اسمه ونسبه:
هو: سفيان بن سعيد بن مسروق الثَّوري، وهذه النسبة إلى أحد أجداده، وهو: ثور بن عبد مناة بن أدِّ بن طانجة بن إلياس بن مضر بن نزار بن مَعَدِّ بن عدنان. يجتمع نسبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في "إلياس بن مضر". وكنيته "أبو عبد الله".
مولده ونشأته:
ولد في الكوفة سنة 97 هـ، ونشأ فيها، في وسط علمي، إذ كانت الكوفة في ذلك العصر مركزاً من مراكز العلم والسنة، وربما يكون كثير من مثقفَّينا لم يرسخ في ذهنه إلا صورة سيئة عنها، لما عُرفت به من الفتن والحركات المنحرفة، فليس هذا على إطلاقه، بل كانت تزخر في القرون الأولى بعشرات الأعلام من المحدثين والفقهاء والقضاة واللغويين وغيرهم، فكان ذلك سبباً عاماً لتوجه الإمام الثوري رحمه الله العلمي، وتوفر له سببان آخران:
الأول: عناية والدَيْه به، أما والده: سعيد بن مسروق، فقد كام من محدثي الكوفة وثقاتهم، وعداد في صغار التابعين، روى له أصحاب الصحيحين والسنن والمسانيد، مات سنة (126 هـ). وأما والدته: فقد كانت سيدة فاضلة، كانت تقول لولدها: "يا بنيَّ اطلب العلم، وأنا أكفيك بمغزلي". وكانت رحمها الله تتابعه على هذا السبيل، وتنصحه، قال وكيع: قالت أمُّ سفيان الثوري لسفيان: يا بنيَّ إذا كتبتَ عشرة أحرفٍ فانظر هل ترى نفسك زيادةً في خشيتك، وحِلْمك، ووقارك، فإن لم ترَ ذلك، فاعلم: أنها تضرك ولا تنفعك.
الثاني: ما خصَّه الله تعالى به من الذكاء والحفظ، فكان ينوّه بذكره من صغره من أجل ذلك، وانتشر خبره وهو شاب، حدَّث أبو المثنى، قال: سمعتهم بمرو، يقولون: قد جاء الثوري. فخرجت أنظر إليه، فإذا هو غلام قد بقل وجهه [2]. وقال عبد الرحمن بن مهدي، رأى أبو إسحاق السَّبيعيُّ سفيان الثوريَّ مقبلاً، فقال: {وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12]. وقد أخبر سفيان رحمه الله عن توقّد حافظته بقوله: إني لأمرُّ بالحائك، فأسدُّ أذني مخافة أن أحفظ ما يقول. ولهذا كان يقول: ما استودعتُ قلبي شيئاً فخانني. وقد شهد له غير واحدٍ من الأئمة بذلك ـ كما سيأتي ـ.
مشائخه وتلاميذه:
لقي سفيان جماعة كبيرة من التابعين، وروى عنهم، وقد ذكروا في ترجمته ـ منهم وممن بعدهم من تابعيهم ـ نحو ثلاث مئة شيخ، من كبارهم: حبيب بن أبي ثابت، وسلمة بن كهيل، وزياد بن علاقة، وعمرو بن مرة، ومحمد بن المنكدر، وبابتهم، قال الذهبي: ويقال إن عدد شيوخه ستَُ مئة شيخ، وكبارهم الذين حدثوه عن أبي هريرة، وجرير بن عبد الله، وابن عباس، وأمثالهم ـ وقرأ الختمة عَرْضَاً [3] على حمزة الزَّيَّات، أربع مرَّات.
وحمل العلم عنه خلق كبير، وفيهم من القدماء مَنْ مات قبله، كالأعمش وأبو حنيفة والأوزاعي ومسعر وشعبة، وغيرهم. وقد ذكر أبو الفرج ابن الجوزي أن الرواة عنه: أكثر من عشرين ألفاً. لكن ردّ الذهبي هذا، فقال: وهذا مدفوع ممنوع، فإن بلغوا ألفاً فبالجَهْد [4]، وما علمتُ أحداً من الحفَّاظ روى عنه عددٌ أكثر من مالك، وبلغوا بالمجاهيل والكذابين ألفاً وأربع مئة!.
منزلته العلمية:
قال شعبة، وابن عيينة، وأبو عاصم، ويحيي بن معين، وغيرهم: سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث.
