القارئ: الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد , وعلى آله وصحبه أجمعين . قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:
كتاب اللباس
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تلبسوا الحرير؛ فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة)) .
وعن حذيفة رضي الله عنه , قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تلبسوا الحرير , ولا الديباج , ولا تشربوا في آنية الذهب والفضَّة , ولا تأكلوا في صحافها ؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة .
الشيخ: هذا كتاب اللباس , في هذا الكتاب الذي جعله في الأحكام (عمدة الأحكام من أحاديث خير الأنام) , لما ذكر الأطعمة ذكر بعدها الأكسية ؛ وذلك لأن الجميع مما يحتاج إليه , ولأن اللباس من جملة ما أنعم الله به ومنَّ به على المسلمين , بل على الأمة جميعا , قال الله تعالى: {يا بنيآدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا} , فقسم اللباس إلى قسمين: قسم يستر به الإنسان العورة والسوءة , وقسم يكون رياشا , يعني جمالا وزينة . وكلها مما أنعم الله به , وامتن به على العباد , وإن كان ذلك من جملة ما ينسجونه ويعملونه , ولكن هو الذي أخرج لهم الأصل الذي هو مادة هذه الأكسية وهذه الألبسة , هو الذي امتن عليهم بهذا الشجر , الذي يخرج منه هذا القطن ونحوه , وامتن عليهم أيضا بهذه الأنعام , التي ينسجون منها هذه الأصواف وهذه الأكسية ونحوها . وامتن عليهم بالمواد التي يصنعون وينسجون منها هذه الأكسية.
الأصل في اللباس أنه على الإباحةس , أن الإنسان يلبس ما تيسر له , لكن وردت الشريعة بمنع اللباس لبعض الأنسجة , ولبعض الأكسية , وأنها لا يجوز لبسها , وعلل ذلك بعلل , فمن جملتها لبس الحرير للرجال . في هذا الحديث النهي الصريح من النبي صلى الله عليه وسلم أن يلبس الرجال الحرير , ويخبر بأن .. بأن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة.
الحرير معروف أنه لباس ينسج من .. أو يؤخذ من نسيج دود القز . هذا الدود دود صغير يتوالد , ويكون مما يتولد منه هذا النسيج الذي ينسجه حتى يجعل له أماكن يكتن بها , ويختفي فيها , ويخفي فيها نفسه وبيضه وبذره . كما تعرفون أن العنكبوت له أيضا نسج , وإن كان نسيج العنكبوت ليس مثل دود القز , بل واه لقوله تعالى: {وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون} , فكما أن العنكبوت تنسج ولها نسيج , فكذلك دود القز , يؤخذ من نسيج دود القز هذا النسيج , فيعمل منه هذا الحرير .
وإذا نسج هذا الحرير فإنه لرقته ونعومته وملوسته يكون ملبسا منعما , يفتخر به من يلبسه , وينعم به , فلذلك جاءت الأحاديث بالنهي عنه للرجال ؛ لما فيه من النعومة . وأبيح للنساء ؛ لحاجة النساء إلى الجمال وإلى الزينة , فهذا هو السر في النهي عنه . بعد الأذان نكمل إن شاء الله .
تكاثرت الأحاديث في نهي الرجال عن لبس الحرير , وورد الإذن فيه في بعض الأماكن والأحوال , ففي حديث آخر أن بعض الصحابة اشتكوا حكَّةً في أجسادهم , ولم يناسبهم إلا الحرير , فرخص لهم في لبس الحرير ؛ لأجل تلك الحكة. فأخذوا من ذلك أنه يجوز للعذر كحكة مثلا وجرب ونحوه .
وورد أيضا الرخصة في الشيء اليسير منه , ومثلوا بسجف الفراء , الفرو المعروف قد تحتاج حافاته إلى أن تخاط بقطع من الحرير , وكذلك إذا كانت الرقعة التي يرقع بها الثوب يسيرة من الحرير قدر أربع أصابع أو أقل , وكذلك إذا كان الحرير ليس ظاهرا , وإنما هو أسلاك خفية , وهو ما يسمى بالسداء , إذا لم يكن ظاهرا .
في هذه الأزمنة يظهر , أو يوجد بعض الأكسية تسمى حريرا , ولكنها ليست حريرا أصليا , وإنما هي حرير صناعي كسائر الصناعات التي قلدت بها الأكسية الأصلية , فإذا وجدت هذه الأكسية , ولم تكن حريرا أصلا , وإنما هي صناعة مقلدة لذلك الحرير الأصلي , فالأصل الإباحة ؛ لأن النهي إنما ورد عن الحرير الذي هو من نسج دود القز ونحوه .
