تفسير " لَهْوَ الْحَدِيثِ"
بسم الله ، والحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه ، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فقد ورد ذكر " لَهْوَ الْحَدِيثِ" بهذا اللفظ في القرآن مرة واحدة :
- في سورة لقمان {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}
وقد اختلفت عبارات السلف في تفسير قوله تعالى { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} على وجهين :
الوجه الأول :
المراد بالشراء المذكور في الآية هل هو على حقيقته أو كناية عن الإرادة والاستحباب.
الوجه الثاني :
في المراد بلهو الحديث هل يختص بالغناء فقط أم يشمل كل لهو ولعب و كل قول باطل أم هو الشرك .
وسنفصل بإذن الله تعالى الأقوال في تلك المسائل لنفهم حقيقة الخلاف بين السلف وطبيعته ونتبين المراد من قول الله تعالى { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} .
أولًا : الأقوال في سبب نزول قوله تعالى { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ }
القول الأول : نزلت في النضر بن الحارث
القول الثاني : نزلت في بعض بني عبد الدار
والظاهر والله أعلم أن بداية نزول الآية كانت في النضر بن الحارث، وأما قول عبد الرزاق أنها نزلت في بعض بني عبد الدار فلا ينافي ذلك لأن النضر بن الحارث من أعلام بني عبد الدار ومن كبارهم ورؤسائهم.
والظاهر أن حديث أبي أمامة هو من باب التفسير بالمثال أن الآية تشمل هذا النوع من اللهو وهو الغناء فالخلاف في أسباب النزول لا يعد خلافًا في كثير من أحواله عند السلف لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب والآية تشمل كل من انطبق عليه المعنى المقصود ولذلك كان قول مجاهد وابن عباس يؤكد ذلك .
ثانيًا : أقوال الصحابة والتابعين في تفسير قول الله تعالى { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} .
ذكر الطبري اختلاف أهل التأويل في ذلك على وجهين
الوجه الأول :
المراد بالشراء المذكور في الآية وفيه قولان :
القول الأول :
المقصود به الشراء المعروف بالثمن
قال ابن جرير (ت:310 هـ): فقال بعضهم: من يشتري الشراء المعروف بالثمن، ورووا بذلك خبرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهو ما حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن خلاد الصفار، عن عبيد الله بن زَحْر، عن عليّ بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أُمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحِلُّ بَيْعُ المُغَنِّيَاتِ، وَلا شِرَاؤُهُنَّ، وَلا التِّجارَةُ فِيهِنَّ، وَلا أثمَانُهُنَّ، وفيهنّ نـزلت هذه الآية: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ) ".
- حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم أو مقسم، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: شراء المغنية.
وهو ما رجحه ابن جرير الطبري وقال (وأولى التأويلين عندي بالصواب تأويل من قال: معناه: الشراء، الذي هو بالثمن، وذلك أن ذلك هو أظهر معنييه.
فإن قال قائل: وكيف يشتري لهو الحديث؟ قيل: يشتري ذات لهو الحديث، أو ذا لهو الحديث، فيكون مشتريا لهو الحديث ).
القول الثاني :
أن الشراء كناية عن اختيار لهو الحديث واستحبابه ومن أدلة ذلك القول :
- قال يَحيى بن سلاَّم بن أبي ثعلبة البصري (ت: 200هـ): وتفسير السّدّيّ: {من يشتري لهو الحديث} [لقمان: 6]، يعني: يختار باطل الحديث على القرآن.
- قال عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (أنا معمر عن قتادة في قوله ومن الناس من يشتري لهو الحديث قال أما والله لعله ألا يكون أنفق فيه مالا وبحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق.
- قال ابن جرير (ت:310 هـ):حدثني محمد بن خلف العسقلاني، قال: ثنا أيوب بن سويد، قال: ثنا ابن شوذب، عن مطر في قول الله:(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ )قال: اشتراؤه: استحبابه.
- قال عبد الرحمن ابن أبي حاتم الرازي (ت: 327هـ) :عن قتادة رضى الله عنه في قوله { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ}
قال : شراؤه استحبابه وبحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق.
وقد حكى الخلاف في مسألة دلالة لفظ ( يشترى ) الطبري ولم أقف على قول غيره من المفسرين أن بها خلاف والظاهر والله أعلم أن اللفظ يحتمل المعنيين سواء كان الشراء المعروف بالثمن أو الاختيار والاستحباب.
ويدل على ذلك ما روي عن مجاهد بن جبر:
- أخبرنا عبد الرحمن عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ}
قال: هو اشتراء المغني والمغنية بالمال الكثير ، والاستماع إليهم وإلى مثله من الباطل . ( تفسير الإمام مجاهد )
فأشار مجاهد إلى المعنيين الشراء والاستماع وشمل كل ما يشبه الباطل ومعلوم أن الباطل من القول ومن اللهو أنواع عدة لا يمكن حصرها ولا شراؤها بالثمن .
كما أن حديث أبو أمامة كما تقدم هو من باب التفسير بالمثال وليس الحصر فلا فارق بين من يشترى مغنية وبين من حضر واستمع فكلهم ينطبق عليهم قول الله تعالى{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ}
الوجه الثاني :
في المراد بقوله تعالى " لهو الحديث "
أكثر المفسرين من الصحابة والتابعين والسلف الصالح على أن المراد ب " لهو الحديث " الغناء والاستماع له
وقد تقدم إيراد أسباب نزول الآية ما يؤيد هذا القول من حديث أبي أمامة وقول ابن عباس ومجاهد ومن أدلة هذا القول أيضًا :
-
قال ابن جرير (ت:310 هـ):حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عثام بن عليّ، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن شعيب بن يسار، عن عكرِمة قال:(لَهْوَ الحَدِيثِ): الغناء.
-
حدثنا الحسن بن عبد الرحيم عن جابر في قوله:(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ)قال: هو الغناء والاستماع له .
وقد أفرد ابن جرير الطبري معنى اللهو : الطبل كقول ثالث في الخلاف وذكر هذا الدليل
حدثني عباس بن محمد، قال: ثنا حجاج الأعور، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قال: اللهو: الطبل.
والظاهر أن الطبل من المعازف والتى يشملها القول الأول أنه الغناء والاستماع له ويشمل ذلك أدواته أيضًا .
-
عن عطاء الخراساني رضى الله عنه { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} قال : الغناء والباطل .
-
عن الحسن رضى الله عنه قال : نزلت هذه الآية { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} في الغناء والمزامير .
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) :قال أبو جعفر : وأبين ما قيل في الآية ما رواه عبد الكريم , عن مجاهد قال: الغناء , وكل لعب لهو .
القول الثاني :
الشرك.
قال يَحيى بن سلاَّم بن أبي ثعلبة البصري (ت: 200هـ): (قوله عزّ وجلّ: {ومن النّاس من يشتري لهو الحديث} [لقمان: 6]،يعني: الشّرك.
وهو كقوله: {أولئك الّذين اشتروا الضّلالة بالهدى} [البقرة: 175] اختاروا الضّلالة على الهدى في تفسير الحسن.
قال ابن جرير (ت:310 هـ):ذكر من قال بذلك
- حديث عن الحسين،قال: سمعت أبامعاذ، يقول: أخبرنا عبيد،قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ)يعني: الشرك.
- حدثني يونس ، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيل اللهِ بغيرِ عِلْمٍ وِيتَّخِذَها هُزُوًا ) قال: هؤلاء أهل الكفر،ألا ترى إلى قوله: { وَإِذَاتُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَاكَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا } فليس هكذا أهل الإسلام ، قال: وناس يقولون: هي فيكم وليس كذلك،قال: وهوالحديث الباطل الذي كانوا يلغون فيه.
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ(ت: 311هـ) :وقد قيل في تفسير هذه الآية: إن لهوالحديث ههنا: الشرك.
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ):وروى علي بن الحكم , عن الضحاك : {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} , قال : (الشرك) .
ثالثًا : القول الراجح .
وأما الخلاف في معنى " لهو الحديث "
فالظاهر والله أعلم أنه من اختلاف التنوع والتفسير بالمثال وهو من الخلاف الغالب على أقوال المفسرين والمعنى شامل لكل باطل ولهو يتخذه المرء دون ذكر الله .
وقد رجح ابن جرير الطبري هذا القول فقال:
" والصواب من القول في ذلك أن يقال: عنى به كلّ ما كان من الحديث ملهيا عن سبيل الله مما نهى الله عن استماعه أو رسوله؛ لأن الله تعالى عمّ بقوله:(لَهْوَ الحَدِيثِ)ولم يخصص بعضا دون بعض، فذلك على عمومه حتى يأتي ما يدلّ على خصوصه، والغناء والشرك من ذلك ."
