المجموعة الأولى:
1. فصّل القول في تفسير قول الله تعالى:
{ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام}.
بالتفصيل في تفسير الآية:
• سبب النزول
جاء فيها عدة أقوال:
القول الأول: أنها نزلت في رجل من ثقيف، اسمه: أبي بن شريق، ولقبه: الأخنس.
جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأظهر الإسلام، وقال: الله يعلم أني صادق، ثم هرب بعد ذلك، فمر بقوم من المسلمين، فأحرق لهم زرعا، وقتل حمرا، فنزلت فيه هذه الآيات».. قاله السدي وذكره ابن عطية وابن كثير، وبنحوه قال الزجاج.
وقال ابن عطية: لم يثبت أن الأخنس قد أسلم.
القول الثاني: نزلت في قوم من المنافقين تكلموا في الذين قتلوا في غزوة الرجيع عاصم بن ثابت وخبيب وابن الدثنة وغيرهم قالوا: ويح هؤلاء القوم لا هم قعدوا في بيوتهم ولا أدوا رسالة صاحبهم، فنزلت هذه الآيات في صفات المنافقين، وذمهم، ومدح خبيب واصحابه في قوله تعالى: "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله". قاله ابن عباس وذكره ابن عطية وابن كثير.
القول الثالث: أنها نزلت في كل مبطن كفر أو نفاق أو كذب أو إضرار وهو يظهر بلسانه خلاف ذلك، فهي عامة في المنافقين وذمهم، وتكون الآية "ومن الناس من يشري نفسه .. الآية" هي في المؤمنين عامة ومدحهم. قاله قتادة ومجاهد والرّبيع ابن أنسٍ، وغير واحدٍ، وذكره ابن عطية وصححه ابن كثير.
الأدلة والشواهد:
- وهي تشبه ما ورد في الترمذي أن في بعض كتب الله تعالى: «أن من عباد الله قوما ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، يجترون الدنيا بالدين، يقول الله تعالى: أبي يغترون وعلي يجترون؟ حلفت لأسلطن عليهم فتنة تدع الحليم منهم حيران». ذكره ابن عطية.
- وقال ابن جريرٍ: حدّثني يونس، أخبرنا ابن وهبٍ، أخبرني اللّيث بن سعدٍ، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلالٍ، عن القرظيّ، عن نوف -وهو البكاليّ، وكان ممّن يقرأ الكتب -قال: إنّي لأجد صفة ناسٍ من هذه الأمّة في كتاب اللّه المنزّل: قوم يحتالون على الدّنيا بالدّين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرّ من الصّبر، يلبسون للنّاس مسوك الضّأن، وقلوبهم قلوب الذّئاب. يقول اللّه تعالى: فعليّ يجترئون! وبي يغترون! حلفت بنفسي لأبعثنّ عليهم فتنةً تترك الحليم فيها حيران. قال القرظيّ: تدبّرتها في القرآن، فإذا هم المنافقون، فوجدتها: {ومن النّاس من يعجبك قوله في الحياة الدّنيا ويشهد اللّه على ما في قلبه} الآية. ذكره ابن كثير.
وقد قال محمّد بن كعبٍ: إنّ الآية تنزل في الرّجل، ثمّ تكون عامّةً بعد. وهذا الذي قاله القرظيّ حسنٌ صحيحٌ. ذكره ابن كثير.
• المقصد من الآية:
إعلام الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بحقيقة المنافقين المبطنين للكفر والمظهرين للإيمان. ذكره ابن عطية وابن كثير.
• معنى "ويشهد الله على ما في قلبه"
يتحدد بمعرفة القراءات في الآية، فقد ذكر أهل التفسير أن فيها أربع قراءات، هي:
القراءة الأولى: ويُشهد الله على ما في قلبه. وهي قراءة الجمهور وذكرها الزجاج وابن عطية وابن كثير.
والمعنى: أنه يقول الكلام الذي يعجب النبي صلى الله عليه وسلم ويظهر له الجميل، بل ويقسم على أنه ما يقول إلا الحق، ولكن ذلك هو خلاف ما في نفسه. ابن عطية.
وقال ابن عطية: بأن هذه القراءة هي أبلغ في ذمه، لأنه قوى على نفسه التزام الكلام الحسن ثم ظهر من باطنه خلافه، وما في قلبه مختلف.
قال ابن كثير فيها معنيان:
المعنى الأول: أنّه يظهر للنّاس الإسلام ويبارز اللّه بما في قلبه من الكفر والنّفاق. رواه ابن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ. وذكره الزجاج وابن عطية وابن كثير.
الأدلة والشواهد:
- كقوله تعالى: {يستخفون من النّاس ولا يستخفون من اللّه". ذكره ابن كثير.
