دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > الفقه > متون الفقه > زاد المستقنع > كتاب الديات

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 12 جمادى الآخرة 1431هـ/25-05-2010م, 02:50 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي مسائل في جناية المؤدِّب، ومتى يضمن التلف؟

( فصلٌ ) وإذا أَدَّبَ الرجلُ وَلَدَه , أو سُلطانٌ رَعِيَّتَه , أو مُعَلِّمٌ صَبِيَّهُ , ولم يُسْرِفْ لم يَضْمَنْ ما تَلِفَ به، ولو كانَ التأديبُ لحامِلٍ فأَسْقَطَتْ جَنينًا ضَمِنَه الْمُؤَدِّبُ، وإن طَلَبَ السلطانُ امْرأةً لكَشْفِ حقِّ اللهِ , أو اسْتَعْدَى عليها رَجُلٌ بالشُّرَطِ في دَعْوَى له فَأَسْقَطَتْ ضَمِنَه السلطانُ والْمُسْتَعْدِي، ولو مَاتَتْ فَزَعًا لم يَضْمَنَا، ومَن أَمَرَ شَخْصًا مُكَلَّفًا أن يَنْزِلَ بئرًا أو يَصْعَدَ شَجرةً فهَلَكَ به لم يَضْمَنْه , ولو أن الآمِرَ سُلطانٌ كما لو استأْجَرَهُ سُلطانٌ أو غيرُه.

  #2  
قديم 16 جمادى الآخرة 1431هـ/29-05-2010م, 12:08 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي المقنع لموفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي

........................

  #3  
قديم 16 جمادى الآخرة 1431هـ/29-05-2010م, 12:09 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي الروض المربع للشيخ: منصور بن يونس البهوتي


فصلٌ
(وإذا أَدَّبَ الرجلُ ولدَه) ولم يُسْرِفْ، لم يَضْمَنْهُ، وكذا لو أَدَّبَ زوجتَه في نُشُوزٍ، (أو) أَدَّبَ (سلطانٌ رَعِيَّتَه، أو) أَدَّبَ (مُعَلِّمٌ صَبِيَّهُ ولم يُسْرِفْ، لم يَضْمَنْ ما تَلِفَ به)؛ أي: بتَأْدِيبِه؛ لأنَّه فَعَلَ ما له فِعْلُه شَرْعاً، ولم يَتَعَدَّ فيه، ومَن أَسْرَفَ أو زادَ على ما يَحْصُلُ به المقصودُ، أو ضَرَبَ مَن لا عَقْلَ له مِن صَبِيٍّ أو غيرِهِ ضَمِنَ؛ لِتَعَدِّيهِ، (ولو كانَ التأديبُ لحاملٍ فأَسْقَطَتْ جَنِيناً، ضَمِنَه المُؤَدِّبُ) بالغُرَّةِ؛ لِسُقُوطِهِ بِتَعَدِّيهِ، (وإنْ طَلَبَ السلطانُ امْرَأَةً لِكَشْفِ حقِّ اللهِ) تعالَى، فأَسْقَطَتْ، (أو اسْتَعْدَى عليها رجلٌ)؛ أي: طَلَبَها لِدَعْوَى عليها (بالشرطِ في دَعْوَى له، فأَسْقَطَتْ) جَنِيناً (ضَمِنَه السلطانُ) في المسألةِ الأُولَى؛ لِهَلاَكِها بِسَبَبِهِ، (و) ضَمِنَ (المُسْتَعْدِي) في المسألةِ الثانيةِ؛ لِهَلاَكِهِ بِسَبَبِهِ، (ولو ماتَتِ) الحامِلُ في المسألتَيْنِ (فَزَعاً) بسببِ الوضعِ أو لا، (لم يَضْمَنْها)؛ أي: لم يَضْمَنْها السلطانُ في الأُولى، ولا المُسْتَعْدِي في الثانيةِ؛ لأنَّ ذلك ليسَ بسببٍ لِهَلاَكِها في العادَةِ؛ جَزَمَ به في (الوجيزِ)، وقَدَّمَهُ في (المُحَرَّرِ) و(الكَافِي)، وعنه: أنهما ضَامِنَانِ لها كجَنِينِها؛ لِهَلاَكِها بِسَبَبِهما. وهو المذهَبُ؛ كما في (الإنصافِ) وغيرِهِ، وقَطَعَ به في (المُنْتَهَى) وغيرِهِ.
ولو ماتَتْ حاملٌ أو حَمْلُها مِن ريحِ طعامٍ ونحوِهِ، ضَمِنَ رَبُّه إنْ عُلِمَ ذلك عادَةً، (ومَن أَمَرَ شخصاً مُكَلَّفاً أنْ يَنْزِلَ بِئْراً أو) أَمَرَه أنْ (يَصْعَدَ شجرةً) ففَعَلَ، (فهَلَكَ به)؛ أي: بِنُزُولِهِ أو صُعُودِهِ، (لم يَضْمَنْه) الآمِرُ، (ولو أنَّ الآمرَ سلطانٌ)؛ لِعَدَمِ إكراهِهِ له، (وكما لو اسْتَأْجَرَهُ سلطانٌ أو غيرُه) لذلكَ وهَلَكَ به؛ لأنَّه لم يَجْنِ ولم يَتَعَدَّ عليه، وكذا لو سَلَّمَ بالغٌ عاقلٌ نفسَه أو وَلَدَه إلى سابحٍ حاذقٍ لِيُعَلِّمَهُ السباحةَ فغَرِقَ، لم يَضْمَنْهُ السابِحُ.

