دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > دروس التفسير لبرنامج إعداد المفسّر > دروس تفسير جزء قد سمع

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 10 ذو القعدة 1436هـ/24-08-2015م, 08:25 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي تفسير سورة الطلاق [ من الآية (1) إلى الآية (3) ]

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) }

تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) )
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {يا أيّها النّبيّ إذا طلّقتم النّساء فطلّقوهنّ لعدّتهنّ وأحصوا العدّة واتّقوا اللّه ربّكم لا تخرجوهنّ من بيوتهنّ ولا يخرجن إلّا أن يأتين بفاحشةٍ مبيّنةٍ وتلك حدود اللّه ومن يتعدّ حدود اللّه فقد ظلم نفسه لا تدري لعلّ اللّه يحدث بعد ذلك أمرًا (1) }
خوطب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أوّلًا تشريفًا وتكريمًا، ثمّ خاطب الأمّة تبعًا فقال:
{يا أيّها النّبيّ إذا طلّقتم النّساء فطلّقوهنّ لعدّتهنّ}
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا محمّد بن ثواب بن سعيدٍ الهباريّ، حدّثنا أسباط بن محمّدٍ، عن سعيدٍ، عن قتادة، عن أنسٍ قال: طلّق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حفصة، فأتت أهلها، فأنزل اللّه، عزّ وجلّ:
{يا أيّها النّبيّ إذا طلّقتم النّساء فطلّقوهنّ لعدّتهنّ} فقيل له: راجعها فإنّها صوّامةٌ قوّامةٌ، وهي من أزواجك ونسائك في الجنّة.
ورواه ابن جريرٍ، عن ابن بشّارٍ، عن عبد الأعلى، عن سعيدٍ، عن قتادة = فذكره مرسلًا وقد ورد من غير وجهٍ: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم طلّق حفصة ثمّ راجعها.
وقال البخاريّ: حدّثنا يحيى بن بكير، حدّثنا اللّيث وعقيلٌ، عن ابن شهابٍ، أخبرني سالمٌ: أنّ عبد اللّه بن عمر أخبره: أنّه طلّق امرأةً له وهي حائضٌ، فذكر عمر لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فتغيّظ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثمّ قال: "ليراجعها، ثمّ يمسكها حتّى تطهر، ثمّ تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلّقها فليطلّقها طاهرًا قبل أن يمسّها، فتلك العدّة الّتي أمر اللّه، عزّ وجلّ"
هكذا رواه البخاريّ هاهنا وقد رواه في مواضع من كتابه، ومسلمٌ، ولفظه: "فتلك العدّة الّتي أمر اللّه أن يطلّق لها النّساء"
ورواه أصحاب الكتب والمسانيد من طرقٍ متعدّدةٍ وألفاظٍ كثيرةٍ ومواضع استقصائها كتب الأحكام.
وأمسّ لفظٍ يورد ها هنا ما رواه مسلمٌ في صحيحه، من طريق ابن جريج: أخبرني أبو الزّبير: أنّه سمع عبد الرّحمن بن أيمن -مولى عزة يسأل ابن عمر-وأبو الزّبير يسمع ذلك: كيف ترى في رجلٍ طلّق امرأته حائضًا؟ فقال: طلّق ابن عمر امرأته حائضًا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فسأل عمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: إنّ عبد اللّه بن عمر طلّق امرأته وهي حائضٌ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "ليراجعها" فردّها، وقال: "إذا طهرت فليطلّق أو يمسك". قال ابن عمر: وقرأ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم:
{يا أيّها النّبيّ إذا طلّقتم النّساء فطلّقوهنّ لعدّتهنّ}.
وقال الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن عبد الرّحمن بن يزيد، عن عبد اللّه في قوله:
{فطلّقوهنّ لعدّتهنّ} قال: الطّهر من غير جماعٍ وروي عن ابن عمر وعطاءٍ، ومجاهدٍ، والحسن، وابن سيرين، وقتادة، وميمون بن مهران، ومقاتل بن حيّان مثل ذلك، وهو روايةٌ عن عكرمة، والضّحّاك.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ في قوله تعالى:
{فطلّقوهنّ لعدّتهنّ} قال: لا يطلّقها وهي حائضٌ ولا في طهرٍ قد جامعها فيه، ولكن: تتركها حتّى إذا حاضت وطهرت طلّقها تطليقةً.
وقال عكرمة:
{فطلّقوهنّ لعدّتهنّ} العدّة: الطّهر، والقرء الحيضة، أن يطلّقها حبلى مستبينًا حملها، ولا يطلّقها وقد طاف عليها، ولا يدري حبلى هي أم لا.
ومن ها هنا أخذ الفقهاء أحكام الطّلاق وقسّموه إلى طلاق سنّةٍ وطلاق بدعةٍ، فطلاق السّنّة: أن يطلّقها طاهرًا من غير جماعٍ، أو حاملًا قد استبان حملها. والبدعيّ: هو أن يطلّقها في حال الحيض، أو في طهرٍ قد جامعها فيه، ولا يدري أحملت أم لا؟ وطلاقٌ ثالثٌ لا سنّة فيه ولا بدعة، وهو طلاق الصّغيرة والآيسة، وغير المدخول بها، وتحرير الكلام في ذلك وما يتعلّق به مستقصًى في كتب الفروع، واللّه سبحانه وتعالى أعلم.
وقوله
{وأحصوا العدّة} أي: احفظوها واعرفوا ابتداءها وانتهاءها؛ لئلّا تطول العدّة على المرأة فتمتنع من الأزواج. {واتّقوا اللّه ربّكم} أي: في ذلك.
وقوله:
{لا تخرجوهنّ من بيوتهنّ ولا يخرجن} أي: في مدّة العدّة لها حقّ السّكنى على الزّوج ما دامت معتدّةً منه، فليس للرّجل أن يخرجها، ولا يجوز لها أيضًا الخروج لأنّها معتقلةٌ لحقّ الزّوج أيضًا.
وقوله:
{إلا أن يأتين بفاحشةٍ مبيّنةٍ} أي: لا يخرجن من بيوتهنّ إلّا أن ترتكب المرأة فاحشةً مبيّنةً، فتخرج من المنزل، والفاحشة المبيّنة تشمل الزّنا، كما قاله ابن مسعودٍ، وابن عبّاسٍ، وسعيد بن المسيّب، والشّعبيّ، والحسن، وابن سيرين، ومجاهدٌ، وعكرمة، وسعيد بن جبيرٍ، وأبو قلابة، وأبو صالحٍ، والضّحّاك، وزيد بن أسلم، وعطاءٌ الخراساني، والسّدّي، وسعيد بن أبي هلال، وغيرهم وتشمل ماذا نشزت المرأة أو بذت على أهل الرّجل وآذتهم في الكلام والفعال، كما قاله أبيّ بن كعبٍ، وابن عبّاسٍ، وعكرمة، وغيرهم.
وقوله:
{وتلك حدود اللّه} أي: شرائعه ومحارمه {ومن يتعدّ حدود اللّه} أي: يخرج عنها ويتجاوزها إلى غيرها ولا يأتمر بها {فقد ظلم نفسه} أي: بفعل ذلك.
وقوله:
{لا تدري لعلّ اللّه يحدث بعد ذلك أمرًا} أي: إنّما أبقينا المطلّقة في منزل الزّوج في مدّة العدّة، لعلّ الزّوج يندم على طلاقها ويخلق اللّه في قلبه رجعتها، فيكون ذلك أيسر وأسهل.
قال الزّهريّ، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه، عن فاطمة بنت قيسٍ في قوله:
{لا تدري لعلّ اللّه يحدث بعد ذلك أمرًا} قال: هي الرّجعة. وكذا قال الشعبي، وعطاء، وقتادة، والضحاك، ومقاتل ابن حيان، والثوري. ومن هاهنا ذهب من ذهب من السّلف ومن تابعهم، كالإمام أحمد بن حنبلٍ، رحمه اللّه تعالى إلى أنّه لا تجب السّكنى للمبتوتة، وكذا المتوفّى عنها زوجها، واعتمدوا أيضًا على حديث فاطمة بنت قيسٍ الفهريّة، حين طلّقها زوجها أبو عمرو بن حفصٍ آخر ثلاث تطليقاتٍ، وكان غائبًا عنها باليمن، فأرسل إليها بذلك، فأرسل إليها وكيله بشعيرٍ -[يعني] نفقةً-فتسخّطته فقال: واللّه ليس لك علينا نفقةٌ. فأتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: "ليس لك عليه نفقةٌ". ولمسلمٍ: ولا سكنى، وأمرها أن تعتدّ في بيت أمّ شريكٍ، ثمّ قال: "تلك امرأةٌ يغشاها أصحابي، اعتدّي عند ابن أمّ مكتومٍ، فإنّه رجلٌ أعمى تضعين ثيابك" الحديث
وقد رواه الإمام أحمد من طريقٍ أخرى بلفظٍ آخر، فقال:
حدّثنا يحيى بن سعيدٍ، حدّثنا مجالدٌ، حدّثنا عامرٌ قال: قدمت المدينة فأتيت فاطمة بنت قيسٍ، فحدّثتني أنّ زوجها طلّقها على عهد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فبعثة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في سرية. قالت: فقال لي أخوه: اخرجي من الدّار. فقلت: إنّ لي نفقةً وسكنى حتّى يحلّ الأجل. قال: لا. قالت: فأتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقلت: إنّ فلانًا طلّقني، وإنّ أخاه أخرجني ومنعني السّكنى والنّفقة، [فأرسل إليه] فقال: "ما لك ولابنة آل قيسٍ"، قال: يا رسول اللّه، إنّ أخي طلّقها ثلاثًا جميعًا. قالت: فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "انظري يا بنت آل قيسٍ، إنّما النّفقة والسّكنى للمرأة على زوجها ما كان له عليها رجعةٌ، فإذا لم يكن له عليها رجعةٌ فلا نفقة ولا سكنى. اخرجي فانزلي على فلانةٍ". ثمّ قال: "إنّه يتحدّث إليها، انزلي على ابن أمّ مكتومٍ، فإنّه أعمى لا يراك" وذكر تمام الحديث
وقال أبو القاسم الطّبرانيّ: حدّثنا أحمد بن عبد اللّه البزّار التّستريّ، حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الصّوّاف، حدّثنا بكر بن بكّارٍ، حدّثنا سعيد بن يزيد البجليّ، حدّثنا عامرٌ الشّعبيّ: أنّه دخل على فاطمة بنت قيسٍ أخت الضّحّاك بن قيسٍ القرشيّ، وزوجها أبو عمرو بن حفص بن المغيرة المخزوميّ فقالت: إنّ أبا عمرو بن حفصٍ أرسل إليّ وهو منطلقٌ في جيشٍ إلى اليمن بطلاقي، فسألت أولياءه النّفقة عليّ والسّكنى، فقالوا: ما أرسل إلينا في ذلك شيئًا، ولا أوصانا به. فانطلقت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقلت: يا رسول اللّه، إنّ أبا عمرو بن حفصٍ أرسل إليّ بطلاقي، فطلبت السّكنى والنّفقة عليّ، فقال: أولياؤه: لم يرسل إلينا في ذلك بشيءٍ. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّما النّفقة والسّكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها رجعةٌ، فإذا كانت لا تحلّ له حتّى تنكح زوجًا غيره فلا نفقة لها ولا سكنى".
وكذا رواه النّسائيّ عن أحمد بن يحيى الصّوفيّ، عن أبي نعيمٍ الفضل بن دكين، عن سعيد بن يزيد وهو الأحمسيّ البجلي الكوفيّ. قال أبو حاتمٍ الرّازيّ: وهو شيخٌ، يروي عنه).
[تفسير القرآن العظيم: 8/142-145]

قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : ( (1) يقولُ تعالى مُخاطِباً لنَبِيِّه محمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ وللمُؤمنِينَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}؛ أيْ: إذا أَرَدْتُم طَلاقَهُنَّ {فـ} الْتَمِسُوا لطَلاقِهِنَّ الأمْرَ المَشروعَ، ولا تُبَادِرُوا بالطلاقِ مِن حينِ يُوجَدُ سببُه مِن غيرِ مُراعاةٍ لأمْرِ اللَّهِ، بل {طَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}؛ أيْ: لأجْلِ عِدَّتِهِنَّ، بأنْ يُطَلِّقَها زَوْجُها وهي طاهرٌ في طُهْرٍ لم يُجامِعْها فيه.
فهذا الطلاقُ هو الذي تكونُ العِدَّةُ فيه واضحةً بَيِّنَةً، بخِلافِ ما لو طَلَّقَها وهي حائضٌ؛ فإِنَّها لا تُحْتَسَبُ تلك الْحَيْضَةُ التي وَقَعَ فيها الطلاقُ، وتَطُولُ عليها العِدَّةُ بسببِ ذلك.
وكذلك لو طَلَّقَها في طُهْرٍ وَطِئَ فيه؛ فإنَّه لا يُؤْمَنُ حَمْلُها، فلا يَتَبيَّنُ ولا يَتَّضِحُ بأيِّ عِدَّةٍ تَعْتَدُّ.
وأمَرَ تعالى بإحصاءِ العِدَّةِ؛ أيْ: ضَبْطِها بالحِيَضِ إنْ كانَتْ تَحِيضُ، أو بالأَشْهُرِ إنْ لم تَكُنْ تَحِيضُ وليسَتْ حامِلاً؛ فإنَّ في إحصائِها أداءً لِحَقِّ اللَّهِ، وحقِّ الزوجِ المُطلِّقِ، وحَقِّ مَن سيَتزَوَّجُها بعدُ، وحَقِّها في النَّفَقَةِ ونَحْوِها.
فإذا ضَبَطَتْ عِدَّتَها، عَلِمَتْ حالَها على بصيرةٍ، وعُلِمَ ما يَترتَّبُ عليها مِن الحُقوقِ وما لها منها.
وهذا الأمرُ بإحصاءِ العِدَّةَ يَتَوَجَّهُ للزوْجِ وللمرأةِ إنْ كانَتْ مُكلَّفَةً، وإلاَّ فلِوَلِيِّها.
(1) وقولُه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ}؛ أيْ: في جميعِ أُمُورِكم، وخافُوهُ في حقِّ الزَّوْجاتِ الْمُطَلَّقَاتِ.
فـ {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} مُدَّةَ العِدَّةِ، بل تَلْزَمُ بيتَها الذي طَلَّقَها زوجُها وهي فيه.
{وَلاَ يَخْرُجْنَ}؛ أيْ: لا يَجُوزُ لَهُنَّ الخروجُ منها.
أمَّا النهْيُ عن إخراجِها؛ فلأنَّ الْمَسْكَنَ يَجِبُ على الزوْجِ للزوجةِ لِتَسْتَكْمِلَ فيه عِدَّتَها التي هي حقٌّ مِن حُقوقِه، وأمَّا النهْيُ عن خروجِها؛ فلِمَا في خُرُوجِها مِن إضاعةِ حَقِّ الزوْجِ وعَدَمِ صَوْنِه.
ويَستمِرُّ هذا النهْيُ عن الخروجِ مِن البيوتِ والإخراجِ إلى تَمامِ العِدَّةِ, {إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}؛ أيْ: بأمْرٍ قَبيحٍ واضحٍ موجِبٍ لإخراجِها؛ بحيثُ يَدخُلُ على أهلِ البيتِ الضَّرَرُ مِن عدَمِ إخراجِها؛ كالأَذَى بالأقوالِ والأفعالِ الفاحشةِ؛ ففي هذه الحالِ يَجوزُ لهم إخراجُها؛ لأنَّها هي التي تَسبَّبَتْ لإخراجِ نفْسِها، والإسكانُ فيه جَبْرٌ لِخَاطِرِها ورِفْقٌ بها، فهي التي أَدخَلَتِ الضَّرَرَ عليها.
وهذا في الْمُعْتَدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ، وأمَّا البائِنُ فليسَ لها سُكْنَى وَاجبةٌ؛ لأنَّ السُّكْنَى تَبَعٌ للنَّفَقةِ، والنَّفَقةُ تَجِبُ للرَّجْعِيَّةِ دُونَ البائِنِ.
{وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ}؛ أي: التي حَدَّهَا لعِبادِه وشَرَعَها لهم، وأمَرَهم بلزُومِها والوقوفِ معَها.
{وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ} بأنْ لم يَقِفْ معَها، بل تَجَاوَزَها أو قَصَّرَ عنها {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}؛ أيْ: بَخَسَها حَقَّها، وأضاعَ نَصيبَه مِن اتِّباعِ حُدودِ اللَّهِ التي هي الصلاحُ في الدنيا والآخِرةِ.
{لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً}؛ أيْ: شَرَعَ اللَّهُ العِدَّةَ، وحَدَّدَ الطلاقَ بها لِحِكَمٍ عَظيمةٍ:
فمِنها: أنَّه لعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ في قَلْبِ الْمُطَلِّقِ الرحمةَ والموَدَّةَ، فيُراجِعُ مَن طَلَّقَها، ويَستأنِفُ عِشْرَتَها، فيَتمكَّنُ مِن ذلك مُدَّةَ العِدَّةِ.
أو لعلَّهُ يُطَلِّقُها لسبَبٍ منها فيَزولُ ذلك السببُ في مُدَّةِ العِدَّةِ، فيُرَاجِعُها؛ لانتفاءِ سببِ الطلاقِ.
ومِن الْحِكَمِ أنَّها مُدَّةُ التربُّصِ, يُعْلَمُ بَراءَةُ رَحِمِها مِن زَوْجِها). [تيسير الكريم الرحمن: 869-870]
قالَ مُحَمَّدُ سُلَيْمَان الأَشْقَرُ (1430هـ) : (1- {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} نادَى النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أوَّلاً تَشريفاً له، ثم خاطَبَه مع أُمَّتِه.
والمعنى: إِذَا أَرَدْتُمْ تَطلِيقَهُنَّ وعَزَمْتُم عليه.
{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أيْ: مُستَقْبِلاتٍ لعِدَّتِهِنَّ، أو في قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ، والمرادُ أنْ يُطَلِّقُوهُنَّ في طُهْرٍ لم يَقَعْ فيه جِماعٌ، ثم يُتْرَكْنَ حتى تَنقضِيَ عِدَّتُهُنَّ، فإذا طَلَّقُوهن هكذا فقَدْ طَلَّقُوهن لعِدَّتِهِنَّ.
أخْرَجَ البخاريُّ ومسلِمٌ وغيرُهما عن ابنِ عمرَ: أنه طَلَّقَ امرأتَه وهي حائضٌ، فذَكَرَ ذلك عمرُ لرسولِ اللهِ فتَغَيَّظَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ثم قالَ: ((لِيُرَاجِعْهَا ثُمَّ يُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ وَتَطْهُرَ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَن يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا طَاهِراً قَبْلَ أَن يَمَسَّهَا، فتِلكَ العِدَّةُ التي أمَرَ اللهُ أنْ يُطَلَّقَ لها النساءُ)). {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} أي: احْفَظُوهَا واحفَظُوا الوقتَ الذي وقَعَ فيه الطلاقُ حتى تَتِمَّ العِدَّةُ، وهي ثلاثةُ قُروءٍ، والْخِطابُ للأزواجِ.
{وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ} فلا تَعْصُوهُ فيما أمَرَكم ولا تُضَارُّوهُنَّ؛ {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ} أي: التي كُنَّ فيها عندَ الطلاقِ ما دُمْنَ في العِدَّةِ, وأضافَ البيوتَ إليهنَّ لبيانِ كمالِ استحقاقِهِنَّ للسُّكْنَى في مُدَّةِ العِدَّةِ، ونَهَى الزوجاتِ عن الخروجِ أيضاً فقالَ: {وَلاَ يَخْرُجْنَ} أيْ: لا يَخْرُجْنَ مِن تلك البيوتِ ما دُمْنَ في العِدَّةِ، أيْ: إلاَّ لأمْرٍ ضَروريٍّ لا غِنَى عنه.
{إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} أيْ: لا تُخْرِجوهنَّ مِن بُيوتِهِنَّإلاَّ إذا فَعَلْنَ فاحشةَ الزِّنَى.
وقيلَ: هي البَذاءةُ في اللسانِ، والاستطالةُ بها على مَن هو ساكنٌ معها في ذلك البيتِ.
{وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ} والمعنى: أنَّ هذه الأحكامَ التي بَيَّنَها لعِبادِه هي حُدودُه التي حَدَّها لهم، لا يَحِلُّ لهم أنْ يَتجاوَزُوها إلى غيرِها.
{وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} بإيرادِها مَوْرِدَ الهلاكِ.
{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} أيْ: لعَلَّها إذا بَقِيَتْ في بَيْتِها أنْ يُؤَلِّفَ اللهُ بينَ قُلوبِهما فيَتَرَاجَعا). [زبدة التفسير: 557-558]


