دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > السلوك والآداب الشرعية > متون الآداب الشرعية > منظومة الآداب

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 7 محرم 1430هـ/3-01-2009م, 02:13 AM
الصورة الرمزية ساجدة فاروق
ساجدة فاروق ساجدة فاروق غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 6,511
افتراضي طلب العلم واغتنام العمر


228- فَكَابِدْ إِلَى: أَنْ تَبْلُغَ النَّفْسُ عُذْرَهَا = وَكُنْ فِي اِقْتِبَاسِ الْعِلْمِ: طَلاَّعَ أَنْجُدِ
229- وَلاَ تُذْهِبَنَّ الْعُمْرَ مِنْكَ سَبَهَلَّلاَ = وَلاَ تُغْبَنَنْ فِي الْغُمَّتَيْنِ بَلْ اِجْهَدِ
230- فَمَنْ هَجَرَ اللَّذَّاتِ نَالَ الْمُنَى، وَمَنْ = أَكَبَّ عَلَى اللَّذَّاتِ: عَضَّ عَلَى الْيَدِ
231- وَفِي قَمْعِ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ: اعْتِزَازُهَا = وَفِي نَيْلِهَا مَا تَشْتَهِي: ذُلٌّ سَرْمَدِ
232- فَلاَ تَشْتَغِلْ: إِلاَّ بِمَا يُكْسِبُ الْعُلاَ = وَلاَ تَرْضَ: لِلنَّفْسِ النَّفِيْسَةِ بِالرَّدِيْ

  #2  
قديم 7 محرم 1430هـ/3-01-2009م, 02:16 AM
الصورة الرمزية ساجدة فاروق
ساجدة فاروق ساجدة فاروق غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 6,511
افتراضي غذاء الألباب شرح منظومة الآداب / السفاريني

ولما فرغ الناظم رحمه الله تعالى من آداب النكاح ومتعلقاته . أخذ يحض على الاجتهاد في طلب العلوم والرحلة في إدراك منطوقها والمفهوم . لأنها سلم الخيرات . ومفتاح السعادات . فلا يفتح باب خير ويرتقي إلى أوج مكرمة إلا بالعلم ؛ لأنه الطريق المستقيم . والسراج المنير . فمن اقتبسه نجا . ومن ضله هوى في مهاوي الهوى . فقال رحمه الله تعالى : مطلب : في الحث على الصبر في طلب العلم : فكابد إلى أن تبلغ النفس عذرها وكن في اقتباس العلم طلاع أنجد ( فكابد ) أي قاس في الطلب . يقال كابده مكابدة وكبادا قاساه . والاسم الكابد . أي فاطلب وجد واجتهد وقاس الشدائد ( إلى ) أن تنتهي إلى أقصى الحالات وهي ( أن تبلغ النفس ) في الجد والاجتهاد ( عذرها ) فإن حصلت علما كان هو المقصود . وإلا عذرت في بذل المجهود . وروى الطبراني في الكبير ورواته ثقات عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من طلب علما فأدركه كتب الله له كفلين من الأجر ، ومن طلب علما فلم يدركه كتب الله له كفلا من الأجر } . ومما ينسب للإمام الشافعي رضي الله عنه : سأطلب علما أو أموت ببلدة يقل بها هطل الدموع على قبري وليس اكتساب العلم يا نفس فاعلمي بميراث آباء كرام ولا صهر ولكن فتى الفتيان من راح واغتدى ليطلب علما بالتجلد والصبر فإن نال علما عاش في الناس ماجدا وإن مات قال الناس بالغ في العذر إذا هجع النوام أسبلت عبرتي وأنشدت بيتا وهو من ألطف الشعر أليس من الخسران أن لياليا تمر بلا علم وتحسب من عمري وذكر الإمام المحقق ابن القيم في مفتاح دار السعادة قول بعض السلف : " إذا أتى علي يوم لا أزداد فيه علما يقربني إلى الله تعالى فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم " قال : وقد رفع هذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعه إليه باطل . وحسبه أن يصل إلى واحد من الصحابة أو التابعين . قال وفي مثله قال القائل : إذا مر بي يوم ولم أستفد هدى ولم أكتسب علما فما ذاك من عمري ( وكن ) أنت ( في اقتباس ) أي استفادة ( العلم ) يقال قبس يقبس منه نارا ، واقتبسها أخذها ، والعلم استفاده . قاله في القاموس . وفي حديث علي رضي الله عنه : { حتى أوري قبسا لقابس } قال في النهاية : أي أظهر نورا من الحق لطالبه . والقابس طالب النار وهو فاعل من قبس . ومنه حديث العرباض رضي الله عنه : { أتيناك زائرين ومقتبسين } ، أي طالبي العلم . وحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه : فإذا راح اقتبسناه ما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أعلمناه إياه ، انتهى . وفي القرآن العظيم { انظرونا نقتبس من نوركم } فمراد الناظم أن تكون أيها الأخ الباذل جهده في طلب العلم واستفادته ( طلاع ) أي قصاد ( أنجد ) قال في القاموس : ورجل طلاع الثنايا والأنجد كشداد مجرب للأمور ركاب لها يعلوها ويقهرها بمعرفته وتجاربه وجودة رأيه أو الذي يؤم معالي الأمور ، انتهى . والأنجد جمع نجد