المعنى الثاني: أنّه إذا أظهر للنّاس الإسلام حلف وأشهد اللّه لهم: أنّ الذي في قلبه موافقٌ للسانه. وقاله عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، واختاره ابن جريرٍ، وعزاه إلى ابن عبّاسٍ، وحكاه عن مجاهدٍ، وذكره ابن عطية وصححه ابن كثير.
القراءة الثانية: ويَشهد الله على ما في قلبه. وهي قراءة أبو حيوة وابن محيصن، وذكره الزجاج وابن عطية وابن كثير.
والمعنى: أن الله عالم بما يسره في نفسه من القبيح، وإن أظهر لكم الحيل. ذكره الزجاج وابن عطية وابن كثير.
قال ابن عطية: والفرق بين القراءتين، أن القراءة الأولى: فهو الخير الذي يظهره بزعمه، وعلى القراءة الثاني: هو الشر الباطن.
الأدلة والشواهد:
كقوله تعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنّك لرسول اللّه واللّه يعلم إنّك لرسوله واللّه يشهد إنّ المنافقين لكاذبون". ذكرها ابن كثير.
أما القراءتان الثالثة والرابعة فنذكرهما من باب ذكر ما قاله أهل التفسير:
القراءة الثالثة: والله يشهد على ما في قلبه. قراءة ابن عباس وذكرها ابن عطية.
القراءة الرابعة: ويستشهد الله على ما قلبه. وهي قراءة ابن مسعود وذكرها ابن عطية.
• معنى "ألد"
لغة: هي شدة الخصومة والجدل. ذكره الزجاج.
اشتقاقه: من لديدي العنق، وهما صفحتا العنق، وتأويله: أن خصمه في أي وجه أخذ - من يمين أو شمال - من أبواب الخصومة غلبه في ذلك. ذكره الزجاج.
فيقال في معنى الألد: الشديد الخصومة، الصعب الشكيمة، الاعوج الذي يلوي الحجج من كل جانب، فيشبه انحرافه المشي في لديدي الوادي، ومنه لديد الفم، واللدود، ويقال منه: لددت بكسر العين ألد، وهو ذم، ويقال: لددته بفتح العين ألده بضمها إذا غلبته في الخصام. ذكره ابن عطية، وبنحوه ذكر ابن كثير.
الأدلة والشواهد:
- قال تعالى: {وتنذر به قومًا لدًّا} [مريم:97] أي: عوجًا. ذكره ابن كثير.
• معنى "خصام"
هو مصدر خاصم، وجمع خصم، يقال خصم وخصام وخصوم. ذكره الزجاج.
• معنى "وهو ألد الخصام"
أي وهو أشد الخصماء والدهم. ذكره ابن عطية.
الأدلة والشواهد:
- ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم». ذكره ابن عطية.
- وقال البخاريّ: حدّثنا قبيصة، حدّثنا سفيان، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة ترفعه قال: "أبغض الرّجال إلى اللّه الألدّ الخصم". ذكره ابن كثير.
فعلى اختلاف سبب النزول: فالمعنى هو في المنافقين، الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، يروغون كما يروغ الثعلب. أما حالهم في خصومتهم، فشيمتهم الكذب، وتزوير الحقّ، فلا يستقيمون معه، بل يفترون ويفجرون.
فعلى المسلم أن يحذر ممن تلك صفاتهم، بل ليحذر أن تكون فيه بعض تلك الصفات التي في المنافقين نفاقا أكبرا، فقد يهوي كما هووا. كما ثبت في الصّحيح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: "آية المنافق ثلاثٌ: إذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر". ذكره ابن كثير.
2. حرّر القول في تفسير قوله تعالى:
{كان الناس أمّة واحدة}.
تحرير القول في تفسير الآية يتطلب تفصيل ذكر معاني ألفاظها، ثم سنحرر القول المطلوب في تفسير الآية ككل.
• معنى الأمة
أصل معنى الأمة لغة: القصد، يقال: أممت الشيء إذا قصدته. ذكره الزجاج.
فليس يخرج شيء من هذا الباب عن معنى أممت أي قصدت.
ثم يكون معناها على حسب السياق، على أقوال، هي:
القول الأول: الدين. أي أن مقصدهم مقصد واحد. ذكره الزجاج.
القول الثاني: القامة، يقال: فلان حسن الأمة أي حسن القامة. أي سائر مقصد الجسد. ذكره الزجاج.
القول الثالث: القرن من الناس. ذكره الزجاج.
القول الرابع: الرجل الذي لا نظير له. أي أن قصده منفرد من قصد سائر الناس. ذكره الزجاج.
القول الخامس: النعمة والخير. ذكره الزجاج.
وقد اختار الزجاج: أن "أمة واحدة" أنهم على دين واحد، وقال ابن عطية: الجماعة الذين مقصدهم مقصد واحد.
وقد ذكر ابن عطية أنه بمعرفة معنى "كان" يتحدد المراد بالناس:
أ. إما أنها على بابها: أي على المضي المنقضي، فيكون المراد بالناس هم من كانوا في الزمن الماضي، كما ذكره ابن عطية.
فيكون المراد بالناس هم من كانوا في الأزمان الماضية، وذكر ابن عطية أقوالا لذلك:
القول الأول: القرون التي كانت بين آدم ونوح عليهما السلام وهم عشرة قرون. قاله ابن عباس وقتادة.
القول الثاني: هم بنو آدم حين أخرجهم الله نسما من ظهر آدم، أي كانوا على الفطرة. قاله أبي بن كعب، وابن زيد.
القول الثالث: آدم وحده. قاله مجاهد.
القول الرابع: آدم وحواء.
القول الخامس: نوح ومن في سفينته.
ب. أو أنها لا تختص بالمضي فقط، ودليلها قوله تعالى: "كان الله غفورا رحيما". ذكره ابن عطية.
فيكون لفظ "الناس" يعم، وقد ذكر ابن عطية بأنهم جنس الناس جميعا، كانوا أمة واحد، غير مختص بقوم معينين.
ولكن اختلف أهل العلم بدين هؤلاء الناس هل كانوا كفارا أم على شريعة واحدة مهتدين؟
وهو الذي عليه تحرير المسألة على ثلاثة أقوال، هي:
القول الأول: أنهم كانوا جميعا مهتدين على شريعة واحدة من الحق، مسلمين، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. ذكره ابن عطية وابن كثير.
وقد روى ابن جرير: هو عشرة القرون بين نوح وآدم كانوا كلهم على شريعة من الحق، كانوا على الهدى جميعا. وقاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة وذكره ابن عطية وابن كثير.
القول الثاني: أنهم كانوا كفارا. قاله ابن عباس وذكره الزجاج وابن عطية.
قال ابن عباس: هم الكفار في مدة نوح. ذكره ابن عطية.
قال الزجاج: هم الناس ما بين آدم ونوح عليهما السلام، كانوا كفارا.
وقال الزجاج أيضا: هم كل قوم كفار بعث الله إليهم بالأنبياء، كما هو حال هذه الأمة قبل مبعث نبينا صلى الله عليه وسلم.
واستدل ابن عطية بحديث الشفاعة: لأن الناس يقولون له: أنت أول الرسل، والمعنى إلى قوم كفار وإلا فآدم مرسل إلى بنيه يعلمهم الدين والإيمان.
القول الثالث: هم جنس الناس جميعا، أنهم أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع وجهلهم بالحقائق. ذكره ابن عطية.
فالناس لا شرع لهم لولا أن أرسل الله الرسل إليهم وأنزل الكتب عليهم.
وقد رجح ابن كثير هذا القول سندا ومعنى، لأنّ النّاس كانوا على ملّة آدم، عليه السّلام، حتّى عبدوا الأصنام، فبعث اللّه إليهم نوحًا، عليه السّلام، فكان أوّل رسولٍ بعثه اللّه إلى أهل الأرض.
واستدل ابن كثير بالأدلة التالية على ترجيحه للقول:
- بقراءة ابن مسعود: "كان النّاس أمّةً واحدةً فاختلفوا"، رواها الحاكم في مستدركه.
- وبقراءة أبي بن كعب: "كان النّاس أمّةً واحدةً فاختلفوا فبعث اللّه النّبيّيّن مبشّرين ومنذرين".
- وبدلالة السياق بعده: " وأنزل معهم الكتاب بالحقّ ليحكم بين النّاس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الّذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البيّنات بغيًا بينهم": أي أن الله أنزل مع النبيين الكتب ليحكموا بين الناس بالحق بعد أن حصل الاختلاف بينهم.
وبالترجيح بين الأقوال:
أن الأقوال كلها تحتملها الآية:
فإن الله قد خلق الناس جميعهم على الفطرة، وهي الإيمان والتوحيد، فاحتاجوا لشرع ينظم لهم أمور دينهم ودنياهم، فبعث الله الأنبياء والكتب معهم لهؤلاء الناس الذين بقي بعضهم على ما فطرهم ربهم عليهم، فتعلموا من الشرع كيف يتقربون لربهم، والبعض الآخر انتكست فطرهم فاحتاجوا للأنبياء والرسل ليعيدوهم إلى الجادة. والله أعلم.
3. اكتب رسالة مختصرة بالأسلوب الوعظي في تفسير قوله تعالى:
{زيّن للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتّقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب}.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد،
"ما لي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب، استظل تحت ظل شجرة، ثم راح وتركها"
بهذه الكلمات صدح صوت النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، حين أثر الحصير في جنب النبي صلى الله عليه وسلم عندما نام عليه، فلم يطلب وطاء ناعما بدلا عن الحصير، لأنه خير من يعلم حقيقة الدنيا، وضآلة حجمها، ونعيمها السريع زواله.
فلا تغرنكم الحياة الدنيا بزخرفها، ولا تفتنكم بمفاتنها، فوالله ما اطمأن أحد إليها إلا غدرت به، وما أمن أحد إليها إلا خدعته ومكرت به. ليس لها حبيب، زوالها قريب، عزيزها ذليل، كثيرها قليل، وصالها صدود، ووعدها وعيد، شرابها سراب، نعيمها عذاب، إن أقبلت ففتنة، أو أدبرت فمحنة، يشقى بها اللبيب، ويتعب الأريب.
يبعد على المؤمن الذي عرف حقيقتها عبر آيات الله الشرعية أن يتعلق قلبه بزخرفها، إذ كيف لمن عرف عنها أنها بلغة منغصة أن يجعلها أكبر همه، وغاية علمه؟
أما أهل الكفر، فهم يعيشون لأجلها، ويكدحون لنيل نعيمها، فصارت غاية آمالهم، وقد أخبرنا تعالى عن وصفهم، حين قال جل وعلا: "زين للذين كفروا الحياة الدنيا"، نعم، زينها الله الذي خلق فيها الأشياء المعجبة، التي تأسر القلوب، وتلمع لها العيون، والله خالقها هو نفسه من حذر منها، لئلا نغتر بها فنهلك، فبيّن لنا سبحانه بأن خيرها وشرها فتنة، قال تعالى: "ونبلوكم بالشر والخير فتنة". ومنذ سمع الشيطان، بأن الدنيا للعباد افتتان، أجلب عليهم بخيله ورجله، واتخذ منها مدخلا لقلوبهم، فسلك وتغلغل من تلك الثغرة، فزيّنها لهم وشاركهم في الأموال والأولاد، ووعدهم ومنّاهم، وما علم المساكين الذين اغتروا بها أن ما وعدهم الشيطان إلا غرورا.
لذلك نرى تفاوت منطق البشر، فمن كانت الدنيا جلّ همه، جعل معايير الفوز والخسارة تبعا لرؤيته تلك، فها هم الكفار "ويسخرون من الذين آمنوا"، لماذا؟ لأنهم يرون بأعينهم القاصرة أن من ملك في الدنيا الذهب والفضة، والقصور والدور هو خير من المؤمن الفقير الضعيف، وما ذلك إلا لأن الدنيا عندهم هي بمنزلة الروح من الجسد. وقد أخبرنا تعالى في سورة الفجر بطلان تلك المقاييس، فقال: "فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه، فيقول ربي أكرمن، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه، فيقول ربي أهانن"، ثم قال تعالى "كلا"، أي أن الأمر ليس كما يظن، بل إن الله يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب، ولا يعطي الآخرة إلا لمن يحب، لذلك قال هنا: "والذين اتّقوا فوقهم يوم القيامة" فلا تقيسوا الدنيا على الآخرة، فإن نعيم المؤمنين فيها باق لا يزول ولا يحول، "والله يرزق من يشاء بغير حساب" وإن رزق الله لا يكون للمؤمن على قدر إيمانه، ولا للكافر على قدر كفره، فالحساب في الدنيا ليس على حسب الرزق، فلا تستعظموا أيها الكفار رزق الدنيا فإنه فان، ولا تسخروا من أهل الإيمان الفقراء فإن النعيم الحقيقي لم يذوقوه بعد، وإنهم وإن قلّت ذات اليد عليهم في الدنيا، إلا أنهم في الآخرة سينالون من الرزق والنعيم الذي لم تسمع به أذن، ولم تره عين، ولم يخطر على قلب بشر، فالله لا حد لرزقه، ولا منتهى لعطائه، فمن توكل على ربه كان هو حسبه، ورزقه من حيث لا يحتسب، إن الله بالغ أمره.
فالحمد لله على نعمة الإسلام، التي غيّرت من طريقة التفكير عند المؤمنين، فصححت معايير التقييم، وغسلت قلوب المحرومين، بالرضا بما قسمه لهم رب العالمين، والشوق والاستعداد ليوم الرحيل، فنالوا بذلك الرضا نعيم الدنيا، وتصبرت قلوبهم شوقا لنعيم الآخرة.
أبعد هذا يتعلق بالدنيا متعلق؟ وأبعد هذا يزهد الزاهد بالآخرة، إنه لضرب من الجنون أن يشتري العبد الدنيا بالآخرة.
فاللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، وأشغلنا فيما يرضيك عنا، ويسكّن نفوسنا، فنكون ممن رضي عنك فرضيت عنهم. اللهم آمين.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.