أهمية مبحث الوصل والفصل:
معرفة الوصل والفصل من المعارف المهمة لطالب التفسير البياني، وهو باب دقيق المسلك لطيف المأخذ، ربما مرّ به القارئ مراراً لا يتفطّن لمأخذه، ولطف دلالته؛ حتى إذا شُرح له الأمر، وعرف سرَّه، وتيقّن صوابه وَجَدَ له من البهجة والانبهار ما يتعجّب منه، ويزداد عجباً إلى عجبه من شدّة غفلته عنه فيما مضى من عمره وهو يتلوه مراراً كثيرة، فيزداد بذلك يقيناً بأن كلام الله تعالى لا تنقضي عجائبه، ولا تنفد أسراره، ولا يُحاط ببيانه.
وهذا الباب لأبواب تركيب المفردات والجُمَل كالتاج الجامع، والإكليل الموشَّى؛ يزيّن اتصال بعضها ببعض، ويبيّن معاقد الفصل ومحاسنه، حتى يكون الكلام غاية في حسن السبك، وقوة الدلالة على المعاني.
- قال أبو هلال العسكري: (قيل للفارسي: ما البلاغة؟ فقال: معرفة الفصل من الوصل).
وتفسير ذلك أن من ترقّت معرفته إلى أن يحسن الفصل والوصل فقد تسنَّم ذروة البلاغة، وبلغ غايتها.
ومراد أبي علي الفارسي (ت:377هـ) من الوصل والفصل أعمّ مما اصطلح عليه أهل البلاغة بعده؛ والموضع الذي أورد فيه أبو هلال العسكري هذا القول عنه يفسّر المراد به، فهو يشمل كل ما يعين على معرفة مفاصل الكلام، وما يحسن الوقوف عنده، وما ينبغي وصله، حديثاً وكتابة؛ فيشمل الوقف والابتداء كلَّه، وكان بعض العلماء يسمّيه القطع والوصل.
وما عُني به أهل البلاغة بعد أبي علي الفارسي نوعٌ من الفصل والوصل غلب على اسمه، وهو وصل المفردات والجُمل بحروف العطف، وفصلها عنها.
ومنهم من خصّه بالجُمَل وخصّ العطف بحرف الواو، والصواب أنّه يشمل الجُمل والمفردات، ويشمل جميع حروف العطف.
فإذا قلت: زيد شاعر كاتب خطيب؛ فقد فصلتَ المفردات فلم تجعل بينها حرف عطف.
وإذا قلت: زيد شاعر وكاتب وخطيب؛ فقد وصلت هذه المفردات بواو العطف.
والمعنى بين العبارتين مختلف؛ فهما وإن اجتمعا في وصف زيد بالشعر والكتابة والخطابة؛ فلا يخفى أنّ العبارة الثانية فيها تأكيد على التصاق هذه الصفات بشخصه، وجمعها بالواو العاطفة لدفع توهّم المخاطَب بأنها لا تُجمع، وللتدرّج في بيان جمعه إيّاها؛ فكأنك تختصر بها قولك: زيد شاعر، وهو أيضاً كاتب، وهو أيضاً خطيب؛ فأدّت هذه المفردات الموصولة بالواو معنى جُمل التقرير.
والعبارة الأولى: زيد شاعر كاتب خطيب، لم يُلحظ فيها الملحظ السابق، وإنما أريد بها جمع هذه الصفات والتصاق بعضها ببعض حتى أُوقِع بعضُها من بعض موقع البدلِ من المبدل منه؛ فكأن هذه الصفاتِ الثلاثَ تؤدّي بمجموعها صفةً واحدة عظيمة يوصف بها زيد.
فالعبارة الأولى لتعظيم الصفة المتحصَّلة من مجموع الصفات، والعبارة الثانية لتعظيم الموصوف بتقرير تعدد صفاته.
وهذا ملحظ دقيق قد لا يتفطّن له إلا من أمعن النظر، وتفكّر في أثر العبارتين في نفس المخاطَب.
وقد اجتمع في القرآن الكريم في مواضع الإتيان بالفصل والوصل معاً؛ كما في قول الله تعالى: {حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم . غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير}.
