مقاصد الناهين من السلف عن كتابة غير القرآن:
الناظر في الآثار المروية عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في النهي عن كتابة غير القرآن من الحديث والتفسير والفقه وغيره يجد أن بعضهم يعلل النهي بعلل تتبيّن بها مقاصدهم من النهي، فحرصت على جمع تلك العلل للنظر فيها؛ فكانت نحو ثمان علل:
1: الاعتماد على النهي الأول، وأن ما ورد من الإذن من النبي صلى الله عليه وسلم كان خاصاً، وهذا ظاهر مذهب أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقد تبيّن أنّ هذا النهي منسوخ، وقد كان في أوّل الإسلام نهياً مخصوصاً.
2: التحرز من التباس القرآن بغيره، واختلاف الأمة في كتابها كما اختلف أهل الكتاب في كتابهم، ولا سيما في أوّل الإسلام، وكثرة المقبلين على الدخول في الإسلام مع عدم معرفتهم بالقرآن.
وهذا كان أكثر ما حمل عمر بن الخطاب على الكف عن تدوين السنة في زمانه.
- قال ابن أبي الزناد: قال عروة بن الزبير: (كنا نقول لا يُتخذ كتابٌ مع كتاب الله؛ فمحوت كتبي؛ فوالله لوددت أن كتبي عندي، إن كتاب الله قد استمرّت مريرته). رواه ابن عساكر.
3: خشية الافتتان بالكتب، فيُقبل عليها ويُترك القرآن، وهذا مأثور عن ابن مسعود رضي الله عنه.
4: الحذر من اتخاذ كتاب يُضاهَى به القرآن يكون كمثناة أهل الكتاب.
وهذه العلل الثلاث مأثورة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
5: إمكان تطرّق الخطأ إلى الكتب، ثم قد يزداد الغلط وتكثر الأخطاء حتى تكون سبباً في الضلال.
6: التحرّز من أن يقع الكتاب بيد من لا يحسن فهمه، ولا يضعه مواضعه؛ فيرويه على غير وجهه.
وهذا ما حمل عبيدة السلماني رحمه الله على إتلاف كتبه لما حضرته الوفاة.
7: خشية الاتكال على الكتب وتضييع الحفظ وملاحظة الهَدْي.
8: صيانة العلم من دخول غير أهله فيه.
- قال الأوزاعيّ: (كان هذا العلم كريمًا يتلقّاه الرّجال بينهم، فلمّا دخل في الكتب دخل فيه غير أهله).
وهذا قاله الأوزاعي مع أنه كان كثير الكتب رحمه الله.
وقد جمع الخطيب البغدادي بين بعض هذه العلل فقال: (فقد ثبت أنَّ كراهة من كره الكتاب من الصدر الأول إنما هي لئلا يضاهى بكتاب الله تعالى غيره، أو يشتغل عن القرآن بسواه، ونهي عن الكتب القديمة أن تتخذ لأنه لا يعرف حقها من باطلها وصحيحها من فاسدها، مع أن القرآن كفى منها وصار مهيمنا عليها، ونهي عن كتب العلم في صدر الإسلام وجدّته لقلة الفقهاء في ذلك الوقت، والمميزين بين الوحي وغيره؛ لأن أكثر الأعراب لم يكونوا فقهوا في الدين ولا جالسوا العلماء العارفين؛ فلم يؤمن أن يلحقوا ما يجدون من الصحف بالقرآن، ويعتقدوا أن ما اشتملت عليه كلام الرحمن، وأمر الناس بحفظ السنن إذ الإسناد قريب، والعهد غير بعيد، ونهي عن الاتكال على الكتاب، لأن ذلك يؤدي إلى اضطراب الحفظ حتى يكاد يبطل، وإذا عدم الكتاب قوي لذلك الحفظ الذي يصحب الإنسان في كل مكان، ولهذا قال سفيان الثوري ما أخبرنا ابن رزقويه، أخبرنا عثمان بن أحمد، حدثنا حنبل بن إسحاق، حدثني أبو عبد الله وهو أحمد بن حنبل , حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان الثوري، قال: "بئس المستودع العلم القراطيس").
قال: (وكان سفيان يكتب، أفلا ترى أن سفيان ذم الاتكال على الكتاب وأمر بالحفظ، وكان مع ذلك يكتب احتياطاً واستيثاقاً، وكان غير واحد من السلف يستعين على حفظ الحديث بأن يكتبه ويدرسه من كتابه، فإذا أتقنه محا الكتاب خوفا من أن يتّكل القلب عليه فيؤدي ذلك إلى نقصان الحفظ وترك العناية بالمحفوظ).
- وقال ابن عبد البرّ في جامع بيان العلم وفضله: (من كره كتاب العلم، إنما كرهه لوجهين:
أحدهما: ألا يتخذ مع القرآن كتاب يضاهى به.
ثانيهما: ولئلا يتكل الكاتب على ما كتب فلا يحفظ فيقل الحفظ؛ كما قال الخليل رحمه الله: ليس بعلمٍ ما حوى القِمَطْرُ ... ما العلم إلا ما حواه الصَّدْرُ).