وهو ما أشرف من الأرض والطريق الواضح المرتفع وما خالف الغور أي تهامة ، وتضم جيمه مذكر ، أعلاه تهامة واليمن ، وأسفله العراق والشام ، وأوله من جهة الحجاز ذات عرق . قاله في القاموس . وقال في النهاية : والنجد ما ارتفع من الأرض وهو اسم خاص لما دون الحجاز مما يلي العراق : وفي لغة الإقناع للحجاوي : النجد ما ارتفع من الأرض ، والجمع نجود ، مثل فلس وفلوس ، وباسم الواحد سميت بلاد معروفة من عمل اليمن وهو ما بين جرش إلى سواد الكوفة . قال ابن خطيب الدهشة : وأوله ناحية الحجاز ذات عرق وآخره سواد العراق . قال في التهذيب : كل ما وراء الخندق الذي خندقه كسرى على سواد العراق فهو نجد إلى أن يميل إلى الحرة ، فإذا ملت إليها فأنت في الحجاز . وفي المطالع : نجد ما بين جرش إلى سواد الكوفة ، وحده مما يلي المغرب ، الحجاز على يسار الكعبة ، ونجد كلها من عمل اليمامة . وقال الجوهري : ونجد من بلاد العرب وهو خلاف الغور ، والغور هو تهامة كلها ، وكلما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق فهو نجد وهو مذكر ، انتهى . ومراد الناظم رحمه الله تعالى أي وكن مجربا للأمور وقاهرا لها ومحكما معرفتها بدقة النظر وحسن التجارب وإتقان ما تقبسه من العلوم والمعارف ، كثير الرحلة في تحصيل العلوم ، عالي الهمة في التطلع على دقائقها وإتقان حقائقها . وفي صحيح مسلم { لا ينال العلم براحة الجسم } . وقال بعضهم : العلم إذا أعطيته كلك أعطاك بعضه . وفي صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة } . وأخرج الترمذي وصححه وابن ماجه واللفظ له وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد . عن زر بن حبيش قال { أتيت صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه فقال ما جاء بك ؟ قلت أنبط العلم ، قال فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من خارج خرج من بيته في طلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضا بما يصنع } قوله أنبط أي أطلبه وأستخرجه . وعن قبيصة بن المخارق رضي الله عنه قال { أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي يا قبيصة ما جاء بك ؟ قلت كبرت سني ورق عظمي فأتيتك لتعلمني ما ينفعني الله به ، قال يا قبيصة ما مررت بحجر ولا شجر ولا مدر إلا استغفر لك . يا قبيصة إذا صليت الصبح فقل ثلاثا سبحان الله العظيم وبحمده تعافى من الحمى والجذام والفلج . يا قبيصة قل اللهم إني أسألك مما عندك ، وأفض علي من فضلك ، وانشر علي من رحمتك ، وأنزل علي من بركاتك } رواه الإمام أحمد . وفي إسناده من لم يسم . وروى الترمذي وحسنه عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع } . وأخرج أبو داود عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { من غدا يريد العلم يتعلمه لله فتح الله له بابا إلى الجنة ، وفرشت له الملائكة أكنافها ، وصلت عليه ملائكة السموات وحيتان البحور ، وللعالم من الفضل على العابد كالقمر ليلة البدر على أصغر كوكب في السماء ، والعلماء ورثة الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ولكنهم ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظه ، وموت العالم مصيبة لا تجبر ، وثلمة لا تسد ، وهو نجم طمس . موت قبيلة أيسر من موت عالم } ورواه الترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه وليس عندهم وموت العالم إلى آخره . ورواه البيهقي أيضا . وروى الطبراني في الأوسط عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا { اللهم ارحم خلفائي ، قلنا يا رسول الله ومن خلفاؤك ؟ قال الذين يأتون من بعدي يروون أحاديثي ويعلمونها الناس } . ومما ينسب للإمام الشافعي رضي الله عنه قوله : تغرب عن الأوطان في طلب العلا وسافر ففي الأسفار خمس فوائد إزالة هم واكتساب معيشة وعلم وآداب وصحبة ماجد فإن قيل في الأسفار ذل ومهنة وقطع الفيافي وارتكاب الشدائد فموت الفتى خير له من حياته بدار هوان بين واش وحاسد ومر أن الإمام أحمد لما سمع أن عند رجل أحاديث عوالي وراء النهر رحل إليه . وذكر ابن الجوزي في صيد الخاطر أن الإمام أحمد رضي الله عنه دار الدنيا مرتين حتى جمع المسند . ولم تزل الرحلة في العلماء مطلوبة ، وهي إلى الأئمة والأخيار منسوبة ، وحسن ذلك شاع وذاع ، وملأ الأسماع ، فلا نطيل بذكره والله الموفق .

