بسم الله الرحمن الرحيم
مجلس مذاكرة القسم الثالث من "خلاصة تفسير القرآن"
المجموعة الأولى:
السؤال الأول: بيّن الدلائل على كمال القرآن وحسن أسلوبه وقوّة تأثيره.
القرآن الكريم كلام الله عز وجل، وهو أفضل كتبه التي امتن بها على عباده، وصل في الكمال الغاية، وفي البيان منتهى الحسن، قال تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) أحكمه الله عز وجل وجعله لكل شيء تبيانا..
ومن دلائل كماله:
- أن فيه اجتماع علوم الأصول والفروع والأحكام، وعلوم الأخلاق والآداب، وعلوم الكون.
- وهو المرجع لجميع الحقائق الشرعية والعقلية، متوافق مع كل علم صحيح محسوس أو معقول.
- وهو الحق الذي لا شك فيه ولا ريب، ولا باطل يأتيه كما قال تعالى: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه).
- وفيه الهداية والهدى إلى سبيل كل علم وعمل، كما قال تعالى: ( إن هذا القرآن يهدي للتي هى أقوم).
- وأخباره وأحكامه: فأخباره الصدق، وأحكامه العدل، فلا يجوز تكذيب أخباره لأنها الصدق من عند الملك الحق، وأحكامه لا أنفع منها للعباد.
- أما ألفاظه ومعانيه، فاتسمت ألفاظه بالوضوح، ومعانيه بالبلاغة والحسن، دلت ألفاظه الجميلة على أحسن المعاني وأكملها وأحقها.
- وقد حوى القرآن المتقابلات العامة، وبينها بأحسن ما يكون، كما في قوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى)، فالبر اسم جماع لكل ما يحبه الله ويرضاه، والتقوى اسم جامع لكل ما وجب اتقاؤه من المساخط والمضار.
وكذا جمع بين زاد سفر الدنيا والآخرة، فقال تعالى: (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى).
- وأرشد للكمال في اللباس الحسي الظاهر الذي يكمل به ستر العورة ويحصل به التزين، واللباس المعنوي الذي هو أساس جمال الباطن وجمال الروح والقلب، وهو التقوى، فقال تعالى: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير).
-وكذا جمع بين نعيم الظاهر ونعيم الباطن،كما قال تعالى: (ولقاهم نضرة وسرورا).
- وجمع بين نعيم القلب ونعيم البدن، فقال تعالى: (فروح وريحان وجنة نعيم)، وجنة نعيم فيهما النعيم القلبي والبدني، فانظر كيف دلت ألفاظه على جملة من المعاني بإيجاز لا إخلال فيه، بل هو الحسن والكمال.
- والأمثلة في ذلك كثيرة، والمتدبر للقرآن يجد في ألفاظه كمال دال على المقصود من معان بأحسن ما يكون، وقد قال ابن عطية الأندلسي رحمه الله: (وكتاب الله سبحانه لو نزعت منه لفظة ، ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم توجد).
السؤال الثاني: بيّن بإيجاز الأسباب الموصلة إلى المطالب العالية.
- سن الله للعباد أن كل مطلوب له أسباب بها يحصل ويكمل، وما من عبد إلا وهو ساع في تحصيل الأسباب التي بها يُجلب النفع، ويُدفع الضر، وقد بين الله عز وجل الأسباب الموصلة إلى المطالب العالية، والمنازل الرفيعة، والمقامات الكريمة في الدنيا والآخرة، وأرشد عباده إليها، حاثا لهم في مواضع على تحقيقها، وسلوك العباد تلك الأسباب التي بينها الله عز وجل وأرشد إليها هو أقرب طريق لحصول ما يطلبونه.
- وبالنظر فيما ذكره الشيخ السعدي رحمه الله من أسباب، فكثير منها مشترك في تحصيل المطالب، ولعل هناك أسباب أخرى، لكنه اقتصر على ذكر أهم الأسباب وأجلها.
- فمن أراد الفلاح في الدنيا والآخرة، والوصول لرضوان الله وجنته فسبب ذلك الإيمان والعمل الصالح.
- ومن أراد كفاية جميع حاجاته، فسبب ذلك القيام بعبودية الله ظاهرا وباطنا، وصدق التوكل عليه، وقد قال تعالى: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه).
- ومن أراد الرزق، فعليه بتحقيق التقوى، وكذلك السعي الأسباب، قال تعالى: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب)، كما قال تعالى: (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه).
- وأما سبيل إدراك الإحسان العاجل والآجل،فسبيله الإحسان إلى الخالق، والإحسان إلى الخلق، كما قال تعالى: (إن رحمت الله قريب من المحسنين)، وسبيل حصول التآلف العدو والصديق، وتوطيد الأواصر بين الأصدقاء، قال تعالى: ( ادفع بالتي هى أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)، وقال تعالى: ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك).
- ومن أراد الخيرات واستدفاع المضارفسبيل ذلك الصبر قال تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة)، وفي الآخرة يحصل لهم كمال الخير كما قال تعالى: ( أولئك يجزون الغرفة بما صبروا).
- ومن أراد الخلف العاجل والثواب الآجل، فعليه بالإنفاق في سبيل الله، قال تعال: (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرزاقين).
- ومن أراد الخروج من الكرب والضيق والشدة، فسبب ذلك التقوى والإيمان ولزوم دعوة ذي النون، ففيها توحيد الله وتنزيه، واعتراف العبد بذنبه وتقصيره، قال تعالى: ( فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين* فاستجبناه له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين).
- ومن أراد العلم فسبيله حسن السؤال كما قال تعالى: ( فأسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، وحسن الإنصات والتعلم والتقوى كما قال تعالى: (إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا)، وحسن القصد، كما قال تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا).
- وجعل الله سبيل الرفعة في الدنيا والآخرة، العلم النافع، قال تعالى: ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات).
- ومن أراد النصر والسلامة من الأعداء فسبيل ذلك – بعد الصبر والتوكل على الله - الاستعداد بكل قوة مستطاعة كما قال تعالى: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ).
- وجعل الله الجهاد سببا في النصر والوقاية من الأعداء شرورهم، قال تعالى: ( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم).
- ومن أراد الحفاظ على النعم وزيادتها وبركاتها فسبيل ذلك الشكر، كما قال تعالى: ( لئن شكرتم لأزيدنكم).
-ومن أراد العواقب الحميدة والمنازل الرفيعة فعليه بالصبر والتقوى، قال تعالى: (والعاقبة للمتقين).
- ومن أراد القناعة، فعليه بالنظر إلى النعم التي أوتيها العبد، وغض النظر عما سواها.
- ومن أراد صلاح الأحوال، فعليه بالقيام بالعدل، كما أمر الله تعالى: (وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان).
- ومن أراد التيسير في أموره فعليه بالقيام بأمور الدين، قال تعالى: (فأما من أعطى واتقى* وصدق بالحسنى* فسنيسره لليسرى).
-ومن أراد الخلاص من المعاصي وأسبابها وأنواع الفتن،فعليه بالإخلاص لله عز وجل كما قال تعالى:
( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين).
-ومن أراد النجاة من تسلط الشياطين، قوة التوكل على الله، وكثرة ذكره تعالى، والاستعاذة بالله من الشيطان،قال تعالى: (إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون)، وكذلك قراءة المعوذات.
- ومن أراد محو ذنوبه، فجعل الله سبب ذلك التوبة والاستغفار كما قال تعالى: (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى)، والإيمان والحسنات وقال تعالى: ( إن الحسنات يذهبن السيئات)، والمصائب مع الصبر عليها، كما قال تعالى: ( إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين).
-ومن أراد البعد عن الموبقات المهلكة،فعليه باجتناب طريقها، قال تعالى: ( تلك حدود الله فلا تقربوها)، وكذلك عليه بعدم تجاوز المباح، قال تعالى: ( تلك حدود الله فلا تعتدوها).
-ومن أراد مفتاح الإيمان واليقين، فعليه بالتفكر في آيات الله المتلوة والمشهودة، وإعمال الفهم والبصيرة، قال تعالى: ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب).
- ومن أراد الفوز بالجنة والبشارة عند الموت، فعليه بإصلاح الاعتقاد والعلم والعمل، قال تعالى: (طبتم فادخلوها خالدين)، وقال تعالى: (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين).
- وأما من أراد نيل محبة الله، فسبيل ذلك متابعة النبي صلى الله عليه وسلم،كما قال تعالى: ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)، وقد ذكر الله في غير آية محبته للصابرين، وللمحسنين، وللمتقين، وكذلك للمجاهدين الذين يقاتلون في سبيله قد التحمت صفوفهم وتوحد مطلبهم وما أعظمه وأجله من مطلب.
- ومن أراد سلوك سبيل الدعوة إلى الله،فعليه بالحكمة والوعظ الحسن، والمجادلة بالحسنى، كما قال تعالى: ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هى أحسن)
- وأما منزلة الإمامة في الدين، فتنال بالصبر واليقين، كما قال تعالى: ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون).
- وأما من أراد حصول جميع المطالب فسبيل ذلك الدعاء، والآيات الحاثة عليه كثيرة ومنها قول الله تعالى: ( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم).
السؤال الثالث: بيّن الفروق بين كلّ من:
1.التبصرة والتذكر.
أولا تعريف التبصرة والتذكرة:
التبصرة هى العلم بالشيء والتبصر فيه.
والتذكرة فهى العمل بالعلم اعتقادا وعملا.
ثانيا العلاقة بينهما:
أن التبصرة سبب للتذكر، وذلك أن العلم النافع التام يتحصل بأمور ثلاثة:
التفكر والتبصر والتذكر، فمبتدأ الأمر التفكر في آيات الله المتلوة والمشهودة، فإن التفكر سبيل الفهم والإدراك، وبهما يتبصر العبد وتحصل له المعرفة، فإن استقر ذلك العلم في نفسه وصار اعتقادا لابد أن يتبعه العمل القلبي والقولي والبدني وهو التذكر، فينقاد لله عز وجل وينيب، كما قال تعالى: ( تبصرة وذكرى لكل عبد منيب).
فمن تفكر تبصر، ومن تبصر تذكر، ومن تذكر أناب وانقاد للحق واجتنب الباطل.
2.العلم واليقين:
أولا تعريف العلم واليقين:
العلم: هو إدراك الشيء، بما توفر من أخبار، والعلم قد يرد عليه الشك والريب.
اليقين: لغة: هو العلم وإزاحة الشك، وتحقيق الأمر.
أما شرعا: فهو سكون الفهم، مع ثبات الحكم، فلا يحصل لصاحبه تردد ولا ريبة ولا قلق، فلا يحتاج المرء أن يُعمل عقله وفكره في هذا الأمر لأنه مستقر عنده.
وحقيقة اليقين: هو العلم الثابت الراسخ التام المثمر للعمل القلبي والعمل البدني.
ثانيا العلاقة بينهما:
- واليقين منزلته عظيمة فهو أعلى مراتب العلم، وأغلب الناس تشترك في العلم لكن يقع التفاضل بينهم في اليقين، وبه مع الصبر تنال الإمامة في الدين.
- واليقين هو المعين على تحمل ما شق من عبادات ومهام، بسبب حصول الاطمئنان من وقوع الأجر والثواب.
- والعلم قد يعتريه الشك، ولا يحمل صاحبه على العمل والصبر عليه كما يفعل اليقين.
- ولليقين آثار علمية على مراتب ثلاث:
هى علم اليقينوهو ما تحصل بالأخبار الصادقة عن الله ورسوله التي تحققت بالأدلة والبراهين.
وعين اليقين:وهو معاينة المشاهد على الحقيقة كما أُري إبراهيم إحياء الله للموتى.
وحق اليقين:وهو ما تحقق بالذوق، وفيذوق القلب طعم الإيمان، كما يذوق اللسان حلو الطعام ومره.
- و لليقين آثار على القلب،بالوصول إلى درجة اليقين تستقر به عقائد الإيمان، ويطمئن القلب ويسكن، وتنتفي عنه الشبهات والشهوات، ويتلقى أقدار الله المؤملة بسكينة وانشراح صدر.
واليقين هو غاية الأنبياء، ومطلب الكُمل من العباد.
3.الخوف والخشية:
أولا تعريف الخوف والخشية:
الخوف: هو امتناع العبد عن محارم الله مخافة الله.
الخشية: هى امتناع العبد عن محارم الله مخافة الله نتيجة المعرفة به وبأسمائه وصفاته.
ثانيا العلاقة بينهما:
اشتركا في كونهما يمنعان العبد من الوقوع فيما حرم الله، لكن الخشية قُرنت بالعلم عن الله، ولذلك وصف العلماء بالخشية لا بالخوف، قال تعالى: ( إنما يخشى الله من عباده العلماء).
والخوف والخشية ينشأ عنهما الخضوع والإخبات والوجل،ولا شك أن القدر الناشئ عن الخشية أعظم من القدر الناشئ عن الخوف.
السؤال الرابع: أجب عما يلي:
أ- بيّن أنواع المعية وما يقتضيه كل نوع.
- المعية نوعان :
- أما النوع الأول:
قال الله تعالى: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم) فهذا النوع الأول من المعية، وهى المعية العامة، التي تكون مع الخلق جميعا، معية العلم والإحاطة، فالله عز وجل مع خلقه جميعا بعلمه، فلا يخفى عليه منهم شيء، قد أحاط بهم سمعا وبصرا، خبر باطنهم وما حوته ضمائرهم، فالله يدبر شؤون عباده ويصرفها وفقا لتلك المعية.
- وهذا النوع يقتضي من العبد مراقبة الله وخشيته، وتحقيق تقواه في السر والعلن.
- أما النوع الثاني:
قال الله تعالى: (واعلموا أن الله مع المتقين)، وقال تعالى: ( إن الله مع الصابرين)، وقال تعالى: ( إن الله مع المحسنين)، فتلك الصنوف التي يكون الله معها بمعيته الخاصة، وهى قدر زائد عن المعية العامة، فالمعية الخاصة تقتضي النصر والحفظ والتأييد والتسديد، لكن العباد يتفاوتون في نصيبهم من تلك المعية بقدر ما معهم من تقوى وصبر وإحسان، فقد نال أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام تلك المعية بل بلغوا فيها الرتب العالية التي لا ينازعهم فيها أحد، فأخبر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم قوله لصاحبه وهما في الغار قد أحاط بها الأعداء: (لا تحزن إن الله معنا)، وكذا قال لموسى وهارون مطمئنا لهما وهما مقبلان على متكبر ظالم يدعوانه: (قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى)، قوله تعالى: ( معكما أسمع وأرى) من المعية العامة، وقوله تعالى: (لا تخافا) من المعية الخاصة، فلا يخافان ظلم وبطش لأن الله معهما بحفظه ونصره وتأييده.
- وهذا النوع يقتضي من العبد تحقيق الأوصاف التي بها يدخل في زمرة من شملهم الله بمعيته الخاصة.
ب- ما هي أسباب الطغيان وما عاقبته؟
- الطغيان هو تجاوز الحد ومنه قول الله تعالى: (إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية)، أي لما تجوز الماء حده فعلا على الأرض.
وللطغيان سببان كما ذكر الشيخ السعدي رحمه الله:
فالأول: هو طغيان الرئاسة،ويكون من تولي المناصب والارتقاء إلى أعلاها، فيحصل للمرء تجاوز للحد المسموح ويتخطى إلى الحد الممنوع، فيبغي على العباد، وينكر الحق، وقد يدفعه ذلك إلى ادعاء الربوبية كما قال تعالى عن الملك الذي حاج في الله عز وجل، ( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن أتاه الله الملك)، فلما رأى ما عنده من ملك أنزل نفسه منزلة الرب، وصار يحاج ويعاند ويكابر.
أما الثاني: فهو طغيان المال،ويكون لما يرى المرء ما عنده من مال فيستغني عن الخلق، بل إنه حتى يقع في نفسه الاستغناء عن الخالق الذي خلقه ورزقه وأمده بالمال والنعم، وقد قال تعالى: ( إن الإنسان ليطغى* أن رآه استغنى).
وبين الشيخ رحمه الله موقف عباد الله المتقين لما يحصل لهم من الملك والنعم، فضرب مثلا نبي الله سليمان عليه السلام لما كان عنده من ملك، وأتاه الله من النعم فأوتي له بعرش ملكة سبأ، فشكر ربه، وازداد له خضوعا وتواضعا وقد قال تعالى على لسانه: (رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين)، وتبرأ من حوله وقوته ناسبا الفضل لله وحده، قال تعالى: ( قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر)،وقد علم أن النعم إنما تكون اختبارا للعبد، فواجب عباد الله المتقين نسبة النعم للمنعم، وشكره عليها والشكر موجب لحفظ النعم وزيادتها، ومن شكرها استعمالها في طاعة الله، والخضوع لله عز وجل والتواضع له، فلا يرى العبد من نفسه فضلا فيما رُزق، ولا يعد نفسه أهلا لاستحقاق النعم.
السؤال الخامس مثّل لعطف الخاص على العام، وبيّن فائدته.
الأمثلة:
- قال الله تعالى: ( من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين)، فالعام هو الملائكة، وعطف عليه جبريل وميكال، وذلك لبيان شرفهما وفضلهما، وكان أهل الكتاب قد ادعوا الإيمان بميكال وأنكروا جبريل، فجمع الله بينهما وعطفهما على جنسهم العام لبيان أهمية الإيمان بهما والتأكيد على ذلك.
- وقال تعالى: (تنزل الملائكة والروح فيها) ، والروح هو جبريل عليه السلام، قد اختصه الله بمزايا عظيمة وجعله ذا قوة هائلة، وله عند رب العالمين مكانة، وهو مطاع في الملائكة، أمين على الوحي وكل ما أُمر ببلاغه، فكان عطفه على الملائكة لبيان فضله ومكانته.
- وقال تعالى: (والذين يُمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة)، وقال تعالى: (اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة)، فأخبر عز وجل عن الذين يتمسكون بالكتاب علما وعملا قد حققوا شرائعه وأحكامه ويدخل في ذلك الصلاة التي هى عمود الدين وآكد الشرائع، ثم عطفها لبيان عظيم شأنها وشرفها، وكذا في الآية الثاني، فالأمر باتباع ما أوحى في الكتاب يشمل الصلاة، وقد عطفت لبيان ما لها من مزية.
- وقال تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى)، والصحيح أن الصلاة الوسطى هى صلاة العصر، وقد وردت الأدلة في السنة على بيان فضلها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى البردين دخل الجنة)، والبردين صلاتي الفجر والعصر، والحفاظ عليهما وهما في أوقات نوم واشتغال موجب للحفاظ على بقية الصلوات، والعطف بصلاة العصر هنا لبيان عظيم شأنها.
السؤال السادس: كيف تجمع بين ما يلي:
1.أخبر الله في عدة آيات بهدايته الكفار على اختلاف مللهم ونحلهم، وتوبته على كل مجرم، وأخبر في آيات أُخر أنه لا يهدي القوم الظالمين، ولا يهدي القوم الفاسقين.
قد سبق في علم الله الأزلى من هم أهل السعادة ومن هم أهل الشقاوة، وهو سبحانه الذي اختص بهداية التوفيق من أنعم عليهم وجعلهم من أهل السعادة كما قال تعالى: ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء)، وجعل هداية الإرشاد والدلالة على يد أنبيائه وأهل العلم، كما قال تعالى: (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم)، وساق الأدلة والحجج والبراهين على وحدانيته وكماله واستحقاقه الألوهية، وما من أحد إلا وبلغته هداية الإرشاد، فمن سبق في علم الله أنهم من أهل السعادة امتن الله عليهم بهداية التوفيق وسلوك طريق الإيمان، وهؤلاء الذين هداهم الله وتاب عليهم، وإن كانوا من الطواغيت وأعتى الظالمين.
أما من سبق في علم الله أنهم من أهل الشقاوة، فُحرموا هداية التوفيق بسبب ما قلوبهم، كما قال تعالى: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم)،وهؤلاء الذين قال الله عنهم أنه لا يهديهم، كما قال تعالى: ( والله لا يهدي القوم الظالمين)، وقال تعالى: (والله لا يهدي القوم الفاسقين)، وهؤلاء هم الذين حقت عليهم كلمة الله فاستحقوا العذاب بسبب كفرهم، كما قال تعالى: (إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون* ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم)، وهؤلاء لا انتفاع لهم بالآيات فقد ختم على قلوبهم فلا تعي الحق، حُرموا البصائر، وعُدموا الخير، فكانوا من أولياء الشياطين وأصحاب السعير.
2.ورد في آيات من القرآن ذكر الخلود في النار على ذنوب وكبائر ليست بكفر وقد تقرر في نصوص أخرى أنَّ كلَّ مسلم يموت على الإسلام موعود بدخول الجنة.
وصف الله عز وجل نفسه بأنه الرحمن الرحيم، التواب والعفو والغفور، ومن مقتضيات هذه الوصوفات العظيمة أنه يرحم عباده ويغفر لهم ويعفو عنهم إن أتوا بأسباب ذلك، وقد أقر الله أمرا وهو أنه لا يغفر الشرك مطلقا، فالمشرك والكافر متوعدون بالنار والخلود فيها، كما قال تعالى: ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما) فعُلم أيضا من هذه الآية أن جميع الذنوب التي دون الشرك هى تحت المشيئة، إن شاء الله غفر لصاحبها، وإن شاء عذبه، وفي ضوء هذه الآية يُفهم قوله تعالى: ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم)، فإن تاب المشرك أو الكافر وحقق الإيمان والتوحيد الخالص لله ، فإن الله عز وجل يغفر له بإذنه تعالى.
وهناك بعض الآيات ظاهرها أن ذنوبا دون الشرك صاحبها متوعد بالخلود في النار مثل قول الله تعالى: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما)، فيقال أن هذه الآية وأمثالها ذُكِرَ فيها الجزاء على هذا العمل، فذِكرُ الجزاء هنا من باب ذكر السبب الموجب للخلود في النار، وللدلالة على بشاعة الجرم المرتكب، فصاحب هذا الذنب يخلد في النار ما لم يكن هناك مانع كالتوحيد الذي يمنع صاحبه من الخلود في النار، وإن دخلها فإن دخوله في النار للتطهير والتكفير عن الذنب، والتوحيد موجب لصاحبه عدم الخلود في النار، وهذا الأصل هو المعتمد في فهم مثل هذه الآية.
وأما قول الله تعالى: ( بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)، ففي هذه الآية المراد بالخطيئة الكفر، فالمعاصي التي هى دون الكفر لا تحيط بصاحبها، فإن الإيمان يمنعها من الإحاطة بصاحبها، فنقول في هذه الآية ما سبق وهو أن المشرك والكافر مخلد في النار.
وأما قول الله تعالى: (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين)، فالمعصية تطلق ويراد بها الكفر، ويراد بها الكبائر، ويراد بها الصغائر، فمتى أريد بها الكفر، وقع التفسير على استحقاق الخلود في النار، وأنه تحتم ذلك الجزاء الأبدي، وما دون الكفر فهو تحت المشيئة.
السؤال السابع: فسّر قول الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}
أرشد الله عز وجل عباده في الآية الكريمة إلى ما تقوم به صحة الأبدان، وهو الأكل والشرب، وذلك على وجه الوجوب، فيكون ذلك بما تقوم به أبدانهم، ويتقوون به على ما أمرهم الله به من عبادات، وما دل على الوجوب فيكون تركه محرم، وإن امتثل العبد لأمر الله محتسبا، كان أكله وشربه عبادة، وقد أباح الله للعباد الطيبات من الرزق، ونص على تحريم أمور أخرى متحقق ضررها وذلك في غير آية.
ودل حذف المأكول والمشروب أن يكون مما يصلح لحال العبد البدني والمادي، فيأكل ما ينفع بدنه ويتوافق مع قدرته المادية غنى وفقرا.
ونهى الله عز وجل عباده عن الإسراف لئلا تنتفي فائدة المأكول والمشروب وتصير ضررا يصيب الدين فيكون بالوقوع فيما نهى الله عنه، ويجبر ذلك التوبة، أو يصيب البدن فإن كثرة المأكولات والمشروبات تضر البدن، ولربما أصابت البدن أمراض من كثرة الطعام، ولربما من اعتاد على كثرة الأكل فإن أصابته فاقة تدهورت صحته لنقص ما اعتاد عليه كيفا وكما، أو يصيب العقل فذلك دال على نقصان العقل، لأن العقل الصحيح موجب لحسن التدبير، أو يصيب المال وأما الضرر المالي فظاهر فإن الإسراف يستدعي كثرة النفقات، وذلك مودي إلى نفاذ المال وضيق الحال، فيفهم بالنهي عن الإسراف الأمر بالاقتصاد، وهو الأنفع والأصلح والأقرب لتقوى الله.
فمن امتثل أمر الله بالأكل والشرب على وجه الاقتصاد وتحقيق النفع فإنه موعد بمحبة الله إذ قال تعالى: (إنه لا يحب المسرفين)، فدل ذلك على محبته للمتقصدين غير متجاوزي حد السرف.
الحمد لله رب العالمين