والوَكَالَةُ عَقْدٌ جَائِزٌ وتَبْطُلُ بِفَسْخِ أَحَدِهِمَا وَمَوْتِهِ وَعزْلِ الوَكِيلِ وَبِحَجْرِ السَّفَهِ
قوله: «والوكالة عقد جائز» وهو جائز من الناحية التكليفية، ومن الناحية الوضعية ذكرنا من قبل أنها تصح بكل قول يدل على إذن، وأنه يصح التوكيل في كل حق آدمي.
لكن من الناحية التكليفية هل هي من العقود الجائزة، أو من العقود اللازمة؟ يقول المؤلف: إنها عقد جائز، والعقد الجائز هو الذي يملك كل واحد من المتعاقدين فسخه بدون رضا الآخر، ولا إذنه أيضاً.
ووجه ذلك ظاهر؛ لأن الوكالة من الموكل إذن ومن الوكيل تبرع، فللوكيل أن يرجع، وللموكل أن يرجع ـ أيضاً.
وقوله: «والوكالة عقد جائز» يفيد أن العقود منها جائز، ومنها لازم، ومنها جائز من طرف لازم من طرف.
فعقد البيع بعد التفرق من المجلس عقد لازم إلا أن يكون شرط الخيار؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم:((فقد وجب البيع)) [(1)].
والرهن عقد جائز من جانب المرتهن، ولازم من جانب الراهن، ووجهه ظاهر؛ لأن الحق في الرهن للمرتهن، فإذا رضي بإطلاق الرهن وإزالته فالحق له، لكنه حق على الراهن فلا يملك أن يتخلص منه.
والوكالة جائزة من الطرفين، وبهذا تمت أقسام العقود، وهي ثلاثة أقسام:
عقد لازم من الطرفين.
عقد جائز من الطرفين.
عقد لازم من طرف جائز من طرف.
قوله: «وتبطل بفسخ أحدهما» «تبطل» بإسقاط الواو، وهو الأصح؛ لأنك إذا قلت: «وتبطل» لم تكن هذه الجملة تفسيراً لقوله: «جائز» ، والجملة في الواقع استئنافية، فهي تفسير لمعنى قوله: «جائز» .
وقوله: «تبطل بفسخ أحدهما» مَنْ أحدهما؟ الوكيل والموكل، تبطل بفسخه.
وظاهر كلام المؤلف ـ رحمه الله ـ أنها تبطل بفسخ أحدهما مطلقاً ولو مع ضرر، ولكن يجب أن نقيد هذا بما إذا لم تتضمن ضرراً، فإن تضمنت ضرراً فإنه ليس لأحدهما أن يضر صاحبه، ودليل ذلك قول الله ـ عزّ وجل ـ: {أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ} [النساء: 12] ، ويقول ـ عزّ وجل ـ: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] ، وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: ((لا ضرر ولا ضرار)) [(2)]، ولذلك قال العلماء: إذا تضمَّن الفسخ ضرراً على أحد الطرفين فإن العقود الجائزة تنقلب لازمة درءاً للضرر.
فعلمنا بذلك أن ما كان فيه ضرر فإنه ممنوع شرعاً، فلو أن الوكيل قبِلَ الوكالة على أنه سوف يُصرِّفها في الموسم، ثم انصرف من عند الموكل وفسخ، فقال: اشهدوا أني فسخت الوكالة، والموكل لم يعلم، ففات الموسم، فهنا الفسخ فيه ضرر على الموكل، إذاً لا يحل للوكيل هنا أن يفسخ إلا إذا استأذن من الموكل؛ من أجل أن يعرف الموكل كيف يتصرف؟ أو يقال يجوز الفسخ مع ضمان الضرر، فنقول: الوكالة عقد جائز، لكن إذا تضمن ضرراً فتنفسخ الوكالة، وعليك ضمان الضرر.
وقوله: «تبطل بفسخ أحدهما» ظاهره سواء علم الوكيل أم لم يعلم، فإذا وكلت هذا الرجل على أن يبيع بيتي ثم في اليوم التالي أشهدت رجلين بأني فسخت الوكالة، ثم باع الوكيل البيت في اليوم الثالث ولم يعلم، فالمذهب أن البيع غير صحيح؛ لأني فسخت وكالته قبل أن يبيع، فباع وهو لا يملك العقد عليه.
والقول الثاني: أنه لا ينفسخ إلا بعد العلم؛ لأن تصرفه مستند إلى إذن سابق لم يعلم زواله فكان تصرفاً صحيحاً، ويقال للموكل أنت الذي فرطت، لماذا لم تخبره بفسخ الوكالة من فوره؟ وهذا القول هو الراجح وهو رواية عن أحمد، لا سيما وهو في هذه الحال تعلق به حق المشتري، أما إذا لم يتعلق به حق أحد فقد يقال بفسخ الوكالة.