ولا تذهبن العمر منك سبهللا ولا تغبنن في الغمتين بل اجهد ( ولا تذهبن ) نهي مؤكد بالنون الثقيلة والفاعل المخاطب ، والمراد كل من يصلح أن يكون مخاطبا بمثل ما خاطب به ( العمر ) مفعول به أي لا تذهب عمرك النفيس الذي لا قيمة له ولا خطر ، ولا يعادله جوهر ولا نضر ، ولا در ولا مرجان ولا لؤلؤ ولا عقيان ( منك ) أيها الإنسان ، المخلوق لعبادة الرحمن ومجاورته في الجنان ، ( سبهللا ) أي غير مكترث بذهابه لا في عمل دنيا ولا آخرة ، كما في القاموس قال : ويمشي سبهللا إذا جاء وذهب في غير شيء ومنه قول صاحب الشاطبية فيها : ولو أن عينا ساعدت لتوكفت سحائبها بالدمع ديما وهطلا ولكنها عن قسوة القلب قحطها فيا ضيعة الأعمار تمشي سبهللا وقد قال تعالى { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا } . وروى الحاكم وصححه والترمذي وحسنه عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني } . وقال سيدنا عمر رضي الله عنه : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوها قبل أن توزنوا وتهيئوا للعرض الأكبر . وكتب إلى أبي موسى : حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة . وفي تبصرة ابن الجوزي رحمه الله قال : كان توبة بن الصمة بالرقة وكان محاسبا لنفسه فحسب يوما عمره فإذا هو ابن ستين سنة ، فحسب أيامها فإذا هي أحد وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم ، فصرخ وقال يا ويلتي ألقى المليك بأحد وعشرين ألف ذنب وخمسمائة ذنب ، كيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب ، ثم خر مغشيا عليه فإذا هو ميت ، فسمعوا قائلا يقول يا لك ركضة إلى الفردوس الأعلى . قال وقد كان كثير من السلف رضي الله عنهم يستوفي على النفس الأعمال ويكرهها ، عليها اغتناما للعمر . قال ابن المبارك : إن الصالحين كانت أنفسهم تواتيهم على الخير عفوا ، وإن أنفسنا لا تكاد تواتينا إلا على كره ، فينبغي لنا أن نكرهها . قال : وكان عامر بن عبد قيس رحمه الله تعالى يصلي كل يوم ألف ركعة ، وقال له رجل قف أكلمك ، قال أمسك الشمس . فهؤلاء فرسان الميدان . فاسمع يا مضيع الزمان . شعر : الدهر ساومني عمري فقلت له لا بعت عمري بالدنيا وما فيها ثم اشتراه تفاريقا بلا ثمن تبت يدا صفقة قد خاب شاريها وفي وصية الإمام الموفق ابن قدامة طيب الله روحه ما لفظه : فاغتنم رحمك الله حياتك النفيسة ، واحتفظ بأوقاتك العزيزة ، واعلم أن مدة حياتك محدودة ، وأنفاسك معدودة ، فكل نفس ينقص به جزء منك ، والعمر كله قصير ، والباقي منه هو اليسير ، وكل جزء منه جوهرة نفيسة لا عدل لها ولا خلف منها ، فإن بهذه الحياة اليسيرة خلود الأبد في النعيم ، أو العذاب الأليم ، وإذا عادلت هذه الحياة بخلود الأبد علمت أن كل نفس يعدل أكثر من ألف ألف ألف عام في نعيم لا خطر له أو خلاف ذلك ، وما كان هكذا فلا قيمة له . فلا تضيع جواهر عمرك النفيسة بغير عمل ، ولا تذهبها بغير عوض ، واجتهد أن لا يخلو نفس من أنفاسك إلا في عمل طاعة أو قربة تتقرب بها . فإنك لو كانت معك جوهرة من جواهر الدنيا لساءك ذهابها فكيف تفرط في ساعاتك وأوقاتك . وكيف لا تحزن على عمرك الذاهب بغير عوض ، انتهى .