تفسير قوله تعالى: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) )
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {فإذا بلغن أجلهنّ فأمسكوهنّ بمعروفٍ أو فارقوهنّ بمعروفٍ وأشهدوا ذوي عدلٍ منكم وأقيموا الشّهادة للّه ذلكم يوعظ به من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر ومن يتّق اللّه يجعل له مخرجًا (2) ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكّل على اللّه فهو حسبه إنّ اللّه بالغ أمره قد جعل اللّه لكلّ شيءٍ قدرًا (3) }
يقول تعالى: فإذا بلغت المعتدّات أجلّهنّ، أي: شارفن على انقضاء العدّة وقاربن ذلك، ولكن لم تفرغ العدّة بالكلّيّة، فحينئذٍ إمّا أن يعزم الزّوج على إمساكها، وهو رجعتها إلى عصمة نكاحه والاستمرار بها على ما كانت عليه عنده.
{بمعروفٍ} أي: محسنًا إليها في صحبتها، وإمّا أن يعزم على مفارقتها {بمعروفٍ} أي: من غير مقابحةٍ ولا مشاتمةٍ ولا تعنيفٍ، بل يطلّقها على وجهٍ جميلٍ وسبيلٍ حسنٍ.
وقوله:
{وأشهدوا ذوي عدلٍ منكم} أي: على الرّجعة إذا عزمتم عليها، كما رواه أبو داود وابن ماجه، عن عمران بن حصين: أنّه سئل عن الرّجل يطلّق امرأته ثمّ يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال: طلّقت لغير سنّةٍ، ورجعت لغير سنة، وأشهد على طلاقها وعلى رجعتها، ولا تعد
وقال ابن جريجٍ: كان عطاءٌ يقول:
{وأشهدوا ذوي عدلٍ منكم} قال: لا يجوز في نكاحٍ ولا طلاقٍ ولا رجاعٍ إلّا شاهدا عدلٍ، كما قال اللّه، عزّ وجلّ، إلّا أن يكون من عذرٍ.
وقوله:
{ذلكم يوعظ به من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر} أي: هذا الّذي أمرناكم به من الإشهاد وإقامة الشّهادة، إنّما يأتمر به من يؤمن باللّه وأنّه شرّع هذا، ومن يخاف عقاب اللّه في الدار الآخرة.
ومن ها هنا ذهب الشّافعيّ -في أحد قوليه-إلى وجوب الإشهاد في الرّجعة، كما يجب عنده في ابتداء النّكاح. وقد قال بهذا طائفةٌ من العلماء، ومن قال بهذا يقول: إنّ الرّجعة لا تصحّ إلّا بالقول ليقع الإشهاد عليها).
[تفسير القرآن العظيم: 8/145-146]