وقوله: «تبطل بفسخ أحدهما» يشمل الفسخ بالقول والفسخ بالفعل، بالقول بأن يقول: فسخت الوكالة، وبالفعل بأنه يفعل فعلاً ينافي تصرف الوكيل، مثل أن يوكله في بيع عبد ثم أَعْتَقَ العَبْدَ، فإعتاقه إياه يتضمن فسخ التوكيل في البيع؛ لأنه لا يمكن بيعه بعد عتقه، وكذلك لو وكله في بيع شيء ثم رهنه تنفسخ الوكالة؛ لأن بيع المرهون لا يصح فعلم أنه عَدَلَ عن بيعه.
قوله: «وموته» أي: إذا مات الوكيل بطلت الوكالة، وإذا مات الموكل بطلت الوكالة.
وجه ذلك أنه إذا مات الموكل انتقل المال إلى ورثته، فلا بد من تجديد الوكالة إذا شاؤوا أن يستمروا مع الوكيل، أما الوكيل فتبطل بموته؛ لأن الموكل إنما رضيه بعينه فإذا مات فإن المعقود عليه قد زال وفات، فتبطل بذلك الوكالة.
مثال ذلك: رجل وكل شخصاً في بيع بيته، قال: وكلتك أن تبيع بيتي، ثم قدر الله على الموكل أن يموت، فحينئذ لا يحل للوكيل أن يبيع البيت، ولا أن يتصرف فيه، بل يجب أن يبلغ الورثة أنه قد انتهت الوكالة؛ لأن الملك الآن انتقل إلى الورثة.
مثال آخر: رجل وكَّل شخصاً في بيع ثم قدَّر الله أن يموت الوكيل فتنفسخ الوكالة، ولا يحل للوكيل أن يوكل شخصاً بعد موته يتولى البيع؛ لأن الوكالة انفسخت بموته.
وهنا يجب أن ننبه إلى مسألة يكتبها إخواننا الكُتَّاب الذين يكتبون وصايا للناس، إذا كانت الوصية وقال: أوصيت بثلث مالي يُتصدق به على الفقراء، كثير من الكتَّاب يكتب: والوكيل على ذلك فلان، والصواب أن يقول: الوصي على ذلك فلان؛ لأن هناك فرقاً بين الوكيل والوصي، الوصي من أذن له بالتصرف بعد الموت، والوكيل من أذن له بالتصرف في حال الحياة، وإذا قال: الوكيل على ثلثي فلان، فلو أخذنا باللفظ لقلنا: إذا مات هذا الرجل انفسخت الوكالة، لكن الحكام ـ القضاة ـ يفتون بأن هذا اللفظ من العامة بمعنى الوصية، وإن كان بلفظ الوكالة، ولكننا نقول للكتاب: ينبغي أن تحرروا الكتابة، وإذا ذكرتم وصية فلان بشيء لا تقولوا: والوكيل فلان، قولوا: الوصي.
لكن لو قال: «الوكيل بعد موتي»، ارتفع الإشكال؛ لأنه لو قيد الوكالة بعد الموت فإننا نعلم علم اليقين أنه أراد الوصية.
قوله: «وعزل الوكيل» هذه العبارة لم نرها في المنتهى، ولا في الإقناع، ولا في المقنع ـ أيضاً ـ الذي هو أصل الكتاب، وهي في الحقيقة زائدة، لأن عزل الوكيل يغني عنه قوله: «بفسخ أحدهما» ؛ لأن فسخ الموكل يعني عزل الوكيل، إذاً ليس هناك حاجة إلى أن يقول: «وعزل الوكيل» ، لكن لعل هذا من المؤلف ـ رحمه الله ـ سبق قلم.
على كل حال تبطل الوكالة بعزل الوكيل، وعزل الوكيل هو فسخ الموكل للوكالة.
مسألة: لو أنه وكَّل إنساناً أن يبيع بيته، وبعد انصراف الوكيل باع الموكل نفسه البيت، ثم إن الوكيل باعه، فالمالك باعه على زيد، والوكيل باعه على عمرو، فالوكيل انعزل؛ لأن بيع المالك للشيء الذي وكل شخصاً في بيعه، يعني أنه عزله، وهذا عزل بالفعل، وحينئذ الوكيل باع على عمرو، والمالك باع على زيد، إن أبطلنا بيع الوكيل فقد تعلق به حق عمرو، وإن أبطلنا تصرف المالك أبطلنا حق زيد، فنقدم الآن صاحب الأصل وهو المالك، وحينئذ نقول: إن بيع الوكيل وقع على شيء انتقل ملكه عن صاحبه، حتى صاحبه الآن لا يمكن أن يتصرف فيه، فنقول في بيع الوكيل: إنه باطل؛ لأن هذه المسألة تعلق بها حق ثالث، ثم إن الموكَّل فيه انتقل عن ملك الموكِّل إلى ملك آخر، فلا يمكن أن يبطل هذا الانتقال، وإن صححنا تصرف الوكيل لزم من ذلك إبطال تصرف المالك.
مسألة: إذا تصرف الموكل تصرفاً لا يمنع تصرف الوكيل مثل: أن يقول وكلتك في بيع بيتي ثم بعد ذهاب الوكيل، أجّرَهُ الموكل؛ فهل تبطل الوكالة ونقول: إن هذا عزل؟
الجواب: لا؛ لأن التأجير لا ينافي البيع، إذ يجوز بيع المؤجر، فإذا كان يجوز بيع المؤجر، فإن تصرف الموكل الآن لا يعتبر فسخاً للوكالة؛ لأنه لا منافاة بين ما وَكَّل فيه وتصرفه.
إذاً إذا تصرف تصرفاً ينافي الوكالة فهو عزل، وإذا تصرف تصرفاً لا ينافي الوكالة فليس بعزل.
قوله: «وبحجر السفه» لم يقل المؤلف: الصِّغَر؛ لأن الكبير لا يصغر فهو غير وارد أبداً، وأما الحجر للجنون ففيه تفصيل:
إن كان مطبِقاً انفسخت الوكالة، وإن كان غير مطبِق كأن يكون ساعة ويذهب لم تنفسخ، فثلاثة أسباب للحجر، الصغر والجنون والسفه، إذا حُجر على الوكيل أو الموكل حجر سفه انفسخت الوكالة.
وفي قول المؤلف: «وبحجر السفه» منطوق وله مفهوم، ومفهومه حجر الفلس، فمن كان لا يحسن التصرف فالحجر عليه حجر سفه، ومن كان يحسن التصرف لكنه غريم مدين، دينه أكثر من ماله، فالحجر عليه حجر فلس، فالوكالة تبطل بحجر السفه.
مثال هذا: الوكيل قال لشخص: بع بيتي، ثم إن الرجل الذي وكَّله في البيع ـ أي: مالك البيت ـ أصيب بخلل في عقله أفسد تصرفه، فلا تستمر الوكالة بل تنفسخ؛ لأن الموكل الآن لو أراد أن يتصرف بنفسه لم يتمكن، فبوكيله من باب أولى، ويمكن أن تقع بأن يحصل لإنسان حادث يختل به فكره، فنقول الآن: انفسخت الوكالة، ونقول للذي وُكِّلَ في البيع: لا تبع؛ لأن الوكالة انفسخت، فالموكل نفسه لو أراد أن يتصرف لا يمكنه، فكيف بفرعه وهو الوكيل؟
إذاً كلمة «السفه» إنما تعود إلى العقل، بحيث يكون فيه جنون أو سوء تصرف، بحيث يختل فكره وعقله ويبدأ لا يعرف شيئاً.
والحجر لفلس هل تبطل به الوكالة أو لا؟
فيه تفصيل: إن كانت في أعيان مال الموكل انفسخت، وإن كانت في ذمته لم تنفسخ.
أما الوكيل فإنه إذا حجر عليه لفلس لا تنفسخ الوكالة بذلك؛ لصحة تصرفه في مال غيره، إذن إذا حجر عليه لفلس فبالنسبة للوكيل لا تتأثر الوكالة ولا تنفسخ، وبالنسبة للموكل ففيه تفصيل.
مثال ذلك بالنسبة للوكيل: وكل إنساناً يبيع بيته، ثم إن هذا الوكيل صار مديناً دينه أكثر من ماله فحجر عليه؛ فالآن الوكيل لا يمكن أن يبيع شيئاً من ماله؛ لأنه محجور عليه، لكن هل يبيع بيت من وكله؟
الجواب: نعم؛ لأن من حجر عليه لفلس إنما يحجر عليه في أعيان ماله لا في أعيان مال غيره، فتبقى الوكالة.
مثال ذلك بالنسبة للموكل، قال: وكلتك أن تبيع بيتي، ثم إن الموكل لَحِقَهُ الدينُ وصار دينه أكثر من ماله، فحجرنا عليه، هل يملك الوكيل أن يبيع البيت؟
الجواب: لا، وتنفسخ الوكالة؛ لأن الموكل الآن لا يملك بنفسه بيع بيته، فإذا كان الأصل لا يملك البيع، فالفرع من باب أولى.
فصار الحجر لفلس فيه تفصيل، والحجر لسفه ليس فيه تفصيل، فتبطل به الوكالة سواء حجر على الوكيل، أو حجر على الموكل.
[1] سبق تخريجه ص(128).
[2] سبق تخريجه ص(37).