  #4  
قديم 16 جمادى الآخرة 1431هـ/29-05-2010م, 12:13 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي حاشية الروض المربع للشيخ: عبد الرحمن بن محمد ابن قاسم


فصل([1])

(وإذا أدب الرجل ولده) ولم يسرف لم يضمنه([2]) وكذا لو أدب زوجته في نشوز([3]) (أو) أدب (سلطان رعيته([4]) أو) أدب (معلم صبيه ولم يسرف لم يضمن ما تلف به) أي بتأديبه([5]) لأنه فعل ماله فعله شرعا، ولم يتعد فيه([6]) وإن أسرف أو زاد على ما يحصل به المقصود([7]).
أو ضرب من لا عقل له من صبي أو غيره، ضمن لتعديه([8]) (ولو كان التأديب لحامل، فأسقطت جنينا([9]) ضمنه المؤدب) بالغرة([10]) لسقوطه بتعديه([11]) (وإن طلب السلطان امرأة لكشف حق الله تعالى)([12]) فأسقطت([13]) (أو استعدى عليها رجل) أي طلبها لدعوى عليها (بالشرط([14]).
في دعوى له فأسقطت) جنينا([15]) (ضمنه السلطان) في المسألة الأولى لهلاكه بسببه([16]) (و) ضمن (المستعدي) في المسألة الثانية، لهلاكه بسببه([17]) (ولو ماتت) الحامل في المسألتين (فزعا) بسبب الوضع أولا([18]) (لم يضمنا) أي لم يضمنها السلطان في الأولى، ولا المستعدي في الثانية([19]) لأن ذلك ليس بسبب لهلاكها في العادة([20]) جزم به في الوجيز وقدمه في المحرر والكافي([21]).
وعنه: أنهما ضامنان لها كجنينها([22]) لهلاكه بسببهما([23]) وهو المذهب، كما في الإنصاف وغيره([24]) وقطع به في المنتهى وغيره([25]) ولو ماتت حامل، أو حملها، من ريح طعام ونحوه([26]) ضمن ربه، إن علم ذلك عادة([27]).
(ومن أمر شخصا مكلفا، أن ينزل بئرا أو) أمره أن (يصعد شجرة) ففعل([28]) (فهلك به) أي بنزوله، أو صعوده (لم يضمنه) الآمر([29]) (ولو أن الآمر سلطان) لعدم إكراهه له([30]) (و كما لو استأجره سلطان أو غيره) لذلك وهلك به([31]) لأنه لم يجن، لم يتعد عليه([32]) وكذا لو سلم بالغ عاقل، نفسه أو ولده، إلى سابح حاذق، ليعلمه السباحة، فغرق، لم يضمنه السابح([33]).


([1]) أي في حكم ما إذا أدب ولده، أو السلطان رعيته، وغير ذلك.
([2]) قولا واحدًا، فإن أسرف الوالد فمات ولده، فعلى الوالد الدية لكن لا يطالب بها في حياته، بل تؤخذ من تركته بعد موت الوالد، هذا إذا كان غير عمد محض، وأما إذا كان عمدا محضا، وكان ضربه بشيء يقتل غالبا، فلا دية عليه ولا قصاص.
([3]) ولم يسرف لم يضمن لقوله تعالى: {وَاضْرِبُوهُنَّ}، وقوله صلى الله عليه وسلم «واضربوهن ضربا غير مبرح».
([4]) ولم يسرف لم يضمن، لأنه مأذون فيه شرعا، فلم يضمن ما تلف به كالحد.
([5]) نص عليه.
([6]) بأن يزيد على الضرب المعتاد فيه، لا في عدد ولا في شدة.
([7]) أي وإن أسرف المؤدب، والدا كان أو زوجا، أو سلطانا، أو معلما، بأن زاد فوق المعتاد، أو زاد على ما يحصل به المقصد، ضمن لتعديه بالإسراف، أو الزيادة، على المقصود من التأديب.
([8]) أي أو ضرب المؤدب، ممن تقدم ذكرهم على شخص، لا عقل له، من صبي غير مميز، أو غيره كمجنون ومعتوه ضمن ما تلف، لتعديه إلى ما لم يأذن الشرع فيه، بتأديب من لا عقل له، لأنه لا فائدة في تأديبه.
([9]) وهو الولد في بطن أمه، من الاجتنان هو الستر، لأنه أجنه بطن أمه أي ستره قال تعالى: {وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ}.
([10]) وهي عبد أو أمة، لما في الصحيحين، «أنه صلى الله عليه وسلم قضي في إملاص المرأة بعبدًا، أو أمة»، هو قول أكثر أهل العلم.
([11]) أي لسقوط الجنين بتعدي الضارب لأمه.
([12]) من حد أو تعزير، أ ولكشف حق آدمي.
([13]) جنينا ميتا ضمنه، وفاقا للشافعي، وفي الإنصاف: بلا نزاع، لما روي عن عمر، أنه بعث إلى امرأة مغيبة كان يدخل عليها، فقالت: يا ويلها، ما لها ولعمر، فبينا هي في الطريق، إذ فزعت فضربها الطلق، فألقت ولدا، فصاح صيحتين ثم مات، فاستشار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: ليس عليك شيء، فقال علي: إن كانوا قالوا في هواك، فلم ينصحوا لك أن ديته عليك، لأنك أفزعتها فألقته، وأقسم عليه عمر أن لا يبرح حتى يقسمها على قومه.
([14]) أي استغاث عليها، برجال السلطان.
([15]) ضمنه لأنه تلف بفعله، فأشبه مالو اقتص منها.
([16]) أي ابتداء بلا استعداء أحد، وتصويرهم بطلب السلطان، قد يقتضي اشتراط كون الطالب مرهوبا، فإن كان غير مرهوب، فلا ضمان، ويلحق بالسلطان القاضي، ومن له سطوة يرهب منه.
([17]) ظاهره: ولو كانت ظالمة، وقال الموفق وغيره: إن كانت هي الظالمة، فأحضرها عند القاضي، فينبغي أن لا يضمنها، وقال ابن قندس: سواء أحضرها بنفسه إو بإذن الحاكم وطلبه.
([18]) أي ولو ماتت الحامل، في المسألتين، إحداهما بطلب السلطان، لكشف حق الله تعالى، والثانية باستعداء رجل بالشرط، فماتت فزعا، بسبب وضعها، أو ماتت فزعا بغير وضع، أو ذهب عقلها من الفزع.
([19]) وهو أحد الوجهين في المذهب.
([20]) وهو قول الشافعي.
([21]) أي أن السلطان، والمستعدي لايضمنان المرأة، إن ماتت فزعا، لأجل ذلك.
([22]) أي كما أنهما يضمنان جنينها، إذا أسقطت فزعا، وفي الإنصاف، يضمن إذا ماتت بوضعها، وأنه المنصوص فيهما، كإسقاطها بتأديب أو قطع يد، لم يأذن سيد فيهما.
([23]) فضمناها، كما لو ضرباها فماتت، قال الموفق: وقوله: يعني الشافعي إن موتها ليس بسبب عادة، قلنا: ليس كذلك، فإنه سبب للإسقاط، والإسقاط سبب للهلاك عادة، ثم لا يتعين في الضمان، كونه سببا معتادا، فإن الضربة والضربتين بالسوط، ليست سببا للهلاك في العادة، ومتى أفضت إليه وجب الضمان.
([24]) قال: إذا ماتت فزعا، من إرسال السلطان إليها، فجزم الموفق: أنه يضمنها، وهو أحد الوجهين: والمذهب منهما، جزم به في الهداية والخلاصة والمغني والشرح، ونصراه في موضع، وقدمه في الرعاية والحاوي الصغير.
([25]) ففي الإقناع وشرحه، أو ماتت بوضعها من الفزع، أو ماتت من غير وضع فزعا، أو ذهب عقلها من ذلك، أو استعدى إنسان عليها إلى السلطان، ضمن السلطان ما كان بطلبه ابتداء وضمن المستعدي ما كان بسببه، من موتها فزعا أو إلقاء جنينها لحصول الهلاك بسببه.
([26]) ككبريت وعظم.
([27]) أي علم أنها تموت، أو يموت حملها، من ريح ذلك عادة، أي بحسب المعتاد، وأن الحامل هناك ماتت لتسببه فيه، وكذا إن علم أن عنده من يتضرر بذلك عادة، وإلا فلا إثم ولا ضمان.
([28]) فهلك لم يضمنه سواء كان الآمر مكلفا أو غير مكلف.
([29]) قولا واحدا، لأنه لم يجن ولم يتعد عليه، فلم يلزمه ضمانه، أشبه ما لو أذن له ولم يأمره.
([30]) هذا أحد الوجهين، والوجه الثاني: يضمنه السلطان، لأنه يخاف منه إذا خالفه وهو مأمور بطاعته.
([31]) صححه في التصحيح، وجزم به في الوجيز، وقدمه في المحرر والفروع، وغيرهما.
([32]) فلم يلزمه ضمانه، كما لو أذن له في ذلك، ولم يأمره به، وإن أمر غير مكلف ضمنه، لأنه تسبب في إتلافه جزم به في التنقيح، وقال الموفق: إذا كان المأمور صغيرا لا يميز فعليه، وإن كان مميزا لا ضمان، قال في الفروع: ولعل مراد الشيخ، ما جرى به عرف وعادة، كقرابة وصحبة، وتعليم ونحوه، فهذا متجه وإلا ضمنه وقد كان ابن عباس يلعب مع الصبيان، فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى معاوية: قال النووي: لا يقال هذا تصرف في منفعة الصبي، لأنه قدر يسير ورد الشرع بالمسامحة به، واطرد به العرف وعمل المسلمين.
([33]) لأنه فعل ما جرت العادة به لمصلحته، كضرب المعلم الصبي الضرب المعتاد، ما لم يفرط السابح، بأن غفل عنه، أو لم يشد ما يسبحه عليه شدا جيدا، أو جعله في ماء كثير جار، أو واقف لا يحمله، أو عميق معروف بالغرق، ضمنه.

  #5  
قديم 11 ربيع الثاني 1432هـ/16-03-2011م, 10:49 AM
الصورة الرمزية ساجدة فاروق
ساجدة فاروق ساجدة فاروق غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 6,511
افتراضي الشرح الممتع على زاد المستقنع / للشيخ ابن عثيمين رحمه الله