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {ومن يتّق اللّه يجعل له مخرجًا (2) ويرزقه من حيث لا يحتسب} أي: ومن يتّق اللّه فيما أمره به، وترك ما نهاه عنه، يجعل له من أمره مخرجًا، ويرزقه من حيث لا يحتسب، أي: من جهةٍ لا تخطر بباله.
قال الإمام أحمد: حدّثنا يزيد، أخبرنا كهمس بن الحسن، حدّثنا أبو السّليل، عن أبي ذرٍّ قال: جعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يتلو عليّ هذه الآية:
{ومن يتّق اللّه يجعل له مخرجًا (2) ويرزقه من حيث لا يحتسب} حتّى فرغ من الآية، ثمّ قال: "يا أبا ذرٍّ، لو أنّ النّاس كلّهم أخذوا بها كفتهم". وقال: فجعل يتلوها ويرددها عليّ حتّى نعست، ثمّ قال: "يا أبا ذرٍّ، كيف تصنع إن أخرجت من المدينة؟. "قلت: إلى السّعة والدّعة أنطلق، فأكون حمامةً من حمام مكّة. قال: "كيف تصنع إن أخرجت من مكّة؟ ". قال: قلت: إلى السّعة والدّعة، وإلى الشّام والأرض المقدّسة. قال: "وكيف تصنع إن أخرجت من الشّام؟ ". قلت: إذًا -والّذي بعثك بالحقّ -أضع سيفي على عاتقي. قال: "أوخيرٌ من ذلك؟ ". قلت: أوخيرٌ من ذلك؟ قال: "تسمع وتطيع، وإن كان عبدًا حبشيًّا".

وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أحمد بن منصورٍ الرّماديّ، حدّثنا يعلى بن عبيدٍ، حدّثنا زكريّا، عن عامرٍ، عن شتير بن شكل قال: سمعت عبد اللّه بن مسعودٍ يقول: إنّ أجمع آيةٍ في القرآن: {إنّ اللّه يأمر بالعدل والإحسان} [النّحل: 90] وإنّ أكثر آيةٍ في القرآن فرجًا: {ومن يتّق اللّه يجعل له مخرجًا}
وفي المسند: حدّثني مهديّ بن جعفرٍ، حدّثنا الوليد بن مسلمٍ، عن الحكم بن مصعبٍ، عن محمّد بن عليّ بن عبد اللّه بن عبّاسٍ، عن أبيه، عن جدّه عبد اللّه بن عبّاسٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من أكثر من الاستغفار جعل اللّه له من كلّ همٍّ فرجًا، ومن كلّ ضيقٍ مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب"
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {ومن يتّق اللّه يجعل له مخرجًا} يقول: ينجيه من كلّ كربٍ في الدّنيا والآخرة، {ويرزقه من حيث لا يحتسب}
وقال الرّبيع بن خثيمٍ: {يجعل له مخرجًا} أي: من كلّ شيءٍ ضاق على النّاس.
وقال عكرمة: من طلّق كما أمره اللّه يجعل له مخرجًا. وكذا روي عن ابن عباس، والضحاك.
وقال ابن مسعودٍ، ومسروقٌ: {ومن يتّق اللّه يجعل له مخرجًا} يعلم أنّ اللّه إن شاء منع، وإن شاء أعطى {من حيث لا يحتسب} أي من حيث لا يدري.
وقال قتادة: {ومن يتّق اللّه يجعل له مخرجًا} أي: من شبهات الأمور والكرب عند الموت، {ويرزقه من حيث لا يحتسب} ومن حيث لا يرجو أو لا يأمل.
وقال السّدّيّ: {ومن يتّق اللّه} يطلّق للسّنّة، ويراجع للسّنّة، وزعم أنّ رجلًا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقال له: "عوف بن مالكٍ الأشجعيّ" كان له ابنٌ، وأنّ المشركين أسروه، فكان فيهم، وكان أبوه يأتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيشكو إليه مكان ابنه وحاله الّتي هو بها وحاجته، فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يأمره بالصّبر، ويقول له: "إنّ اللّه سيجعل لك فرجًا" فلم يلبث بعد ذلك إلّا يسيرًا أن انفلت ابنه من أيدي العدوّ فمرّ بغنمٍ من أغنام العدوّ، فاستاقها فجاء بها إلى أبيه، وجاء معه بغنًى قد أصابه من الغنم، فنزلت فيه هذه الآية: {ومن يتّق اللّه يجعل له مخرجًا (2) ويرزقه من حيث لا يحتسب} رواه ابن جريرٍ، وروي أيضًا من طريق سالم بن أبي الجعد مرسلًا نحوه
وقال الإمام أحمد، حدّثنا وكيع، حدّثنا سفيان، عن عبد اللّه بن عيسى، عن عبد اللّه بن أبي الجعد، عن ثوبان قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ العبد ليحرم الرّزق بالذّنب يصيبه، ولا يردّ القدر إلّا الدّعاء، ولا يزيد في العمر إلّا البرّ".
ورواه النّسائيّ وابن ماجه، من حديث سفيان -وهو الثّوريّ-به