وقد ورد في ذم الغناء أحاديث وآثار تدل على بطلانه نذكر منها :
- قال جلال الدين عبد الرحمن ابن أبي بكر السيوطي (ت: 911هـ): أخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في سننه عن ابن مسعود قال : الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع ، والذكر ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء الزرع.
- أخرج ابن أبي الدنيا وابن مردويه عن أبي أمامة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( ما رفع أحد صوته بغناء إلا بعث الله إليه شيطانين يجلسان على منكبيه يضربان بأعقابهما على صدره حتى يمسك )
- أخرج ابن أبي الدنيا وابن مردويه عن أبي أمامة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( ما رفع أحد صوته بغناء إلا بعث الله إليه شيطانين يجلسان على منكبيه يضربان بأعقابهما على صدره حتى يمسك )
- وأخرج ابن أبي الدنيا عن القاسم بن محمد أنه سئل عن الغناء فقال : أنهاك عنه وأكرهه لك ، قال السائل : أحرام هو ؟ قال : انظر يابن أخي إذا مير الله الحق من الباطل في أيهما يجعل الغناء ؟
وورد كذلك أحاديث تدل على أن الغناء وانتشاره من علامات الساعة : - حديث عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف، قال رجل من المسلمين: يا رسول الله، ومتى ذلك؟ قال: إذا ظهرت القينات والمعازف وشربت الخمر. رواه الترمذي وصححه الألباني.
- حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (ليكوننّ من أمتي أقوام، يستحلّون الحِرَ والحرير، والخمر والمعازف….. ) رواه البخاري
- حديث أنس بن مالك رضي الله عنه،أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا استحلّت أمتي ستاً فعليهم الدمار: إذا ظهر فيهم التلاعن، وشربوا الخمور، ولبسوا الحرير، واتخذوا القِيَان...) رواه الطبراني في المعجم الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان.
والظاهر من قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا استحلّت أمتي ستاً) أن الاستحلال له معنيان، أن يكون على وجه الاعتقاد بحلّه، أو الإكثار من فعل هذه المذكورات، وكلاهما محتملٌ في الحديث.
- عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند نعمة، ورنة عند مصيبة) والحديث صححه الألباني في تحريم آلات الطرب.
وهذا مشاهد في عصرنا هذا نسأل الله النجاة من الفتن ما ظهر منها وما بطن ونسأله تعالى الهداية والرشاد لأمة المسلمين كافة إنه ولي ذلك والقادر عليه ، اللهم آمين وصل اللهم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ، والحمد لله رب العالمين .
__________________________________
(1) تفسير مجاهد بن جبر مجاهد بن جبر المخزومي مولاهم (ت: 102هـ)، تحقيق: عبد الرحمن الطاهر السورتي،، مجمع البحوث الإسلامية في باكستان.
(2) الجامع في علوم القرآن ، عَبْدُ اللهِ بنُ وَهْبٍ المَصْرِيُّ (ت: 197 هـ) ، جمهرة العلوم .
(3) تفسير القرآن العظيم - يَحيى بن سلاَّم بن أبي ثعلبة البصري (ت: 200هـ) – جمهرة العلوم
(4) تفسير القرآن العزيز – عبد الرزاق بن همام الصنعاني(ت: 211هـ)،تحقيق: مصطفى مسلم،مكتبة الرشد.
( 5)معاني القرآن ، إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) ، جمهرة العلوم .
(6) تفسيرالقرآن العظيم،عبد الرحمن ابن أبي حاتم الرازي(ت: 327هـ)، تحقيق: أسعد محمد الطيب،مكتبة نزار.
(7) تفسير الطبري – برنامج آيات – مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود
(8)معاني القرآن ، أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) ، جمهرة العلوم
(9) أسباب نزول القرآن ، الإمام أبي الحسن على بن أحمد الواحدي ( 468 ه ) ، تحقيق : كمال بسيوني زغلول ، دار الكتب العلمية بيروت – لبنان ، الطبعة الأولى .
( 10) الدر المنثور في التفسير بالمأثور ، جلال الدين السيوطي ( 911 ه ) تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي،،مركز هجر للبحوث ، الجزء الحادي عشر .
(11) آيات الغدير، مركز المصطفى للدراسات الإسلامية.
http://books.rafed.net/view.php?type=c_fbook&b_id=38&page=343
(12) إسلام ويب
http://fatwa.islamweb.net/fatwa/index.php?page=showfatwa&Option=FatwaId&Id=54316