وقال عبد الله بن المبارك: كتبتُ عن ألف ومئة شيخ، ما كتبتُ عن أفضل من سفيان.
وقال أبو أيوب السختياني ـ وهو من شيوخه -: ما لقيتُ كوفياً أُفضِّله على سفيان.
وقال يونس بن عبيد: ما رأيتُ أفضل من سفيان. فقيل له: فقد رأيتَ سعيد بن جبير، وإبراهيم، وعطاء، ومجاهد، وتقول هذا؟! قال: هو ما أقول: ما رأيتُ أفضل من سفيان.
وكان شعبة يقول: سفيان أحفظ مني. وقال عبد العزيز بن أبي رزمة قال رجل لشعبة: خالفكَ سفيان. فقال: دمغتني!!.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: كان وهَيْب: يُقدِّمُ سفيان في الحفظ على مالك.
وقال يحيى بن سعيد القطان: سفيان أشد من شعبة وأعلم بالرجال.
ومن هنا فإن ما رواه: سفيان عن منصور عن إبراهيم عن عقبة عن عبد الله بن مسعود، فهو من أصح الأسانيد عنه رضي الله عنه [5]. بل قال الذهبيُّ: أجلُّ إسنادٍ للعراقيين.
هذه منزلته في الحديث، ولما كان العالم كلما كان أعلم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم ـ حفظاً وعنايةً ودرايةً ـ كان أعظم فقهاً في دين الله تعالى، لهذا كان سفيان ـ كما يقول الفُضيل بن عياض رحمه الله ـ "أعلم من أبي حنيفة" رحمه الله. ويقول ابن عيينة: ما رأيتُ رجلاً أعلم بالحلال والحرام من سفيان. بل هذا عبد الرحمن بن مهدي يذكر سفيان، وشعبة، ومالكاً، وابن المبارك. ثم يقول: أعلمهم بالعلم سفيان.
وقال عباس الُّدوري: رأيتُ يحيى بن معين لا يقدِّم على سفيان أحداً في زمانه، في الفقه والحديث والزهد، وكلِّ شئٍ.
بماذا ساد النَّاس:
لقد بلغ سفيان منزلةً عظيمةً في زمانه، أهَّلته لأن يُفضَّل على معاصريه من الأئمة الكبار تفضيلاً عاماً، كما رأيت في النصوص المتقدمة، وهناك نصوص أخرى، منها قول الإمام أحمد رحمه الله: "أتدري من الإمام؟ الإمام سفيان الثوري لا يتقدمه أحد في قلبي". والإمام أحمد في هذا على رأي شيخه سفيان بن عيينة رحمه الله، فقد حدّث عنه أنه قال له: "لن ترى بعينيك مثل سفيان الثوري حتى تموت". ويقول بشر الحافي كان الثوري عندنا إمام الناس. ويقول: سفيان في زمانه كأبي بكرٍ وعمرَ في زمانهما.
فبماذا نال الإمام الثوري رحمه الله هذه المرتبة الشريفة؟
يجيبنا شعبة بن الحجاج رحمه الله، فيقول: "ساد سفيانُ الناسَ بالورع، والعلم".
وهذا قريب من تلك الكلمة التي اشتهرتْ عن الإمام ابن القيم رحمه الله، وهي قوله: "بالصبر واليقين، تنالُ الإمامةُ في الدِّين". فإن حقيقة الورع هو: الصبرُ عن كل ما تخافُ ضرره عليكَ في دينك وآخرتك. واليقينُ هو ثمرة العلم، فلا يقينَ بغير علمٍ، بل لا يقين إلا بالعلم الأثريِّ الصحيح، ولهذا كان أكثر الناس شكاً عند الموت أهل الكلام [6]، لأنهم محجوبون عن العلم السَّلفي النافع الموروث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام.
فإذا جُمع للعالم هذان الأصلان، ترقى في مدارج السالكين، وبلغ منزلة الإمامة في الدين، فيكون حجةً من الله تعالى على عباده، بعلمه ودعوته، وخُلقه وسيرته، وهكذا كان سفيان، قال شعيب بن حرب: إني لأحسب أنه يُجاء غداً بسفيان حجةً من الله على خلقه. يقول لهم: لم تدركوا نبيكم فقد رأيتم سفيان!
مذهبه في الزهد:
كان سفيان رحمه الله إماماً في الزهد والتألُّه والخوف، غير أن له مذهباً متميزاً في ذلك، فقد كان كثير من أهل الزهد انتهوا في زهدهم إلى الجوع والتقشُّف الشَّديد وترك التكسب، فأورث بعضهم أمراضاً وأوجاعاً، وحاجة إلى الناس، أما سفيان فقد كان متيقظاً لعاقبة ذلك، خاصةً: وقد فسد الزمان، واشتد الأمر، فكان يقول: كان المالُ فيما مضى يُكره، أما اليومَ فهو ترس المؤمن.
ونظر إليه رجل وفي يده دنانير، فقال: يا أبا عبدالله! تمسك هذه الدنانير. قال: اسكت: فلولاها لتمندل بنا الملوك!
وقال حذيفة المرعشي: قال سفيان: لأن أخلِّف عشرة الآف درهم، يحاسبني الله عليها، أحبُّ إليّ من أن أحتاج إلى الناس. وكان رحمه الله يأكل الجيّد من الطعام، يتقوى به على طاعة الله، قال عبد الرزاق الصنعانيُّ: لما قدم سفيان علينا، طبخت له قدر سِكْباج ـ لحمٌ يُطبخ بخلٍّ ـ فأكلَ، ثم أتيته بزبيبِ الطائف فأكلَ، ثم قال: يا عبد الرزاق! اعْلِف الحمارَ وكدَّه. ثم قام يصلي حتى الصباح.
وقال مؤمل: دخلت على سفيان وهو يأكل طباهج ـ وهو اللحم المشرّحُ ـ ببيضٍ، فكلّمته في ذلك، فقال: لم آمركم أن لا تأكلوا طيباً. اكتسبوا طيباً، وكلوا.
ويبيُّن مذهبه في الزهد في كلمةٍ جامعةٍ، فيقول رحمه الله: ليس الزُّهد بأكلِ الغليظ، ولبس الخشن، ولكنه قصر الأمل، وارتقاب الموت.
ويقول رحمه الله: الزُّهد زهدان، زهدُ فريضةٍ، وزهدُ نافلةٍ، فالفريضة: أن تدع الفخر والكبر والعلو، والرِّياء والسُّمعة، والتزيُّن للنَّاس. وأما زهد النافلة: فأن تدع ما أعطاكَ اللهُ من الحلال، فإذا تركت شيئاً من ذلك، صار فريضةً عليكَ ألا تتركه إلا لله.
مذهبه في العزلة:
كنتُ ذكرت في ترجمة الأوزاعي رحمه الله، قول أبي إسحاق الفزاري عن الثوري: "كان رجل خاصّة نفسه"، فناسب هنا أن أذكر بعض أقواله في اختيار العزلة والزهد في الناس.
قال عبد الله بن المبارك رحمه الله، قال لي سفيان: إياك والشهرة، فما أتيتُ أحداً إلا وقد نهى عن الشهرة.
وقال رحمه الله: ما رأيتُ للإنسان خيراً من أن يدخل جُحْراًً.
وقال رحمه الله: كثرة الإخوان من سخافة الدين.
وقال رحمه الله: أقِلَّ من معرفة الناس، تقلّ غيبتك.
وقال: الزهد في الدنيا هو الزهد في الناس، وأولَ ذلك زهدك في نفسك.
وقال: السلامة في أن لا تحبَّ أن تُعرف.
وقال: وجدتُ قلبي يصلح بين مكة والمدينة، مع قوم غرباء، أصحاب صوفٍ وعباءٍ.
وربما يكون هذا لما في الخلطة من التعرّض لتفاصيل حياة الناس التي لا تخلو من المنكرات، وقد يكون لا يستطيع إنكارها في بعض الأحايين، فيضيق صدره، كما قال سفيان: إنى لأرى المنكر، فلا أتكلم، فأبول أكدمَ دماً. ولكن إذا كانت الخِلْطة لابد منها، فلابد إذن من القيام بالممكن من الأمر والنهي، قال شجاع بن الوليد: كنت أحجُّ مع سفيان، فما يكاد لسانه يفتر من الأمرِ بالمعروف، والنهي عن المنكر، ذاهباً وراجعاً.
عنايته بالحديث النبوي:
كان لسفيان رحمه الله عناية بالغة، بالحديث حفظاً وسماعاً ومذاكرة، حتى قيل له: إلى متى تطلب الحديث؟ فقال: وأيّ خيرٍ أنا فيه خير من الحديث فأصير إليه، إن الحديث خير علوم الدنيا. ذلك لأنه كما يقول: ليس شئ أنفع للناس من الحديث.
