(43) الزبور:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (34) الزبور
قال عز وجل في نبيه داود عليه السلام: {واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب} [ص: 17 – 20]. وقال فيه أيضًا: {ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد} [سبأ: 10] وقال عز من قائل: {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا} [الإسراء: 55].
كان هذا الفضل من الله، وكان نبي الله داود عبدًا شكورًا.
أنعم الله عز وجل على عبده داود بالصوت الندي، وحلاه باللحن الشجي الرقراق، يسبح ويرنم ويطرب حتى الجماد، ويصدح ويشدو فتشدو على نغماته الطير، وتسبح معه الجبال. وقد عرف داود حق هذه النعمة فوضعها حيث يجب أن تكون: تسبيحًا وتمجيدًا، وتهليلاً وتكبيرًا، واستغفارًا ودعاء، يدعو ربه فيسأله ويستعينه، يهلل لمنة، ويستنصر في الشدة، ويتوجع في المحنة، ويفتن فيندم ويتوب. كان داود بحق إمام المغنين.
وهل أروع وأبدع من هذا الجمال وذاك الجلال، نشيًا من فم داود على مزمار داود، ترنمت به مع داود الجبال والطير يومًا في جنبات أورشليم؟ بل كيف وأنت وقد أسلمت أذنيك لأنغام تلك التسابيح، تشدو بها مع داود الطير، وتصدح الجبال؟
لا غرو قد صار بها مزمار داود مثلاً، حتى قيل على المبالغة في الصوت يعذب ويرق: مزامير داود!
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/152]
أما هذه «المزامير» فهي ذلك الجزء من «توراة الأنبياء والكتبة» المنسوب إجمالاً إلى داود عليه السلام، والمعنون في ترجمات العهد القديم باسم «سفر المزامير»، وهو يضم مائة وخمسين مزمورا، ينسب بعضها فقط إلى داود، وينسب بعضها لابنه سليمان، كما ينسب بعضها لآساف، كبير المغنين في بلاط داود، وبعضها الآخر مسكوت عنه غير منسوب.
ولكن القائلين تلك المزامير من غير داود يأتمون بطريقته، وينسجون على منواله، فلا تدري على التحقيق أي المزامير قالها داود، وأيها الذي لم يقله من بين كل المزامير المنسوبة إليه بالاسم في ذلك السفر من أسفار العهد القديم.
لهذا حرصت ترجمات أهل الكتاب لأسفار العهد القديم على تسمية هذا السفر «سفر المزامير» على التعميم، لا يقولون «مزامير داود» لأنها ليست كلها لداود، وإنما هي «مزامير داود وسليمان وآساف وآخرين». ولئن جازت القداسة لمزامير قالها داود وسليمان عليهما السلام، فلا تجوز القداسة بوجه لمزامير ترنم بها آساف كبيرُ المغنين في بلاط داود، أو قالها من هو دون آساف في هذا البلاط، فلا قداسة إلا لنبي يوحي إليه. وهذا يدلك على أن المجموع بين دفتي هذا العهد القديم ليس كله من وحي الله عز وجل على رسله وأنبيائه، بل منه هذا وذاك. وهو يدلك أيضًا على أن معنى الوحي عند أهل الكتاب ليس هو نفس معناه عند أهل القرآن. ولكن هذا مبحث آخر يخرج بنا عن مقاصد هذا الكتاب الذي نكتب، فلا نستطرد بك إليه.
الذي يعنينا في هذا السياق هو أن مجموع تلك المزامير التي صحت نسبتها إلى داود عليه السلام في ذلك السفر، أعني أيها في علم الله عز وجل صدق، هو فحسب المعنى في القرآن باسم «الزبور»، في مثل قوله عز وجل: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهرون وسليمان وآتينا داود زبورا} [النساء: 163].
على أن العهد القديم في نصه العبراني لا يسمى هذا السفر «سفر المزامير» كما تسميه ترجمات العهد القديم، وإنما اسمه في النص العبراني «سفر تهليم» أي سفر
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/153]
التسابيح، من «هلل» العبري المأخوذ من «هلل» العربي لا بمعنى صاح وصوت، ولكن بمعنى «سبح»، ومنه لفظة «هللويا» الشهيرة في أناشيد أهل الكتاب، وأصلها العبري «هللو – يه»، أي هللوا له، أي سبحوه! يعني سبحوا الله، على التمجيد. فالترجمة العربية الدقيقة لاسم هذا السفر بالعبرانية هي «سفر التسابيح» أو «سفر التهاليل»، لا «سفر المزامير».