ففصل ثم وصل ثم فصل في تنوّع عجيب مدهش تحيّر له أساطين البلغاء، وكبار الأدباء، واعتاص على بعضهم استخراج لطائفه؛ مع تيقنهم بأنّ الفصل والوصل لم يقع في هذه الآيات إلا لحكمة بالغة.
ولذلك كان هذا الباب منتهى مراقي أهل البلاغة، وموقفُ أقدام بعضهم؛ فلا يُقدم فيه إلا أفذاذ منهم.
- قال ابن القيّم رحمه الله في بدائع الفوائد: (الصفات إذا ذكرت في مقام التعداد فتارة يتوسط بينها حرف العطف لتغايرها في نفسها، وللإيذان بأن المراد ذكر كل صفة بمفردها.
وتارة لا يتوسطها العاطف:
- لاتحاد موصوفها وتلازمها في نفسها.
- وللإيذان بأنها في تلازمها كالصفة الواحدة.
وتارة يتوسط العاطف بين بعضها ويحذف مع بعض بحسب هذين المقامين:
- فإذا كان المقام مقام تعداد الصفات من غير نظر إلى جمع أو انفراد حسن إسقاط حرف العطف.
- وإن أريد الجمع بين الصفات أو التنبيه على تغايرها حسن إدخال حرف العطف.
فمثال الأول: {التائبون العابدون الحامدون}، وقوله: {مسلمات مؤمنات قانتات تائبات}.
ومثال الثاني: قوله تعالى: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن}.
وتأمل كيف اجتمع النوعان في قوله تعالى: {حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول}.
فأتى بالواو في الوصفين الأولين وحذفها في الوصفين الآخرين لأن غفران الذنب وقبول التوب قد يظن أنهما يجريان مجرى الوصف الواحد لتلازمهما فمن غفر الذنب قبل التوب فكان في عطف أحدهما على الآخر ما يدل على أنهما صفتان وفعلان متغايران ومفهومان مختلفان لكل منهما حكمه:
- أحدهما: يتعلق بالإساءة والإعراض وهو المغفرة.
- والثاني: يتعلق بالإحسان والإقبال على الله والرجوع إليه وهو التوبة.
فتقبل هذه الحسنة وتغفر تلك السيئة، وحَسُن العطف ههنا لهذا التغاير الظاهر.
وكلما كان التغاير أبين كان العطف أحسن ، ولهذا جاء العطف في قوله: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن}، وترك في قوله: {الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن} وقوله: {الخالق البارئ المصور}.
وأما: {شديد العقاب ذي الطول} فترك العطف بينهما لنكتة بديعة؛ وهي الدلالة على اجتماع هذين الأمرين في ذاته سبحانه وأنه حال كونه شديد العقاب فهو ذو الطول، وطوله لا ينافي شدة عقابه بل هما مجتمعان له. بخلاف الأول والآخر فإن الأولية لا تجامع الآخرية ، ولهذا فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء)). فأوليته أزليته، وآخريته أبديته.
فإن قلت: فما تصنع بقوله: (والظاهر والباطن) فإن ظهوره تعالى ثابت مع بطونه فيجتمع في حقه الظهور والبطون، والنبي صلى الله عليه وسلم فسر الظاهر بأنه الذي ليس فوقه شيء، والباطن بأنه الذي ليس دونه شيء. وهذا العلو والفوقية مجامع لهذا القرب والدنو والإحاطة؟
قلت: هذا سؤال حسن. والذي حسن دخول الواو هاهنا أن هذه الصفات متقابلة متضادة، وقد عطف الثاني منهما على الأول للمقابلة التي بينهما، والصفتان الأخريان كالأوليين في المقابلة ، ونسبة الباطن إلى الظاهر كنسبة الآخر إلى الأول فكما حسن العطف بين الأوليين حسن بين الأخريين).
صعوبة مبحث الوصل والفصل:
- قال عبد القاهر الجرجاني: (اعلم أن العلم بما ينبغي أن يُصنع في الجمل من عطف بعضها على بعض، أو ترك العطف فيها والمجيء بها منثورة، تُستأنف واحدةٌ منها بعد أخرى من أسرار البلاغة، ومما لا يتأتَّى لتمام الصواب فيه إلا الأعراب الخلَّص، وإلا قومٌ طبعوا على البلاغة، وأوتوا فنّاً من المعرفة في ذوق الكلام همْ بها أفراد، وقد بلغ من قوة الأمر في ذلك أنهم جعلوه حداً للبلاغة، فقد جاء عن بعضهم أنه سئل عنها فقال: "معرفة الفصل من الوصل"، ذاك لغموضه ودقة مسلكه، وأنه لا يَكْمُل لإحراز الفضيلة فيه أحد إلا كمل لسائر معاني البلاغة)ا.هـ
- وقال شرف الدين الطيبي: (واعلم أن معرفة ترتيب الكلام وترصيفه، ونظم التركيب وتأليفه من الأصول المعتبرة في فن البلاغة والفصاحة.
قال صاحب "المفتاح": "وإنها لمحك البلاغة ومتَّقد البصيرة".
وقد قصر بعض الأئمة البلاغة على معرفة الفصل والوصل)ا.هـ.
وقد عُني جماعة من العلماء بجمع أمثلة الفصل والوصل وتتبّعها، ومحاولة تقسيمها وتصنيفها، واستخراج قواعد هذا الباب وفنونه؛ ومنهم من تتبّع بعض أمثلة الوصل والفصل في القرآن الكريم، واجتهد في استخراج اللطائف وأوجه التفسير، لكنّ أفهامهم تفاوتت في إدراك أغراض الفصل والوصل والبيان عنها، ووقع بينهم اختلاف في الاصطلاح، وكلٌّ أتى بما أدّى إليه اجتهاده؛ فمنهم من أجاد وأصاب وأتى ببيان حسن يدلّ على صحّة تأويله وصواب اجتهاده، ومنهم من أتى بأجوبة هي محلّ نظر وتأمّل لا نجزم بصوابها ولا بردّها، وتوقّفت أنظار بعضهم عند بعض الأمثلة فمرّوا عليها مروراً ظاهراً؛ مكتفين بالتنبيه على ما فيها من الوصل والفصل؛ مستعفين عن البحث في تفسير ذلك وشرح أغراضه وبيان لطائفه، معترفين بصعوبة البحث فيه، وضعف القدرة على إدراك تلك الأغراض وبيانها.
- قال عبد القاهر الجرجاني: (واعلم أنه ما من علم من علوم البلاغة أنت تقول فيه: "إنه خفي غامض، ودقيق صعب" إلا وعلم هذا الباب أغمض وأخفى وأدقّ وأصعب، وقد قنع الناس فيه بأن يقولوا إذا رأوا جملة قد ترك فيها العطف: "إن الكلام قد استؤنف وقُطع عما قبله"، لا تطلب أنفسهم منه زيادة على ذلك، ولقد غفلوا غفلة شديدة)ا.ه.
ولعل الأنفع لطالب العلم في هذه المرحلة الإعراض عن الاختلاف العريض في الاصطلاح لأنه كثير العَناء قليل الثمرة.
وقد ذكر الدكتور منير سلطان رحمه الله في مقدمة كتابه "الفصل والوصل في القرآن الكريم" أنه شَغَل بهذا البحث نفسه أربعة عشر عاماً ثم راجعه وحرره بعد تأليف كتب كثيرة في البلاغة وتدريس مقررات البلاغة سنوات طويلة، وأسهب في بيان اختلاف الاصطلاحات في الفصل والوصل وتشعّبها، ثم خلص منها بقوله: (وأرى أننا لسنا بحاجة إلى هذه المصطلحات الخمسة فهي ليست جامعة مانعة، وقد تشكلت تلبية للحاجة التعليمية، وكانت ترجمة لمنهج البلاغة المتفلسفة العقيمة، وأرى أن نقتصر منها على المصطلح الأساسي "الفصل والوصل" ويكون:
الفصل: هو قطع معنى عن معنى بأداة لغرض بلاغي.
والوصل: هو ربط معنى بمعنى بأداة لغرض بلاغي)ا.هـ
وقد أحسن وأصاب رحمه الله، فإنَّ تشعّب الاصطلاحات وتشقيقها يفضي إلى التعقيد والاستغلاق، فإذا أضيف إلى ذلك كون تلك الاصطلاحات غير جامعة ولا مانعة اختلّ نظامها، واضمحلَّت ثمرتها، وصارت إلى التعمية والإلغاز أقرب منها إلى البيان والتيسير.
فإذا قرأت في كتب البلاغة مصطلحات في هذا الباب مثل: كمال الاتصال، وشبه كمال الاتصال، وكمال الانقطاع، وشبه كمال الانقطاع، والتوسّط بين الكمالين؛ وجدت لهذه المصطلحات غرابة ووحشة في النفس تتطلب كثيراً من الشرح لعبارات لا يتبادر معناها إلى الذهن بالشرح اليسير، ثم هي مع ذلك غير متَّفق على تحرير المراد بها، ولا تطّرد ولا تنعكس.
ولغة العرب أيسر من هذا التعقيد؛ فإنَّ الأعراب كانوا يدركون معاني الخطاب وفنونه بسليقتهم العربية؛ فلا يحتاج متعلّم العربية في هذا الباب إلا لبيان المراد بالفصل والوصل، ومعرفة أغراضهما، ولطائف دلائلهما، ليعرف متى يحسن الفصل، ومتى يحسن الوصل، ومتى يستوي الأمران.
ولذلك سأكتفي بذكر خلاصة يحصل بها مقصود هذا الدرس من شرح أمثلة تعين على فهم أمثلة هذا الباب في القرآن الكريم، وإدراك ما يتيسر فيها من لطائف الوصل والفصل، وترك التكلّف فيما استغلق في وقته؛ وأَكِلُ علمَه إلى عالمه كما أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يمنّ الله بفتح من عنده، وتعليم وتفهيم، وهو سبحانه خير من علَّم وفهَّم؛ فاللهمّ يا معلّم آدم وإبراهيم علّمنا، ويا مفهّم سليمان فهّمنا.
- قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوما يتدارءَون القرآن، فقال: ((إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضا، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه)) رواه أحمد وأبو عبيد.
- وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (اتبعوا ما بُيّن لكم من هذا الكتاب، وما أشكل عليكم فَكِلُوه إلى عالمه). رواه الطبراني في مسند الشاميين، وأصله في صحيح البخاري.
- وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (إن للقرآن منارا كمنار الطريق لا يكاد يخفى على أحد، فما عرفتم فتمسّكوا به، وما أشكل عليكم فكلوه إلى عالمه) رواه وكيع في الزهد وأبو داوود في الزهد والطبراني في الأوسط.
- وقال أبيّ بن كعب رضي الله عنه: (ما استبان لكم فاعملوا به، وما أشكل عليكم فكِلُوه إلى عالمه). رواه الحاكم في المستدرك.
- وقال عبد الله بن مسعود لمّا بلغه قول رجل في مسألة في التفسير: (من علم علماً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من فقه الرجل أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم). والخبر في صحيح مسلم.
- وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أيضاً: «إن للقرآن منارا كمنار الطريق؛ فما عرفتم منه فتمسكوا به، وما شُبّه عليكم فَكِلُوه إلى عالمه» رواه أبو عبيد والمستغفري في فضائل القرآن.
- وقال الربيع بن خثيم في وصيته بكر بن ماعز: (وما استُؤثرَ به عليك فكِلْهُ إلى عالِمه). رواه ابن أبي شيبة.
- وقال الحسن البصري في تفسير قول الله تعالى: {يتلونه حقّ تلاوته} قال: (يعملون بمُحْكَمِه، ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه). رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
- وقال محمد بن إسماعيل البخاري في كتابه "خلق أفعال العباد": (وكل من اشتبه عليه شيء فأولى أن يكله إلى عالمه؛ كما قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «وما أشكل عليكم فكلوه إلى عالمه»).
فهذا هو الأدب الواجب مع القرآن الكريم ؛ من استبان له معنى بطريقة من طرق الاستدلال المعتبرة فليقل به، ومن أشكل عليه شيء فليكله إلى عالمه، وليحذر من القول في القرآن بغير علم.
وهذا الآثار تدلّ على سعة بيان القرآن وأنّه لا يُحاط به، وأنّ ما يقع لبعض الناس من الإشكال إنما هو لقصورهم عن إدراك كمال بيان القرآن، وتقرير لعجزهم عن الإحاطة ببيان القرآن ودلائل ألفاظه ومعانيه.
وإذا أخذ طالب العلم بهذا الأدب واجتهد في التعلّم، وأيقن بقصوره وضعفه، وافتقاره إلى تعليم الله تعالى وتفهيمه، وهدايته وتوفيقه؛ كان أقرب إلى التوفيق للصواب، والله المستعان.