وقال محمّد بن إسحاق: جاء مالكٌ الأشجعيّ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: له أسر ابني عوفٌ. فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أرسل إليه أنّ رسول اللّه يأمرك أن تكثر من قول: لا حول ولا قوّة إلّا باللّه". وكانوا قد شدّوه بالقدّ فسقط القد عنه، فخرج، فإذا هو بناقةٍ لهم فركبها، وأقبل فإذا بسرح القوم الّذين كانوا قد شدّوه فصاح بهم، فاتّبع أوّلها آخرها، فلم يفجأ أبويه إلّا وهو ينادي بالباب، فقال أبوه: عوفٌ وربّ الكعبة. فقالت أمّه: واسوأتاه. وعوفٌ كيف يقدم لما هو فيه من القدّ -فاستبقا الباب والخادم، فإذا عوفٌ قد ملأ الفناء إبلًا فقصّ على أبيه أمره وأمر الإبل، فقال أبوه: قفا حتّى آتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأسأله عنها. فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأخبره بخبر عوفٍ وخبر الإبل، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "اصنع بها ما أحببت، وما كنت صانعًا بمالك". ونزل: {ومن يتّق اللّه يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب} رواه ابن أبي حاتمٍ.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا عليّ بن الحسين، حدّثنا محمّد بن عليّ بن الحسن بن شقيقٍ، حدّثنا إبراهيم بن الأشعث، حدّثنا الفضيل بن عياضٍ، عن هشام بن حسّان عن عمران بن حصين قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من انقطع إلى اللّه كفاه اللّه كلّ مئونة، ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدّنيا وكله إليها").[تفسير القرآن العظيم: 8/146-148]
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : ( (2) وقولُه: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}؛ أيْ: إذا قَارَبْنَ انقضاءَ العِدَّةِ؛ لأنَّهُنَّ لو خَرَجْنَ مِن العِدَّةِ لم يَكُنِ الزوجُ مُخَيَّراً بينَ الإمساكِ والفِراقِ، {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}؛ أيْ: على وَجْهِ المعاشَرَةِ الحسنَةِ والصُّحْبَةِ الْجَميلةِ، لا على وَجهِ الضِّرارِ وإرادةِ الشرِّ والحَبْسِ؛ فإنَّ إمساكَها على هذا الوجهِ لا يَجوزُ.
{أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}؛ أيْ: فِراقاً لا مَحذورَ فيه، مِن غيرِ تَشاتُمٍ ولا تَخاصُمٍ ولا قَهْرٍ لها على أخْذِ شيءٍ مِن مالِها.
{وَأَشْهِدُوا} على طَلاقِها ورَجْعَتِها، {ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}؛ أيْ: رَجُليْنِ مُسلِمَيْنِ عَدْلَيْنِ؛ لأنَّ في الإشهادِ المَذكورِ سَدًّا لبابِ المُخاصَمَةِ وكِتمانِ كلٍّ مِنهما ما يَلْزَمُ بَيانُه.
{وَأَقِيمُوا} أيُّها الشُّهداءُ, {الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}؛ أي: ائْتُوا بها على وَجْهِها مِن غيرِ زِيادةٍ ولا نقْصٍ، واقْصِدُوا بإقامتِها وَجْهَ اللَّهِ تعالى، ولا تُرَاعُوا بها قَريباً لقَرابتِه، ولا صاحباً لِمَحَبَّتِه.
{ذَلِكُمْ} الذي ذَكَرْنا لكم مِن الأحكامِ والحُدودِ، {يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}؛ فإنَّ الإيمانَ باللَّهِ واليومِ الآخِرِ يُوجِبُ لصاحبِه أنْ يَتَّعِظَ بِمَواعِظِ اللَّهِ، وأنْ يُقَدِّمَ لآخرتِه مِن الأعمالِ الصالحةِ ما يَتمكَّنُ منها؛ بخِلافِ مَن تَرَحَّلَ الإيمانُ مِن قلبِه، فإنَّه لا يُبالِي بما أَقْدَمَ عليه مِن الشرِّ، ولا يُعَظِّمُ مَواعِظَ اللَّهِ؛ لعدَمِ الْمُوجِبِ لذلك.
وَلَمَّا كانَ الطلاقُ قدْ يُوقِعُ في الضِّيقِ والكَرْبِ والغَمِّ؛ أمَرَ تعالى بتَقواهُ، ووَعَدَ مَن اتَّقاهُ في الطلاقِ وغيرِه بأنْ يَجعَلَ له فَرَجاً ومَخرَجاً.
فإذا أَرادَ العبدُ الطلاقَ، ففَعَلَه على الوجهِ الشرعيِّ، بأنْ أوْقَعَه طَلقةً واحدةً في غيرِ حَيْضٍ ولا طُهْرٍ أصابَها فيه، فإنه لا يُضَيَّقُ عليه الأمرُ، بل جَعَلَ اللَّهُ له فَرَجاً وسَعَةً يَتمكَّنُ بها مِن الرُّجوعِ إلى النكاحِ إذا نَدِمَ على الطلاقِ.
والآيةُ وإنْ كانَتْ في سِياقِ الطلاقِ والرَّجْعَةِ؛ فإنَّ العِبْرةَ بعُمومِ اللفْظِ، فكلُّ مَن اتَّقَى اللَّهَ تعالى ولازَمَ مَرضاتَهُ في جميعِ أحوالِه، فإنَّ اللَّهَ يُثِيبُهُ في الدنيا والآخِرةِ.
ومِن جُملةِ ثَوابِه أنْ يَجْعَلَ له فَرَجاً ومَخْرَجاً مِن كلِّ شِدَّةٍ ومَشقَّةٍ، وكما أنَّ مَن اتَّقَى اللَّهَ جَعَلَ له فَرَجاً ومَخْرَجاً.
فمَن لم يَتَّقِ اللَّهَ يقَعْ في الآصارِ والأغلالِ، التي لا يَقْدِرُ على التخلُّصِ منها والخروجِ مِن تَبِعَتِها، واعتُبِرَ ذلك في الطلاقِ، فإنَّ العبدَ إذا لم يَتَّقِ اللَّهَ فيه، بل أوْقَعَه على الوَجْهِ المُحَرَّمِ، كالثلاثِ ونحوِها، فإنَّه لا بُدَّ أنْ يَندَمَ نَدامةً لا يَتمكَّنُ مِن استدراكِها والخروجِ منها). [تيسير الكريم الرحمن: 870]
قالَ مُحَمَّدُ سُلَيْمَان الأَشْقَرُ (1430هـ) : (2- {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أيْ: قارَبْنَ انقضاءَ أجَلِ العِدَّةِ وشَارَفْنَ آخِرَها.
{فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أيْ: رَاجِعُوهُنَّ بحُسْنِ مُعاشَرَةٍ ورَغبةٍ فيهن مِن غيرِ قصْدٍ إلى مُضَارَّةٍ لَهُنَّ.
{أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أي: اتْرُكُوهُنَّ حتى تَنقضِيَ عدَّتُهُنَّ، فيَمْلِكْنَ نفُوسَهُنَّ مع إيفائِهِنَّ ما هو لَهُنَّ عليكم مِن الحقوقِ، وتَرْكِ الْمُضَارَّةِ لَهُنَّ, أيْ: فليس لكم عندَ نِهايةِ العِدَّةِ إلا الإمساكُ بمعروفٍ أو التسريحُ بمعروفٍ، أمَّا الإمساكُ للمُضَارَّةِ، أو التسريحُ مع الأَذَى ومنْعِ الحقِّ، فإنَّ ذلك لا يَحِلُّ لكم.
{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} على الرَّجْعَةِ إنْ رَاجَعْتُم، أو المفارَقَةِ إنْ فارَقْتُم؛ قَطْعاً للتنازُعِ، وحَسْماً لمادَّةِ الْخُصومةِ.
{وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} هذا أمْرٌ للشهودِ بأنْ يَأتوا بما شَهِدُوا به تَقَرُّباً إلى اللهِ على الوجهِ الحقِّ.
{ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}: خصَّ المؤمنَ لأنه المنتَفِعُ بذلك دونَ غيرِه.
{وَمَن يَتَّقِ اللهَ} أيْ: مَن يَتَّقِ اللهَ بالوقوفِ عندَ حُدودِه التي حَدَّها لعِبادِه.
{يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} مما وَقَعَ فيه). [زبدة التفسير: 558]


