاص من جزئياته كما وقع في كتاب المغازي من صحيح البخاري عن عمرو بن عطاء في قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا} قال هم كفار قريش، ومحمد نعمة الله {وأحلوا قومهم دار البوار} قال يوم بدر.
وابن العربي في كتاب "العواصم" يرى إبطال هذه الإشارات كلها حتى أنه بعد أن ذكر نحلة الباطنية وذكر "رسائل إخوان الصفاء" أطلق القول في إبطال أن يكون للقرآن باطن غير ظاهره، وحتى أنه بعد ما نوه بالثناء على الغزالي في تصديه للرد على الباطنية والفلاسفة قال: "وقد كان أبو حامد بدرا في ظلمة الليالي، وعقدا في لبة المعالي، حتى أوغل في التصوف، وأكثر معهم التصرف، فخرج عن الحقيقة، وحاد في أكثر أقواله عن الطريقة" .

وقال ابن عاشور " إن هذه الإشارات لا تعدو واحدا من ثلاثة أنحاء: الأول ما كان يجري فيه معنى الآية مجرى التمثيل لحال شبيه بذلك المعنى كما يقولون مثلا {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} أنه إشارة للقلوب لأنها مواضع الخضوع لله تعالى إذ بها يعرف فتسجد له القلوب بفناء النفوس. ومنعها من ذكره هو الحيلولة بينها وبين المعارف اللدنية، {وسعى في خرابها} بتكديرها بالتعصبات وغلبة الهوى، فهذا يشبه ضرب المثل لحال من لا يزكي نفسه بالمعرفة ويمنع قلبه أن تدخله صفات الكمال الناشئة عنها بحال مانع المساجد أن يذكر فيها اسم الله، وذكر الآية عند تلك الحالة كالنطق بلفظ المثل، ومن هذا قولهم في حديث: ((لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب)) كما تقدم عن الغزالي.
الثاني: ما كان من نحو التفاؤل فقد يكون للكلمة معنى يسبق من صورتها إلى السمع هو غير معناها المراد وذلك من باب انصراف ذهن السامع إلى ما هو المهم عنده، والذي يجول في خاطره وهذا كمن قال في قوله تعالى: {من ذا الذي يشفع} من ذل ذي إشارة للنفس يصير من المقربين للشفعاء، فهذا يأخذ صدى موقع الكلام في السمع ويتأوله على ما شغل به قلبه. ورأيت الشيخ محيي الدين يسمي هذا النوع سماعا ولقد أبدع.
الثالث: عبر ومواعظ وشأن أهل النفوس اليقظى أن ينتفعوا من كل شيء ويأخذوا الحكمة حيث وجدوها فما ظنك بهم إذا قرأوا القرآن وتدبروه فاتعظوا بمواعظه فإذا أخذوا من قوله تعالى: {فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا} اقتبسوا أن القلب الذي لم يمتثل رسول المعارف العليا تكون عاقبته وبالا.
ومن حكاياتهم في غير باب التفسير أن بعضهم مر برجل يقول لآخر: هذا العود لا ثمرة فيه فلم يعد صالحا إلا للنار، فجعل يبكي ويقول: إذن فالقلب غير المثمر لا يصلح إلا للنار.
فنسبة الإشارة إلى لفظ القرآن مجازية لأنها إنما تشير لمن استعدت عقولهم وتدبرهم في حال من الأحوال الثلاثة ولا ينتفع بها غير أولئك، فلما كانت آيات القرآن قد أنارت تدبرهم وأثارت اعتبارهم نسبوا تلك الإشارة للآية. فليست تلك الإشارة هي حق الدلالة اللفظية والاستعمالية حتى تكون من لوازم اللفظ وتوابعه كما قد تبين. وكل إشارة خرجت عن حد هذه الثلاثة الأحوال إلى ما عداها فهي تقترب إلى قول الباطنية رويدا رويدا إلى أن تبلغ عين مقالاتهم وقد بصرناكم بالحد الفارق بينهما، فإذا رأيتم اختلاطه فحققوا مناطه، وفي أيديكم فيصل الحق فدونكم

- بيان الفرق بين الاشارة الواردة عند الصوفية وما جاء في علم الاصول

ليس من الإشارة ما يعرف في الأصول بدلالة الإشارة، وفحوى الخطاب، وفهم الاستغراق من لام التعريف في المقام الخطابي، ودلالة التضمن والالتزام كما أخذ العلماء من تنبيهات القرآن استدلالا لمشروعية أشياء، كاستدلالهم على مشروعية الوكالة من قوله تعالى: {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه} ومشروعية الضمان من قوله: {وأنا به زعيم}. ومشروعية القياس من قوله: {لتحكم بين الناس بما أراك الله} ولا بما هو بالمعنى المجازي نحو {يا جبال أوبي معه} {فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين} ولا ما هو من تنزيل الحال منزلة المقال نحو: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} لأن جميع هذا مما قامت فيه الدلالة العرفية مقام الوضعية واتحدت في إدراكه أفهام أهل العربية فكان من المدلولات التبعية.

قال في الكشاف: وكم من آية أنزلت في شأن الكافرين وفيها أوفر نصيب للمؤمنين تدبرا لها واعتبارا بموردها. يعني أنها في شأن الكافرين من دلالة العبارة وفي شأن المؤمنين من دلالة الإشارة.

- بيان أهمية خطر أمر التفسير [يجيب أن يقيد العنوان بقول: خطر التفسير بمجرد الرأي]

إن واجب النصح في الدين والتنبيه إلى ما يغفل عنه المسلمون مما يحسبونه هينا وهو عند الله عظيم قضي علي أن أنبه إلى خطر أمر تفسير الكتاب والقول فيه دون مستند من نقل صحيح عن أساطين المفسرين أو إبداء تفسير أو تأويل من قائله إذا كان القائل توفرت فيه شروط الضلاعة في العلوم التي يحتاجها المفسر.

وإن تهافت كثير من الناس على الخوض في تفسير آيات من القرآن فمنهم من يتصدى لبيان معنى الآيات على طريقة كتب التفسير ومنهم من يضع الآية ثم يركض في أساليب المقالات تاركا معنى الآية جانبا، جالبا من معاني الدعوة والموعظة ما كان جالبا، وقد دلت شواهد الحال على ضعف كفاية البعض لهذا العمل العلمي الجليل فيجب على العاقل أن يعرف قدره، وأن لا يتعدى طوره، وأن يرد الأشياء إلى أربابها، كي لا يختلط الخاثر بالزباد، ولا يكون في حالك سواد، وإن سكوت العلماء على ذلك زيادة في الورطة، وإفحاش لأهل هذه الغلطة، فمن يركب متن عمياء، ويخبط خبط عشواء، فحق على أساطين العلم تقويم اعوجاجه، وتمييز حلوه من أجاجه، تحذيرا للمطالع، وتنزيلا في البرج والطالع.

المقدمة الرابعة : فيما يحق أن يكون غرض المفسر


- بيان المقصد الاعلى لنزول للقرآن

إن القرآن أنزله الله تعالى كتابا لصلاح أمر الناس كافة رحمة لهم لتبليغهم مراد الله منهم قال الله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} فكان المقصد الأعلى منه صلاح الأحوال الفردية، والجماعية، والعمرانية. فالصلاح الفردي يعتمد تهذيب النفس وتزكيتها، ورأس الأمر فيه صلاح الاعتقاد لأن الاعتقاد مصدر الآداب والتفكير، ثم صلاح السريرة الخاصة، وهي العبادات الظاهرة كالصلاة، والباطنة كالتخلق بترك الحسد والحقد والكبر. وأما الصلاح الجماعي فيحصل أولا من الصلاح الفردي إذ الأفراد أجزاء المجتمع، ولا يصلح الكل إلا بصلاح أجزائه، ومن شيء زائد على ذلك وهو ضبط تصرف الناس بعضهم مع بعض على وجه يعصمهم من مزاحمة الشهوات ومواثبة القوى النفسانية. وهذا هو علم المعاملات، ويعبر عنه عند الحكماء بالسياسة المدنية. وأما الصلاح العمراني فهو أوسع من ذلك إذ هو حفظ نظام العالم الإسلامي، وضبط تصرف الجماعات والأقاليم بعضهم مع بعض على وجه يحفظ مصالح الجميع، ورعي المصالح الكلية الإسلامية، وحفظ المصلحة الجامعة عند معارضة المصلحة القاصرة لها، ويسمى هذا بعلم العمران وعلم الاجتماع.
إن القرآن أنزله الله تعالى كتابا لصلاح أمر الناس كافة رحمة لهم لتبليغهم مراد الله منهم قال الله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} فكان المقصد الأعلى منه صلاح الأحوال الفردية، والجماعية، والعمرانية. فالصلاح الفردي يعتمد تهذيب النفس وتزكيتها، ورأس الأمر فيه صلاح الاعتقاد لأن الاعتقاد مصدر الآداب والتفكير، ثم صلاح السريرة الخاصة، وهي العبادات الظاهرة كالصلاة، والباطنة كالتخلق بترك الحسد والحقد والكبر. وأما الصلاح الجماعي فيحصل أولا من الصلاح الفردي إذ الأفراد أجزاء المجتمع، ولا يصلح الكل إلا بصلاح أجزائه، ومن شيء زائد على ذلك وهو ضبط تصرف الناس بعضهم مع بعض على وجه يعصمهم من مزاحمة الشهوات ومواثبة القوى النفسانية. وهذا هو علم المعاملات، ويعبر عنه عند الحكماء بالسياسة المدنية. وأما الصلاح العمراني فهو أوسع من ذلك إذ هو حفظ نظام العالم الإسلامي، وضبط تصرف الجماعات والأقاليم بعضهم مع بعض على وجه يحفظ مصالح الجميع، ورعي المصالح الكلية الإسلامية، وحفظ المصلحة الجامعة عند معارضة المصلحة القاصرة لها، ويسمى هذا بعلم العمران وعلم الاجتماع.

فمراد الله من كتابه هو بيان تصاريف ما يرجع إلى حفظ مقاصد الدين وقد أودع ذلك في ألفاظ القرآن التي خاطبنا بها خطابا بينا وتعبدنا بمعرفة مراده والاطلاع عليه فقال: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} سواء قلنا إنه يمكن الاطلاع على تمام مراد الله تعالى وهو قول علمائنا والمشائخي والسكاكي وهما من المعتزلة، أم قال قائل بقول بقية المعتزلة إن الاطلاع على تمام مراد الله تعالى غير ممكن وهو خلاف لا طائل تحته إذ القصد هو الإمكان الوقوعي لا العقلي، فلا مانع من التكليف باستقصاء البحث عنه بحسب الطاقة ومبلغ العلم مع تعذر الاطلاع على تمامه.

- بيان نزول القرآن باللسان العربي

وقد اختار الله تعالى أن يكون اللسان العربي مظهرا لوحيه، ومستودعا لمراده، وأن يكون العرب هم المتلقين أولا لشرعه وإبلاغ مراده لحكمة علمها: منها كون لسانهم أفصح الألسن وأسهلها انتشارا، وأكثرها تحملا للمعاني مع إيجاز لفظه، ولتكون الأمة المتلقية للتشريع والناشرة له أمة قد سلمت من أفن الرأي عند المجادلة، ولم تقعد بها عن النهوض أغلال التكالب على الرفاهية، ولا عن تلقي الكمال الحقيقي إذ يسبب لها خلطه بما يجر إلى اضمحلاله فيجب أن تعلموا قطعا أن ليس المراد من خطاب العرب بالقرآن أن يكون التشريع قاصرا عليهم أو مراعيا لخاصة أحوالهم، بل إن عموم الشريعة ودوامها وكون القرآن معجزة دائمة مستمرة على تعاقب السنين ينافي ذلك، نعم إن مقاصده تصفية نفوس العرب الذين اختارهم كما قلنا لتلقي شريعته وبثها ونشرها، فهم المخاطبون ابتداء قبل بقية أمة الدعوة فكانت أحوالهم مرعية لا محالة، وكان كثير من القرآن مقصودا به خطابهم خاصة، وإصلاح أحوالهم قال تعالى: {ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا} وقال {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم} لكن ليس ذلك بوجه للاقتصار على أحوالهم.

- بيان مقاصد القرآن الاصلية

أليس قد وجب على الآخذ في هذا الفن أن يعلم المقاصد الأصلية التي جاء القرآن لتبيانها فلنلم بها الآن بحسب ما بلغ إليه استقراؤنا وهي ثمانية أمور:

الأول: إصلاح الاعتقاد وتعليم العقد الصحيح. وهذا أعظم سبب لإصلاح الخلق، لأنه يزيل عن النفس عادة الإذعان لغير ما قام عليه الدليل، ويطهر القلب من الأوهام الناشئة عن الإشراك والدهرية وما بينهما، وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى: {فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب} فأسند لآلهتهم زيادة تتبيبهم، وليس هو من فعل الآلهة ولكنه من آثار الاعتقاد بالآلهة.

الثاني: تهذيب الأخلاق قال تعالى {وإنك لعلى خلق عظيم}.
وفسرت عائشة رضي الله تعالى عنها لما سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن. وفي الحديث الذي رواه مالك في الموطأ بلاغا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بعثت لأتمم مكارم حسن الأخلاق)) وهذا المقصد قد فهمه عامة العرب بله خاصة الصحابة.

الثالث: التشريع وهو الأحكام خاصة وعامة. قال تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله} ولقد جمع القرآن جميع الأحكام جمعا كليا في الغالب، وجزئيا في المهم، فقوله: {تبيانا لكل شيء} وقوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} المراد بهما إكمال الكليات التي منها الأمر بالاستنباط والقياس. قال الشاطبي لأنه على اختصاره جامع والشريعة تمت بتمامه ولا يكون جامعا لتمام الدين إلا والمجموع فيه أمور كلية.

الرابع: سياسة الأمة وهو باب عظيم في القرآن القصد منه صلاح الأمة وحفظ نظامها كالإرشاد إلى تكوين الجامعة بقوله: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها} وقوله: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} وقوله: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} وقوله: {وأمرهم شورى بينهم}.

الخامس: القصص وأخبار الأمم السالفة للتأسي بصالح أحوالهم قال: {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين} {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} وللتحذير من مساويهم قال: {وتبين لكم كيف فعلنا بهم} وفي خلالها تعليم، وكنا أشرنا إليها في المقدمة الثانية.

السادس: التعليم بما يناسب حالة عصر المخاطبين، وما يؤهلهم إلى تلقي الشريعة ونشرها وذلك علم الشرائع وعلم الأخبار وكان ذلك مبلغ علم مخالطي العرب من أهل الكتاب. وقد زاد القرآن على ذلك تعليم حكمة ميزان العقول وصحة الاستدلال في أفانين مجادلاته للضالين وفي دعوته إلى النظر، ثم نوه بشأن الحكمة فقال: {يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} وهذا أوسع باب انبجست منه عيون المعارف، وانفتحت به عيون الأميين إلى العلم. وقد لحق به التنبيه المتكرر على فائدة العلم، وذلك شيء لم يطرق أسماع العرب من قبل، إنما قصارى علومهم أمور تجريبية، وكان حكماؤهم أفرادا اختصوا بفرط ذكاء تضم إليه تجربة وهم العرفاء فجاء القرآن بقوله: {وما يعقلها إلا العالمون} {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} وقال {ن * والقلم} فنبه إلى مزية الكتابة.

السابع: المواعظ والإنذار والتحذير والتبشير، وهذا يجمع جميع آيات الوعد والوعيد، وكذلك المحاجة والمجادلة للمعاندين، وهذا باب الترغيب والترهيب.
الثامن: الإعجاز بالقرآن ليكون آية دالة على صدق الرسول؛ إذ التصديق يتوقف على دلالة المعجزة بعد التحدي، والقرآن جمع كونه معجزة بلفظه ومتحدي لأجله بمعناه والتحدي وقع فيه {قل فأتوا بسورة مثله} ولمعرفة أسباب النزول مدخل في ظهور مقتضى الحال ووضوحه. هذا ما بلغ إليه استقرائي. وللغزالي في إحياء علوم الدين بعض من ذلك.

- بيان طرائق المفسرين للقرآن

فغرض المفسر بيان ما يصل إليه أو ما يقصده من مراد الله تعالى في كتابه بأتم بيان يحتمله المعنى ولا يأباه اللفظ من كل ما يوضح المراد من مقاصد القرآن، أو ما يتوقف عليه فهمه أكمل فهم، أو يخدم المقصد تفصيلا وتفريعا كما أشرنا إليه في المقدمة الأولى، مع إقامة الحجة على ذلك إن كان به خفاء، أو لتوقع مكابرة من معاند أو جاهل، فلا جرم كان رائد المفسر في ذلك أن يعرف على الإجمال مقاصد القرآن مما جاء لأجله، ويعرف اصطلاحه في إطلاق الألفاظ، وللتنزيل اصطلاح وعادات، وتعرض صاحب الكشاف إلى شيء من عادات القرآن في متناثر كلامه في تفسيره.

فطرائق المفسرين للقرآن ثلاث، إما الاقتصار على الظاهر من المعنى الأصلي للتركيب مع بيانه وإيضاحه وهذا هو الأصل. وإما استنباط معان من وراء الظاهر تقتضيها دلالة اللفظ أو المقام ولا يجافيها الاستعمال ولا مقصد القرآن، وتلك هي مستتبعات التراكيب وهي من خصائص اللغة العربية المبحوث فيها في علم البلاغة ككون التأكيد يدل على إنكار المخاطب أو تردده، وكفحوى الخطاب ودلالة الإشارة واحتمال المجاز مع الحقيقة، وإما أن يجلب المسائل ويبسطها لمناسبة بينها وبين المعنى، أو لأن زيادة فهم المعنى متوقفة عليها، أو للتوفيق بين المعنى القرآني وبين بعض العلوم مما له تعلق بمقصد من مقاصد التشريع لزيادة تنبيه إليه، أو لرد مطاعن من يزعم أنه ينافيه لا على أنها مما هو مراد الله من تلك الآية بل لقصد التوسع.

ففي الطريقة الثانية قد فرع العلماء وفصلوا في الأحكام، وخصوها بالتآليف الواسعة، وكذلك تفاريع الأخلاق والآداب التي أكثر منها حجة الإسلام الغزالي في كتاب الإحياء فلا يلام المفسر إذا أتى بشيء من تفاريع العلوم مما له خدمة للمقاصد القرآنية، وله مزيد تعلق بالأمور الإسلامية كما نفرض أن يفسر قوله تعالى: {وكلم الله موسى تكليما} بما ذكره المتكلمون في إثبات الكلام النفسي والحجج لذلك، والقول في ألفاظ القرآن وما قاله أهل المذاهب في ذلك. وكذا أن يفسر ما حكاه الله تعالى في قصة موسى مع الخضر بكثير من آداب المعلم والمتعلم كما فعل الغزالي. وقد قال ابن العربي إنه أملى عليها ثمانمائة مسألة. وكذلك تقرير مسائل من علم التشريع لزيادة بيان قوله تعالى في خلق الإنسان: {من نطفة ثم من علقة} الآيات، فإنه راجع إلى المقصد وهو مزيد تقرير عظمة القدرة الإلهية.

وفي الطريقة الثالثة تجلب مسائل علمية من علوم لها مناسبة بمقصد الآية: إما على أن بعضها يومئ إليه معنى الآية ولو بتلويح ما كما يفسر أحد قوله تعالى: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} فيذكر تقسيم علوم الحكمة ومنافعها مدخلا ذلك تحت قوله: {خيرا كثيرا} فالحكمة وإن كانت علما اصطلاحيا وليس هو تمام المعنى للآية إلا أن معنى الآية الأصلي لا يفوت وتفاريع الحكمة تعين عليه. وكذلك أن نأخذ من قوله تعالى: {كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم} تفاصيل من علم الاقتصاد السياسي وتوزيع الثروة العامة ونعلل بذلك مشروعية الزكاة والمواريث والمعاملات المركبة من رأس مال وعمل على أن ذلك تومئ إليه الآية إيماء. وأن بعض مسائل العلوم قد تكون أشد تعلقا بتفسير آي القرآن كما نفرض مسألة كلامية لتقرير دليل قرآني مثل برهان التمانع لتقرير معنى قوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}. وكتقرير مسألة المتشابه لتحقيق معنى نحو قوله تعالى { والسماء بنيناها بأيد} فهذا كونه من غايات التفسير واضح، وكذا قوله تعالى: {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج} فإن القصد منه الاعتبار بالحالة المشاهدة فلو زاد المفسر ففصل تلك الحالة وبين أسرارها وعللها بما هو مبين في علم الهيئة كان قد زاد المقصد خدمة.
وإما على وجه التوفيق بين المعنى القرآني وبين المسائل الصحيحة من العلم حيث يمكن الجمع. وإما على وجه الاسترواح من الآية كما يؤخذ من قوله تعالى: {ويوم نسير الجبال} أن فناء العالم يكون بالزلازل ومن قوله: {إذا الشمس كورت} الآية أن نظام الجاذبية يختل عند فناء العالم. وشرط كون ذلك مقبولا أن يسلك فيه مسلك الإيجاز فلا يجلب إلا الخلاصة من ذلك العلم ولا يصير الاستطراد كالغرض المقصود له لئلا يكون كقولهم: الشيء بالشيء يذكر.

- بيان آراء العلماء في علاقة العلوم بالمعاني القرآنية

وللعلماء في سلوك هذه الطريقة الثالثة على الإجمال آراء: فأما جماعة منهم فيرون من الحسن التوفيق بين العلوم غير الدينية وآلاتها وبين المعاني القرآنية، ويرون القرآن مشيرا إلى كثير منها. قال ابن رشد الحفيد في فصل المقال: أجمع المسلمون على أن ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشرع كلها على ظاهرها، ولا أن تخرج كلها عن ظاهرها بالتأويل، والسبب في ورود الشرع بظاهر وباطن هو اختلاف نظر الناس. وتباين قرائحهم في التصديق وتخلص إلى القول بأن بين العلوم الشرعية والفلسفية اتصالا. وإلى مثل ذلك ذهب قطب الدين الشيرازي في شرح حكمة الإشراق، وهذا الغزالي والإمام الرازي وأبو بكر ابن العربي وأمثالهم صنيعهم يقتضي التبسط وتوفيق المسائل العلمية، فقد ملأوا كتبهم من الاستدلال على المعاني القرآنية بقواعد العلوم الحكمية وغيرها وكذلك الفقهاء في كتب "أحكام القرآن"، وقد علمت ما قاله ابن العربي فيما أملاه على سورة نوح وقصة الخضر وكذلك ابن جني والزجاج وأبو حيان قد أشبعوا "تفاسيرهم" من الاستدلال على القواعد العربية، ولا شك أن الكلام الصادر عن علام الغيوب تعالى وتقدس لا تبنى معانيه على فهم طائفة واحدة ولكن معانيه تطابق الحقائق، وكل ما كان من الحقيقة في علم من العلوم وكانت الآية لها اعتلاق بذلك فالحقيقة العلمية مرادة بمقدار ما بلغت إليه أفهام البشر وبمقدار ما ستبلغ إليه. وذلك يختلف باختلاف المقامات ويبنى على توفر الفهم، وشرطه أن لا يخرج عما يصلح له اللفظ عربية، ولا يبعد عن الظاهر إلا بدليل، ولا يكون تكلفا بينا ولا خروجا عن المعنى الأصلي حتى لا يكون في ذلك كتفاسير الباطنية.
وأما أبو إسحاق الشاطبي فقال في الفصل الثالث من المسألة الرابعة: لا يصح في مسلك الفهم والإفهام إلا ما يكون عاما لجميع العرب. فلا يتكلف فيه فوق ما يقدرون عليه وقال في المسألة الرابعة من النوع الثاني: "ما تقرر من أمية الشريعة وأنها جارية على مذاهب أهلها وهم العرب تنبني عليه قواعد، منها: أن كثيرا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين من علوم الطبيعيات والتعاليم والمنطق وعلم الحروف وأشباهها وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح فإن السلف الصالح كانوا أعلم بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه، ولم يبلغنا أن أحدا منهم تكلم في شيء من هذا سوى ما ثبت فيه من أحكام التكاليف وأحكام الآخرة. نعم تضمن علوما من جنس علوم العرب وما هو على معهودها مما يتعجب منه أولو الألباب ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة" إلخ. وهذا مبني على ما أسسه من كون القرآن لما كان خطابا للأميين وهم العرب فإنما يعتمد في مسلك فهمه وإفهامه على مقدرتهم وطاقتهم، وأن الشريعة أمية. وهو أساس واه لوجوه ستة: الأول أن ما بناه عليه يقتضي أن القرآن لم يقصد منه انتقال العرب من حال إلى حال وهذا باطل لما قدمناه، قال تعالى: {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا}. الثاني أن مقاصد القرآن راجعة إلى عموم الدعوة وهو معجزة باقية فلا بد أن يكون فيه ما يصلح لأن تتناوله أفهام من يأتي من الناس في عصور انتشار العلوم في الأمة. الثالث أن السلف قالوا: إن القرآن لا تنقضي عجائبه يعنون معانيه ولو كان كما قال الشاطبي لانقضت عجائبه بانحصار أنواع معانيه. الرابع أن من تمام إعجازه أن يتضمن من المعاني مع إيجاز لفظه ما لم تف به الأسفار المتكاثرة. الخامس أن مقدار أفهام المخاطبين به ابتداء لا يقضي إلا أن يكون المعنى الأصلي مفهوما لديهم فأما مازاد على المعاني الأساسية فقد يتهيأ لفهمه أقوام، وتحجب عنه أقوام، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. السادس أن عدم تكلم السلف عليها إن كان فيما ليس راجعا إلى مقاصده فنحن نساعد عليه، وإن كان فيما يرجع إليها فلا نسلم وقوفهم فيها عند ظواهر الآيات بل قد بينوا وفصلوا وفرعوا في علوم عنوا بها، ولا يمنعنا ذلك أن نقفي على آثارهم في علوم أخرى راجعة لخدمة المقاصد القرآنية أو لبيان سعة العلوم الإسلامية، أما ما وراء ذلك فإن كان ذكره لإيضاح المعنى فذلك تابع للتفسير أيضا. لأن العلوم العقلية إنما تبحث عن أحوال الأشياء على ما هي عليه، وإن كان فيما زاد على ذلك فذلك ليس من التفسير لكنه تكملة للمباحث العلمية واستطراد في العلم لمناسبة التفسير ليكون متعاطي التفسير أوسع قريحة في العلوم.
وذهب ابن العربي في "العواصم" إلى إنكار التوفيق بين العلوم الفلسفية والمعاني القرآنية ولم يتكلم على غير هاته العلوم وذلك على عادته في تحقير الفلسفة لأجل ما خولطت به من الضلالات الاعتقادية وهو مفرط في ذلك مستخف بالحكماء.

- رآي ابن عاشور في علاقة العلوم بالقرآن

وأنا أقول: إن علاقة العلوم بالقرآن على أربع مراتب:
الأولى: علوم تضمنها القرآن كأخبار الأنبياء والأمم، وتهذيب الأخلاق والفقه والتشريع والاعتقاد والأصول والعربية والبلاغة.
الثانية: علوم تزيد المفسر علما كالحكمة والهيئة وخواص المخلوقات.
الثالثة: علوم أشار إليها أو جاءت مؤيدة له كعلم طبقات الأرض والطب والمنطق.
الرابعة: علوم لا علاقة لها به إما لبطلانها كالزجر والعيافة والميثولوجيا، وإما لأنها لا تعين على خدمته كعلم العروض والقوافي.

المقدمة الخامسة في أسباب النزول


- بيان معنى أسباب النزول

أسباب نزول آي القرآن، وهي حوادث يروى أن آيات من القرآن نزلت لأجلها لبيان حكمها أو لحكايتها أو إنكارها أو نحو ذلك، وزاد بعض من كتب في هذا الباب وأكثروا حتى كاد بعضهم أن يوهم الناس أن كل آية من القرآن نزلت على سبب، وحتى رفعوا الثقة بما ذكروا. بيد أنا نجد في بعض آي القرآن إشارة إلى الأسباب التي دعت إلى نزولها ونجد لبعض الآي أسبابا ثبتت بالنقل دون احتمال أن يكون ذلك رأي الناقل، فكان أمر أسباب نزول القرآن دائرا بين القصد والإسراف، وكان في غض النظر عنه وإرسال حبله على غاربه خطر عظيم في فهم القرآن. فذلك الذي دعاني إلى خوض هذا الغرض في مقدمات التفسير لظهور شدة الحاجة إلى تمحيصه في أثناء التفسير، وللاستغناء عن إعادة الكلام عليه عند عروض تلك المسائل، غير مدخر ما أراه في ذلك رأيا يجمع شتاتها.

- بيان ما يقبل في تأليف المتقدمين في أسباب النزول وما لا يقبل

هناك عذر للمتقدمين الذين ألفوا في أسباب النزول فاستكثروا منها، بأن كل من يتصدى لتأليف كتاب في موضوع غير مشبع تمتلكه محبة التوسع فيه فلا ينفك يستزيد من ملتقطاته ليذكي قبسه، ويمد نفسه، فيرضى بما يجد رضى الصب بالوعد، ويقول زدني من حديثك يا سعد. غير هياب لعاذل، ولا متطلب معذرة عاذر، وكذلك شأن الولع إذا امتلك القلب ولكني لا لعذر لاساطين المفسرين الذين تلقفوا الروايات الضعيفة فأثبتوها في كتبهم ولم ينبهوا على مراتبها قوة وضعفا، حتى أوهموا كثيرا من الناس أن القرآن لا تنزل آياته إلا لأجل حوادث تدعو إليها، وبئس هذا الوهم فإن القرآن جاء هاديا إلى ما به صلاح الأمة في أصناف الصلاح فلا يتوقف نزوله على حدوث الحوادث الداعية إلى تشريع الأحكام. نعم إن العلماء توجسوا منها فقالوا: إن سبب النزول لا يخصص، إلا طائفة شاذة ادعت التخصيص بها، ولو أن أسباب النزول كانت كلها متعلقة بآيات عامة لما دخل من ذلك ضر على عمومها إذ قد أراحنا أئمة الأصول حين قالوا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ولكن أسبابا كثيرة رام رواتها تعيين مراد من تخصيص عام أو تقييد مطلق أو إلجاء إلى محمل، فتلك هي التي قد تقف عرضة أمام معاني التفسير قبل التنبيه على ضعفها أو تأويلها. وقد قال الواحدي في أول كتابه في أسباب النزول: "أما اليوم فكل أحد يخترع للآية سببا، ويختلق إفكا وكذبا، ملقيا زمامه إلى الجهالة، غير مفكر في الوعيد" وقال: "لا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل".

- أسباب النزول التي لا غنى للمفسر عن علمها

إن من أسباب النزول ما ليس المفسر بغنى عن علمه لأن فيها بيان مجمل أو إيضاح خفي وموجز، ومنها ما يكون وحده تفسيرا. ومنها ما يدل المفسر على طلب الأدلة التي بها تأويل الآية أو نحو ذلك. ففي صحيح البخاري أن مروان بن الحكم أرسل إلى ابن عباس يقول لئن كان كل امرئ فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون يشير إلى قوله تعالى: (لا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم) فأجاب ابن عباس قائلا: "إنما دعا النبي اليهود فسألهم على شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فأروه أنهم قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما أتوا من كتمانهم"، ثم قرأ ابن عباس: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون لا يحسبن الذين يفرحون) الآيات. وفي الموطأ عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه أنه قال: قلت لعائشة أم المؤمنين وأنا يومئذ حديث السن: أرأيت قول الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} فما على الرجل شيء ألا يطوف بهما، قالت عائشة: كلا، لو كان كما تقول لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله عن ذلك فأنزل الله تعالى {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} اهـ.
ومنها ما ينبه المفسر إلى إدراك خصوصيات بلاغية تتبع مقتضى المقامات فإن من أسباب النزول ما يعين على تصوير مقام الكلام.

- بيان أقسام أسباب النزول

قسّم المصنف اسباب النزول الى خمسة أقسام:

الأول: هو المقصود من الآية يتوقف فهم المراد منها على علمه فلابد من البحث عنه للمفسر، وهذا منه تفسير مبهمات القرآن مثل قوله تعالى {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} ونحو {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا} ومثل بعض الآيات التي فيها {ومن الناس}.

والثاني: هو حوادث تسببت عليها تشريعات أحكام وصور تلك الحوادث لا تبين مجملا ولا تخالف مدلول الآية بوجه تخصيص أو تعميم أو تقييد، ولكنها إذا ذكرت أمثالها وجدت مساوية لمدلولات الآيات النازلة عند حدوثها، مثل حديث عويمر العجلاني الذي نزلت عنه آية اللعان، ومثل حديث كعب بن عجرة الذي نزلت عنه آية {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام} الآية فقد قال كعب بن عجرة: هي لي خاصة ولكم عامة، ومثل قول أم سلمة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: يغزو الرجال ولا نغزو، فنزل قوله تعالى {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} الآية. وهذا القسم لا يفيد البحث فيه إلا زيادة تفهم في معنى الآية وتمثيلا لحكمها، ولا يخشى توهم تخصيص الحكم بتلك الحادثة، إذ قد اتفق العلماء أو كادوا على أن سبب النزول في مثل هذا لا يخصص، واتفقوا على أن أصل التشريع أن لا يكون خاصا.

والثالث: هو حوادث تكثر أمثالها تختص بشخص واحد فنزلت الآية لإعلانها وبيان أحكامها وزجر من يرتكبها، فكثيرا ما تجد المفسرين وغيرهم يقولون نزلت في كذا وكذا، وهم يريدون أن من الأحوال التي تشير إليها تلك الآية تلك الحالة الخاصة فكأنهم يريدون التمثيل. ففي كتاب الأيمان من صحيح البخاري في باب قول الله تعالى {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا} أن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله: ((من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان)) فأنزل الله تصديق ذلك {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا} الآية فدخل الأشعث بن قيس فقال: ما حدثكم أبو عبد الرحمن? فقالوا كذا وكذا، قال في أنزلت، لي بئر في أرض ابن عم لي الخ، فابن مسعود جعل الآية عامة لأنه جعلها تصديقا لحديث عام? والأشعث بن قيس ظنها خاصة به إذ قال: في أنزلت بصيغة الحصر.
ومثل الآيات النازلة في المنافقين في سورة براءة المفتتحة بقوله تعالى: {ومنهم- ومنهم} ولذلك قال ابن عباس: كنا نسمي سورة التوبة سورة الفاضحة. ومثل قوله تعالى: {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم} فلا حاجة لبيان أنها نزلت لما أظهر بعض اليهود مودة المؤمنين. وهذا القسم قد أكثر من ذكره أهل القصص وبعض المفسرين ولا فائدة في ذكره، على أن ذكره قد يوهم القاصرين قصر الآية على تلك الحادثة لعدم ظهور العموم من ألفاظ تلك الآيات.

والرابع: هو حوادث حدثت وفي القرآن آيات تناسب معانيها سابقة أو لاحقة فيقع في عبارات بعض السلف ما يوهم أن تلك الحوادث هي المقصود من تلك الآيات، مع أن المراد أنها مما يدخل في معنى الآية ويدل لهذا النوع وجود اختلاف كثير بين الصحابة في كثير من أسباب النزول كما هو مبسوط في المسألة الخامسة من بحث أسباب النزول من الإتقان فارجعوا إليه ففيه أمثلة كثيرة.
وفي "صحيح البخاري" في سورة النساء أن ابن عباس قرأ قوله تعالى: {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا} بألف بعد لام السلام وقال: كان رجل في غنيمة له تصغير غنم فلحقه المسلمون فقال: السلام عليكم فقتلوه أي ظنوه مشركا يريد أن يتقي منهم بالسلام وأخذوا غنيمته فأنزل الله في ذلك {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام} الآية. فالقصة لا بد أن تكون قد وقعت لأن ابن عباس رواها لكن الآية ليست نازلة فيها بخصوصها ولكن نزلت في أحكام الجهاد بدليل ما قبلها وما بعدها فإن قبلها: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا} وبعدها {فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل}.
وفي تفسير تلك السورة من صحيح البخاري بعد أن ذكر نزاع الزبير والأنصاري في ماء شراج الحرة قال الزبير: فما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} الآية قال السيوطي في "الإتقان" عن الزركشي قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال نزلت هذه الآية في كذا، فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم لا أن هذا كان السبب في نزولها. وفيه عن ابن تيمية قد تنازع العلماء في قول الصحابي: نزلت هذه الآية في كذا، هل يجري مجرى المسند أو يجري مجرى التفسير? فالبخاري يدخله في المسند، وأكثر أهل المسانيد لا يدخلونه فيه، بخلاف ما إذا ذكر سببا نزلت عقبه فإنهم كلهم يدخلونه في المسند.

والخامس: قسم يبين مجملات، ويدفع متشابهات مثل قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} فإذا ظن أحد أن من للشرط أشكل عليه كيف يكون الجور في الحكم كفرا، ثم إذا علم أن سبب النزول هم النصارى علم أن من موصولة وعلم أن الذين تركوا الحكم بالإنجيل لا يتعجب منهم أن يكفروا بمحمد. وكذلك حديث عبد الله بن مسعود قال لما نزل قوله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا أينا لم يلبس إيمانه بظلم ظنوا أن الظلم هو المعصية. فقال رسول الله: ((إنه ليس بذلك? ألا تسمع لقول لقمان لابنه {إن الشرك لظلم عظيم})). ومن هذا القسم ما لا يبين مجملا ولا يؤول متشابها ولكنه يبين وجه تناسب الآي بعضها مع بعض كما في قوله تعالى، في سورة النساء: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء} الآية، فقد تخفى الملازمة بين الشرط وجزائه فيبينها ما في الصحيح، عن عائشة أن عروة بن الزبير سألها عنها فقالت: هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله فيريد أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن في الصداق، فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن.

- بيان علاقة القرآن بأسباب النزول

إن القرآن كتاب جاء لهدي أمة والتشريع لها، وهذا الهدي قد يكون واردا قبل الحاجة، وقد يكون مخاطبا به قوم على وجه الزجر أو الثناء أو غيرهما، وقد يكون مخاطبا به جميع من يصلح لخطابه، وهو في جميع ذلك قد جاء بكليات تشريعية وتهذيبية، والحكمة في ذلك أن يكون وعي الأمة لدينها سهلا عليها، وليمكن تواتر الدين، وليكون لعلماء الأمة مزية الاستنباط، وإلا فإن الله قادر أن يجعل القرآن أضعاف هذا المنزل وأن يطيل عمر النبي صلى الله عليه وسلم للتشريع أكثر مما أطال عمر إبراهيم وموسى، ولذلك قال تعالى: {وأتممت عليكم نعمتي}، فكما لا يجوز حمل كلماته على خصوصيات جزئية لأن ذلك يبطل مراد الله، كذلك لا يجوز تعميم ما قصد منه الخصوص ولا إطلاق ما قصد منه التقييد؛ لأن ذلك قد يفضي إلى التخليط في المراد أو إلى إبطاله من أصله، وقد اغتر بعض الفرق بذلك. قال ابن سيرين في الخوارج: إنهم عمدوا إلى آيات الوعيد النازلة في المشركين فوضعوها على المسلمين فجاءوا ببدعة القول بالتكفير بالذنب، وقد قال الحرورية لعلي رضي الله عنه يوم التحكيم: {إن الحكم إلا لله} فقال علي كلمة حق أريد بها باطل وفسرها في خطبة له في "نهج البلاغة".
وثمة فائدة أخرى عظيمة لأسباب النزول وهي أن في نزول القرآن عند حدوث حوادث دلالة على إعجازه من ناحية الارتجال، وهي إحدى طريقتين لبلغاء العرب في أقوالهم، فنزوله على حوادث يقطع دعوى من ادعوا أنه أساطير الأولين.

المقدمة السادسة في القراءات


- سبب عناية المصنف بعلم القراءات

لولا عناية كثير من المفسرين بذكر اختلاف القراءات في ألفاظ القرآن حتى في كيفيات الأداء، لكان المصنف بمعزل عن التكلم في ذلك لأن علم القراءات علم جليل مستقل قد خص بالتدوين والتأليف وقد أشبع فيه أصحابه وأسهبوا بما ليس عليه مزيد.

- حالات تعلق علم القراءات وعلم التفسير

يرى ابن عاشور أن للقراءات حالتين: إحداهما لا تعلق لها بالتفسير بحال، والثانية لها تعلق به من جهات متفاوتة.

- بيان حالة علم القراءات التي ليس لها تعلق بعلم التفسير

الحالة الأولى هي اختلاف القراء في وجوه النطق بالحروف والحركات كمقادير المد والإمالات والتخفيف والتسهيل والتحقيق والجهر والهمس والغنة، مثل {عذابيْ} بسكون الياء و(عذابيَ) بفتحها، وفي تعدد وجوه الإعراب مثل {حتى يقول الرسول} بفتح لام يقول وضمها. ونحو: {لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة} برفع الأسماء الثلاثة أو فتحها أو رفع بعض وفتح بعض، ومزية القراءات من هذه الجهة عائدة إلى أنها حفظت على أبناء العربية ما لم يحفظه غيرها وهو تحديد كيفيات نطق العرب بالحروف في مخارجها وصفاتها وبيان اختلاف العرب في لهجات النطق بتلقي ذلك عن قراء القرآن من الصحابة بالأسانيد الصحيحة،

- بيان علاقة علم القراءات بعلم لغة العرب

لم يعرف لفن القراءات حقه من جهة علاقته بالعربية، وفيها أيضا سعة من بيان وجوه الإعراب في العربية، فهي لذلك مادة كبرى لعلوم اللغة العربية. فأئمة العربية لما قرأوا القرآن قرأوه بلهجات العرب الذين كانوا بين ظهرانيهم في الأمصار التي وزعت عليها المصاحف: المدينة، ومكة، والكوفة، والبصرة، والشام، قيل واليمن والبحرين، وكان في هذه الأمصار قراؤها من الصحابة قبل ورود مصحف عثمان إليهم فقرأ كل فريق بعربية قومه في وجوه الأداء، لا في زيادة الحروف ونقصها، ولا في اختلاف الإعراب دون مخالفته مصحف عثمان، ويحتمل أن يكون القارئ الواحد قد قرأ بوجهين ليري صحتهما في العربية قصدا لحفظ اللغة مع حفظ القرآن الذي أنزل بها، ولذلك يجوز أن يكون كثير من اختلاف القراء في هذه الناحية اختيارا، وعليه يحمل ما يقع في كتابي الزمخشري وابن العربي من نقد بعض طرق القراء، على أن في بعض نقدهم نظرا، وقد كره مالك رحمه الله القراءة بالإمالة مع ثبوتها عن القراء، وهي مروية عن مقرئ المدينة نافع من رواية ورش عنه وانفرد بروايته أهل مصر، فدلت كراهته على أنه يرى أن القارئ بها ما قرأ إلا بمجرد الاختيار، وفي تفسير القرطبي في سورة الشعراء عن أبي إسحاق الزجاج، يجوز أن يقرأ "طسين ميم" بفتح النون من "طسين" وضم الميم الأخيرة كما يقال هذا معد يكرب اهـ مع أنه لم يقرأ به أحد. قلت: ولا ضير في ذلك ما دامت كلمات القرآن وجمله محفوظة على نحو ما كتب في المصحف الذي أجمع عليه أصحاب رسوا الله إلا نفرا قليلا شذوا منهم، كان عبد الله بن مسعود منهم، فإن عثمان لما أمر بكتب المصحف على نحو ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأثبته كتاب المصحف، رأى أن يحمل الناس على اتباعه وترك قراءة ما خالفه، وجمع جميع المصاحف المخالفة له وأحرقها ووافقه جمهور الصحابة على ما فعله. قال شمس الدين الأصفهاني في المقدمة الخامسة من تفسيره. كان على طول أيامه يقرأ مصحف عثمان ويتخذه إماما. وقلت: إنما كان فعل عثمان إتماما لما فعله أبو بكر من جمعه القرآن الذي كان يقرأ في حياة الرسول، وأن عثمان نسخه في مصاحف لتوزع على الأمصار، فصار المصحف الذي كتب لعثمان قريبا من المجمع عليه وعلى كل قراءة توافقه وصار ما خالفه متروكا بما يقارب الإجماع.

- بيان ان قراءة الصحابة هي قراءة العامة

قال الأصفهاني في تفسيره كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة، وهي قراءة العامة التي قرأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل في العام الذي قبض فيه، ويقال إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي عرضها رسول الله على جبريل اهـ وبقي الذين قرأوا قراءات مخالفة لمصحف عثمان يقرأون بما رووه لا ينهاهم أحد عن قراءتهم ولكن يعدوهم شذاذا ولكنهم لم يكتبوا قراءتهم في مصاحف بعد أن أجمع الناس على مصحف عثمان، قال البغوي في تفسير قوله تعالى {وطلح منضود}.
عن مجاهد وفي الكشاف والقرطبي- قرأ علي بن أبي طالب (وطلع منضود) بعين في موضع الحاء، وقرأ قارئ بين يديه {وطلح منضود} فقال: وما شأن الطلح? إنما هو (وطلع) وقرأ: {لها طلع نضيد} فقالوا أفلا نحولها? فقال إن آي القرآن لا تهاج اليوم ولا تحول، أي لا تغير حروفها ولا تحول عن مكانها فهو قد منع من تغيير المصحف، ومع ذلك لم يترك القراءة التي رواها، وممن نسبت إليهم قراءات مخالفة لمصحف عثمان، عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وسالم مولى أبي حذيفة، إلى أن ترك الناس ذلك تدريجا.
ذكر الفخر في تفسير قوله تعالى: {إذ تلقونه بألسنتكم} من سورة النور أن سفيان قال: سمعت أمي تقرأ: (إذ تثقفونه بألسنتكم) وكان أبوها يقرأ بقراءة ابن مسعود، ومع ذلك فقد شذت مصاحف بقيت مغفولا عنها بأيدي أصحابها، منها ما ذكره الزمخشري في الكشاف في سورة الفتح أن الحارث بن سويد صاحب عبد الله بن مسعود كان له مصحف دفنه في مدة الحجاج، قال في الكشاف لأنه كان مخالفا للمصحف الإمام، وقد أفرط الزمخشري في توهين بعض القراءات لمخالفتها لما اصطلح عليه النجاة وذلك من إعراضه عن معرفة الأسانيد.

- بيان شروط قبول القراءات عند علماء القراءات ،الفقهاء

من أجل ذلك اتفق علماء القراءات والفقهاء على أن كل قراءة وافقت وجها في العربية ووافقت خط المصحف أي مصحف عثمان وصح سند راويها؛ فهي قراءة صحيحة لا يجوز ردها، قال أبو بكر ابن العربي: ومعنى ذلك عندي أن تواترها تبع لتواتر المصحف الذي وافقته وما دون ذلك فهو شاذ، يعني وأن تواتر المصحف ناشئ عن تواتر الألفاظ التي كتبت فيه.
وهذه الشروط الثلاثة، هي شروط في قبول القراءة إذا كانت غير متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، بأن كانت صحيحة السند إلى النبي ولكنها لم تبلغ حد التواتر فهي بمنزلة الحديث الصحيح، وأما القراءة المتواترة فهي غنية عن هذه الشروط لأن تواترها يجعلها حجة في العربية، ويغنيها عن الاعتضاد بموافقة المصحف المجمع عليه، ألا ترى أن جمعا من أهل القراءات المتواترة قرأوا قوله تعالى: (وما هو على الغيب بظنين) بظاء مشالة أي: بمتهم، وقد كتبت في المصاحف كلها بالضاد الساقطة.

- بيان المراد بموافقة خط المصحف في القراءات

المراد بموافقة خط المصحف موافقة أحد المصاحف الأئمة التي وجه بها عثمان بن عفان إلى أمصار الإسلام إذ قد يكون اختلاف يسير نادر بين بعضها، مثل زيادة الواو في {وسارعوا إلى مغفرة} في مصحف الكوفة ومثل زيادة الفاء في قوله: { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} في سورة الشورى {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا} - أو (إحسانا) فذلك اختلاف ناشئ عن القراءة بالوجهين بين الحفاظ من زمن الصحابة الذين تلقوا القرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه قد أثبته ناسخو المصحف في زمن عثمان فلا ينافي التواتر إذ لا تعارض، إذا كان المنقول عنه قد نطق بما نقله عنه الناقلون في زمانين أو أزمنة، أو كان قد أذن للناقلين أن يقرأوا بأحد اللفظين أو الألفاظ، وقد انحصر توفر الشروط في الروايات العشر للقراء وهم، نافع بن أبي نعيم المدني، وعبد الله بن كثير المكي، وأبو عمرو المازني البصري وعبد الله بن عامر الدمشقي، وعاصم بن أبي النجود الكوفي، وحمزة بن حبيب الكوفي، والكسائي علي بن حمزة الكوفي، ويعقوب بن إسحاق الحضرمي البصري، وأبو جعفر يزيد بن القعقاع المدني، وخلف البزار بزاي فألف فراء مهملة الكوفي، وهذا العاشر ليست له رواية خاصة، وإنما اختار لنفسه قراءة تناسب قراءات أئمة الكوفة، فلم يخرج عن قراءات قراء الكوفة إلا قليلا، وبعض العلماء يجعل قراءة ابن محيصن واليزيدي والحسن، والأعمش، مرتبة دون العشر، وقد عد الجمهور ما سوى ذلك شاذا لأنه لم ينقل بتواتر حفاظ القرآن.
والذي قاله مالك والشافعي، أن ما دون العشر لا تجوز القراءة به ولا أخذ حكم منه لمخالفته المصحف الذي كتب فيه ما تواتر، فكان ما خالفه غير متواتر فلا يكون قرآنا، وقد تروى قراءات عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد صحيحة في كتب الصحيح مثل صحيح البخاري ومسلم وأضرابهما إلا أنها لا يجوز لغير من سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم القراءة بها لأنها غير متواترة النقل فلا يترك المتواتر للآحاد وإذا كان راويها قد بلغته قراءة أخرى متواترة تخالف ما رواه وتحقق لديه التواتر وجب عليه أن يقرأ بالمروية تواترا، وقد اصطلح المفسرون على أن يطلقوا عليها قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، لأنها غير منتسبة إلى أحد من أئمة الرواية في القراءات، ويكثر ذكر هذا العنوان في تفسير محمد بن جرير الطبري وفي الكشاف وفي المحرر الوجيز لعبد الحق ابن عطية، وسبقهم إليه أبو الفتح ابن جني، فلا تحسبوا أنهم أرادوا بنسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أنها وحدها المأثورة عنه ولا ترجيحها على القراءات المشهورة لأن القراءات المشهورة قد رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد أقوى وهي متواترة على الجملة كما سنذكره، وما كان ينبغي إطلاق وصف قراءة النبي عليها لأنه يوهم من ليسوا من أهل الفهم الصحيح أن غيرها لم يقرأ به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يرجع إلى تبجح أصحاب الرواية بمروياتهم.

- بيان الحالة الثانية : ما يتعلق من علم القراءات بعلم التفسير

الحالة الثانية: فهي اختلاف القراء في حروف الكلمات مثل {مالك يوم الدين} (ملك يوم الدين) و(ننشرها) و{ننشزها} و{وظنوا أنهم قد كذبوا} بتشديد الذال أو (قد كذبوا) بتخفيفه، وكذلك اختلاف الحركات الذي يختلف معه معنى الفعل كقوله {ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون} قرأ نافع بضم الصاد وقرأ حمزة بكسر الصاد، فالأولى بمعنى يصدون غيرهم عن الإيمان، والثانية بمعنى صدودهم في أنفسهم وكلا المعنيين حاصل منهم، وهي من هذه الجهة لها مزيد تعلق بالتفسير لأن ثبوت أحد اللفظين في قراءة قد يبين المراد من نظيره في القراءة الأخرى، أو يثير معنى غيره، ولأن اختلاف القراءات في ألفاظ القرآن يكثر المعاني في الآية الواحدة نحو {حتى يطهرن} بفتح الطاء المشددة والهاء المشددة، وبسكون الطاء وضم الهاء مخففة، ونحو {لامستم النساء} و(لمستم النساء)، وقراءة (وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن إناثا) مع قراءة {الذين هم عباد الرحمن} والظن أن الوحي نزل بالوجهين وأكثر، تكثيرا للمعاني إذا جزمنا بأن جميع الوجوه في القراءات المشهورة هي مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، على أنه لا مانع من أن يكون مجيء ألفاظ القرآن على ما يحتمل تلك الوجوه مرادا لله تعالى ليقرأ القراء بوجوه فتكثر من جراء ذلك المعاني، فيكون وجود الوجهين فأكثر في مختلف القراءات مجزئا عن آيتين فأكثر، وهذا نظير التضمين في استعمال العرب، ونظير التورية والتوجيه في البديع، ونظير مستتبعات التراكيب في علم المعاني، وهو من زيادة ملاءمة بلاغة القرآن، ولذلك كان اختلاف القراء في اللفظ الواحد من القرآن قد يكون معه اختلاف المعنى؛ ولم يكن حمل أحد القراءتين على الأخرى متعينا ولا مرجحا، وإن كان قد يؤخذ من كلام أبي علي الفارسي في كتاب الحجة أنه يختار حمل معنى إحدى القراءتين على معنى الأخرى، ومثال هذا قوله في قراءة الجمهور قوله تعالى {فإن الله هو الغني الحميد} في سورة الحديد، وقراءة نافع وابن عامر (فإن الله الغني الحميد) بإسقاط هو أن من أثبت هو يحسن أن يعتبره ضمير فصل لا مبتدأ، لأنه لو كان مبتدأ لم يجز حذفه في قراءة نافع وابن عامر، قال أبو حيان: وما ذهب إليه ليس بشيء لأنه بنى ذلك على توافق القراءتين وليس كذلك، ألا ترى أنه قد يكون قراءتان في لفظ واحد لكل منهما توجيه يخالف الآخر، كقراءة {والله أعلم بما وضعت} بضم التاء أو سكونها.

ويرى ابن عاشور أن على المفسر أن يبين اختلاف القراءات المتواترة لأن في اختلافها توفيرا لمعاني الآية غالبا فيقوم تعدد القراءات مقام تعدد كلمات القرآن. وهذا يبين لنا أن اختلاف القراءات قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في حديث عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم بن حزام ففي صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ في الصلاة سورة الفرقان في حياة رسول الله فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله، فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلببته بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ? قال: أقرأنيها رسول الله، فقلت: كذبت فإن رسول الله أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله فقلت إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله: ((اقرأ يا هشام)) فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله: ((كذلك أنزلت))، ثم قال: ((اقرأ يا عمر)) فقرأت القراءة التي أقرأني فقال رسول الله: ((كذلك أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه))

- بيان ما جاء في نزول القرأن على سبعة إحرف

في الحديث إشكال، وللعلماء في معناه أقوال يرجع إلى اعتبارين: أحدهما اعتبار الحديث منسوخا والآخر اعتباره محكما.
فأما الذين اعتبروا الحديث منسوخا وهو رأي جماعة منهم أبو بكر الباقلاني وابن عبد البر وأبو بكر بن العربي والطبري والطحاوي، وينسب إلى ابن عيينة وابن وهب قالوا كان ذلك رخصة في صدر الإسلام أباح الله للعرب أن يقرأوا القرآن بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها، ثم نسخ ذلك بحمل الناس على لغة قريش لأنها التي بها نزل القرآن وزال العذر لكثرة الحفظ وتيسير الكتابة، وقال ابن العربي: دامت الرخصة مدة حياة النبي عليه السلام، وظاهر كلامه أن ذلك نسخ بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإما نسخ بإجماع الصحابة أو بوصاية من النبي صلى الله عليه وسلم، واستدلوا على ذلك بقول عمر: إن القرآن نزل بلسان قريش، وبنهيه عبد الله بن مسعود أن يقرأ (فتول عنهم عتى حين) وهي لغة هذيل في حتى، وبقول عثمان لكتاب المصاحف فإذا اختلفتم في حرف فاكتبوه بلغة قريش فإنما نزل بلسانهم، يريد أن لسان قريش هو الغالب على القرآن، أو أراد أنه نزل بما نطقوا به من لغتهم وما غلب على لغتهم من لغات القبائل إذ كان عكاظ بأرض قريش وكانت مكة مهبط القبائل كلها.
ولهم في تحديد معنى الرخصة بسبعة أحرف ثلاثة أقوال: الأول أن المراد بالأحرف الكلمات المترادفة للمعنى الواحد، أي أنزل بتخيير قارئه أن يقرأه باللفظ الذي يحضره من المرادفات تسهيلا عليهم حتى يحيطوا بالمعنى. وعلى هذا الجواب فقيل المراد بالسبعة حقيقة العدد وهو قول الجمهور فيكون تحديدا للرخصة بأن لا يتجاوز سبعة مرادفات أو سبع لهجات أي من سبع لغات؛ إذ لا يستقيم غير ذلك لأنه لا يتأتى في كلمة من القرآن أن يكون لها ستة مرادفات أصلا، ولا في كلمة أن يكون فيها سبع لهجات إلا كلمات قليلة مثل {أف}– {وجبريل}– و{أرجه}.
وقد اختلفوا في تعيين اللغات السبع، فقال أبو عبيدة وابن عطية وأبو حاتم والباقلاني: هي من عموم لغات العرب وهم: قريش، وهذيل، وتيم الرباب، والأزد، وربيعة، وهوازن، وسعد بن بكر من هوازن، وبعضهم يعد قريشا، وبني دارم، والعليا من هوازن وهم سعد بن بكر، وجشم بن بكر، ونصر بن معاوية، وثقيف، قال أبو عمرو بن العلاء أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم وهم بنو دارم. وبعضهم يعد خزاعة ويطرح تميما، وقال أبو علي الأهوازي، وابن عبد البر، وابن قتيبة هي لغات قبائل من مضر وهم قريش، وهذيل، وكنانة، وقيس، وضبة، وتيم الرباب، وأسد بن خزيمة، وكلها من مضر.
القول الثاني: لجماعة منهم عياض: أن العدد غير مراد به حقيقته، بل هو كناية عن التعدد والتوسع، وكذلك المرادفات ولو من لغة واحدة كقوله: {كالعهن المنفوش} وقرأ ابن مسعود (كالصوف المنفوش)، وقرأ أبي {كلما أضاء لهم مشوا فيه} "مروا فيه" "سعوا فيه"، وقرأ ابن مسعود {انظرونا نقتبس من نوركم} "أخرونا"، "أمهلونا"، وأقرأ ابن مسعود رجلا {إن شجرت الزقوم طعام الأثيم} فقال الرجل: (طعام اليتيم)، فأعاد له فلم يستطع أن يقول: {الأثيم} فقال له ابن مسعود: أتستطيع أن تقول طعام الفاجر? قال: نعم، قال: فاقرأ كذلك، وقد اختلف عمر وهشام بن حكيم ولغتهما واحدة.
القول الثالث: أن المراد التوسعة في نحو {كان الله سميعا عليما} أن يقرأ عليما حكيما ما لم يخرج عن المناسبة كذكره عقب آية عذاب أن يقول "وكان الله غفورا رحيما" أو عكسه وإلى هذا ذهب ابن عبد البر.

وأما الذين اعتبروا الحديث محكما غير منسوخ فقد ذهبوا في تأويله مذاهب: فقال جماعة منهم البيهقي وأبو الفضل الرازي أن المراد من الأحرف أنواع أغراض القرآن كالأمر والنهي، والحلال والحرام، أو أنواع كلامه كالخبر والإنشاء، والحقيقة والمجاز: أو أنواع دلالته كالعموم والخصوص، والظاهر والمؤول. ولا يخفى أن كل ذلك لا يناسب سياق الحديث على اختلاف رواياته من قصد التوسعة والرخصة. وقد تكلف هؤلاء حصر ما زعموه من الأغراض ونحوها في سبعة فذكروا كلاما لا يسلم من النقض.

وذهب جماعة منهم أبو عبيد وثعلب والأزهري وعزي لابن عباس أن المراد أنه أنزل مشتملا على سبع لغات من لغات العرب مبثوثة في آيات القرآن لكن لا على تخيير القارئ، وذهبوا في تعيينها إلى نحو ما ذهب إليه القائلون بالنسخ إلا أن الخلاف بين الفريقين في أن الأولين ذهبوا إلى تخيير القارئ في الكلمة الواحدة، وهؤلاء أرادوا أن القرآن مبثوثة فيه كلمات من تلك اللغات، لكن على وجه التعيين لا على وجه التخيير، وهذا كما قال أبو هريرة: ما سمعت السكين إلا في قوله تعالى: {وآتت كل واحدة منهن سكينا} ما كنا نقول إلا المدية، وفي البخاري: إلا من النبيء في قصة حكم سليمان بين المرأتين من قول سليمان: (ايتوني بالسكين أقطعه بينكما)، وهذا الجواب لا يلاقي مساق الحديث من التوسعة، ولا يستقيم من جهة العدد لأن المحققين ذكروا أن في القرآن كلمات كثيرة من لغات قبائل العرب، وأنهاها السيوطي نقلا عن أبي بكر الواسطي إلى خمسين لغة.

وذهب جماعة أن المراد من الأحرف لهجات العرب في كيفيات النطق كالفتح والإمالة، والمد والقصر، والهمز والتخفيف، على معنى أن ذلك رخصة للعرب مع المحافظة على كلمات القرآن، وهذا أحسن الأجوبة لمن تقدمنا، وهنالك أجوبة أخرى ضعيفة لا ينبغي للعالم التعريج عليها وقد أنهى بعضهم جملة الأجوبة إلى خمسة وثلاثين جوابا.

وقال ابن عاشور " أنه إن كان حديث عمر وهشام بن حكيم قد حسن إفصاح راويه عن مقصد عمر فيما حدث به بأن لا يكون مرويا بالمعنى مع إخلال بالمقصود أنه يحتمل أن يرجع إلى ترتيب آي السور بأن يكون هشام قرأ سورة الفرقان على غير الترتيب الذي قرأ به عمر فتكون تلك رخصة لهم في أن يحفظوا سور القرآن بدون تعيين ترتيب الآيات من السورة، وقد ذكر الباقلاني احتمال أن يكون ترتيب السور من اجتهاد الصحابة كما يأتي في المقدمة الثامنة. فعلى رأينا هذا تكون هذه رخصة. ثم لم يزل الناس يتوخون بقراءتهم موافقة قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان ترتيب المصحف في زمن أبي بكر على نحو العرضة الأخيرة التي عرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجمع الصحابة في عهد أبي بكر على ذلك لعلمهم بزوال موجب الرخصة."

- بيان الفرق بين ما ورد في نزول القرآن على سبعة أحرف والقراءات السبع

من الناس من يظن المراد بالسبع في الحديث ما يطابق القراءات السبع التي اشتهرت بين أهل فن القراءات، وذلك غلط ولم يقله أحد من أهل العلم، وأجمع العلماء على خلافه كما قال أبو شامة: فإن انحصار القراءات في سبع لم يدل عليه دليل، ولكنه أمر حصل إما بدون قصد أو بقصد التيمن بعدد السبعة أو بقصد إيهام أن هذه السبعة هي المرادة من الحديث تنويها بشأنها بين العامة، ونقل السيوطي عن أبي العباس ابن عمار أنه قال: لقد فعل جاعل عدد القراءات سبعا ما لا ينبغي، وأشكل به الأمر على العامة إذ أوهمهم أن هذه السبعة هي المرادة في الحديث، وليت جامعها نقص عن السبعة أو زاد عليها.
قال السيوطي: وقد صنف ابن جبير المكي وهو قبل ابن مجاهد كتابا في القراءات فاقتصر على خمسة أئمة من كل مصر إماما، وإنما اقتصر على ذلك لأن المصاحف التي أرسلها عثمان إلى الأمصار كانت إلى خمسة أمصار.

قال ابن العربي في العواصم: أول من جمع القراءات في سبع ابن مجاهد غير أنه عد قراءة يعقوب سابعا ثم عوضها بقراءة الكسائي، قال السيوطي وذلك على رأس الثلاثمائة: وقد اتفق الأئمة على أن قراءة يعقوب من القراءات الصحيحة مثل بقية السبعة، وكذلك قراءة أبي جعفر وشيبة، وإذ قد كان الاختلاف بين القراء سابقا على تدوين المصحف الإمام في زمن عثمان وكان هو الداعي لجمع المسلمين على مصحف واحد تعين أن الاختلاف لم يكن ناشئا عن الاجتهاد في قراءة ألفاظ المصحف فيما عدا اللهجات.

وأما صحة السند الذي تروى به القراءة لتكون مقبولة فهو شرط لا محيد عنه إذ قد تكون القراءة موافقة لرسم المصحف وموافقة لوجوه العربية لكنها لا تكون مروية بسند صحيح، كما ذكر في المزهر أن حماد بن الزبرقان قرأ (إلا عن موعدة وعدها أباه) بالباء الموحدة وإنما هي {إياه} بتحتية، وقرأ (بل الذين كفروا في غرة) بغين معجمة وراء مهملة وإنما هي {عزة} بعين مهملة وزاي، وقرأ (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يعنيه) بعين مهملة، وإنما هي {يغنيه} بغين معجمة، ذلك أنه لم يقرأ القرآن على أحد وإنما حفظه من المصحف.

- مراتب القراءات الصحيحة والترجيح بينها

قال أبو بكر بن العربي في كتاب العواصم: اتفق الأئمة على أن القراءات التي لا تخالف الألفاظ التي كتبت في مصحف عثمان هي متواترة وإن اختلفت في وجوه الأداء وكيفيات النطق ومعنى ذلك أن تواترها تبع لتواتر صورة كتابة المصحف، وما كان نطقه صالحا لرسم المصحف، واختلف فيه فهو مقبول، وما هو بمتواتر لأن وجود الاختلاف فيه مناف لدعوى التواتر، فخرج بذلك ما كان من القراءات مخالفا لمصحف عثمان، مثل ما نقل من قراءة ابن مسعود، ولما قرأ المسلمون بهذه القراءات من عصر الصحابة ولم يغير عليهم، فقد صارت متواترة على التخيير، وإن كانت أسانيدها المعينة آحادا، وليس المراد ما يتوهمه بعض القراء من أن القراءات كلها بما فيها من طرائق أصحابها ورواياتهم متواترة وكيف وقد ذكروا أسانيدهم فيها فكانت أسانيد أحاد، وأقواها سندا ما كان له راويان عن الصحابة مثل قراءة نافع بن أبي نعيم وقد جزم ابن العربي، وابن عبد السلام التونسي، وأبو العباس بن إدريس فقيه بجاية من المالكية، والأبياري من الشافعية بأنها غير متواترة، وهو الحق لأن تلك الأسانيد لا تقتضي إلا أن فلانا قرأ كذا وأن فلانا قرأ بخلافه، وأما اللفظ المقروء فغير محتاج إلى تلك الأسانيد لأنه ثبت بالتواتر كما علمت آنفا، وإن اختلفت كيفيات النطق بحروفه فضلا عن كيفيات أدائه.
وقال إمام الحرمين في البرهان: هي متواترة ورده عليه الأبياري، وقال المازري في شرحه: هي متواترة عند القراء وليست متواترة عند عموم الأمة، وهذا توسط بين إمام الحرمين والأبياري، ووافق إمام الحرمين ابن سلامة الأنصاري من المالكية. وهذه مسألة مهمة جرى فيها حوار بين الشيخين ابن عرفة التونسي وابن لب الأندلسي ذكرها الونشريسي في المعيار.
وتنتهي أسانيد القراءات العشر إلى ثمانية من الصحابة وهم: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله من مسعود، وأبي بن كعب، وأبو الدرداء، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، فبعضها ينتهي إلى جميع الثمانية وبعضها إلى بعضهم وتفصيل ذلك في علم القرآن.
وأما وجوه الإعراب في القرآن فأكثرها متواتر إلا ما ساغ فيه إعرابان مع اتحاد المعاني نحو: {ولات حين مناص} بنصب حين ورفعه، ونحو {وزلزلوا حتى يقول الرسول} بنصب (يقول) ورفعه، ألا ترى أن الأمة أجمعت على رفع اسم الجلالة في قوله تعالى: {وكلم الله موسى تكليما} وقرأه بعض المعتزلة بنصب اسم الجلالة لئلا يثبتوا لله كلاما، وقرأ بعض الرافضة (وما كنت متخذ المضلين عضدا) بصيغة التثنية، وفسروها بأبي بكر وعمر حاشاهما، وقاتلهم الله.
وأما ما خالف الوجوه الصحيحة في العربية ففيه نظر قوي لأنا لا ثقة لنا بانحصار فصيح كلام العرب فيما صار إلى نحاة البصرة والكوفة، وبهذا نبطل كثيرا مما زيفه الزمخشري من القراءات المتواترة بعلة أنها جرت على وجوه ضعيفة في العربية لا سيما ما كان منه في قراءة مشهورة كقراءة عبد الله بن عامر قوله تعالى: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم) ببناء "زين" للمفعول وبرفع (قتل)، ونصب (أولادهم) وخفض (شركاؤهم) ولو سلمنا أن ذلك وجه مرجوح، فهو لا يعدو أن يكون من الاختلاف في كيفية النطق التي لا تناكد التواتر كما قدمناه آنفا على ما في اختلاف الإعرابين من إفادة معنى غير الذي يفيده الآخر، لأن لإضافة المصدر إلى المفعول خصائص غير التي لإضافته إلى فاعله، ولأن لبناء الفعل للمجهول نكتا غير التي لبنائه للفاعل، على أن أبا علي الفارسي ألف كتابا سماه الحجة احتج فيه للقراءات المأثورة احتجاجا من جانب العربية.

-بيان تفاوت القراءات العشر في خصوصيات البلاغة والفصاحة

إن القراءات العشر الصحيحة المتواترة، قد تتفاوت بما يشتمل عليه بعضها من خصوصيات البلاغة أو الفصاحة أو كثرة المعاني أو الشهرة، وهو تمايز متقارب، وقل أن يكسب إحدى القراءات في تلك الآية رجحانا، على أن كثيرا من العلماء كان لا يرى مانعا من ترجيح قراءة على غيرها، ومن هؤلاء الإمام محمد بن جرير الطبري، والعلامة الزمخشري وفي أكثر ما رجح به نظر سنذكره في مواضعه، وقد سئل ابن رشد عما يقع في كتب المفسرين والمعربين من اختيار إحدى القراءتين المتواترتين وقولهم هذه القراءة أحسن: أذاك صحيح أم لا? فأجاب: أما ما سألت عنه مما يقع في كتب المفسرين والمعربين من تحسين بعض القراءات واختيارها على بعض لكونها أظهر من جهة الإعراب، وأصح في النقل، وأيسر في اللفظ فلا ينكر ذلك، كرواية ورش التي اختارها الشيوخ المتقدمون عندنا أي بالأندلس فكان الإمام في الجامع لا يقرأ إلا بها لما فيها من تسهيل النبرات وترك تحقيقها في جميع المواضع، وقد تؤول ذلك فيما روي عن مالك من كراهية النبر في القرآن في الصلاة.

- بيان إن ترجيح القراءات لا يعني ضعف المرجوح في الاعجاز

في بيان هل يفضي ترجيح بعض القراءات على بعض إلى أن تكون الراجحة أبلغ من المرجوحة فيفضي إلى أن المرجوحة أضعف في الإعجاز.اوضح ابن عاشور إن حد الإعجاز مطابقة الكلام لجميع مقتضى الحال، وهو لا يقبل التفاوت، ويجوز مع ذلك أن يكون بعض الكلام المعجز مشتملا على لطائف وخصوصيات تتعلق بوجوه الحسن كالجناس والمبالغة، أو تتعلق بزيادة الفصاحة، أو بالتفنن مثل {أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير} على أنه يجوز أن تكون إحدى القراءات نشأت عن ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم للقارئ أن يقرأ بالمرادف تيسيرا على الناس كما يشعر به حديث تنازع عمر مع هشام بن حكيم، فتروى تلك القراءة للخلف فيكون تمييز غيرها عليها بسبب أن المتميزة هي البالغة غاية البلاغة وأن الأخرى توسعة ورخصة، ولا يعكر ذلك على كونها أيضا بالغة الطرف الأعلى من البلاغة وهو ما يقرب من حد الإعجاز. وأما الإعجاز فلا يلزم أن يتحقق في كل آية من آي القرآن لأن التحدي إنما وقع بسورة مثل سور القرآن، وأقصر سورة ثلاث آيات فكل مقدار ينتظم من ثلاث آيات من القرآن يجب أن يكون مجموعه معجزا.

- بيان ما اقتصر عليه المصنف من اختلاف القراءات

أقتصر المؤلف في هذا التفسير على التعرض لاختلاف القراءات العشر المشهورة خاصة في أشهر روايات الراوين عن أصحابها لأنها متواترة، وإن كانت القراءات السبع قد امتازت على بقية القراءات بالشهرة بين المسلمين في أقطار الإسلام. وأبني أول التفسير على قراءة نافع برواية عيسى ابن مينا المدني الملقب بقالون لأنها القراءة المدنية إماما وراويا ولأنها التي يقرأ بها معظم أهل تونس، ثم أذكر خلاف بقية القراء العشرة خاصة. والقراءات التي يقرأ بها اليوم في بلاد الإسلام من هذه القراءات العشر، هي قراءة نافع برواية قالون في بعض القطر التونسي وبعض القطر المصري، وفي ليبيا وبرواية ورش في بعض القطر التونسي وبعض القطر المصري وفي جميع القطر الجزائري وجميع المغرب الأقصى، وما يتبعه من البلاد. والسودان.
وقراءة عاصم برواية حفص عنه في جميع الشرق من العراق والشام وغالب البلاد المصرية والهند وباكستان وتركيا والأفغان. وبلغني أن قراءة أبي عمرو البصري يقرأ بها في السودان المجاور مصر.

والله إعلم.

بارك الله فيك ونفع بك.
صياغتك للعناوين جيدة، لكنها بمثابة عناصر عامة، يندرج تحتها عدة مسائل، هذه المسائل لم تتضح لاعتماد على نسخ نص ابن عاشور، وهذا يقلل من استفادتك من الفهرسة إن أردت العودة لمراجعة المادة.
التقويم: ج+
وفقك الله وسددك.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 12 صفر 1443هـ/19-09-2021م, 09:24 PM
هيئة التصحيح 11 هيئة التصحيح 11 غير متواجد حالياً
هيئة التصحيح
 
تاريخ التسجيل: Jan 2016
المشاركات: 2,525
افتراضي

تصحيح فهرسة الطالبة إنشاد راجح:
بارك الله فيكِ ونفع بكِ.

* ما اهتم به المؤلف في تفسيره = يدخل ضمن منهجه في تفسيره.
المقدمة الثانية:
حبذا لو وضحتِ إجمالا هذه المسألة قبل تفصيلها:
علوم العربية التي يلزم المفسر معرفتها:
أ: قواعد العربية: وهي مجموع علوم اللسان العربي، وهي: متن اللغة، والتصريف، والنحو، والمعاني، والبيان.
ب: استعمال العرب المتبع من أساليبهم في خطبهم وأشعارهم وتراكيب بلغائهم.

ثم تفصيل مسائل كل نوع
أولا: قواعد العربية ......

المقدمة الثالثة:
- أحسنتِ فهرسة المقدمة الثالثة، أحسن الله إليكِ.
- الصوفية كطائفة التزمت التفسير بالرأي المذموم: = حبذا لو قلتِ: التفسير الإشاري للصوفية، فالكلام ليس على الطائفة ككل وما لديهم من بدع وإنما عن التفسير الذي أطلقه بعضهم.

المقدمة السادسة:
قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، اصطلح بعض العلماء على تسميتها للقراءة التي صح إسنادها إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكنها مخالفة لرسم المصحف ولم تبلغ حد التواتر.
أما اعتبار شرط تواتر الإسناد في القراءة الصحيحة، فهو غير لازم، وإنما حصل التواتر بتواتر المصحف، والمعتبر هو صحة الإسناد.

الترجيح بين القراءات الصحيحة: ينبغي التأكيد على أن هذا الترجيح لا يعني رد إحدى القراءتين.


التقويم: أ+
أحسنتِ، بارك الله فيكِ ونفع بكِ.

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
المجلس, السادس

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:06 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir