رسالة تفسيرية في قوله -تعالى- :" يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم (6) فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره (7) ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره (8) "
و الصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد و على آله وصحبه أجمعين .
بين الله -تعالى- حقيقة المعاد والرجوع إليه و ملاقاة الجزاء بصورة بليغة تصوّر المشهد لمن يتأمل و يتفكر في الآيات ، فيكون ذلك سبباً في الاستعداد لهذا اليوم العظيم .
قال -تعالى- : "يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم " :
حقيقة يصدر الناس الخروج من محل اجتماعهم ، يقال : صدر عن المكان إذا تركه وخرج منه ، ومنه الصدر عن الماء بعد الورد ، و أطلق هنا فعل يصدر على خروج الناس إلى الحشر جماعات متفرقة .
و في لفظ الصدر الذي هو مقابل لفظ الوِرْد - وهو الرجوع من شرب الماء - ، إشارة إلى أن الحياة الدنيا مثل مشهد السقاية فهي أقصر ما تكون ، فالدنيا هي المورد والصدر هنا هو قيام الناس للبعث ، و جاء لفظ "يصدر" دون غيره للدلالة على هذ المعنى ، وهذا يستلزم من الإنسان المسارعة في فعل الطاعات واجتناب المعاصي .
" أشتاتاً " ، أي متفرقين ، وفي هذا المعنى أقوال :
القول الأول : متفرقين بحسب طبقاتهم بيض الوجوه آمنين ، سود الوجوه فزعين .
القول الثاني : متفرقين إلى سعيد وأسعد ، وشقي وأشقى .
القول الثالث : مؤمن وكافر .
فوصف الناس بأنهم متفرقين عند بعثهم أدعى للحيرة والخوف والرهبة ، إذ مع الجماعة يكون الأنس و الإلف ، وهذا لا يتاح مع التفرق ولاسيما في يوم الفزع الأكبر .
" ليروا أعمالهم " ، بُني الفعل إلى النائب ؛ لأن المقصود رؤيتهم أعمالهم لا تعين من يريهم إياها .
فالناس سيرون منازل الجزاء على أعمالهم ، فالأعمال لا تُرى ولكن يظهر لأهلها جزاؤها ، فحين يأتي المحسن بحسناته وأعماله الطيبة سيراها متمثلة في نعيم الجنة وملذاتها ، بخلاف أهل الذنوب والمعاصي فإن أعمالهم ستتجسد أمامهم في صورة عذاب .
" فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " ، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة يعطى بها في الدنيا ، و يجزى بها في الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا ، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يُجزى بها " صحيح مسلم .
" مَن " ، الظاهر أنها عامة للمؤمن والكافر .
و الآيتين فيها تفصيل لمعنى " ليروا " ، فالذرة هي : النملة الصغيرة الرقيقة ، وقيل : الذر ما يُرى في شعاع الشمس من الهباء . فالمعنى واضح واحد في أقل القلة ، فلو كان العمل مثقال ذرة ، أي ثقله أخف الخفيف فإنه سيُرى يوم القيامة .
و في تقديم عمل الخير دلالة على شرفه و مكانته .
أما في إعادة القول وتكرير أداة الشرط " و من " دون الاكتفاء بحرف العطف " و" يقتضي التغاير بين العاملين ؛ لتكون كل جملة مستقلة الدلالة علي المراد ، ففي الأولى غرضها الترغيب ، والثانية غرضها الترهيب ، فكان من المهم التصريح والإطناب في هذا الموضع .
"نسأل الله -تعالى- أن يرجعنا إليه و هو راضٍ عنا إنه على كل شيء قدير "
-وصلّ اللهم و سلم على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين - .
(التحرير و التنوير ، 1984م) ( روح المعاني ، 1415 هـ)