ولكن النص العبراني أيضًا لهذا السفر يضع «مزمور» العبرية عنوانًا لكل فصل من فصوله المسماة «مزامير»، تسبق رقم هذا «المزمور» أو ترتيبه بين «المزامير»، فيقول «مزمور ريشون»، أي المزمور الأول، «مزمور شيني»، أي المزمور الثاني، إلى آخر المزامير المائة والخمسين.
ومن هذا اللفظ - «مزمور» العبري – ترخصت الترجمة السبعينية اليونانية لأسفار العهد القديم فأسمته بمجموع ما فيه، أي بصيغة الجمع من «مزمور» فقالت «المزامير». وقد ترجمت اليونانية الكنسية لفظ «مزمور» العبرية بلفظة Psalmos اليونانية، من الفعل اليوناني Psallein، يعني «نتش»، إشارة إلى فعل العازف بأصابعه على ذوات الأوتار، وأخصها «الهارب» Harp، فمعنى Psalmos اليونانية الكنسية في ترجمة «مزمور» العبرية هو المعزوفة على ذوات الأوتار، لا زمر ثم ولا طبل، ولا غاب ولا قصب ولا ناي، كما قد يظن الذين يخلطون بين العبري والعربي. أما الذين ترجموا «مزمور» العبرية إلى Psalmos اليونانية، أي «المعزوفة» أو «الأنشودة» فقد تأثروا بما في بعض المزامير من إشارة في أعلاها إلى آلة العزف المصاحبة لها، وأيضًا بلفظة «سلاه» العبرية التي ترد في بعض مقاطعها، وتفيد في رأي البعض علامة موسيقية يرفع عندها المنشد صوته بمصاحبة الآلة، وفي رأي البعض الآخر علامة موسيقية على الوقف، فأخذوا «مزمور» العبرية بمعنى الأغنية والأنشودة، وهو بالفعل من بين معانيها، بل لا تزال العبرية المعاصرة تستخدم لفظة «زمار» بمعنى «المغني». أما المترجم العربي للعهد القديم فقد تأثر – كما تأثر مفسرو القرآن الأوائل جميعًا – بالتقارب اللفظي الشديد بين «مزمور» العبرية وبين «مزمور» العربية لا فرق بينهما إلا تثقيل الضم بالواو في اللفظة العربية وإبدال الكسرة العبرية فتحة في الميم، فأخذوها بمعنى النفخ في المزمار، ربما لأن المزمور في العربية هو «المزمار» نفسه
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/154]
لا فعل «الزمر»، وقد شهر داود بإجادة النفخ في الناي. ولو درسوا العبرية لعلموا أن المزمار فيها هو «حليل»، أو «نحيلا» أي المثقوبة الجوفاء، من «خلل» العربي بالخاء.
وليس هذا هو المعنى الذي يعنيه القرآن بقوله عز وجل: «وآتينا داود زبورا»، كما سترى.
يجيء «زمر» العربي بمعان منها بالطبع زمر بالمزمار، ومنها أيضًا معنى القلة، يقال عطية زمرة، أي قليلة، ورجل زمر المروءة، يعني قليلها، والزمير يعني القصير، ومنها أيضًا معنى الحسن، والزمور يعني الغلام الجميل، وزمره أيضًا بمعنى مله، يقال زمر الوعاء ونحوه يعني ملأه، وزمر الكلب وغيره يعني وضع في عنقه الساجور أي الغل وهي القلادة التي توضع في عنق الكلب وتنتهي بالسلسلة يمسك بها أو يثبت. ومنها أخيرًا «الزمرة» أي الجماعة أو الفوج من الناس.
