النهي عن كتابة غير القرآن في أوّل الإسلام:
كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن كتابة غير القرآن في حياته، كما في صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد وغيرهما من طريق همّام بن يحيى عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمْحُه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)).
وفي مسند الدارمي من طريق سفيان بن عيينة قال: حدثنا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه «أنهم استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في أن يكتبوا عنه، فلم يأذن لهم».
وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى أنّ الحكمة من ذلك ألا يختلط القرآن بغيره، وخصوصاً في أوّل الإسلام قبل أن تستقرّ معرفة القرآن في النفوس ويشتهر حفظه وتتميّز تلاوته.
والتحقيق أنّ المقاصد أعمّ من ذلك، فقد نُقل عن السلف الصالح ما يدلّ على تعدّد المقاصد، ومن أهمّها ألا يختلط القرآن بغيره إذ لم تكن المعرفة بالقرآن شائعة في ذلك الزمان، وأن لا يُشتغل بالكتابة عن الحفظ واتّباع الهدى.
فالكاتب قد يتّكل على الكتابة ويستكثر منها حتى يغفل عن التعاهد والحفظ وملاحظة الهدى واتّباعه.
والعلم ليس مسائل مجرّدة يُطلب من المتعلّم حفظها وترديدها، بل لا يُعدّ العلم الذي يتعلّمه المرء نافعاً حتى يتبيّن به الحقّ من الباطل، ويعرف به الهدى ويتّبعه؛ فيكون للعلم حينئذ أثرٌ صالح على قلبه وجوارحه، ويكون العلمُ له نوراً يسير به على الصراط المستقيم.
ولذلك كان من أشدّ الآيات على العلماء قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)}.
فدلّت هذه الآية على الوعيد الشديد لمن كتم أصلين عظيمين:
الأول: البينات التي بها يتبيّن الحق من الباطل،
والثاني: الهدى، هو سلوك الصراط المستقيم بامتثال الأمر واجتناب النهي، والقيام بالحقّ كما أمر الله تعالى وكما بيّن رسوله صلى الله عليه وسلم.
فمعرفة البيّنات تثمر البصيرة في الدين، وتفضي بصاحبها إلى اليقين.
واتباع الهدى يثمر الاستقامة ويفضي بصاحبه إلى التقوى والإحسان.
فكتم البينات يكون بعدم تبليغ ما يتميّز به الحقّ من الباطل.
وكتم الهدى يكون بعدم العمل بالعلم.
فيصبح الناس في عماية عمياء لا يجدون من يبصّرهم في دينهم، ولا يجدون أسوة صالحة يقتدون بها.
وكتم البينات والهدى أشدّ ضرراً وإثماً من منع الماء عن ابن السبيل، بل ضرره كبير كثير، كبير من جهة عظم خطره وإثمه، وكثير من جهة تعدّيه لكثيرين ممن حُجب عنهم العلم والعمل، ولذلك كثر اللاعنون لهذا الصنف بعد لعنة الله لهم، كما قال الله تعالى: {أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون}.
والمقصود أن الدعوة الإسلامية في بزوغ فجرها كانت الحاجة فيها إلى تبليغ البينات والقيام بالهدى ماسة، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحثّ أصحابه على تلقّي العلم منه بفرعيه المعرفي والسلوكي، فكان يعلّمهم أحكام الدين ويُفقّههم فيه ويجيب على أسئلتهم، وكان يقول أيضاً: ((صلوا كما رأيتموني أصلي))، و (( خذوا عني مناسككم))، وكان يقول: ((خير الهدي هدي محمد)).
وقد قال الله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}
وهذا يقطع عن قلوب الصحابة التطلع إلى هدى خير من هذا الهدى الذي رأوا عليه النبي صلى الله عليه وسلم وبلغهم عنه.
فأخذ الصحابة منه العلم الذي يتبصّرون به في دينهم، ويميزون به الحقّ من الباطل فلا يلتبس عليهم، وأخذوا عنه الهدى الذي ترسّموه وامتثلوه وقاموا به، ومُنعوا من الكتابة ليكون إقبال قلوبهم على الأمرين: البينات والهدى، وبهما يكون القيام بالدين.
ولا شكّ أنّ إقبال العامة على الكتابة يشغلهم عن تمام القيام بالأمرين، وقد لا ينهض بهما مع الكتابة إلا قلّة ممن تمرّسوا على الاجتهاد في العلم والعمل، وجمعوا القرآن وأكثروا من تلاوته حتى أمن في حقهم التباس غيره به في الزمن الذي كان ينزل فيه الوحي.
وسيأتي مزيد تفصيل للحديث عن مقاصد النهي عن الكتابة في أوّل الإسلام ، وأنها أعمّ من خشية اختلاط القرآن بغيره.