أما بقية ما في الحديث ذكر فيه أن: ((من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة)) . الله تعالى قد ذكر ثواب أهل الجنة في قوله تعالى: {ولباسهم فيها حرير} , فجعل هذا اللباس الرقيق الناعم هو لباس وكسوة أهل الجنة . أخبر النبي عليه السلام بأن: ((من تعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه)) . فمن تعجل هذا اللباس , الذي هو الحرير , وأخذه في الدنيا , كان من عقوبته أن يحرمه في الآخرة . وفي ذلك وعيد شديد , فقيل: إن المراد أنه يحرم دخول الجنة ؛ وذلك لأن من دخل الجنة فإنه يتنعم بنعيمها , ولا يحرم شيئا من لذاتها التي يتمتع بها أهلها , فإذا لم يلبسه دل على أنه ليس من أهل الجنة . وقيل: إنه وإن دخل الجنة , فإنه يكون في موضع لا يلبس أهلها , أو أهل ذلك المكان , من لباس أهل الجنة الذي أعد لهم , بل يلبسون غيره , مما يتنعمون به أو يتجملون به .
وفي الحديث النهي أيضا عن استعمال أواني الذهب والفضة في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تأكلوا في آنية الذهب والفضة , ولا تشربوا في صحافهما ؛ فإنها لهم في الدنيا , ولكم في الآخرة)) . وأراد بذلك النهي الأكيد عن استعمال هذه الأواني التي صنعت من الذهب , أو من الفضة , استعمالها في الطبخ فيها أو الأكل فيها كصحيفة . الصحاف: هي التي توضع فيها الأطعمة , الأكل فيها كصحفة , أو الاستعمال لها في شرب , أو في طهارة أو نحو ذلك , سواء كانت مماصنع من الذهب , أو مماصنع من الفضة ؛ وذلك لأن في ذلك كسر لقلوب الفقراء , إذا رأوا هؤلاء الأثرياء يشربون ويأكلون في أواني من ذهب , أو أواني من فضة , وهم يعوزهم لقمة العيش , ويعوزهم ستر العورة , لا يجدون ذلك إلا قليلا , وهؤلاء قد زادوا إلى هذا الحد , كان في ذلك كسرا لقلوب الفقراء , والمسلم مأمور بأن يساوي إخوته , ولا يستعمل ما يضرهم , ولا ما يسيء إليهم.
فهذا من الأسباب . أو أن في ذلك إسرافا , فإن ما دام أن هناك ما يقوم مقامها من الأواني , أواني النحاس , أواني الصفر , أواني الحديد , أواني المعادن الأخرى , قائمة مقامها , فلا حاجة إلى أن تُجعل في هذه الأواني بأي نوع من أنواع الاستعمال .
فلا شك أن هذا هو الأقرب , أن العلة في ذلك ما فيها من الإسراف والبذخ , والغرور , والمباهاة , والفخر , الافتخار بأنه يتمتع بكذا وكذا .
ويعم ذلك أيضا كل إسراف في استعمال شيء من الآلات , التي فيها أو في ثمنها ارتفاع زائد , وإفساد للمال ؛ وذلك لأنه يوجد من هو بحاجةٍ إلى هذا المال الزائد . وعلى كل حال علل في هذا بقوله: ((فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة)) . أي: أن استعمال هذه الأوانيلفارس والروم ، واليهود والنصارى والمشركين , ومن شابههم ، يتمتعون بها في الدنيا ، ويحرمون منها في الآخرة، أنتم أيها المؤمنون الذين تدخلون الجنة تتنعمون بها ، وتلبسون ما تشاؤون من الثياب فيها بالرقة والنعيم ، وتأكلون فيما تشاؤون من هذه الصحافالتي فيها هذه الأواني ونحوها .
ورد في بعض الأحاديث أنَّ الله تعالى خلق الجنة مائة درجة , يعني مائة دورٍ من الأدوار ، أن درجة منها من ذهب: آنيتها وأوانيها وأبنيتها وبلاطها ، وكل ما فيها . ودرجة أخرى من فضة: آنيتها وفرشها وبلاطها وأبنيتها , ودرجة ثالثة من اللؤلؤ وكل ما فيها . وبقية الدرجات فيها ما لا عين رأت , ولا أذن سمعت , ولا خطر على قلب بشر . فالمؤمن يطلب ذلك الثواب ، ويترك ما يكون سببا في حرمانه من هذا الثواب .