مطلب : إياك والغبن والتمادي في الكسل وهوى النفس . ( ولا تغبنن ) نهي مؤكد بالنون الخفيفة . قال في القاموس غبن الشيء وفيه كفرح غبنا وغبنا نسيه أو أغفله أو غلط فيه ، وغبنه في البيع يغبنه غبنا ويحرك أو بالتسكين في البيع ، وبالتحريك في الرأي خدعه . وفي المطلع في خيار الغبن قال : الغبن بسكون الباء مصدر غبنه بفتح الباء يغبنه بكسرها إذا نقصه . ويقال غبن رأيه بكسر الباء أي ضعف غبنا بالتحريك انتهى . ( في الغمتين ) كذا رأيته في النسخ بالغين المعجمة والميم تثنية غمة وليس بشيء ولعله بالغين المعجمة المضمومة والنون والميم تثنية غنمة بمعنى غنم بالضم وهو الفيء وأراد به الليل والنهار . هذا الذي يظهر . وأظهر من هذا النعمتين تثنية نعمة من الليل والنهار أو الصحة والفراغ . وفي الحديث { نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ } رواه البخاري والترمذي مرفوعا عن ابن عباس رضي الله عنهما . وعن الحسن البصري رحمه الله تعالى أنه كان يقول : يا ابن آدم اليوم ضيفك ، والضيف مرتحل يحمدك أو يذمك ، وكذلك ليلتك . وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن بكر المزني أنه قال { : ما من يوم أخرجه الله إلى أهل الدنيا إلا ينادي : ابن آدم اغتنمني لعله لا يوم لك بعدي ، ولا ليلة إلا تنادي : ابن آدم اغتنمني لعله لا ليلة لك بعدي } . وعن عمر بن ذر أنه كان يقول : اعملوا لأنفسكم رحمكم الله في هذا الليل وسواده فإن المغبون من غبن خير الليل والنهار ، والمحروم من حرم خيرهما ، إنما جعلا سبيلا للمؤمنين إلى طاعة ربهم ، ووبالا على الآخرين للغفلة عن أنفسهم ، فأحيوا لله أنفسكم بذكره فإنما تحيا القلوب بذكر الله عز وجل . كم من قائم لله جل وعلا في هذا الليل قد اغتبط بقيامه في ظلمة حفرته . وكم من نائم في هذا الليل قد ندم على طول نومه عندما يرى من كرامة الله للعابدين غدا . فاغتنموا ممر الساعات والليالي والأيام رحمكم الله . وعن داود الطائي قال : إنما الليل والنهار مراحل تنزلها الناس مرحلة مرحلة حتى ينتهي بهم ذلك إلى آخر سفرهم ، فإن استطعت أن تقدم في كل مرحلة زادا لما بين يديها فافعل ، فإن انقطاع السفر عن قريب ما هو ، والأمر أعجل من ذلك ، فتزود لسفرك واقض ما أنت قاض من أمرك فكأنك بالأمر قد بغتك . وقد أخرج ابن أبي الدنيا والطبراني وغيرهما عن أبي هريرة مرفوعا { اطلبوا الخير دهركم ، وتعرضوا لنفحات رحمة ربكم ، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده ، وسلوا الله أن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم } . وفي مسند الإمام أحمد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { ليس من عمل يوم إلا ويختم عليه } . وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن مجاهد قال : { ما من يوم إلا يقول : ابن آدم قد دخلت عليك اليوم ولن أرجع إليك بعد اليوم ، فانظر ماذا تعمل في ، فإذا انقضى طواه ثم يختم عليه فلا يفك حتى يكون الله هو الذي يفض ذلك الخاتم يوم القيامة . ويقول اليوم حين ينقضي : الحمد لله الذي أراحني من الدنيا وأهلها . ولا ليلة تدخل على الناس إلا قالت كذلك } . وبإسناده عن مالك بن دينار قال : كان عيسى عليه السلام يقول : إن هذا الليل والنهار خزانتان فانظروا ما تصنعون فيهما . وكان يقول : اعملوا الليل لما خلق له واعملوا النهار لما خلق له . وقال الحسن : ليس يوم يأتي من أيام الدنيا إلا يتكلم يقول : يا أيها الناس إني يوم جديد ، وإني على ما يعمل في شهيد ، وإني لو قد غربت الشمس لم أرجع إليكم إلى يوم القيامة . فإذا عرفت هذا فإياك والغبن والتمادي في الكسل وهوى النفس ( بل اجهد ) في فكاكها وخلاصها من قيود الأقفاص . قال ابن الجوزي في تبصرته : الإنسان أسير في الدنيا يسعى في فكاك نفسه ، لا يأمن شيئا حتى يلقى الله عز وجل ، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وبصره وفي لسانه وفي جوارحه كلها . تجهزي بجهاز تبلغين به يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا وسابقي بغتة الآجال وانكمشي قبل اللزام فلا ملجا ولا غوثا ولا تكدي لمن يبقى وتفتقري إن الردى وارث الباقي وما ورثا واخشي حوادث صرف الدهر في مهل واستيقظي لا تكوني كالذي بحثا عن مدية كان فيها قطع مدته فوافت الحرث محروثا كما حرثا من كان حين تصيب الشمس جبهته أو الغبار يخاف الشين والشعثا ويألف الظل كي تبقى بشاشته فسوف يسكن يوما راغما جدثا في قعر موحشة غبراء مقفرة يطيل تحت الثرى في جوفها اللبثا فعلى العاقل أن يبادر إلى ما فيه خلاص نفسه من الهلاك ، ويفكها من القيود والشراك ، ولا يركن إلى الدنيا ولذاتها ، ولا يسكن إلى تخيلاتها وتمويهاتها ، فما هي إلا سم الأفاعي ، وأهلها ما بين منعي وناعي ، فلذا قال الناظم رحمه الله تعالى :

مطلب : من هجر اللذات نال المنى : فمن هجر اللذات نال المنى ومن أكب على اللذات عض على اليد ( فمن ) أي أي رجل مؤمن أو امرأة مؤمنة ( هجر اللذات ) أي صرمها ولم يلو إليها عنانه ، ولم يشغل بها جنانه ، ولا لطخ بها لسانه ، ولا نافس في اكتسابها ، ولم ينكب على انتهابها . بل رفضها وثنى عنها العنان ، ولها شنى ، ومال عنها وانحنى ( نال ) أي أصاب ( المنى ) أي مناه بمعنى تمنيته يعني ما يتمناه ويطلبه من النعيم المقيم ، في دار الخلد والتكريم ، ومن تحصيل العلوم والمعارف والأخبار والآثار ، الواردة عن النبي المختار ، والصحابة الأخيار ، والتابعين الأطهار ، والأئمة الأبرار . كل هذا إنما يحصل بهجر اللذات ورفض الشهوات . ( ومن ) أي كل إنسان ( أكب ) أي أقبل ( على اللذات ) المحرمة ، وكذا المباحة المشغلة عن العلوم ينحوها ، وانهمك في الشهوات الملهية عن نيل الكمالات ( عض ) بأسنانه ( على اليد ) تأسفا على ما فرط في أيامه ، وتلهفا على ما تثبط في دهوره وأعوامه ، فهو مأخوذ من قوله تعالى { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا . يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا } . واللذات جمع لذة وهي نقيض الألم ، يقال لذه ولذ به لذاذا ولذاذة ، والتذه والتذ به واستلذه وجده لذيذا ، ولذا هو صار لذيذا . وروى الطبراني بإسناد مقارب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { الزهد في الدنيا يريح القلب والجسد } . وروى ابن أبي الدنيا عن الضحاك مرسلا قال { أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله من أزهد الناس ؟ قال من لم ينس القبر والبلى ، وترك أفضل زينة الدنيا ، وآثر ما يبقى على ما يفنى ، ولم يعد غدا في أيامه ، وعد نفسه من الموتى } . وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ما طلعت شمس قط إلا بعث بجنبتيها ملكان يناديان يسمعان أهل الأرض إلا الثقلين : يا أيها الناس هلموا إلى ربكم فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى } . وروى الحاكم وقال صحيح الإسناد عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه { لما حضرته الوفاة قال : يا معشر الأشعريين ليبلغ الشاهد منكم الغائب إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : حلوة الدنيا مرة الآخرة ، ومرة الدنيا حلوة الآخرة } . وروى الترمذي وصححه وابن حبان في صحيحه عن كعب بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { : ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه } . ورواه الطبراني وأبو يعلى وإسنادهما جيد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ { ما ذئبان ضاريان جائعان باتا في زريبة غنم أغفلها أهلها يفترسان ويأكلان بأسرع فيها فسادا من حب المال والشرف في دين المرء المسلم } ورواه البزار بنحوه عن ابن عمر مرفوعا . وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { الدنيا دار من لا دار له ، ولها يجمع من لا عقل له } ورواه البيهقي وزاد { ومال من لا مال له } وإسنادهما جيد . وعن زيد بن أسلم قال : استسقى عمر فجيء بماء قد شيب بعسل فقال إنه لطيب لكني أسمع الله عز وجل نعى على قوم شهواتهم فقال : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فأخاف أن يكون حسناتنا عجلت لنا فلم يشربه ذكره رزين ، قال الحافظ المنذري : ولم أره . وقال الحسن : المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها ولا ينافس في عزها الناس منه في راحة ، ونفسه منه في شغل . واعلم أن الرجل العاقل المراقب لم يقصد بالأكل والشرب التلذذ بل دفع الجوع مما يوافق بدنه ويقويه على الطاعة ، فإن قصد الالتذاذ بشيء من المتناولات أحيانا لم يعب عليه ذلك ، وإنما يعاب عليه الانهماك في ذلك ، ولذا قال الناظم ( أكب على اللذات ) يعني أقبل عليها بكلية ، وهذا ليس من شأن أهل الإيمان ، بل شأنهم الإقبال على الله في جميع شؤونهم . والأكل والشرب سلم يتوصلون به إلى التقوى على العبادة والطاعة ، فإذا أكلوا أو شربوا أو لبسوا أو نكحوا أو فعلوا من نحو هذه الأشياء شيئا فعلوه بهذه النية ، وإذا تركوا شيئا من ذلك تركوه لله عز وجل ، فيكون فعلهم وتركهم عبادة ، وكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه { كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف . قال الله عز وجل إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي } . فلما كان الصيام مجرد ترك حظوظ النفس وشهواتها الأصلية التي جبلت على الميل إليها لله عز وجل أضافه سبحانه لنفسه ، مع أن الأعمال كلها لله سبحانه ، ولهذا قال : إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي . قال بعض السلف : طوبى لمن ترك شهوة حاضره لموعد غيب لم يره . مطلب : التقرب بترك الشهوات وهجر اللذات . فيه فوائد وفي التقرب بترك الشهوات وهجر اللذات فوائد : منها كسر النفس فإن الانهماك في اللذات من الأكل والشرب ومباشرة النساء تحمل النفس على الأشر والبطر والغفلة ، ومنها تخلي القلب للفكر والذكر ، فإن تناول الشهوات والانهماك في اللذات ، قد يقسي القلب ويعميه ويحول بين العبد وبين الذكر والفكر ويستدعي الغفلة ، وخلو الباطن من الطعام والشراب ينور القلب ويوجب رقته ويزيل قسوته ، ومنها الاشتغال بما هو أهم منها من دراسة العلم والإمعان في تفهمه وتعلمه وتعليمه ، ومنها الإعراض والنزاهة عن اشتغال القلب بما هو صائر إلى النجاسة فكلما أكثر من ذلك كان حمله للنجاسة أكثر ، وغاية الالتذاذ بذلك في مقدار أصبعين أو ثلاثة ثم يستوي طيبه وخبيثه . فمن راقب هذه الحالة ترك الانهماك في اللذات لا محالة .


ولما كان في هجر اللذات وترك الشهوات قمع للنفس وهواها . قال الناظم رحمه الله تعالى : مطلب : في ذم الهوى وأن عز النفوس في مخالفة هواها : وفي قمع أهواء النفوس اعتزازها وفي نيلها ما تشتهي ذل سرمد ( وفي قمع ) أي صرف ( أهواء ) جمع هوى بالقصر ميل ( النفوس ) إلى الشيء وفعله هوى يهوى هوى مثل عمي يعمى عمى ، وأما هوى بالفتح فهو السقوط ومصدره الهوي بالضم ، ويطلق الهوى على نفس المحبوب . قال الشاعر : إن التي زعمت فؤادك ملها خلقت هواك كما خلقت هوى لها ويقال هذا هوى فلان وفلانة هواه أي مهويته ومحبوبته ، وقال الشاعر : هواي مع الركب اليمانين مصعد جنوبا وجثماني بمكة موثق وأكثر ما يستعمل في الحب المذموم ، كما قال تعالى : { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى } . ويقال إنما سمي هوى ؛ لأنه يهوي بصاحبه إلى النار ، ولا شك أن في مخالفة النفوس لهواها ( اعتزازها ) أي قوتها ومنعتها من الشيطان وجنوده وعدم ذلها ، فلما قمع هوى نفسه بمقمعة المتابعة وضربها بسياط الاقتداء ، وصرفها بزمام التقوى ، حصل لها العز والامتناع ، والقوة والارتفاع ، بحسن الاتباع ، ومخالفة الابتداع . يقال قمعه كمنعه ضربه بالمقمعة وقهره وذلله كأقمعه . ويقال عز عزا وعزة بكسرهما وعزازة صار عزيزا كتعزز وقوي بعد ذله . وقد ورد في الكتاب العزيز عدة آيات في ذم الهوى كقوله : { أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا } ، { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى } . وقال صلى الله عليه وسلم : { لا ينبغي للمرء أن يذل نفسه } قال الإمام أحمد رضي الله عنه : تفسيره أن يتعرض من البلاء لما لا يطيق ، وقال الإمام الحافظ ابن الجوزي في قوله تعالى : { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى } : المراد بهذا الهوى ما منع منه وحرم . واعلم أن المباح قد يفتقر إلى تركه في أوقات لئلا يحمل إلى ما يؤذي ، والكل لا بد له من رياضة ؛ والآدمي كالفرس إذا أنتج لا بد له من رائض ، فإن كان عربيا حركت الرياضة أصله الجيد فظهر جوهره ، كما أن المس يؤثر في الفولاذ ، وإن كان كودنا منعت بعض أخلاقه الرديئة ، كما أن الحديد قد يقطع ، وكذلك بنو آدم ، فمنهم من خلق على صفة حسنة تؤدبه نفسه ويقومه عقله ، فتأتي الرياضة بتمام التقويم وكمال التعليم . ومنهم من يقل ذلك في جوهره فيفتقر إلى زيادة رياضة ، ويترك المحبوبات على كره ، ولا بد من رياضة هذا ليفارق المؤذي كيف اتفق . والرياضة ينبغي أن تعمل في جميع الأشياء ، فتؤثر في حق الشره تقليل المطعم إلى أن يعود إلى حالة الاعتدال ، وأخذ ما يصلح ، ولا بد من إعطاء النفس ما يوافقها في مصالحها ، فقد قال عليه الصلاة والسلام { إن لنفسك عليك حقا } وكذلك الشره في النكاح وجمع المال وغير ذلك نرده بالرياضة عما يؤذي ، ونأمر المتكبر بالتواضع ، ونأمر السيئ الخلق بالاحتمال والصفح ، وإن شق عليه . وقال الإمام ابن القيم في روضة المحبين : الهوى ميل النفس إلى ما يلائمها ، وهذا الميل خلق في الإنسان لضرورة بقائه ، فإنه لولا ميله إلى المطعم والمشرب والمنكح ما أكل ولا شرب ولا نكح . فالهوى ساحب له لما يريده ، كما أن الغضب دافع عنه ما يؤذيه ، فلا ينبغي ذم الهوى مطلقا ولا مدحه مطلقا ، وإنما يذم المفرط من النوعين وهو ما زاد على جلب المنافع ودفع المضار . ولما كان الغالب ممن يطيع هواه وشهوته وغضبه أنه لا يقف فيه على حد المنتفع به ، أطلق ذم الهوى والشهوة والغضب لعموم غلبة الضرر ؛ لأنه يندر من يقصد العدل في ذلك ويقف عنده ، كما أنه يندر في الأمزجة المزاج المعتدل من كل وجه ، بل لا بد من غلبة أحد الأخلاط والكيفيات عليه ، فحرص الناصح على تعديل قوة الشهوة والغضب من كل وجه كحرص الطبيب على تعديل المزاج من كل وجه ، وهذا أمر يتعذر وجوده إلا في حق أفراد من العالم ، فلذلك لم يذكر الله تعالى الهوى في كتابه إلا ذمه ، وكذلك في السنة لم يجئ إلا مذموما إلا ما جاء منه مقيدا كقوله صلى الله عليه وسلم { لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به } . وتقدم التنصيص على هذا ، وقد قيل : الهوى كمين لا يؤمن ومطلقه يدعو اللذة الحاضرة من غير فكر في العاقبة ، ويحث على نيل الشهوات عاجلا ، وإن كانت سببا لأعظم الآلام أجلا وربما يكون عاجلا أيضا ، فالهوى والنفس والشيطان والدنيا يدعون إلى ما فيه البوار ، ويعمين عين البصيرة عن النظر في العواقب وما يغضب ويرضي الجبار ، والدين والمروءة والعقل والروح ينهين عن لذة تعقب ألما ، وشهوة تورث ندما . ولما ابتلي المكلف وامتحن بالهوى من بين سائر البهائم ، وكان كل وقت تحدث عليه الحوادث جعل فيه حاكمان حاكم العقل وحاكم الدين . وينبغي للعاقل أن يتمرن على دفع الهوى المأمون العواقب ، ليتمرن بذلك على ترك ما تؤذي عواقبه . وليعلم اللبيب أن مدمني الشهوات يصيرون إلى حالة لا يلتذون بها وهم مع ذلك لا يستطيعون تركها ، لأنها صارت عندهم بمنزلة العيش الذي لا بد لهم منه . وليعلم العاقل المؤمن أن الهوى حظار جهنم المحيط بها حولها ، فمن وقع فيه وقع فيها ، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات } . وفي الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه { لما خلق الله الجنة أرسل إليها جبريل فقال انظر إليها ، وإلى ما أعددت لأهلها فيها ، فجاء فنظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها ، فرجع إليه وقال وعزتك لا يسمع بها أحد من عبادك إلا دخلها ، فأمر بها فحجبت بالمكاره ، وقال : ارجع إليها فانظر إليها فإذا هي قد حجبت بالمكاره ، فقال وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد . قال : اذهب إلى النار فانظر إليها ، وإلى ما أعددت لأهلها فيها ، فإذا هي يركب بعضها بعضا ، فرجع إليه فقال : وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها ، فأمر بها فحفت بالشهوات ، فقال : ارجع إليها ، فرجع إليها فإذا هي قد حفت بالشهوات ، فرجع إليه وقال : وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد } قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح . وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى } . وتقدم أن من المهلكات هوى متبعا . قال الإمام ابن القيم : مخالفة الهوى تورث العبد قوة في بدنه وقلبه ولسانه . وقال بعض السلف : الغالب لهواه أشد من الذي يفتح المدينة وحده . وفي الحديث الصحيح المرفوع { ليس الشديد بالصرعة ، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب } . وكلما تمرن على مخالفة هواه اكتسب قوة على قوته ، وبمخالفته لهواه تعظم حرمته وتغزر مروءته . قال معاوية خال المؤمنين : المروءة ترك الشهوات وعصيان الهوى . وقال بعض السلف : إذا أشكل عليك أمر أن لا تدري أيهما أرشد فخالف أقربهما من هواك ، فإن أقرب ما يكون الخطأ في متابعة الهوى . وقال بشر الحافي رحمه الله ورضي عنه : البلاء كله في هواك . والشفاء كله في مخالفتك إياه . . وقد قيل للحسن البصري رحمه الله : يا أبا سعيد أي الجهاد أفضل ؟ قال جهادك هواك . قال الإمام المحقق ابن القيم : وسمعت شيخنا يعني شيخ الإسلام ابن تيمية روح الله روحه يقول : جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين ، فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولا حتى يخرج إليهم ، فمن قهر هواه عز وساد ، ومن قهره هواه ذل وهان وهلك وباد . ولذا قال الناظم رحمه الله :


مطلب : الذل في نيل النفوس ما تشتهيه . ( وفي نيلها ) أي النفوس ( ما ) أي الذي ( تشتهي ) أي تشتهيه وتطلبه وتهواه من المحرمات ونحوها ( ذل سرمد ) أي طويل مستمر . قال في القاموس : السرمد الدائم والطويل من الليالي ، وذلك لأنه يدعو لما فيه غضب الله ورسوله ورضا الشيطان وجنوده ، فقد أغلق على نفسه باتباع هواه أبواب التوفيق وفتح عليه أبواب الخذلان . قال الفضيل بن عياض رحمه الله ورضي عنه : من استحوذ عليه الهوى واتباع الشهوات انقطعت عنه مواد التوفيق . وقال بعض العلماء : الكفر في أربعة أشياء : في الغضب ، والشهوة ، والرغبة ، والرهبة ، ثم قال : رأيت منهن اثنتين رجلا غضب فقتل أمه ، ورجلا عشق فتنصر . وكان بعض السلف يطوف بالبيت فنظر إلى امرأة جميلة فمشى إلى جانبها ثم قال : أهوى هوى الدين واللذات تعجبني فكيف لي بهوى اللذات والدين ؟ فقالت له المرأة : دع أحدهما تنل الآخر . وفي روضة المحبين للإمام ابن القيم : لكل عبد بداية ونهاية ، فمن كانت بدايته اتباع الهوى كانت نهايته الذل والصغار والحرمان والبلاء المتبوع بحسب ما اتبع من هواه ، بل يصير له ذلك في نهايته عذابا يعذب به في قلبه كما قيل : مآرب كانت في الشباب لأهلها عذابا فصارت في المشيب عذابا فلو تأملت حال كل ذي حال شينة زرية لرأيت بدايته الذهاب مع هواه وإيثاره على عقله . ومن كانت بدايته مخالفة هواه وطاعة داعي رشده كانت نهايته العز والشرف والغنى والجاه عند الله وعند الناس . وقال أبو علي الدقاق : من ملك شهوته في حال شبيبته أعزه الله في حال كهوليته . وقيل للمهلب بن أبي صفرة : بم نلت ما نلت ؟ قال : بطاعة الحزم وعصيان الهوى . فهذا في بداية الدنيا ونهايتها ، وأما الآخرة فقد جعل الله سبحانه وتعالى الجنة نهاية من نهى نفسه عن هواه ، والنار نهاية من اتبع هواه . وقال عبد الرحمن بن مهدي : رأيت سفيان الثوري في المنام فقلت ما فعل الله بك ؟ قال لم يكن إلا أن وضعت في لحدي حتى وقفت بين يدي الله تعالى فحاسبني حسابا يسيرا ثم أمر بي إلى الجنة ، فبينما أنا أدور بين أشجارها وأنهارها لا أسمع حسا ولا حركة إذ سمعت قائلا يقول سفيان بن سعيد ، فقال : تحفظ أنك آثرت الله على هواك يوما ؟ قلت : إي والله ، فأخذني النثار من كل جانب . وعلى كل حال مخالفة الهوى توجب شرف الدين وشرف الآخرة وعز الظاهر وعز الباطن ، ومتابعته تضع العبد في الدنيا والآخرة ، وتذله في الباطن والظاهر . وذكر شيخ مشايخنا بسنده عن محمد بن حماد عن الزبير : إذا المرء أعطى نفسه كلما اشتهت ولم ينهها تاقت إلى كل باطل وساقت إليه الإثم والعار للذي دعته إليه من حلاوة عاجل ولأبي إسحاق الشيرازي في مثل ذلك : إذا حدثتك النفس يوما بشهوة وكان عليها للخلاف طريق فخالف هواها ما استطعت فإنما هواها عدو والخلاف صديق { وإذا جمع الله الناس في صعيد واحد نادى مناد ليعلمن أهل الجمع من أهل الكرم اليوم ألا ليقم المتقون ، فيقومون إلى محل الكرامة وأما المتبعون لهواهم ناكسو رءوسهم في الموقف في حر الهوى وعرقه وألمه وحرقه ، وأولئك في ظل عرش الرحمن لا حر ولا ذل ولا هوان } . فإذا علمت هذا .

مطلب : لا تشتغل إلا بما يكسب العلا : فلا تشتغل إلا بما يكسب العلا ولا ترض للنفس النفيسة بالردي ( فلا تشتغل ) بشيء من الأشغال ( إلا بما ) أي بشغل ( يكسب العلا ) من العلم والأدب ومعالي الأمور ومفاخر الرتب ( ولا ترض للنفس النفيسة ) المرغوب فيها لا عنها ( ب ) الفعل ( الردي ) أي المردي لها أو الفعل الذي يؤديها إلى الردي والهلاك ، فإن هذا لا يفعله صديق بصديقه ولا رفيق برفيقه ، والنفس عندك وديعة أودعتها ، وحفيظة استحفظتها ، فلا تذهب بها إلى الهلكات ، ولا تلقها في مهاوي التلفات ، وإذا كنت لا تنصح نفسك التي بين جنبيك ، وتراقب فيها الرب المهيمن عليك ، فيا طول دمارك ، ويا أسفي عليك . فمن لا ينصح لنفسه ، كيف ينصح لأبناء جنسه ، من والديه وولده وحواشيه وعرسه .

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
العلم, طلب

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:12 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir