مجلس مذاكرة دروس أساليب التفسير
تطبيق على أسلوب التقرير العلمي
رسالة في تفسير قوله تعالى ( إنَّ الإنسان لربه لكنود ) بأسلوب التقرير العلمي
يُخبر الباري جلَّ شأنه في هذه الأية الكريمة خبراً عن الإنسان بأنه كنود فما معنى كنود ومن هو هذا الإنسان الكنود ؟ و هل لفظ الإنسان على عمومه أم أنَّ هناك ما يُخصصه و ما دلالات تأكيد الخبر بعدة مؤكدات ، فلا بد لفهم الأية و تدبرها من الإجابة على هذه المسائل الثلاث و هي
1- المسألة الأولى :معنى كنود و يتفرع عنها مسألتان ، معنى الكنود في اللغة و معنى الكنود في أقوال السلف و المفسرين
2- المسألة الثانية :المراد بالإنسان هل هو على عمومه أم يُوجد ما يخصصه
3- المسألة الثالثة :دلالة تعدد أدوات تأكيد الخبر و هي وقوعه جواباً للقسم و تصديره بإنَّ المؤكدة و دخول اللام على خبر إنَّ
جواب المسألة الأولى : في معنى الكنود
معنى الكنود في اللغة
· ذكر الشنقيطي في أضواء البيان ما روي عن ابن عباس بأنَّ معنى كنود في اللغة يختلف باختلاف القبائل العربية فهي بلسان مالك بن كنانة البخيل و بلسان ربيعة و مضر الكفور و بلسان كندة وحضرموت العاصي
· قال ابن فارس في مقاييس اللغة : (كَنَدَ) الكاف والنون والدال أصل صحيح واحد يدل على القطع. يقال كند الحبل يكنده كندا. والكنود: الكفور للنعمة. وهو من الأول، لأنه يكند الشكر، أي يقطعه. ومن الباب: الأرض الكنود، وهي التي لا تنبت
· و قال ابن منظور في لسان العرب : كنَد الشّخصُ النعمةَ كفَر بها وجحَدها.
· و جاء في المعجم الرائد - الكَنُودُ : اللَّوَّام لربه تعالى ، يَذكُرُ المصيباتِ وينسى النِّعم و الكَنُودُ البخيلُ و الكَنُودُ العاصي و الكَنُودُ الأرضُ لا تُنْبتُ شَيئًا.
· و جاء في معجم اللغة العربية المعاصرة - كنود : كافر النعمة - كنود : عاص، متمرد - كنود : الذي يعد المصائب وينسى النعم فيلوم ربه.- كنود بخيل - كنود : «أرض كنود» : لا تنبت شيئا.
· و جاء في مختار الصحاح - الكِنْدَةُ : القطْعةُ من الجبل.
معنى كنود في أقوال السلف و المفسرين
ورد في معنى كنود عدة أقوال
القول الأول :الكفور - قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وإبراهيم النَّخعِي ، وأبو الجوزاء ، وأبو العالية ، وأبو الضحى ، وسعيد بن جبير ، ومحمد بن قيس ، والضحاك ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، وابن زيد ذكر ذلك ابن كثير و تكاد تجمع أقوال المفسرين من الخلف و السلف على أنَّ معنى كنود أي كفور و لكنهم عبَّروا عن معنى كفور بصيغ مختلفة و أقوال متعددة منها ما هو متقارب و منها ما هو بعيد و منها ما هو مختلف و منها ما هو تفسير ببعض المعنى و منها ما هو تفسير بلازم المعنى أو ما يتضمنه و لكنها بمجموعها تُشكل في الذهن صورة لمعنى الكفور
1- المعنى الأول :هو الذي يَأكلُ وَحدَهُ ، ويَمنعُ رِفدَهُ ويَضرِبُ عَبدَهُ . قاله - زيد بن علي و بنحوه قال مقاتل و غيره
2- المعنى الثاني : هو الذي يَعدّ المَصائبَ ، ويَنسى نِعمةَ رَبهِ . قاله زيد بن علي و بنحوه قال الحسن و غيره .