فَصْلٌ
وَإِذَا أَدَّبَ الرَّجُلُ وَلَدَهُ، أَوْ سُلْطَانٌ رَعِيَّتَهُ، أَوْ مُعَلِّمٌ صَبِيَّهُ، وَلَمْ يُسْرِفْ لَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهِ، وَلَوْ كَانَ التَّأْدِيبُ لِحَامِلٍ فَأَسْقَطَتْ جَنِيناً ضَمِنَهُ المُؤَدِّبُ، ................
هذا الفصل مبني على قاعدة وهي: «ما ترتب على المأذون فليس بمضمون، وما ترتب على غير المأذون فهو مضمون»، وهي من أحسن قواعد الفقه.
قوله: «وإذا أدَّب الرجل ولده، أو سلطان رعيته، أو معلِّم صبيَّه، ولم يسرف لم يضمن ما تلف به» .
فقوله: «وإذا أدَّب الرجل ولده» هذه الجملة نفهم منها أربعة شروط:
فقوله: «أدَّب» ، التأديب بمعنى التقويم والتهذيب، تقول: أدَّبته، أي: قوَّمت أخلاقه وهذَّبتها، فكلمة «أدَّب» يؤخذ منها ثلاثة شروط:
الأول: أن يكون هذا الولد مستحقاً للتأديب، أي فعل ما يستحق التأديب عليه، أما لو ضربه بدون سبب فإنه ضامن.
الثاني: أن يكون هذا الولد قابلاً للتأديب، فإن كان غير قابل، وهو الذي لم يميز، أو لا عقل له ـ أي: المجنون ـ فهذا لا ينفع فيه التأديب، بل تأديبه عدوان.
الثالث: أن يقصد المؤدِّب التأديب لا الانتقام لنفسه، فإن قصد الانتقام لنفسه لم يكن مؤدِّباً بل منتصراً، وحينئذٍ يضمن ما ترتب على فعله.
وكثير من الناس يضرب ولده ضرباً شديداً، لا لأنه ترك خلقاً فاضلاً أمره به، لكن لأنه عانده وخالفه، فيضربه انتقاماً لنفسه وغضباً.
الرابع: قوله: «ولده» وهذا يشمل الذكر والأنثى؛ لأن الولد في اللغة العربية يشمل الذكر والأنثى، قال الله تعالى: {{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ}}، وقال تعالى: {{وَلأَِبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ}} [النساء: 11] .
وقوله: «ولده» الإضافة تقتضي الاختصاص، فيؤخذ من هذا شرط أن يكون له عليه ولاية، فإن لم يكن عليه ولاية، فلا حق له في ضربه، وإذا ترتب على ضربه شيء فإنه ضامن، لأنه لا حق له في هذا، مثل أبي أمٍّ يؤدب أولاد ابنته، فأدَبُهم ليس إليه، ولكنه إلى أبيهم.
وقوله: «رعيته» و «صبيه» يؤخذ منه أنه لا بد أن يكون للمؤدب ولاية التأديب، وإلا كان ضامناً.
وقوله: «أو سلطانٌ رعيَّتَه» فلا ضمان، أيضاً تراعى فيه الشروط الأربعة السابقة، والسلطان عندما يطلقه العلماء فإنهم يريدون به الرئيس الأعلى في الدولة، وقد يُراد به من دون ذلك، وهو من له سُلطة، فيشمل الأمير، والمحتسب، وما أشبه ذلك؛ لأن هؤلاء لهم سلطان على من تحت ولايتهم.
فالأمير مثلاً سلطانه على بلدته التي أُمِّر فيها، والمحتسب كذلك على بلدته التي أمر فيها، فالأحسن أن نقول في المراد بالسلطان: ذو السلطة على من أدَّبه، سواء كان السلطان الأعلى أو من دونه، فإذا أدب رعيته، وتمت الشروط فلا ضمان عليه.
وقوله: «أو معلمٌ صبِيَّهُ» الإضافة هنا على أدنى ملابسة، يعني الصبي الذي ينتسب إليه ولو بالتعليم، فإذا أدَّب صبيه وتمَّت الشروط فلا ضمان.
واستفدنا من كلام المؤلف أن للمعلم أن يؤدِّب الصبيان بالضرب، والضرب لا شك أنه وسيلة من وسائل التعليم والتأديب، وقد قال أحكم المؤدِّبين، وأرحم المؤدِّبين من الناس صلّى الله عليه وسلّم: «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر» [(36)].
والفوضويون الذين يدَّعون التقدم الآن يقولون: لا تضرب الصغار؛ لأن الضرب ينافي التربية الحديثة! وهذه لا شك أنها خطة يراد بها أن يصبح الأولاد فوضويين، لا يستفيدون شيئاً.
فطالب له عشر سنوات لن ينتفع حين يقول له المدرس: يا بني، إنّ التعليم طيب، فلا تضيِّع الوقت؛ لأن الوقت من ذهب، فاحرص وقم بالواجبات.
فيقول له الطالب: أنا حين وصلت إلى البيت، وضعت الكتب، وذهبت ألعب! فهذا لا ينفعه الكلام، لكن لو مسَّه بعذاب فإنه سيقوم بالواجب، ولذلك فأنا أعتقد أن هذه الخطة مع مخالفتها للشرع، ولحكمة النبي صلّى الله عليه وسلّم، لا شك أنها لا تجدي.
وقوله: «وإذا أدب الرجل ولده» ظاهره العموم، وأنه ما دام تحت رعايته فإنه مسؤول عنه، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالرجل راعٍ في أهل بيته ومسؤول في رعيته» [(37)]، فما دام أنه في بيته فهو مسؤول عنه، أما إذا انفصل فليس بمسؤول عنه، إلا إن كانت ولايته عامة، كما لو كان ذا سلطان في مكانه فله أن يؤدِّبه.
وأمَّا تأديب المعلم صبيه فالظاهر لي أن المعلِّم كل من يدرس عنده فله أن يؤدِّبه، حتى لو كان أكبر منه.
وقوله: «ولم يسرف» هذا هو الشرط الخامس، والإسراف مجاوزة الحد بالكمية أو بالكيفية، فإذا قدَّرنا أنه يتأدَّب بضربتين، صارت الثالثة إسرافاً، وإن كان يتأدب بعشر صارت الحادية عشرة إسرافاً، وكذلك بالكيفية فإذا قدَّرنا أنَّه يتأدب بضرب بسيط فلا نضربه ضرباً شديداً، ولا نضربه ـ أيضاً ـ في أمكنة تضره، كالوجه، والمقاتل، وشبهها فإن هذا إسرافٌ، فالإسراف إذاً مجاوزة الحد كمية أو كيفية، ويدخل في الكيفية موضع الضرب، ويدخل فيه ـ أيضاً ـ أن الناس يختلفون، فتحمُّل الكبير للضرب ليس كتحمل الصغير.
فصارت الشروط خمسة:
الأول: أن يكون المؤدَّب مستحقاً للتأديب.
الثاني: أن يكون المؤدَّب قابلاً للتأديب.
الثالث: أن يقصد المؤدِّب بذلك التأديب، لا الانتقام لنفسه.
الرابع: أن تكون له ولاية التأديب، سواء كانت ولاية عامة أو خاصة.
الخامس: ألاَّ يسرف، فإن أسرف كان ضامناً؛ لأنه معتدٍ، والله تعالى يقول في النساء الناشزات: {{فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ}} [النساء: 34] ، والآية مطلقة، لكن النبي صلّى الله عليه وسلّم بيّن أنه ضربٌ غير مبرِّح[(38)].
قوله: «ولو كان التأديب لحامل فأسقطت جنيناً ضمِنه المؤدِّب» الزوج يُتَصَوَّر أن يؤدب امرأته بأن تكون ناشزة، والله تعالى قال: {{فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ}}.
وكذلك المعلِّم قد يؤدِّب امرأة حاملاً؛ لأنه يجوز للمعلم الذكر أن يُعَلِّم النساء، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يعلم النساء، وجئن إليه مرة يطلبن منه وعظاً، وقلن له: إن الرجال غلبونا عليك، فاجعل لنا من نفسك يوماً تعلمنا فيه مما علمك الله، فوعدهن في بيت امرأة منهن، وأتى إليهن ـ عليه الصلاة والسلام ـ ووعظهن، وهذا ثابت في البخاري[(39)]، وسواء كان المعلم أعمى أو مبصراً، لكن المبصر لا بد أن يكون بينه وبين النساء حجاب.
وكذلك السلطان يملك أن يؤدب امرأة حاملاً من رعيته، فإن كان التأديب لحامل، وهي لم تتضرر، ولكن أسقطت جنيناً فإن المؤدب يضمنه، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ مقدار دية الجنين، ومتى يضمن.
وظاهر كلام المؤلف أن المؤدب يضمنه مطلقاً؛ لأن الجناية هنا تعدت إلى الغير، والجنين لم يفعل ما يستحق التأديب عليه حتى نقول: إنه تلف بتأديبه، فلما تعدى حكم التأديب إلى الغير صار مضموناً؛ لأن ضمان الآدمي لا يشترط فيه التحريم، فيضمن حتى لو فعل الإنسان ما يباح له، وقد سبق لنا أن الإنسان لو رمى صيداً فأصاب إنساناً ضمنه، فعلى هذا إذا أدب الرجل امرأة حاملاً فأسقطت جنيناً، فعليه ضمانه، وأما هي فإذا تمت الشروط الخمسة فلا ضمان.

وَإِنْ طَلَبَ السُّلْطَانُ امْرَأَةً لِكَشْفِ حَقِّ اللهِ تَعَالَى، أَوِ اسْتَعْدَى عَلَيْهَا رَجُلٌ بالشُّرَطِ فِي دَعْوَى لَهُ فَأَسْقَطَتْ ضَمِنَهُ السُّلْطَانُ وَالْمُسْتَعْدِي، وَلَوْ مَاتَتْ فَزَعاً لَمْ يَضْمَنَا،................
قوله: «وإن طلب السلطان امرأة لكشف حق الله تعالى» بأن اتُّهِمَت بشيء من حقوق الله عزّ وجل، فطلبها وأمرها أن تحضر، فأسقطت جنينها من الروعة، فإنه يضمنه؛ لأن هذا الأمر تعدى إلى الغير.
وظاهر كلام المؤلف سواء طلبها لحق الله عزّ وجل وهي ظالمة، أو طلبها وهو الظالم، أو طلبها قبل أن يتبين الأمر، فيضمنها السلطان مطلقاً في الأحوال الثلاثة، ولكن بعض أصحابنا ـ رحمه الله ـ قيد هذا بما إذا لم تكن ظالمة، وقال: إن كانت ظالمة فهي الجانية على نفسها، وهذا القول له وجه قوي؛ لأن طلب السلطان إياها في حال الظلم مأمور به شرعاً، والقاعدة العظيمة النافعة «أن ما ترتب على المأذون فغير مضمون» لا سيما إذا كان السلطان لا يعلم عن حال المرأة، هل هي حامل أو لا؟ ولا يعلم هل هي من النساء اللاتي يفزعن بأدنى سبب، أو لا؟
ثم على القول بالضمان فظاهر كلام المؤلف أن السلطان يضمنها ضمان شخص، يعني ضماناً شخصياً، لا ضمان ولاية، بمعنى أن الدية تكون على عاقلته، وكأنما قتل شخصاً عادياً.
ولكن القول الراجح ـ على القول بالضمان ـ أن الدية في بيت المال؛ لأن السلطان يتصرف لحقوق المسلمين بالولاية، فلو أننا ضمنَّاه كل شيء يكون من تصرفه لاجتحنا ماله، ومال عاقلته، نعم لو تيقنَّا أن السلطان ظالم، فهنا يتوجَّه أن يكون الضمان عليه، أو على عاقلته، حسب ما تقتضيه الأدلة الشرعية.
قوله: «أو استعدى عليها رجل بالشُّرَط في دعوى له فأسقطت» «استعدى» بمعنى أقام دعوى عليها، ولكنه استعان بالشرط، والشُّرط: جمع شُرْطة، كحجة جمعها حُجَج، والشرطة جمع شُرَطي.
مثاله : رجل أقام على حاملٍ دعوى، وذهب إلى الشرطة، وقال: أنا أدعي على فلانة كذا وكذا، فقال الضابط للشرط: اذهبوا وائتوا بها، فذهب رجلان من الشرطة بلباسهما الرسمي، وقالا للمرأة: تعالي معنا، ففزعت المرأة، وأسقطت الجنين.
قوله: «ضمنه السلطان والمستعدي» أي: ضمنه السلطان في المسألة الأولى، والمستعدي في المسألة الثانية؛ لأنه هو السبب في هلاك هذا الجنين، فكان عليه الضمان.
وظاهر كلام المؤلف ـ أيضاً ـ ولو كان المستعدي مستحقاً للاستعداء، وكانت هي ظالمة، فإن الضمان على المستعدي.
ولكن في هذا الظاهر نظر، فإنه إذا كان على حق، ولم يعلم عن حال المرأة، فكيف نضمِّنه؟! أما إذا كان يعلم أن هذه المرأة من النساء اللاتي يفزعن، وأنَّه يخشى على حملها، فربما يقال: إن تضمينه له وجه.
وقوله: «ضمنه السلطان والمستعدي» أفلا يكون هذا ناقِضاً لقاعدة: «إذا اجتمع متسبب ومباشر فالضمان على المباشر»؟
فهنا عندنا متسبب وهو المستعدي، وعندنا مباشر وهم الشرط، وإنما جعلنا الضمان على المستعدي ـ أي: المتسبب ـ لأن المباشرة مبنية على السبب، وذلك أن الشُّرط مأمورون شرعاً بأن يستجيبوا لمثل هذه الدعاوى، فهو كحكم الحاكم بشهادة الشهود الذين قالوا: إنما تعمَّدنا قتله، ورجعوا عن شهادتهم فالضمان على الشهود، فكذلك هنا نجعل الضمان على المستعدي؛ لأن الشُّرَط عبارة عن آلة لهذا الرجل.
قوله: «ولو ماتت فزعاً لم يضمنا» هذه المرأة لما جاءها مندوب السلطان الذي طلبها لكشف حق الله، فزعت، وماتت سريعاً، فليس عليهما الضمان.
فإن قيل: كيف لا يكون عليهما الضمان، مع أنه لولا مندوب السلطان لم تمُت؟
الجواب: أن مثل هذا لا يحصل به الموت عادة، وما لم يكن معتاداً فليس فيه ضمان، كما لو دخَلْتَ على شخص وسَلَّمْتَ عليه، وهو يهابُك هيبة عظيمة، فلما صافحته وهززت يده مات، فهنا لا تضمنه؛ لأنه لم تجرِ العادة بأن يموت الإنسان بمثل هذا العمل.
وهناك قول آخر ـ وهو المذهب ـ أنهما ضامنان؛ لأنها هلكت بسببهما، ولكن يجاب عنه بما سبق، من أن مثل هذا الفعل ليس سبباً للقتل إطلاقاً، وقد جرت عادة الناس بمثله.