تفسير قوله تعالى: (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) )
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {ومن يتّق اللّه يجعل له مخرجًا (2) ويرزقه من حيث لا يحتسب} أي: ومن يتّق اللّه فيما أمره به، وترك ما نهاه عنه، يجعل له من أمره مخرجًا، ويرزقه من حيث لا يحتسب، أي: من جهةٍ لا تخطر بباله.
قال الإمام أحمد: حدّثنا يزيد، أخبرنا كهمس بن الحسن، حدّثنا أبو السّليل، عن أبي ذرٍّ قال: جعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يتلو عليّ هذه الآية:
{ومن يتّق اللّه يجعل له مخرجًا (2) ويرزقه من حيث لا يحتسب} حتّى فرغ من الآية، ثمّ قال: "يا أبا ذرٍّ، لو أنّ النّاس كلّهم أخذوا بها كفتهم". وقال: فجعل يتلوها ويرددها عليّ حتّى نعست، ثمّ قال: "يا أبا ذرٍّ، كيف تصنع إن أخرجت من المدينة؟. "قلت: إلى السّعة والدّعة أنطلق، فأكون حمامةً من حمام مكّة. قال: "كيف تصنع إن أخرجت من مكّة؟ ". قال: قلت: إلى السّعة والدّعة، وإلى الشّام والأرض المقدّسة. قال: "وكيف تصنع إن أخرجت من الشّام؟ ". قلت: إذًا -والّذي بعثك بالحقّ -أضع سيفي على عاتقي. قال: "أوخيرٌ من ذلك؟ ". قلت: أوخيرٌ من ذلك؟ قال: "تسمع وتطيع، وإن كان عبدًا حبشيًّا".

وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أحمد بن منصورٍ الرّماديّ، حدّثنا يعلى بن عبيدٍ، حدّثنا زكريّا، عن عامرٍ، عن شتير بن شكل قال: سمعت عبد اللّه بن مسعودٍ يقول: إنّ أجمع آيةٍ في القرآن: {إنّ اللّه يأمر بالعدل والإحسان} [النّحل: 90] وإنّ أكثر آيةٍ في القرآن فرجًا: {ومن يتّق اللّه يجعل له مخرجًا}
وفي المسند: حدّثني مهديّ بن جعفرٍ، حدّثنا الوليد بن مسلمٍ، عن الحكم بن مصعبٍ، عن محمّد بن عليّ بن عبد اللّه بن عبّاسٍ، عن أبيه، عن جدّه عبد اللّه بن عبّاسٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من أكثر من الاستغفار جعل اللّه له من كلّ همٍّ فرجًا، ومن كلّ ضيقٍ مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب"
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {ومن يتّق اللّه يجعل له مخرجًا} يقول: ينجيه من كلّ كربٍ في الدّنيا والآخرة، {ويرزقه من حيث لا يحتسب}
وقال الرّبيع بن خثيمٍ: {يجعل له مخرجًا} أي: من كلّ شيءٍ ضاق على النّاس.
وقال عكرمة: من طلّق كما أمره اللّه يجعل له مخرجًا. وكذا روي عن ابن عباس، والضحاك.
وقال ابن مسعودٍ، ومسروقٌ: {ومن يتّق اللّه يجعل له مخرجًا} يعلم أنّ اللّه إن شاء منع، وإن شاء أعطى {من حيث لا يحتسب} أي من حيث لا يدري.
وقال قتادة: {ومن يتّق اللّه يجعل له مخرجًا} أي: من شبهات الأمور والكرب عند الموت، {ويرزقه من حيث لا يحتسب} ومن حيث لا يرجو أو لا يأمل.
وقال السّدّيّ: {ومن يتّق اللّه} يطلّق للسّنّة، ويراجع للسّنّة، وزعم أنّ رجلًا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقال له: "عوف بن مالكٍ الأشجعيّ" كان له ابنٌ، وأنّ المشركين أسروه، فكان فيهم، وكان أبوه يأتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيشكو إليه مكان ابنه وحاله الّتي هو بها وحاجته، فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يأمره بالصّبر، ويقول له: "إنّ اللّه سيجعل لك فرجًا" فلم يلبث بعد ذلك إلّا يسيرًا أن انفلت ابنه من أيدي العدوّ فمرّ بغنمٍ من أغنام العدوّ، فاستاقها فجاء بها إلى أبيه، وجاء معه بغنًى قد أصابه من الغنم، فنزلت فيه هذه الآية: {ومن يتّق اللّه يجعل له مخرجًا (2) ويرزقه من حيث لا يحتسب} رواه ابن جريرٍ، وروي أيضًا من طريق سالم بن أبي الجعد مرسلًا نحوه
وقال الإمام أحمد، حدّثنا وكيع، حدّثنا سفيان، عن عبد اللّه بن عيسى، عن عبد اللّه بن أبي الجعد، عن ثوبان قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ العبد ليحرم الرّزق بالذّنب يصيبه، ولا يردّ القدر إلّا الدّعاء، ولا يزيد في العمر إلّا البرّ".
ورواه النّسائيّ وابن ماجه، من حديث سفيان -وهو الثّوريّ-به

وقال محمّد بن إسحاق: جاء مالكٌ الأشجعيّ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: له أسر ابني عوفٌ. فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أرسل إليه أنّ رسول اللّه يأمرك أن تكثر من قول: لا حول ولا قوّة إلّا باللّه". وكانوا قد شدّوه بالقدّ فسقط القد عنه، فخرج، فإذا هو بناقةٍ لهم فركبها، وأقبل فإذا بسرح القوم الّذين كانوا قد شدّوه فصاح بهم، فاتّبع أوّلها آخرها، فلم يفجأ أبويه إلّا وهو ينادي بالباب، فقال أبوه: عوفٌ وربّ الكعبة. فقالت أمّه: واسوأتاه. وعوفٌ كيف يقدم لما هو فيه من القدّ -فاستبقا الباب والخادم، فإذا عوفٌ قد ملأ الفناء إبلًا فقصّ على أبيه أمره وأمر الإبل، فقال أبوه: قفا حتّى آتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأسأله عنها. فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأخبره بخبر عوفٍ وخبر الإبل، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "اصنع بها ما أحببت، وما كنت صانعًا بمالك". ونزل: {ومن يتّق اللّه يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب} رواه ابن أبي حاتمٍ.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا عليّ بن الحسين، حدّثنا محمّد بن عليّ بن الحسن بن شقيقٍ، حدّثنا إبراهيم بن الأشعث، حدّثنا الفضيل بن عياضٍ، عن هشام بن حسّان عن عمران بن حصين قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من انقطع إلى اللّه كفاه اللّه كلّ مئونة، ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدّنيا وكله إليها").[تفسير القرآن العظيم: 8/146-148] (م)
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {ومن يتوكّل على اللّه فهو حسبه} قال الإمام أحمد:
حدّثنا يونس، حدّثنا ليثٌ، حدّثنا قيس بن الحجّاج، عن حنش الصّنعانيّ، عن عبد اللّه بن عبّاسٍ: أنّه حدّثه أنّه ركب خلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يومًا فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "يا غلام، إنّي معلّمك كلماتٍ: احفظ اللّه يحفظك، احفظ اللّه تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل اللّه، وإذا استعنت فاستعن باللّه، واعلم أنّ الأمّة لو اجتمعوا على أن ينفعوك، لم ينفعوك إلّا بشيءٍ كتبه اللّه لك، ولو اجتمعوا على أن يضرّوك، لم يضرّوك إلّا بشيءٍ قد كتبه اللّه عليك، رفعت الأقلام، وجفّت الصّحف".
وقد رواه التّرمذيّ من حديث اللّيث بن سعدٍ، وابن لهيعة، به وقال: حسنٌ صحيحٌ.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا وكيع، حدّثنا بشير بن سلمان، عن سيّارٍ أبي الحكم، عن طارق بن شهابٍ، عن عبد اللّه -هو ابن مسعودٍ-قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من نزل به حاجةٌ فأنزلها بالنّاس كان قمنًا أن لا تسهّل حاجته، ومن أنزلها باللّه أتاه اللّه برزقٍ عاجلٍ، أو بموتٍ آجلٍ".
ثمّ رواه عن عبد الرّزّاق، عن سفيان، عن بشيرٍ، عن سيّارٍ أبي حمزة، ثمّ قال: وهو الصّواب، وسيّارٌ أبو الحكم لم يحدّث عن طارقٍ
وقوله:
{إنّ اللّه بالغ أمره} أي: منفذٌ قضاياه وأحكامه في خلقه بما يريده ويشاؤه {قد جعل اللّه لكلّ شيءٍ قدرًا} كقوله: {وكلّ شيءٍ عنده بمقدارٍ} [الرعد: 8] ).[تفسير القرآن العظيم: 8/148]

قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : ( (3) وقولُه: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ}؛ أيْ: يَسُوقُ اللَّهُ الرِّزْقَ للمُتَّقِي مِن وَجْهٍ لا يَحتَسِبُه ولا يَشعُرُ به.
{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} في أمْرِ دِينِه ودُنياهُ؛ بأنْ يَعْتَمِدَ على اللَّهِ في جَلْبِ ما يَنْفَعُه ودَفْعِ ما يَضُرُّه، ويَثِقَ به في تَسهيلِ ذلك {فَهُوَ حَسْبُهُ}؛ أيْ: كافِيهِ الأمرَ الذي تَوَكَّلَ عليه فيه.
وإذا كانَ الأمْرُ في كَفالةِ الغَنِيِّ القوِيِّ العزيزِ الرحيمِ، فهو أقْرَبُ إلى العبدِ مِن كلِّ شيءٍ، ولكنْ ربَّما أنَّ الحِكْمةَ الإلهيَّةَ اقتَضَتْ تَأخيرَه إلى الوقتِ المناسِبِ له؛ فلهذا قالَ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ}؛ أيْ: لا بُدَّ مِن نُفوذِ قَضائِه وقَدَرِه، ولكنَّه قدْ جَعَلَ {لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}؛ أيْ: وَقْتاً ومِقْدَاراً لا يَتَعَدَّاهُ ولا يَقْصُرُ عنه). [تيسير الكريم الرحمن: 870]
قالَ مُحَمَّدُ سُلَيْمَان الأَشْقَرُ (1430هـ) : (3- {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} أيْ: مِن وجهٍ لا يَخْطِرُ ببالِه، ولا يكونُ في حِسابِه، فَمَن طَلَّقَ ثم أشْهَدَ عندَ المفارَقَةِ على انقضاءِ العِدَّةِ، أو عندَ الْمُراجَعَةِ، يَجعَلِ اللهُ له مَخْرَجاً ومَخْلَصاً وإنما الضِّيقُ على مَن خالَفَ أحكامَ اللهِ في الطلاقِ والرَّجعةِ.
{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} أيْ: وَمَن وَثِقَ باللهِ فيما نابَه كَفاهُ ما أَهَمَّهُ.
{إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} أيْ: لا يَفوتُه شيءٌ ولا يُعْجِزُه مطلوبٌ.
{ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} جَعَلَ سُبحانَه للشِّدَّةِ أجَلاً تَنتهِي إليه، وللرخاءِ أجَلاً يَنتهِي إليه، وقالَ السُّدِّيُّ: هو قَدَّرَ الحيْضَ والعِدَّةَ). [زبدة التفسير: 558]


* للاستزادة ينظر: هنا

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
تفسير, سورة

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:03 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir