بِسْم الله الرحمن الرحيم
تلخيص مقاصد الرسالة التبوكية لابن القيم رحمه الله
مسائل الرسالة :
اشتمال قوله تعالى :( وتعاونوا على البر والتقوى ) على جميع مصالح العباد في معاشهم ومعادهم
واجب العبد بينه وبين الخلق
كيفية تحققه
واجب العبد بينه وبين الناس
كيفية تحققه
أهم مايقصده العبد
فائدة اقتران البر والتقوى
حقيقة البر ومعناه وما يدخل فيه وخصائصه
معنى التقوى وحقيقتها وخصائصها
الفرق بين البر والتقوى
معنى الإثم
معنى العدوان
الفرق بين الاثم والعدوان
الحكم الشرعي في الاثم والعدوان
أعظم ما يتعاون به على البر والتقوى
عاقبة المتعاون على البر والتقوى
شروط قبول العمل
أصول الإيمان وفروعه
مفاسد الجهل بحدود الله
حكم الهجرة
أنواع الهجرة
ما تتضمنه الهجرة
معنى الهجرة إلى الله
سبب اقتران الهجرة والإيمان في القران
بيان الهجرة الحقيقة
حال المهاجر إلى الله
محاسبة النفس في حالها مع الهجرة
حد الهجرة
حكم الهجرة النبوية
كيفية استقامة طريق الهجرة
التوحيد المطلوب
لوازم العبودية
مايتضمنه القرار إلى الله
مايتضمنه القرار منه إليه
رأس مال القرار وعموده
السر في قوله (أعوذ بك منك )
* وجوب تحكيم الله ورسوله
* معرفة حال العبد من مدى تسليمه لحكم الله ورسوله
* أحوال حمل القسم في القران المصدرة بحرف نفي
* فائدة تصدر جمل القسم بحرف نفي
* النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم
* ما تتضمنه الولاية
* وجوب الولاية
* لوازم الولاية
* موانع الولاية
* الأمر بالقسط والشهادة لله
* معنى القسط ووجوب القيام به على جميع الناس
* معنى الشاهد وأنواعه
* شروط الشهادة بالقسط
* النهي عن اتباع الهوى في الشهادة
* معنى قوله تعالى :( أن تعدلوا)
* السببين الموجبين لكتمان الحق
* معنى اللي في قوله تعالى ( أن تلوا)
* المراد بقوله ( أن تلووا )
* دلالالة الاية على وجوب الالتزام بأحكام الله الخبرية والطلبية
* الحجة الواجبة على الخلق اتباعها
* المراد بالهداية
* معصية الله ورسوله سبب لانتفاء الهداية
* فائدة حرف التاء في قوله ( فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ماحملتم
* فائدة الخطاب بالايمان للمؤمنين في القران
* دلالة الاية على وجوب طاعة الرسول مفردة ومستقلة
* طاعة أولياء الأمور وحدودها
* المراد بأولي الامر
* أنواع أولي الامر
* وجوب رد موارد النزاع إلى الله ورسوله
* معنى ردوه إلى الله ورسوله
* أسباب شرور العالم والاخرة وخير العالم والاخرة
* سبب نجاة العبد
* سبب كمال السعادة
* المراتب الأربعة للكمال الإنساني
* مصدر هدي النبي صلى الله عليه وسلم هو الوحي
* أنواع المبطلين
* حكم الاتباع والمتبوعين المشتركين في الضلالة
* سبب العبودية المحضة وتحققها
* أنواع الاتباع السعداء
* كيفية الاتباع
* نوع الباء في قوله بإحسان
* جزاء المتابعة
* أنواع المتبعين
* أقسام الخلائق في الدعوة النبوية
* منازل الخلائق في الدعوة النبوية
* السفر إلى الله تعالى وطريقة ومركبه
* سبيل الركوب إليه
* الوصية بمصاحبة الابرار
الحث على الإخلاص والإصلاح لأنهما عماد الأمر كله .
المقاصد الفرعية :
بيان أن جميع مصالح العباد تتحقق في التعاون على البر والتقوى
الحث على الهجرة وبيان أنواعها وأحوالها و حقيقتها
الحث على اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم وما يتبع ذلك من أحكام
بيان أنواع المتبعين للدعوة النبوية وأقسامهم
بيان سبيل السفر إلى الله
خلاصة الرسالة بالوصية الجامعة
المقصد الكلي من الرسالة :
قال ابن القيم رحمه الله :ومن نظر في هذه الكلمات التي تضمنتها هذه الوريقة، علم أنها من أهمّ ما يحصل به التعاون على البرّ والتقوى، وسفر الهجرة إلى الله ورسوله، وهذا الذي قصد مسطّرها بكتابتها، وجعلها هديته المعجّلة السابقة إلى أصحابه ورفقائه في طلب العلم.
فالمقصد العام منها هو : الحث على التعاون على البر والتقوى والهجرة الحقيقية إلى الله تعالى والسفر إليه وبيان فضل من سلك هذا الطريق وخسران من خالفه وضل عنه.
تلخيص المقاصد الفرعية للرسالة :
1-بيان أن جميع مصالح العباد تتحقق في التعاون على البر والتقوى
ويتحقق ذلك بواجبين :
ما يجب على العبد بينه وبين الخلق:
فأما ما بينه وبين الخلق من المعاشرة والمعاونة والصّحبة، فالواجب عليه فيها أن يكون اجتماعه بهم وصحبته لهم تعاونا على مرضاة الله وطاعته، التي هي غاية سعادة العبد وفلاحه، ولا سعادة له إلا بها، وهي "البرّ والتقوى" اللذان هما جماع الدين كله،
وبهذا تكون مخالطته لهم تعاونا على البر والتّقوى، علما وعملًا.
وما يجب عليه بينه وبين الخالق:
وذلك بإيثار طاعته، وتجنّب معصيته، وهو قوله تعالى: {واتّقوا اللّه}.
ولا يتمّ الواجب الأول إلا بعزل نفسه من الوسط، والقيام بذلك لمحض النصيحة والإحسان ورعاية الأمر.
ولا يتم له أداء الواجب الثاني إلا بعزل الخلق من البين، والقيام به لله إخلاصاومحبةًوعبودية
ملازمة البر للتقوى ومعناهما :
إذا أفرد كلّ واحد من الاسمين دخل فيه المسمّى الآخر، إما تضمنا وإمّا لزوما، ودخوله فيه تضمنا أظهر؛ لأن البرّ جزء مسمّى التقوى، وكذلك التقوى فإنه جزء مسمّى البر، وكون أحدهما لا يدخل في الآخر عند الاقتران لا يدل على أنه لا يدخل فيه عند الانفراد.
حقيقة البر ومعناه وخصائصه :
حقيقة البرّ هو الكمال المطلوب من الشيء،ويدخل في مسمى البرّ الإيمان وأجزاؤه الظاهرة والباطنة، والتقوى جزء من هذا المعنى ،وأكثر ما يعبر عن البر بدر القلب ،
وفي مقابلته "الإثم"، وفي حديث النّواس بن سمعان - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [له]: (جئت تسأل عن البرّ والإثم) ؛ فالإثم كلمة جامعة للشرّ والعيوب التي يذمّ العبد عليها.
معنى التقوى :
وأما التقوى فحقيقتها العمل بطاعة الله إيمانا واحتسابًا، أمرًا ونهيًا فيفعل ما أمره الله به إيمانا بالأمر، وتصديقا بموعده، ويترك ما نهى الله عنه إيمانا بالنهي، وخوفا من وعيده.
كما قال طلق بن حبيب: "إذا وقعت الفتنة فادفعوها بالتقوى"، قالوا: وما التقوى؟ قال: "أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخاف عقاب الله".
أهم ما يتعاون به على البر والتقوى :
من أعظم التعاون على البرّ والتّقوى التعاون على سفر الهجرة إلى الله ورسوله, باليد واللسان والقلب، مساعدةً، ونصيحةً، وتعليمًا، وإرشادًا، ومودةً
2-الحث على الهجرة وبيان أنواعها وأحوالها و حقيقتها
أنواع الهجرة :
الهجرة هجرتان:
- هجرة بالجسم من بلد إلى بلد.
* والهجرة الثانية هجرة بالقلب إلى الله ورسوله، وهذه هي المقصودة هنا، وهذه الهجرة هي الهجرة الحقيقية، وهي الأصل، وهجرة الجسد تابعةٌ لها.
* ما تتضمنه الهجرة الحقيقية :
* هي هجرة تتضمن "من" و"إلى":
فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته.
ومن عبودية غيره إلى عبوديته.
ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه.
ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذّلّ له والاستكانة له إلى دعاء ربّه وسؤاله والخضوع له والذلّ والاستكانة له.
ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم : "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه".
ولهذا يقرن سبحانه بين الإيمان والهجرة في القرآن في غير موضع؛ لتلازمهما واقتضاء أحدهما للآخر.
معنى الهجرة الى الله:
القرار من الله إليه
وأما الفرار منه إليه؛ فهو متضمن لتوحيد الربوبية وإثبات القدر، وأن كلّ ما في الكون من المكروه والمحذور الذي يفرّ منه العبد، فإنما أوجبته مشيئة الله وحده؛ فإنه ما شاء الله كان ووجب وجوده بمشيئته، وما لم يشأ لم يكن، وامتنع وجوده لعدم مشيئته، فإذا فرّ العبد إلى الله فإنما يفرّ من شيء وجد بمشيئة الله وقدره؛ فهو في الحقيقة فارّ من الله إليه.
حكمها :
هي : فرض عين على كلّ أحد في كلّ وقت، ولا انفكاك لأحد من وجوبها، وهي مطلوب الله ومراده من العباد.
أهميتها :
هي أهم شيء يقصده العبد ، ولا ينفك عنها حتى الممات.
أحوالها:
الهجرة إلى الله تقوى وتضعف بحسب قوة داعي المحبة وضعفه، فكلما كان داعي [المحبة] في قلب العبد أقوى كانت هذه الهجرة [أقوى و] أتمّ وأكمل، وإذا ضعف الداعي ضعفت الهجرة، حتى إنه لا يكاد يشعر بها علما، ولا يتحرك بها إرادة.
معنى الهجرة النبوية :
حكمها:
هذه الهجرة فرض على كل مسلم، وهي مقتضى شهادة أن محمدا رسول الله، كما أن الهجرة الأولى مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله.
حدها:
حد هذه الهجرة: سفر الفكر في كل مسألة من مسائل الإيمان، ونازلة من نوازل القلوب، وحادثةٍ من حوادث الأحكام، إلى معدن الهدى ومنبع النور المتلقى من فم الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى {إن هو إلّا وحيٌ يوحى (4)}، فكل مسألةٍ طلعت عليها شمس رسالته وإلا فاقذف بها في بحار الظلمات، وكل شاهد عدّله هذا المزكّي الصادق وإلا فعدّه من أهل الريب والتهمات؛ فهذا هو حدّ هذه الهجرة.
أهمية الهجرة إلى الله ورسوله:
عن هاتين الهجرتين يسأل كل عبد يوم القيامة وفي البرزخ، ويطالب بهما في الدنيا، فهو مطالب بهما في الدّور الثلاثة: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار.
قال قتادة: "كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ ".
وهاتان الكلمتان هما مضمون الشهادتين، وقد قال تعالى: {فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجًا ممّا قضيت ويسلّموا تسليمًا (65)}؛ فأقسم سبحانه بأجل مقسم به -وهو نفسه -عز وجل-- على أنهم لا يثبت لهم الإيمان، ولا يكونون من أهله، حتى يحكّموا رسوله في جميع موارد النزاع، وهو كل ما شجر بينهم من مسائل النزاع في جميع أبواب الدين. فإن لفظة "ما" من صيغ العموم؛ فإنها موصولة تقتضي نفي الإيمان إذا لم يوجد تحكيمه في جميع ما شجر بينهم.
جزاء المهاجر إلى الله ورسوله:
من سلك هذه الطريقة استقام له سفر الهجرة، واستقام له علمه وعمله، وأقبلت وجوه الحقّ إليه من كلّ جهة.
3- الحث على اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم وما يتبع ذلك من أحكام ومنها:
1-الولاية :
حكمها: هي واجبة ومن تركها فليس من المؤمنين .
ما تتضمنه :
وهذه الأولوية تتضمن أمورًا:
منها: أن يكون أحبّ إلى العبد من نفسه؛ لأن الأولوية أصلها الحب، ونفس العبد أحب إليه من غيره، ومع هذا فيجب أن يكون الرسول أولى به منها، وأحبّ إليه منها؛ فبذلك يحصل له اسم الإيمان.
لوازمها:
ويلزم من هذه الأولوية والمحبة كمال الانقياد والطاعة والرضى والتسليم وسائر لوازم المحبة، من الرضى بحكمه، والتسليم لأمره، وإيثاره على كل من سواه.
ومنها: أن لا يكون للعبد حكمٌ على نفسه أصلًا، بل الحكم
على نفسه للرسول، يحكم عليها أعظم من حكم السيد على عبده، والوالد على ولده؛ فليس له في نفسه تصرف قط إلا ما تصرف فيه الرسول الذي هو أولى به منها.
السبيل لثبوتها:
السبيل إلى ثبوت هذه الأولوية يكون بعزل كل ما سواه، وتوليته في كل شيء، وعرض ما قاله كل أحد سواه على ما جاء به؛ فإن شهد له بالصحة قبله، وإن شهد له بالبطلان ردّه، وإن لم تتبين شهادته له بصحةٍ ولا بطلانٍ جعله بمنزلة أحاديث أهل الكتاب، ووقفه حتى يتبيّن أي الأمرين أولى به؟
القسط:
أمر سبحانه بالقيام بالقسط، وهو العدل، وهذا أمر بالقيام به في حقّ كل أحد عدوًّا كان أو وليًّا، وأحقّ ما قام له العبد بالقسط: الأقوال والآراء والمذاهب؛ إذ هي متعلقة بأمر الله وخبره؛ فالقيام فيها بالهوى والعصبية مضادٌّ لأمر الله, منافٍ لما بعث به رسله، والقيام فيها بالقسط وظيفة خلفاء الرسول في أمته، وأمنائه بين أتباعه، ولا يستحقّ اسم الأمانة إلا من قام فيها بالعدل المحض، نصيحةً لله ولكتابه ولرسوله ولعباده.
3-عدم اتباع الهوى :
والمقصود به الهوى الحامل على ترك العدل.
طاعة الله ورسوله :
إذا ثبت لله ولرسوله في كل مسألة من المسائل حكمٌ طلبيٌّ أو خبريٌّ، فإنه ليس لأحد أن يتخيّر لنفسه غير ذلك الحكم فيذهب إليه، و ليس ذلك لمؤمن [ولا مؤمنة] أصلًا، وهذا منافٍ للإيمان.
وقد حكى الشافعي - رضي الله عنه - إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم على أنّ من استبانت له سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أن يدعها لقول أحد ووافقه جميع الأئمة .
ثمرة هذه الطاعة :
أخبر سبحانه أن الهداية إنما هي في طاعة الرسول لا في غيرها، فإنه معلّق بالشرط؛ فينتفي بانتفائه، وليس هذا من باب دلالة المفهوم، كما يغلط فيه كثير من الناس، ويظن أنه يحتاج في تقرير الدلالة منه إلى تقرير كون المفهوم حجة، بل هذا من الأحكام التي رتّبت على شروط وعلّقت، فلا وجود لها بدون شروطها، إذ ما علّق على الشرط فهو عدم عند عدمه؛ وإلا لم يكن شرطًا له. إذا ثبت هذا فالآية نصٌّ على انتفاء الهداية عند عدم طاعته.
رد الأمر إليه عند التنازع :
قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيءٍ فردّوه إلى اللّه والرّسول إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر}.
وهذا دليل قاطعٌ على أنه يجب ردّ موارد النّزاع في كل ما تنازع فيه الناس من الدين كلّه إلى الله ورسوله، لا إلى أحدٍ غير الله ورسوله، فمن أحال الردّ على غيرهما فقد ضادّ أمر الله، ومن دعا عند النزاع إلى تحكيم غير الله ورسوله فقد دعا بدعوى الجاهلية. فلا يدخل العبد في الإيمان حتى يردّ كل ما تنازع فيه المتنازعون إلى الله ورسوله؛ ولهذا قال تعالى: {إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر}، وهذا مما ذكرناه آنفًا أنّه شرطٌ ينتفي المشروط بانتفائه، فدلّ على أن من حكّم غير الله ورسوله في موارد النزاع كان خارجًا عن مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر.
عاقبة ترك هديه صلى الله عليه وسم :
قال تعالى: {النّبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم}، وهذا دليل على أن من لم يكن الرسول أولى به من نفسه فليس من المؤمنين .
انحصار الكمال الإنساني في متابعته :
انحصر الكمال الإنسانيّ في هذه المراتب الأربعة:
إحداها: العلم بما جاء به الرسول.
الثانية: العمل به.
الثالثة: بثّه في الناس، ودعوتهم إليه.
الرابعة: صبره وجهاده في أدائه وتنفيذه.
4-بيان أنواع الأتباع :
الأتباع المبطلين :
1-الأتباع الأشقياء وهم نوعان :
أحدهما : منشىء الباطل والفرية، وواضعها، وداعي الناس إليها.
والثاني: المكذّب بالحق.
فالأول كفره بالافتراء وإنشاء الباطل، والثاني كفره بجحود الحق. وهذان النوعان يعرضان لكل مبطل؛ فإن انضاف إلى ذلك دعوته إلى باطله، وصدّ الناس عن الحقّ، استحقّ تضعيف العذاب؛ لتضاعف كفره وشرّه؛ ولهذا قال تعالى: {الّذين كفروا وصدّوا عن سبيل اللّه زدناهم عذابًا فوق العذاب بما كانوا يفسدون (88)}، فلما كفروا وصدّوا عباده عن سبيله عذّبهم عذابين: عذابًا بكفرهم، وعذابًا بصدّهم عن سبيله.
حكمهم:
يقطع الله سبحانه وتعالى يوم القيامة الأسباب والعلق والوصلات التي كانت بين الخلق في الدنيا كلها, ولا يبقى إلا السبب والوصلة التي بين العبد وبين ربّه فقط، وهو سبب العبودية المحضة التي لا وجود لها ولا تحقّق إلا بتجريد متابعة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، إذ هذه العبودية إنما جاءت على ألسنتهم، وما عرفت إلا بهم, ولا سبيل إليها إلا بمتابعتهم، وقد قال تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عملٍ فجعلناه هباءً منثورًا (23)}.
أنواع الاتباع السعداء :
فأما الأتباع السّعداء فنوعان:
أتباعٌ لهم حكم الاستقلال، وهم الذين قال الله -عز وجل- فيهم: {والسّابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والّذين اتّبعوهم بإحسانٍ رضي اللّه عنهم ورضوا عنه}.
فهؤلاء هم السّعداء الذين ثبت لهم رضى الله عنهم، وهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكل من تبعهم بإحسان، وهذا يعمّ كل من اتبعهم بإحسان إلى يوم القيامة، ولا يختصّ ذلك بالقرن الذين رأوهم فقط، وإنما خصّ التابعون بمن رأى الصحابة تخصيصًا عرفيًا؛ ليتميزوا به عمن بعدهم فقيل التابعون مطلقًا لذلك القرن فقط، وإلا فكل من سلك سبيلهم فهو من التابعين لهم بإحسان، وهو ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه.
وأما النوع الثاني من الأتباع السّعداء: فهم أتباع المؤمنين من ذريّتهم، الذين لم يثبت لهم حكم التكليف في دار الدنيا، وإنما هم مع آبائهم تبعٌ لهم، قال الله تعالى فيهم: {والّذين آمنوا واتّبعتهم ذرّيّتهم بإيمانٍ ألحقنا بهم ذرّيّتهم وما ألتناهم من عملهم من شيءٍ كلّ امرئٍ بما كسب رهينٌ (21)}.
جزاء الاتباع السعداء:
من كان هكذا مع عباد الله كان الله بكل خير إليه أسرع، وأقبل الله إليه بقلوب عباده، وفتح على قلبه أبواب العلم، ويسّره لليسرى، ومن كان بالضد فبالضدّ، {وما ربّك بظلّامٍ للعبيد . (46)}.
وقدذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أقسام الخلائق بالنسبة إلى دعوته وما بعثه الله به [من الهدى] في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم: كمثل غيثٍ أصاب أرضًا؛ فكانت منها طائفةٌ طبّبةٌ قبلت الماء؛ فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء؛ فسقى الناس وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعانٌ لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا, ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به".فاستوعب هذا الحديث أقسام الخلق في الدعوة النبوية ومنازلهم، منها قسمان سعيدان، وقسمٌ شقي).
5-بيان سبيل السفر إلى الله
زاد السفر :
زاده العلم الموروث عن خاتم الأنبياء - صلى الله عليه وسلم -، ولا زاد له سواه؛ فمن لم يحصل هذا الزاد فلا يخرج من بيته، وليقعد مع الخالفين، فرفقاء التخلّف البطّالون أكثر من أن يحصوا فله أسوةٌ بهم، ولن ينفعه هذا التأسي يوم الحسرة شيئًا كما قال تعالى: {ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنّكم في العذاب مشتركون (39)}.
طريقه :
وأما طريقه: فهو بذل الجهد, واستفراغ الوسع، فلن ينال بالمنى, ولا يدرك بالهوينا
ولا سبيل إلى ركوب هذا الظهر إلا بأمرين:
أحدهما: أن لا يصبو في الحق إلى لومة لائم؛ فإن اللوم يدرك الفارس؛ فيصرعه عن فرسه, ويجعله طريحًا في الأرض.
والثاني: أن تهون عليه نفسه في الله؛ فيقدم حينئذٍ ولا يخاف الأهوال, فمتى خافت النّفس تأخرت وأحجمت, وأخلدت إلى الأرض.
ولا يتمّ له هذان الأمران إلا بالصبر؛ فمن صبر قليلًا صارت تلك الأهوال ريحًا رخاءً في حقه تحمله بنفسها إلى مطلوبه, فبينما هو يخاف منها, إذ صارت أعظم أعوانه وخدمه, وهذا أمر لا يعرفه إلا من دخل فيه.
مركبه :
وأما مركبه: فصدق اللّجأ إلى الله, والانقطاع إليه بكلّيته, وتحقيق الافتقار إليه من كل وجه, والضراعة إليه, وصدق التوكل عليه، والاستعانة به، والانطراح بين يديه كالإناء المثلوم المكسور الفارغ الذي لا شيء فيه، يتطلع إلى قيّمه ووليّه أن يجبره، ويلمّ شعثه، ويمدّه من فضله ويستره، فهذا الذي يرجى له أن يتولى الله هدايته، وأن يكشف له ما خفي على غيره من طريق هذه الهجرة، ومنازلها).
رأس الأمر وعموده :
رأس مال الأمر وعموده في ذلك إنما هو دوام التفكر وتدبر آيات القرآن، بحيث يستولي على الفكر، ويشغل القلب، فإذا صارت معاني القرآن مكان الخواطر من قلبه وهي الغالبة عليه، بحيث يصير إليها مفزعه وملجؤه، تمكّن حينئذٍ الإيمان من قلبه، وجلس على كرسيه، وصار له التصرف، وصار هو الآمر المطاع أمره؛ فحينئذٍ يستقيم له سيره، ويتضح له الطريق، وتراه ساكنًا وهو يباري الريح: {وترى الجبال تحسبها جامدةً وهي تمرّ مرّ السّحاب}
بابه :
تدبّر القرآن وتفهّمه والإشراف على عجائبه وكنوزه .
وينبغي أن لا يتوقف العبد في سيره على هذه الغنيمة، بل يسير ولو وحيدًا غريبًا، فانفراد العبد في طريق طلبه دليلٌ على صدق المحبة.
6- الوصية بالإخلاص و بإصلاح مابين العبد وخالقه والمخلوقين :
وهي: "من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن عمل لآخرته كفاه الله مؤونة دنياه".