أما «زمر» العبري فيجيء بمعان ليس بينها قط الزمار بالمزمار: المعنى الأول والأساسي هو قطع وقسم وشذب، ومنه «زمورا» العبرية بمعنى الغصن والفنن. وهو هنا يشترك مع «زمر» العربي حين تقول بالعربية «زمور» بمعنى الغلام الجميل، تريد «قسيم الوجه». والمعنى الثاني، وهو مشتق من الأول، يستخدم فيه «زمر» العبري مضعفًا، والمراد منه تقطيع القصيد، يعني نظمه، فهو الكلام المقطع المنظوم. والمعنى الثالث، وهو المترتب على الثاني، معنى الإنشاد أو الغناء، ومنه «زمرا» العبرية يعني الأنشودة أو الأغنية (ولا يقال للأغنية «زمرا» إلا إذا كانت قصيدة مغناة)، والمعنى الرابع، وهو المترتب على المعنى الثالث، معنى «اللحن» الموسيقى، أو العزف على آلة موسيقية ما. من هنا تجد أن «زمر» العربي لا يشترك مع «زمر» العبري إلا في معنى «زمور» أي الغلام القسيم الوجه المتناسق الأعضاء. وربما أيضًا في «زمرة» العربية إن اعتبرت الزمرة «قطعة» من الناس، وهو الراجح.
ليست «مزمور» العبرية إذن من الزمر بالمزمار، وإنما هي بمعان ثلاثة هي: الأنشودة – المعزوفة – الكلام المقطع المنظوم أي «المقطوعة».
وقد نظر القرآن إلى هذا المعنى الأخير: المقطوعة والمقطعات، فقال «الزبور»، خلافًا لقول علماء اللغة العربية وكل مفسري القرآن الذين قالوا «الزبور» يعني
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/155]
المكتوب، فهو فعول بمعنى مفعول من زبره يزبره زبرا، يعني كتبه، أو جود كتابته (انظر تفسير القرطبي للآية 163 من سورة النساء)، فهو الكتاب المزبور، بمعنى الكتاب المكتوب. وقد حملهم على اختيار هذا المعنى وحده من بين مختلف معاني مادة «زبر» العربية ورود هذه المادة في مثل قوله عز وجل: {وإنه لفي زبر الأولين} [الشعراء: 196]، يعني القرآن في كتب السابقين، وقوله عز وجل: {وكل شيء فعلوه في الزبر} [القمر: 52] أي قد سجلنا عليهم أعمالهم في الكتب. وكان هذا كافيًا لصدهم عن التماس المعنى الآخر في «زبر» العربي، الذي في قوله عز وجل: {فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون} [المؤمنون: 53]، لا تستطيع أن تقول: فتقطعوا أمرهم بينهم كتبا، أو الذي في قوله عز وجل على لسان ذي القرنين في سورة الكهف: {آتوني زبر الحديد} [الكهف: 96] أي آتوني «قطع الحديد»، بلا خلاف بين المفسرين.
أما مادة «زبر» في معجمك العربي فتجيء بمعان: زبره بالحجارة يعني رماه بها، وزبر البناء يعني وضع بعضه فوق بعض، أي رصه رصًا، وزبره عن الأمر يعني منعه ونهاه، والأصل فيها قطعه عنه، فزبر بمعنى قطع، وزبر الكتاب يعني كتبه، والأصل فيه أتقن كتابته مبينًا مفصلاً «مقطعا»، وهذا هو المعنى الرئيسي في مادة «زبر» الذي يفسر مختلف استخداماتها، ومنها الزبرة بمعنى القطعة أو الكتلة، والزبرة أيضًا بمعنى السندان من هذا: الكتلة من الحديد يطرق الحداد عليها حدائده.
والذي نقول به نحن إن الأصوب في فهم «مزمور» العبرية بكسر الميم، أن تفهم عبريًا على أصل معناها: المقطعة، يعني القصيد المنظوم، فهي المقطعات لا المزامير، ولا تفهم بمعنى الأغنية أو المعزوفة الوترية كما فهمتها ترجمات العهد القديم بدءًا بالترجمة السبعينية اليونانية، فالله عز وجل إنما ينزل على أنبيائه كلامًا، ولا ينزل عليهم موسيقى وألحانًا، إلا أن تقول كما يقول أهل الكتاب أن هذه المزامير – لفظها وألحانها – من صنع من أنشدوها ولحنوها، داود أو غيره، ربما بإلهام من الله عز وجل أو بتوفيق منه، وعندهم أن الإلهام من معاني الوحي، على خلاف أهل القرآن في معنى وحي الله على أنبيائه، لا يكون إلا بملك. بل نحن نذهب إلى أبعد من هذا فنقول إن «زمر» العبري معدول عن زبر العربي، أبدلت باؤه في العبرية ميما.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/156]
بل قد قال هذا – معكوسًا – أدعياءُ الاستشراق المنكرون الوحي على القرآن، الذين زعموا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم سمع «مزمور» العبرية فتحورت عليه إلى الباء، ظنها من «الزبر» فقال «زبرو». وهذا تافه لا يعتد به، لوجود كلتا المادتين في العربية «زمر»، «زبر» خلافًا للعبرية التي ليس فيها إلا «زمر» وحده بالميم، بل قد فهم القرآن المراد من «زمر» العبري على أصله «تقطيع القصيد» فجاء به على «زبور» ولو فهم منه المعنى الغنائي لقال «زمور» بالميم، وسبحان العليم الحكيم.
أما «الزبور» العربية القرآنية في وصف وحي الله عز وجل على نبيه داود عليه السلام، فليس بجيد فهمها بمعنى مطلق الكتاب، وإلا لما تميز وحي الله على داود باسم علم يختص به من دون كتب الله على رسله، كما اختص باسمه العلم كل من التوراة والإنجيل والقرآن، وإنما أريد له معنى مضاف يميزه عن غيره من الكتاب المكتوب، فقيل له «زبور» بمعنى «مزبور»، منظورًا في ذلك إلى مادته وصيغته: إنه كتاب «تسابيح» مقطعات.
كان «الزبور» كما رأيت تسابيح وتهاليل، ليس فيه شيء من التعاليم أو التكاليف كالذي تجد في توراة موسى ,إنجيل عيسى وقرآن خاتم النبيين، دليلك في هذا ما بَقى من وحي الله على داود في تلك المزامير التي في العهد القديم، ودليلك في هذا، بل قبل هذا، من القرآن نفسه، الذي لا يذكر الزبور بالاسم كلما جمع بين القرآن وبين توراة موسى وإنجيل عيسى، كما تجد في قوله عز وجل: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن} [التوبة: 111]، بل لا يجمع بين التوراة والإنجيل وبين الزبور في سلك واحد حين ذكر ما علمه الله عبده ورسوله عيسى ابن مريم: {ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل} [آل عمران: 48]، وما ذاك إلا لأن التسابيح ليست علما يعلم، فهي ليست من ذات جنس «كتب» الله على أنبيائه، وإن كانت وحيًا منه تبارك وتعالى على نبيه داود، صلوات الله وسلامه على جميع رسله وأنبيائه. بل قد كانت خصيصة لداود
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/157]
عليه السلام، فضلا آثره به عز وجل من دون أنبيائه، لقوله عز وجل: {ولقد فضلنا بعض الأنبياء على بعض وآيتنا داود زبورا} [الإسراء: 55].
وسبحان العليم الخبير.
«الزبور» إذن عربية، ليس فيها شبهة عجمة، ومن ثم فهي لا تدخل في مقاصد هذا الكتاب، لأنها ليست من العلم الأعجمي الذي يفسره القرآن للعرب وفق منهجنا في هذا الكتاب الذي نكتب، ولكننا تصدينا لها لجلاء شبهات فهمها عربيًا بغير معناها المقصود في القرآن، ودفعًا لمقولة أدعياء الاستشراق إنها من الأعجمي الذي عربه القرآن فأبدل من الميم التي في «مزمور» العبرية باء. على أن القرآن قد فسر المراد من «زبور داود» بالتصوير والمرادف بالقريب: لا تجد أبلغ من قوله عز وجل: {إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب} [ص: 18 – 19] وقوله عز وجل: {يا جبال أوبي معه والطير} [سبأ: 10]، والتأويب يعني ترجيع الصوت. كان داود عليه السلام كثير التسبيح، يتغنى به، فأعطاه الله ما يسبح به كلامًا منه عز وجل ترجعه الطير والجبال، وسبحان العزيز الوهاب).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 152-158]