اكتب رسالة بأسلوب التقرير العلمي في تفسير واحدة من الآيات التالية:
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }.
قص اللّه في هذه الآية وما قبلها ما فيه البرهان والدلالة على أمر توحيده وما آتاه الرسل من البيّنات تقدمة للآيات بعدها والتي فيها الأمر بالجهاد.
واختلف الناس لم صدرت هذه المقالة عن إبراهيم عليه السلام؟
فقال الجمهور: «إن إبراهيم عليه السلام لم يكن شاكا في إحياء الله الموتى قط.
قال الضحاك: وقد علم عليه السلام أن الله قادر على إحياء الموتى
واختلف في سبب سؤاله على هذا:
1- قال قتادة وابن زيد: «: «إن إبراهيم رأى دابة قد توزعتها السباع فعجب وسأل هذا السؤال».
2- قال ابن إسحاق: «بل سببها أنه لما فارق النمرود وقال له: أنا أحيي وأميت، فكر في تلك الحقيقة والمجاز، فسأل هذا السؤال».
3- قال السدي وسعيد بن جبير: «بل سبب هذا السؤال أنه لما بشر بأن الله اتخذه خليلا أراد أن يدل بهذا السؤال ليجرب صحة الخلة، فإن الخليل يدل بما لا يدل به غيره»، وقال سعيد بن جبير: «{ولكن ليطمئنّ قلبي }يريد بالخلة».
وقال نقل الطبري عن آخرين : أنه سأل ذلك لأنه شك في قدرة الله على إحياء الموتى
وروى أنه: «التقى عبد اللّه بن عبّاسٍ، وعبد اللّه بن عمرو بن العاص، فقال ابن عبّاسٍ لابن عمرو بن العاص: أيّ آيةٍ في القرآن أرجى عندك؟ فقال عبد اللّه بن عمرٍو: قول اللّه عز وجل:{يا عبادي الّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللّه}الآية -فقال ابن عبّاسٍ: لكنّ أنا أقول: قول اللّه:{وإذ قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى}فرضي من إبراهيم قوله: {بلى}قال: فهذا لما يعترض في النّفوس ويوسوس به الشّيطان».
وذكر عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: «دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فقال: ربّ أرني كيف تحي الموتى؟
وذكر حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نحن أحق بالشك من إبراهيم». الحديث. ثم رجح الطبري هذا القول الذي يجري مع ظاهر الحديث. وقال: «إن إبراهيم لما رأى الجيفة تأكل منها الحيتان ودواب البر ألقى الشيطان في نفسه فقال: متى يجمع الله هذه من بطون هؤلاء؟»
ورد الجمهور على هذا القول بردود:
1- فأما قول ابن عباس: «هي أرجى آية فمن حيث فيها الإدلال على الله تعالى وسؤال الإحياء في الدنيا، وليست مظنة ذلك، ويجوز أن يقول: هي أرجى آية لقوله: {أولم تؤمن؟}أي إن الإيمان كاف لا يحتاج بعده إلى تنقير وبحث»،
2- وأما قول عطاء بن أبي رباح: «دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فمعناه من حب المعاينة، وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به، ولهذا قال النبي عليه السلام: «ليس الخبر كالمعاينة»،
3- وأما قول النبي عليه السلام نحن أحق بالشك من إبراهيم فمعناه: أنه لو كان شك لكنا نحن أحق به ونحن لا نشك، فإبراهيم عليه السلام أحرى أن لا يشك، فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم.
ومما يعضض قول الجمهور:
1- أن إحياء الموتى إنما يثبت بالسمع، وقد كان إبراهيم عليه السلام أعلم به، يدلك على ذلك قوله: {ربّي الّذي يحيي ويميت}[البقرة: 258]
2- أن الشك يبعد على من ثبتت قدمه في الإيمان فقط، فكيف بمرتبة النبوءة والخلة، والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعا
3- إذا تأملت سؤاله عليه السلام وسائر ألفاظ الآية لم تعط شكا، وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو عن حال شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسئول نحو قولك: كيف نسج الثوب؟
4- سبب قول الله تعالى لإبراهيم ( أولم تؤمن ) لما في عبارة الخليل عليه السلام من الاشتراك المجازي وسبب ذلك أن بعض المنكرين لوجود شيء قد يعبر عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح، فليزم من ذلك أن الشيء في نفسه لا يصح، مثال ذلك أن يقول مدع: أنا أرفع هذا الجبل، فيقول له المكذب: أرني كيف ترفعه؟ فهذه طريقة مجاز في العبارة، ومعناها تسليم جدلي.
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ ) المعنى اذكر هذه القصة.
{ رب أرني كيف تحي الموتى}أي:بأي حال تحي الموتى
(قال أولم تؤمن) معناه إيمانا مطلقا دخل فيه فصل إحياء الموتى.
(قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ ) قال إبراهيم بلى آمنت ولكن أردت أن يطمئن قلبي.
ومعنى ليطمئن:
1- ليسكن عن فكره، والطمأنينة اعتدال وسكون على ذلك الاعتدال فطمأنينة الأعضاء معروفة، كما قال عليه السلام: «ثم اركع حتى تطمئن راكعا»، الحديث، وطمأنينة القلب هي أن يسكن فكره في الشيء المعتقد.
2- وقال الطبري: «معنى ليطمئنّ ليوقن».وحكي نحو ذلك عن سعيد بن جبير، وحكي عنه ليزداد يقينا. وقاله إبراهيم وقتادة. وقال بعضهم: لأزداد إيمانا مع إيماني.
(قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) فأمره اللّه أن يأخذ أربعة من الطير
واختلف المفسّرون في هذه الأربعة: ما هي؟ وإن كان لا طائل تحت تعيينها، إذ لو كان في ذلك متّهم لنصّ عليه القرآن.
فروي عن ابن عبّاسٍ أنّه قال: «هي الغرنوق، والطّاوس، والدّيك، والحمامة».
وعنه أيضًا: «أنّه أخذ وزًّا، ورألًا -وهو فرخ النعام -وديكا، وطاووسًا».
وقال مجاهد وعكرمة وابن إسحاق وابن زيد: «كانت حمامة، وديكا، وطاووسًا، وغرابًا».
(فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ)
اختلف في معنى صرهنّ على أقوال:
1- أملهن إليك، وأجمعهن إليك، قال الزجاج ، قال ذلك أكثرهم.
فأما نظير صرهن أملهن وأجمعهن فقول الشاعر:
وجاءت خلعة دهس صفايا... يصور عنوقها أحوى زنيم
2- وقال بعضهم: صرهن إليك اقطعهن، قاله ابن عبّاسٍ، وعكرمة، وسعيد بن جبيرٍ، وأبو مالكٍ، وأبو الأسود الدّؤليّ، ووهب بن منبّهٍ، والحسن، والسّدّيّ، وغيرهم.
وقال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ: «{فصرهنّ إليك}أوثقهنّ»، فلمّا أوثقهنّ ذبحهنّ
3- وقرأ قوم «فصرّهن» بضم الصاد وشد الراء المفتوحة كأنه يقول فشدّهن. ومنه صرة الدنانير.
4- وقرأ قوم «فصرّهن» بكسر الصاد وشد الراء المفتوحة ومعناه صيحهن من قولك صر الباب والقلم إذا صوّت، ذكره النقاش. قال ابن جني وهي قراءة غريبة
5- قال ابن جني، وأما قراءة عكرمة بضم الصاد فيحتمل في الراء الضم والفتح والكسر
قال ابن عطية رحمه الله: «وهذه بمعنى فاحبسهن من قولهم صرى يصري إذا حبس، ومنه الشاة المصراة
(ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا)
واختلف المتأولون في معناها
1- روى أبو حمزة عن ابن عباس: «أن المعنى اجعل جزءا على كل ربع من أرباع الدنيا كأن المعنى اجعلها في أركان الأرض الأربعة». وفي هذا القول بعد كما قال ابن عطية رحمه الله.
2- وقال قتادة والربيع: «المعنى واجعل على أربعة أجبل على كل جبل جزءا من ذلك المجموع المقطع، فكما يبعث الله هذه الطير من هذه الجبال فكذلك يبعث الخلق يوم القيامة من أرباع الدنيا وجميع أقطارها».
3- قال ابن جريج والسدي: «أمر أن يجعلها على الجبال التي كانت الطير والسباع حين تأكل الدابة تطير إليها وتسير نحوها وتتفرق فيها».قالا: «وكانت سبعة أجبل فكذلك جزأ ذلك المقطع من لحم الطير سبعة أجزاء».
4- وقال مجاهد: «بل أمر أن يجعل على كل جبل يليه جزءا».قال الطبري: «معناه دون أن تحصر الجبال بعدد، بل هي التي كان يصل إبراهيم إليها وقت تكليف الله إياه تفريق ذلك فيها، لأن الكل لفظ يدل على الإحاطة».
قال ابن عطية رحمه الله: «وبعيد أن يكلف جميع جبال الدنيا، فلن يحيط بذلك بصره، فيجيء ما ذهب إليه الطبري جيدا متمكنا. والله أعلم أي ذلك كان».
(ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا)
ففعل ذلك إبراهيم عليه السلام ثم دعاهن فنظر إلى الريش يسعى بعضه إلى بعض، وكذلك العظام واللحم. فرأى كيف التأمت، فشاهد إبراهيم عليه السلام ما كان يعلمه غيبا رأي عين، وعلم كيف يفعل اللّه ذلك وصحت له العبرة.
وأمره بدعائهن وهن أموات إنما هو لتقرب الآية منه وتكون بسبب من حاله، ويرى أنه قصد بعرض ذلك عليه. ولذلك جعل الله تعالى سيرهن إليه سعياً، إذ هي مشية المجدّ الراغب فيما يمشي إليه، فكان من المبالغة أن رأى إبراهيم جدها في قصده وإجابة دعوته. ولو جاءته مشيا لزالت هذه القرينة، ولو جاءت طيرانا لكان ذلك على عرف أمرها، فهذا أغرب منه.
قال ابن عبّاسٍ: «وأخذ رؤوسهنّ بيده، ثمّ أمره اللّه عزّ وجلّ، أن يدعوهنّ، فدعاهنّ كما أمره اللّه عزّ وجلّ، فجعل ينظر إلى الرّيش يطير إلى الرّيش، والدّم إلى الدّم، واللّحم إلى اللّحم، والأجزاء من كلّ طائرٍ يتّصل بعضها إلى بعضٍ، حتّى قام كلّ طائرٍ على حدته، وأتينه يمشين سعيًا ليكون أبلغ له في الرّؤية الّتي سألها، وجعل كلّ طائرٍ يجيء ليأخذ رأسه الّذي في يد إبراهيم، عليه السّلام، فإذا قدّم له غير رأسه يأباه، فإذا قدّم إليه رأسه تركب مع بقيّة جثّته بحول اللّه وقوّته)
وقوله عزّ وجلّ: {واعلم أنّ اللّه عزيز حكيم}.
عزيزٌ لا يغلبه شيءٌ، ولا يمتنع منه شيءٌ، وما شاء كان بلا ممانعٍ لأنّه العظيم القاهر لكلّ شيءٍ.
حكيمٌ في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.