وَمَنْ أَمَرَ شَخْصاً مُكلَّفاً أَنْ يَنْزِلَ بِئْراً، أَوْ يَصْعَدَ شَجَرَةً فَهَلَكَ بِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ،......
قوله: «ومن أمر شخصاً مكلفاً أن ينزل بئراً، أو يصعد شجرة، فهلك به لم يضمنه» .
فقوله: «شخصاً» أي: ذكراً أو أنثى.
وقوله: «مكلفاً» أي: بالغاً عاقلاً.
وقوله: «لم يضمنه» أي: الآمر.
فلو أمر شخصاً مكلفاً أن ينزل بئراً، فلما نزل زلَّت قدمه فسقط في البئر فمات، فلا ضمان على الآمر؛ لأن النازل بالغ عاقل يعرف الذي ينفعه، والذي لا ينفعه، وكان بإمكانه أن يقول: لست بنازل، إلاَّ إذا كان الآمر يعلم أن في البئر ما يكون سبباً للهلاك، ولم يخبره، كأن تكون البئر ملساء، لا يستطيع الإنسان النزول فيها، لكنه لم يُعلمه ذلك، فعليه الضمان؛ لأنه غرَّه، وكذلك لو كان في البئر حية، وإذا أحسَّت بإنسانٍ وشَّت عليه، فلما نزل هذا الرجل وشَّت عليه فارْتَبَكَ وسقط، فعليه الضمان؛ لأنه مفرِّط بعدم تنبيه هذا الرجل على ما في البئر من أسباب الهلاك.
وكذلك لو كانت البئر قديمة ولم يُخبره، فلما نزل انهدمت عليه، فعليه الضمان، وعلى هذا فكلام المؤلف يحتاج إلى قيد، وهو إذا لم يكن منه تفريط بإعلامه بما يكون سبباً لهلاكه، فإن كان منه تفريط في ذلك فعليه الضمان.
مسألة: لو تحدَّى رجُل آخر بشيء كان سبباً في هلاكه، فهل عليه الضمان؟
مثاله: رجل قال: من أكل هذا الخروف كاملاً فله كذا وكذا من المال، فلو أكله رجل حتى انتفخ بطنه ومات، فلا ضمان على المتحدي؛ لأن الرجل لم يجبره أحدٌ على أكل الخروف.
وكذلك لو أَمره أن يصعد شجرة نخلٍ مثلاً، وكان الرجل عاقلاً بالغاً، فصعدها، ثم سقط ومات، فهنا ليس على الآمر ضمان؛ لأن المأمور بالغ عاقل.
وعُلِم من قول المؤلف: «ومن أمر» أنه لو أكرهه على ذلك فعليه الضمان؛ لأنه تسبب في هلاكه بغير اختيار الهالك، فصار معتدياً، والمعتدي عليه الضمان.
وعُلم من قول المؤلف: «من أمر شخصاً مكلفاً» أنه لو أمر غير مكلَّف فعليه الضمان مطلقاً، وهذا هو المشهور من المذهب، لكن ذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا كان المأمور مميزاً ـ أي: يفهم الخطاب ـ له سبع سنوات أو نحوها، وكان هذا الأمر مما جرت به العادة أن يؤمر مثله فإنه لا ضمان، مثال ذلك: قلتَ لصبي عمره عشر سنوات: اشترِ لي بهذا الدرهم خبزاً، فذهب الصبي، وقدر الله على هذا الصبي أن انزلق في الطريق ومات، أو حصل حريق في المخبز وتلف به هذا الصبي، فظاهر كلام المؤلف أنك ضامن؛ لأنه غير مكلَّف، ولكن بعض أصحاب الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ قالوا: لا ضمان إذا كان ذلك مما جرت به العادة؛ لأنه ما زال الناس منذ عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى يومنا هذا يرسلون المميزين في مثل هذه الأشياء القليلة السهلة، ولا يعدون ذلك عدواناً، وما ترتب على المأذون فليس بمضمون.

