حرّر القول في واحدة من المسألتين التاليتين:
1: المراد بالأوليّة في قوله تعالى: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكّة}.
اختلف أهل العلم في المراد بالأولية في الآية إلى أقوال:
الأول: أنه أول مسجد وضع للناس يعبد اللّه فيه مباركًا وهدًى للعالمين، الّذي ببكّة، قالوا: وليس هو أوّل بيتٍ وضع في الأرض، لأنّه قد كانت قبله بيوتٌ كثيرةٌ. وهو قول علي, والحسن, ومطر, وسعيد. ذكره الزجاج, وابن عطية, وابن كثير.
وأخرج قول علي:
- ابن جرير في تفسيره عن هنّاد بن السّريّ، قال: حدّثنا أبو الأحوص، عن سماكٍ، عن خالد بن عرعرة، قال: قام رجلٌ إلى عليٍّ، فقال: ألا تخبرني عن البيت، أهو أوّل بيتٍ وضع في الأرض؟ فقال: لا، ولكنّه أوّل بيتٍ وضع فيه البركة {مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنًا}.
- وابن أبي حاتم في تفسيره عن الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، حدّثنا سعيد بن سليمان، حدّثنا شريك عن مجالد، عن الشّعبيّ عن عليّ في قوله تعالى: {إنّ أوّل بيتٍ وضع للنّاس للّذي ببكّة مباركًا} قال: كانت البيوت قبلةً، ولكنّه كان أوّل بيتٍ وضع لعبادة اللّه [تعالى].
وأخرج قول الحسن:
- ابن جرير في تفسيره عن عقوب، قال: حدّثنا ابن عليّة، عن أبي رجاءٍ، قال: سأل حفصٌ الحسن وأنا أسمع، عن قوله: {إنّ أوّل بيتٍ وضع للنّاس للّذي ببكّة مباركًا} قال: هو أوّل مسجدٍ عبد اللّه فيه في الأرض.
وأخرج قول مطر:
- ابن جرير في تفسيره عن عبد الجبّار بن يحيى الرّمليّ، قال: حدّثنا ضمرة، عن ابن شوذبٍ، عن مطرٍ، في قوله: {إنّ أوّل بيتٍ وضع للنّاس للّذي ببكّة} قال: قد كانت قبله بيوتٌ، ولكنّه أوّل بيتٍ وضع للعبادة.
وأخرج قول سعيد:
- ابن جرير في تفسيره عن المثنّى، قال: حدّثنا الحمّانيّ، قال: حدّثنا شريكٌ، عن سالمٍ، عن سعيدٍ: {إنّ أوّل بيتٍ وضع للنّاس للّذي ببكّة مباركًا} قال: وضع للعبادة.
الثاني: هو أول بيت خلق الله تعالى ومن تحته دحيت الأرض. وهو قول عبد الله بن عمرو, ومجاهد, والسدي, وقتادة. ذكره ابن عطية, وابن كثير.
وأخرج قول عبد الله بن عمرو:
- ابن جرير في تفسيره عن محمّد بن عمارة الأسديّ، قال: حدّثنا عبيد اللّه بن موسى، قال: أخبرنا شيبان عن الأعمش، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهدٍ، عن عبد اللّه بن عمرٍو، قال: خلق اللّه البيت قبل الأرض بألفي سنةٍ، وكان إذا كان عرشه على الماء، زبدةً بيضاء، فدحيت الأرض من تحته.
وأخرج قول مجاهد:
- ابن جرير في تفسيره عن محمّد بن عبد اللّك بن أبي الشّوارب، قال: حدّثنا عبد الواحد بن زيادٍ، قال: حدّثنا خصيفٌ، قال: سمعت مجاهدًا، يقول: إنّ أوّل ما خلق اللّه الكعبة، ثمّ دحى الأرض من تحتها.
وأخرج قول السدي:
- ابن جرير في تفسيره عن محمّدٌ، قال: حدّثنا أحمد، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {إنّ أوّل بيتٍ وضع للنّاس للّذي ببكّة مباركًا وهدًى للعالمين} أمّا أوّل بيتٍ، فإنّه يوم كانت الأرض ماءً، وكان زبدةً على الأرض، فلمّا خلق اللّه الأرض، خلق البيت معها، فهو أوّل بيتٍ وضع في الأرض.
وأخرج قول قتادة:
- ابن جرير في تفسيره عن الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة في قوله: {إنّ أوّل بيتٍ وضع للنّاس للّذي ببكّة مباركًا} قال: أوّل بيتٍ وضعه اللّه عزّ وجلّ فطاف به آدم ومن بعده
وقال آخرون موضع الكعبة موضع أوّل بيتٍ وضعه اللّه في الأرض.
الثالث: موضع الكعبة موضع أوّل بيتٍ وضعه اللّه في الأرض. وهو قول قتادة.
وأخرج قول قتادة:
- ابن جرير في تفسيره عن بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: ذكر لنا أنّ البيت، هبط مع آدم حين هبط، قال: أهبط معك بيتي يطاف حوله كما يطاف حول عرشي، فطاف حوله آدم ومن كان بعده من المؤمنين، حتّى إذا كان زمن الطّوفان، زمن أغرق اللّه قوم نوحٍ رفعه اللّه وطهّره من أن يصيبه عقوبة أهل الأرض، فصار معمورًا في السّماء، ثمّ إنّ إبراهيم تتبّع منه أثرًا بعد ذلك، فبناه على أساسٍ قديمٍ كان قبله.
الدراسة:
اختلف المفسرون في المراد بالأولية في الآية : فمعنى{أوّل}في اللغة: على الحقيقة ابتداء الشيء فجائز أن يكون المبتدأ له آخر، وجائز أن لا يكون له آخر فالواحد أول العدد والعدد غير متناه، ونعيم الجنة أول وهو غير منقطع، وقولك: هذا أول مال كسبته جائز ألا يكون بعده كسب، ولكن إرادتك: (هذا ابتداء كسبي).
ورجح ابن جرير وابن كثير قول علي ابن أبي طالب وهو القول الأول من أن المراد بالأوليه أنه أول بيت وضع للعبادة والبركة فقال ابن جرير: ومعنى ذلك أنّ أوّل بيتٍ وضع للنّاس أي لعبادة اللّه فيه مباركًا وهدًى، يعني بذلك ومآبًا لنسك النّاسكين وطواف الطّائفين، تعظيمًا للّه وإجلالاً له؛ للّذي ببكّة؛ لصحّة الخبر بذلك عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
وقال ابن كثير: والصحيح قول عليّ [رضي اللّه عنه].
ومن الأحاديث التي استدل بها لصحة هذا القول:
- عن أبي ذرٍّ، قال: قلت يا رسول اللّه، أيّ مسجدٍ وضع أوّل؟ قال: المسجد الحرام قال: ثمّ أيّ؟ قال: المسجد الأقصى قال: كم بينهما؟ قال: أربعون سنةً.
وقد رد القول الثاني ابن عطية, وابن كثير؛ ذلك لورود الأحاديث الضعيفة في هذا القول, واحتمال أنه من كلام أهل الكتاب الذي أخذه عبد الله بن عمرو من الزاملتين التي أصابهما يوم اليرموك.
والله أعلم