ولكن هنا عقبات:
أولها: تصحيح النية. قال سفيان: "ما عملٌ أفضل من الحديث إذا صحَّت النية". ويقول عن الحديث: "ما يَعْدِله شئ لمن أراد به الله". وربما يتوجه المرء إلى طلب العلم وليس به كبر نية، فيرزقه الله النية الخالصة، بتجرّده وحسن قصده، كما قال سفيان: "طلبتُ العلم فلم يكن لي نية، ثم رزقني الله النية". وهذه الكلمة قد ردّدها غير واحدٍ من الأئمة رحمهم الله تعالى، وقصدهم منها محاسبة النفس، وتحقيق الإخلاص، وإلا فإن مجرّد طلب الحديث دليل على النية الحسنة، قال يحيى بن اليمان: قيل لسفيان: ليس لهم نية ـ يعني أصحاب الحديث -؟! قال: طلبهم له نية، لو لم يأتني أصحاب الحديث لأتيتهم في بيوتهم.
ثانيها: أن زيادة العلم من زيادة حجة الله على عبده. يقول سفيان: وددتُ أن علمي نسخ من صدري، لستُ أريد أن أسأل غداً عن كل حديثٍ رويته: أيش أردت به؟ ولهذا كان رحمه الله ما يبلغه حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ويعمل به، ولو مرّة.
ثالثها: أن للاشتغال بالحديث بعض الآفات يجب الحذر منها، مثل التحديث عن الضعفاء، أو التدليس ـ وكان سفيان ربما دلَّس -، أو الابتلاء بشهوة الحديث، كما قال يحيى القطَّان: كان الثوري قد غلبت عليه شهوة الحديث ما أخاف عليه إلا من حبّه للحديث!
وهذه العقبات شغلت بال الثوري، وأهمَّته، فكان يقول: ما أخاف على شئ أن يدخلني النار، إلا الحديث، ويقول: من يزدد علماً يزدد وجعاً، ولو لم أعلم كان أيسر لحزني.
بعض أقواله في بيان العقيدة السلفية:
· في الإيمان: قال أبو نعيم، سمعتُ سفيان ، يقول: الإيمانُ يزيد وينقصُ.
وقال عبد الرزاق: سمعت مالكاً، والأوزاعيَّ، وابن جُريج، والثوريَّ، ومَعْمراً، يقولون: الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص.
قال أبو بكر بن عيَّاش: كان سفيان ينكر على من يقول: العبادات ليست من الإيمان.
ولم يصلِّ سفيان على عبد العزيز بن أبي رواد، ومسعر بن كدام، لأنهما كانا يقولان بالإرجاء.
· في الأسماء والصفات: قال معدان، سألت الثوري عن قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]؟ قال: علمه.
وسئل رحمه الله عن أحاديث الصفات. فقال: أَمِرُّوها كما جاءت.
وقال رحمه الله: من زعم أن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مخلوق، فقد كفر بالله ـ عز وجل ـ.
· في الصحابة: قال رحمه الله: من قدَّم على أبي بكرٍ وعمر أحداً فقد أرزى على اثني عشر ألفاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفي رسول الله وهو عنهم راضٍ.
قال الفريابي، سمعت سفيان ـ ورجل يسأله: عن من يشتم أبا بكرٍ ؟ - فقال: كافر بالله العظيم. قال نصلي عليه؟ قال: لا، ولا كرامة. قال: فزاحمه الناس حتى حالوا بيني وبينه، فقلت للذي قريباً منه: ما قال؟ قال: قلنا هو يقول لا إله إلا الله ما نصنع به؟ قال: لا تمسوه بيديكم، ارفعوه بالخشب حتى تواروه في قبره.
وقال رحمه الله: لا يجتمع حبّ عليّ وعثمان إلا في قلوب نبلاء الرجال.
ومع هذا كان فيه رحمه الله تشيُّع يسير، كان يقدّم علياً على عثمان، فربما يكون هذا في أول أمره، فإنه نشأ في الكوفة، وكان هذا هو المذهب الغالب فيها، وقد فرَّج عنا زيد بن الحباب رحمه الله فقال: خرج سفيان إلى أيوب السختياني، وعبد الله بن عون، فترك التشيّع!.
· في اتباع السنة: قال ابن ادريس: ما رأيتُ بالكوفة رجلاً أتبع للسنة ولا أودُّ أني في مسلاخه ـ أي: في هديه وسَمْته ـ من سفيان الثوري. وقال سفيان رحمه الله: الإسناد سلاح المؤمن، فمن لم يكن له سلاح فبأي شئ يقاتل.
وعنه: من أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة ـ وهو يعلم ـ خرج من عصمة الله، ووكل إلى نفسه. وعنه: من سمع ببدعة فلا يحكها لجلسائه، لا يُلْقها في قلوبهم [7].
وقال شعيب بن حرب، قال سفيان: لا ينفعك ما كتبتَ حتى يكون إخفاء (بسم الله الرحمن الرحيم) في الصلاة أفضل عندك من الجهر.
وقال ابن المبارك عن سفيان: استوصوا بأهل السنة خيراً، فإنهم غرباء.
قلتُ: رحم الله سفيان! يقول هذا في زمانه، والسنة ظاهرة، وأئمة العلم متوافرون، فكيف لو رأى زماننا مع ظهور أصناف البدع، وغربة العلم وأهله!
محنته مع السلطان:
لم يكن سفيان رحمه الله يرى الخروج أصلاً، وبهذا جزم الذهبي رحمه الله، بل كان ينكره إنكاراً شديداً، كما يظهر من موقفه الصارم من الحسن بن صالح بن حي، الذي كان يرى الخروج[8]. ولكنه مع هذا ابتلي بظلم السلطان، والسبب في ذلك: أنه كان ينكر على الولاة إنكاراً شديداً، ويستعمل عبارات قاسية في حقهم، وكان مذهب الخروج مشهوراً في الكوفة، فيظهر ـ والله أعلم ـ أنهم خافوا أن ينتهي أمره إلى الخروج.
فمن أقواله فيهم:
قال يوسف بن أسباط، قلت لسفيان: معاملة الأمراء أحبُّ إليك أم غيرهم. فقال لي: معاملة اليهود والنصارى أحبّ إليّ من معاملة هؤلاء.
وقال رحمه الله: النظر إلى وجه الظالم خطيئة. وقال: لاتنظروا إلى الأئمة المضلين إلا بإنكار من قلوبكم عليهم لئلا تحبط أعمالكم. وقال: لا تنظروا إلى دورهم ولا إليهم إذا مرُّوا على المراكب. وقال: القبول مما في أيديهم من استحلال المحارم، والتبسم في وجوههم علامة الرضا بفعالهم، وإدمان النظر إليهم يميت القلب، من رأى منكم خرقةً سوداء فليدُّسها ولا يمسَّها مسَّاً [9].
وقيل[10]: إن عبد الصمد ـ عمَّ المنصور ـ دخل على سفيان يعوده، فحوّل وجهه إلى الحائط، ولم يردّ السلام. فقال عبد الله: يا سيف! أظنُّ أبا عبد الله نائماً. قال: أحسب ذاك ـ أصلحك الله! ـ. فقال سفيان: لا تكذب، لست بنائم. فقال عبد الصمد: يا أبا عبد الله! لك حاجة؟ قال: نعم، ثلاث حوائج: لا تعود إليَّ ثانية, ولا تشهد جنازتي، ولا تترحم عليَّ!! فخجل عبد الصمد، وقام، فلما خرج، قال: لقد هممتُ أن لا أخرج إلا ورأسه في معي.
وهكذا بدأت محنة هذا الإمام رحمه الله، قال عبد الرزاق: بعث أبو جعفر [المنصور] الخشَّابين حين خرج إلى مكة، وقال: إن رأيتم سفيان الثوريَّ فأصلبوه. فجاء النجَّارون، ونصبوا الخشب، ونودي عليه، فإذا رأسه في حجر الفضيل بن عياض، ورجلاه في حجر ابن عيينة، فقيل له: يا أبا عبد الله! اتق الله، لا تشمِّتْ بنا الأعداء، فتقدَّم إلى الأستار، ثم أخذه، وقال: برئتُ منه إن دخلها أبو جعفر. قال فمات أبو جعفر قبل أن يدخل مكة، فأُخبر به سفيان، فلم يقل شيئاً.
قال الذهبي: هذه كرامة ثابتة.
ثم تجدَّدت محنة سفيان رحمه الله في خلافة المهدي بن المنصور.
قال محمد بن سعد: طُلب سفيان، فخرج إلى مكة، فنفذ المهديّ إلى محمد بن إبراهيم ـ وهو على مكة ـ في طلبه، فأَعْلَم سفيان بذلك [11]، وقال له محمد: إن كنتَ تريد إتيان القوم، فاظهر حتى ابعثك إليهم، وإلا فتوار. قال: فتوارى سفيان، وطلبه محمد، وأمر منادياً فنادى بمكة: من جاء بسفيان، فله كذا وكذا، فلم يزل متوارياً بمكة، لا يظهر إلا لأهل العلم، ومن لا يخافه.
قال ابن سعد: فلما خاف من الطلب بمكة، خرج إلى البصرة، ونزل قرب منزل يحيى بن سعيد، ثم حوَّله إلى جواره، وفتح بينه وبينه باباً، فكان يأتيه بمحدّثي أهل البصرة، يسلّمون عليه، ويسمعون منه، أتاه: جرير بن حازم، ومبارك بن فضالة، وحماد بن سلمة، ومرحوم العطَّار، وحماد بن زيد. وأتاه عبد الرحمن بن مهدي، فلزمه.
ولما عُرف سفيان أنه اشتهر مكانه ومقامه، قال ليحيى: حوِّلني، فحوَّلَهُ إلى منزل الهيثم بن منصور، فلم يزل فيه، فكلَّمه حماد بن زيد في تخفيه عن السلطان، وقال: هذا فعل أهل البدع، وما يُخاف منه. فأجمع سفيان وحماد على أن يقدما بغداد [12]، وكتب سفيان إلى المهدي، وإلى يعقوب بن داود الوزير، فبدأ بنفسه، فقيل إنهم يغضبون من هذا. فبدأ بهم. وأتاه جوابُ كتابه بما يُحبُّ من التقريب والكرامة، والسَّمع منه والطاعة، فكان على الخروج إليه، فحُمَّ ومرض، وحضر الموتُ.
تنبيه مهم: من هذه الروايات وغيرها يتبيَّن لنا سفيان الثوري رحمه الله كان يكثر الإنكار على الأمراء الظلمة ويواجههم بشجاعة وجرأة بالغة، وهذه طريقة سلفية سديدة، وهي النصيحة وبيان الحق وإقامة الحجة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله)[13]، فهذا رجل قام إلى الظالم في وجهه، ولم يذهب عنه بعيدًا ليحرض العوام والجهلة، ويثير الغوغاء، ويستغل المنابر، ويشعل الفتن، كما هو طريقة الخوارج الذين يتركون الأمر والنهي ثم يعتزلون المجتمع، ثم يصنعون لأنفسهم عالمهم الخاص لينقضوا على الأمة بعد ذلك بالقتل والتخريب والفوضى والإفساد في الأرض. ومن لم يفهم منهاج النبوة وطريقة السلف؛ استعمل الأخبار الواردة عن الثوري وغيره من الأئمة في غير موضعها وعلى غير وجهها.
مرضه ووفاته:
قال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: مرض سفيان بالبَطَن، فتوضأ تلك الليلة ستين مرة، حتى إذا عاين الأمر، نزل عن فراشه، فوضع خدّه بالأرض، وقال: يا عبد الرحمن! ما أشدَّ الموت، ولما مات غمضه، وجاء الناس في جوف الليل، وعلموا.
وقال عبد الرحمن: كان سفيان يتمنى الموت ليسلم من هؤلاء ـ يعني: الأمراء ـ فلما مرض كرهه. وقال لي: اقرأ عليَّ (يس) فإنه يقال: يخفف عن المريض، فقرأتُ. فما فرغتُ حتى طُفئ.
وقيل: أُخرج بجنازته على أهل البصرة بغتة، فشهده الخلق، وصلَّى عليه عبد الرحمن بن عبد الملك بن أبجر الكوفي، بوصية من سفيان، لصلاحه.
قال ابن المديني: أقام سفيان في اختفائه نحو سنة.
وكان موته رحمه الله في شعبان سنة (161 هـ).
وليكن آخر هذه الترجمة ما حدّث به أحمد بن يونس، قال: سمعتُ الثوري ما لا أحصيه، يقول: اللهم سلِّم سلِّم، اللهم سلِّمنا، وارزقنا العافية في الدنيا والآخرة.