3- المعنى الثالث : هو الذي خالف العهد ، وجانب الصدق ، وألف الهوى ، فحينئذ يؤيسه الله من كل بر وتقوى .قاله التستري
4- المعنى الرابع : هو الذي تنسيه سيئة واحدة حسنات كثيرة ، ويعامل الله على عقد عوض قاله الفضيل. ذكره ابن عطية
5- المعنى الخامس : هو الذي يكفر اليسير ولا يشكر الكثير قاله العز بن عبد السلام و غيره
6- المعنى السادس : هو الذي ينفق نعم الله في معاصيه قاله العز بن عبد السلام و غيره
القول الثاني : البخيل قاله العز بن عبد السلام و ذكر أنه بلسان مالك بن كنانة و ذكره الشوكاني بصيغة التضعيف
القول الثالث : العاصي قاله العز بن عبد السلام و ذكر أنه بلسان كندة وحضرموت
القول الرابع : جاحد الحق قاله العز بن عبد السلام و ذكر أنَّ قبيلة كندة سُمّيت بهذا الإسم لأنها جحدت أباها
القول الخامس : الحسود ذكره الشوكاني بصيغة التضعيف
القول السادس : الجهول لقدره ذكره الشوكاني بصيغة التضعيف
الراجح في المسألة
و القول الأول هو الراجح لاشتهاره و لكونه بلسان مضر التي منها قريش مع أنَّ بقية الأقوال لا تخلو من بعض معاني الكفور على تفاوت في القرب و البعد من معنى الكفور الذي ترسمه في الذهن عبارات السلف و المفسرين في معنى الكفور
جواب المسألة الثانية : في المراد بالإنسان
في المسألة ثلاثة أقوال
القول الأول : عموم الإنسان و هذا العموم هو من قبيل العموم العرفي أو المخصوص ذكره ابن عطية و الشنقيطي و ابن عاشور و السعدي و الطنطاوي و فيما يلي نص أقوالهم
· قال ابن عطية : وقد يكون من المؤمنين الكفور بالنعمة ، فتقدير الآية : إن الإنسان لنعمة ربه لكنود
· وقال السعدي : فطبيعة [ الإنسان ] وجبلته ، أن نفسه لا تسمح بما عليه من الحقوق ، فتؤديها كاملة موفرة ، بل طبيعتها الكسل والمنع لما عليه من الحقوق المالية والبدنية ، إلا من هداه الله ، وخرج عن هذا الوصف إلى وصف السماح بأداء الحقوق .
· و قال ابن عاشور : والتعريف في { الإنسان } تعريف الجنس وهو يفيد الاستغراق غالباً ، أي أن في طبع الإنسان الكُنود لربه ، أي كفرانَ نعمته ، وهذا عارض يعرض لكل إنسان على تفاوتٍ فيه ولا يسلم منه إلا الأنبياء وكُمَّل أهل الصلاح لأنه عارض ينشأ عن إيثار المرء نفسه وهو أمر في الجبلة لا تدفعه إلا المراقبة النفسية وتذكّرُ حق غيره . وبذلك قد يذهل أو ينسَى حق الله ، والإِنسان يحس بذلك من نفسه في خطراته ، ويتوانى أو يغفل عن مقاومته لأنه يشتغل بإرضاء داعية نفسه والأنفس متفاوتة في تمكن هذا الخُلق منها ، والعزائم متفاوتة في استطاعة مغالبته . وهذا ما أشار إليه قوله تعالى : { وإنه على ذلك لشهيد وإنه لحب الخير لشديد } فلذلك كان الاستغراق عرفياً أو عامّاً مخصوصاً ، فالإِنسان لا يخلو من أحوال مآلها إلى كفران النعمة ، بالقول والقصد ، أو بالفعل والغفلة ، فالإِشراك كنود ، والعِصيان كنود ، وقِلة ملاحظة صَرف النعمة فيما أعطيت لأجله كنود ، وهو متفاوت ، فهذا خلق متأصل في الإِنسان فلذلك أيقظ الله له الناس ليَريضوا أنفسهم على أمانة هذا الخلق من نفوسهم كما في قوله تعالى : { إن الإنسان خلق هلوعاً } [ المعارج : 19 ] وقوله : { خلق الإنسان من عجل } [ الأنبياء : 37 ] وقوله : { إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى } [ العلق : 6 ، 7 ]
· و قال الشنقيطي : وقوله : إن الإنسان عام في كل إنسان ، ومعلوم أن بعض الإنسان ليس كذلك ، كما قال تعالى : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى } ، مما يدل على أنه من العام المخصوص . وأن هذه الصفات من طبيعة الإنسان إلا ما هذبه الشرع ، كما قال تعالى: { وَأُحْضِرَتِ الأنفُسُ الشُّحَّ } . وقوله : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . ونص الشيخ في إملائه أن المراد به الكافر .
· و قال الطنطاوي فالمراد بالإِنسان هنا : جنسه ، إذ إن هذه الصفة غالبة على طبع الإِنسان بنسب متفاوتة ، ولا يسلم منها إلا من عصمه الله - تعالى - . وقيل : المراد بالإِنسان هنا : الكافر ، وأن المقصود به ، الوليد بن المغيرة . والأولى أن يكون المراد به الجنس ، ويدخل فيه الكافر دخولا أوليا .
القول الثاني : بعض أفراد الإنسان – وهو الكافر ذكره الشوكاني و صديق حسن خان و الطنطاوي
القول الثالث : لام التعريف للعهد و المراد شخص واحد هو الوليد بن المغيرة ، وقيل : قرطة بن عبد عمرِو بن نوفل القرشي . ذكره ابن عاشور و الشنقيطي و الطنطاوي
الراجح في المسألة
و الراجح القول الأول للأسباب التالية
1- أنَّ الكفران قد يقع من المؤمن كما يقع من الكافر
2- أنَّ العام يبقى على عمومه ما لم تقم قرينة على تخصيصه و ما ذُكر من قرائن فهو ضعيف و لو كان المراد الكافر ابتداءً لكان التقدير ( إنَّ الكافر لربه لكفور ) باعتبار معنى الكنود الكفور و بذلك لم يبقى للأية إلا معنى التأكيد على كفر الكافر ، و أمَّا إذا كان المراد بالكافر انتهاءً - أي بمعنى أنَّ من يحصُل منه الكفران هو الكافر - فهذا من باب تحصيل الحاصل
3- و أما كون المراد شخص واحد فلم يقم دليل قوي عليه
جواب المسألة الثالثة : دلالة تعدد أدوات تأكيد الخبر
أكَّد الله سبحانه و تعالى خبر أنَّ الإنسان كنود بثلاث أدوات هي
1- وقوع الخبر جواباً للقسم ، فقد أقسم الله تعالى بالخيل أو الإبل و أحوالها و ما فيها من إعجاز و أتى بجملة ( إنَّ الإنسان لربه لكنود ) جواباً للقسم الذي افتُتحت به السورة
2- تصدير الخبر بحرف التوكيد إنَّ
3- دخول اللام المزحلقة على خبر إنَّ
و دلالة ذلك التنبيه على عظم و خطر و أهمية الخبر الذي يُخبر الله به عباده ليتدبروه و يعملوا بمقتضاه فمن تدبَّر هذه الأية و عَلِم عِلْم يقين أنَّ الإنسان بطبعه كنود بادر في تزكية نفسه ليُبعدها عن هذا الخطر العظيم ألا و هو الكفران