وَلَوْ أَنَّ الآمِرَ سُلْطَانٌ، كَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَهُ سُلْطَانٌ أَوْ غَيْرُهُ.
قوله: «ولو أنَّ الآمر سلطان» «لو» إشارة خلاف، فإن بعض أهل العلم يقول: إذا كان الذي أمره أن ينزل البئر، أو يصعد الشجرة سلطان وهلك فعلى السلطان الضمان؛ لأن أمر السلطان لا يسع الإنسان مخالفته، لا سيما إذا كان السلطان من الظلمة الذين إذا خولفوا حبسوا، أو ضربوا، أو ما أشبه ذلك، أما إذا كان السلطان من السلاطين العابدين الذين إذا قلت لهم: لا أستطيع صعود الشجرة لم يُلزمك، فإنه هنا لا وجه لتضمين السلطان؛ لإمكان هذا المأمور أن يقول: لا أستطيع.
والصحيح في مسألة السلطان أنه إذا كان السلطان ممن يخشى شرُّه بحيث إذا أبيت حبسك، أو ضربك، أو هضمك مالاً، أو ظلمك في أهلك، فإن أمره مثل الإكراه، وعلى هذا فيكون ضامناً.
وأما إذا كان السلطان من ذوي العدل والرحمة الذين إذا قلت: لا أستطيع قال: إذن نطلب غيرك، فإنه لا ضمان عليه في هذه الحال؛ لأنه كسائر الناس، فلم يُكرهه.
فإذا كان الآمر هو الضابط في الجيش، أو الشرطة، وقال لأحد الجنود: اصعد عمود الكهرباء هذا وركِّب لنا المصباح، فقال الجندي: لا أستطيع، فقال له الضابط: حاول الصعود، ولم يُكرهه أو يضربه، فصعد الجندي ثم سقط فهنا يضمن الضابط؛ لأن أوامره عند الجنود واجبة الطاعة، ومخالفته توجب العقوبة، من حبسه أو توقيفه أمام الجنود، أو عزله، أو تنزيل رتبته، فالمهم أن هذا يكون كالإكراه.
قوله: «كما لو استأجره سلطان» يعني أن السلطان لو استأجر أحداً ليصعد شجرة، أو ينزل بئراً فهلك به لم يضمنه، وهذا واضح.
والمؤلف هنا قاس ما يشتبه فيه على ما هو واضح، فقال: «كما لو استأجره سلطان» ، ووجه ذلك أنَّ الأمر غير عقد الإجارة، لأن عقد الإجارة الرضى فيه واضح، وليس فيه آمِر ومأمور؛ إذ إنَّه عقد تام بين شخصين برضىً منهما، وليس أحدهما آمراً للآخر، وعدم الضمان فيه ظاهر جداً، فهو كما لو استأجره سلطان على أن يصعد شجرة، أو ينزل بئراً لهلك به فلا ضمان، فكذلك لو أمره، والجامع بينهما هو الرضا وعدم الإكراه في كل منهما، فهنا قاس ما يشتبه فيه على ما لا يشتبه فيه، وقد اشتهر عند العامة التفريق بين الاستئجار وغيره، فقالوا: إن استأجرته فديته أُجرته، وإن نزل تبرعاً فعليك ضمانه، ولكن هذا لا أصل له، ولا فرق بين الأمر وبين الاستئجار، إذا كان الأمر ليس فيه إكراه أو غيره.
قوله: «أو غيره» أي: لو استأجره غير السلطان، فلو استأجرت إنساناً أن يصعد لك شجرة، أو أن ينزل بئراً، فهلك فإنه لا ضمان عليك؛ لأنه فعل ذلك برضاه واختياره.
وبهذا نعرف خطأ تلك القوانين التي قُنِّنَت في بعض الدول، أن العامل لدى الشركات يكون مضموناً بكل حال، حتى لو كان بالغاً عاقلاً مختاراً، وحتى لو كان غير مغرور، بأن عرف عمله وخطره إن كان فيه خطورة، فهذا حكم طاغوتي مخالف لحكم الشريعة، ولا يجوز العمل به، ويجب أن يحكم فيه بمقتضى شريعة الله، فيقال: إن هذا العامل غير مضمون؛ إلاَّ إذا كان مكرهاً على العمل فيكون مضموناً.
فإن قلت: أليس هذا قانوناً دولياً عاماً؟
الجواب: لا، بل القانون الدولي العام هو قانون الله ـ عزّ وجل ـ، وليس لأحد من عباد الله أن يُقنِّن في عباد الله ما ليس في شريعة الله، فالحكم لله ـ عزّ وجل ـ وحده، كما قال تعالى: {{إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ}} [يوسف: 40] ، فأي إنسان يشرع قوانين تخالف شريعة الله فقد اتخذ لنفسه جانباً من الربوبية، وشارك الله ـ تعالى ـ فيما هو من خصائصه، فلا أحد يحكم في عباد الله إلاَّ بما اقتضاه شرع الله، وعلى هذا نقول: إن القانون الدولي العام، والشعبي الإفرادي هو قانون الله عزّ وجل، الذي شرعه لعباده، وكل القوانين سوى ذلك فإنها باطلة؛ لأنها ناقصة وقاصرة، حتى لو اجتمع أذكياء العالم على مشروعيتها فإنها ناقصة قاصرة، لا تفي بأي غرض من الأغراض، وإن وَفَتْ بغرض من جانب هدمت أغراضاً أخرى من جوانب أخرى، وإن قدر أنها تخدم غرضاً من جانب، فإنها لا تخدم هذا الغرض إلا في أناس معينين، وفي مكان معين، وفي زمان معين، أما الأحكام الصالحة لكل زمان ومكان فإنها أحكام الله ـ سبحانه وتعالى ـ، وبهذا نعرف خطورة الذهاب هذا المذهب، وهي أن نسن القوانين الوضعية التي لم يضعها الشرع ونحكم بها عباد الله، ونجعل التحاكم إليها لا إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد نوَّه الله ـ تعالى ـ عن أحوال هؤلاء فقال: {{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ}} [النساء: 60] ، وتأمل كلمة {{يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا}}، فهم في الحقيقة غير مؤمنين، بل هو زعم فقط، والزعم قد يوافق الواقع وقد لا يوافقه، فهم يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك بألسنتهم، لكن قلوبهم على العكس من ذلك لقوله: {{يُرِيدُونَ}} والإرادة محلها القلب {{أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ}}، ولو كانوا صادقين في إيمانهم لكفروا بهذا الطاغوت، ولم يريدوا أن يتحاكموا إليه، {{وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا}}، وعلى هذا فهم موافقون لمراد الشيطان لا لمراد الرحمن {{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ}} أي: إلى الكتاب والسنَّة فلا يُصرِّحون بقولهم: لا، حتى لا يظهر كفرهم، ولكنهم {{يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا}} أي: يعرضون، {{فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقًا *}}، أي: أردنا أن نحسن وأن نوفِّق بين الشريعة والوضيعة، وهل هم صادقون؟ قال سبحانه: {{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا *} {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}} [النساء: 63 ـ 64] لا ليتلاعب بأحكامه وتترك، ويراد التحاكم إلى الطاغوت.
واعلم أنَّ الناس لو جعلوا التحاكم إلى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وحكَّموا الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم في كل شيءٍ لصلحت أحوالهم، ولكنها تفسد بمقدار ما أبعدوا عن الدين، فيظنون أن هذا الفساد بسبب تمسكهم بما تمسكوا به من الدين، فَيُوغِلُون في الإعراض عن دين الله، وعن التحاكم إلى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وهذا هو الواقع، يظنون أن ما أصابهم من الخلل الاقتصادي، والمادي، والتخلف المعنوي، والعسكري، بسبب ما هم عليه من أحكام الشريعة، والحقيقة أنه بسبب ما قاموا به من مخالفة الشريعة، ولو أنهم وافقوا الشريعة، لكانت هذه شريعة الله العادلة القاهرة الغالبة، كما قال تعالى: {{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}} [الصف: 9] {{لِيُظْهِرَهُ}} بمعنى لِيُعْليه، ولسنا بحاجة إلى بيان ذلك؛ لأن هذا معلوم بالتاريخ، فلمَّا كانت الأمة متمسكة بدين الله، لا تقاتل إلاَّ بكتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم مستعينة بالله عزّ وجل، سقطت الأديان والإمبراطوريَّات أمامها، فسقطت النصارى بسقوط الروم «هرقل»، وسقط دين المجوس بسقوط كسرى، وسقط دين المشركين بفتح مكة، فسقطت الأديان كلها، ومَلَكَ المسلمون مشارق الأرض ومغاربها، ولما حصل ما حصل من مخالفة الشريعة تفرَّقت الأمة، وتنازعت، وصار بأسها بينها، وتغلَّب عليها أعداؤها، فصاروا يأتون الأرض ينقصونها من أطرافها، فأخذوا الأندلس، وأخذوا الشام، ومصر، والعراق، وغير ذلك، وكل ذلك بسبب البعد عن شريعة الله، وإننا ندعو إلى الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ونضمن لكل من رجع بصدق وإخلاص في ظاهره وباطنه، في روحه وقالبه، نضمن له أن ينتصر على أعدائه مهما كانت الظروف؛ لأن الله تعالى قال: {{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ }} [غافر:51] بل أبلغ من ذلك أننا نضمن له أن يكون عدوه ـ ولو كان بينه وبينه مسافة شهر ـ راهباً وخائفاً منه، كما قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» [(40)].




[36] رواه أحمد (2/180)، وأبو داود في الصلاة/ باب متى يؤمر الغلام بالصلاة (495) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده به مرفوعاً، وأخرجه الترمذي بلفظ مقارب في الصلاة/ باب ما جاء متى يؤمر الصبي بالصلاة؟ (407) وصححه.
قال النووي: «رواه أبو داود بإسناد حسن»، «الخلاصة» (687).
والحديث صححه: ابن خزيمة، والحاكم، وغيرهما.
[37] أخرجه البخاري في الجمعة/ باب الجمعة في القرى والمدن (893)، ومسلم في الإمارة/ باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر... (1829) (20) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[38] أخرجه مسلم في الحج/ باب حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم (1218) (147) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[39] أخرجه البخاري في العلم/ بابٌ هل يَجْعَلُ للنساء يوماً على حدة في العلم؟ (102) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[40] أخرجه البخاري في التيمم/ باب (335)، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة/ باب المساجد ومواضع الصلاة (521) (3) عن جابر رضي الله عنه، واللفظ للبخاري.

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
مسائل, في

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
متى يجب الإمساك على الصائم، ومتى يحل له الفطر عبد العزيز الداخل دورة أحكام الصيام 0 16 شعبان 1430هـ/7-08-2009م 09:44 AM


الساعة الآن 10:20 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir