(2) أحكام مرويات التاريخ والسير والتراجم
مرويات التاريخ والسير والتراجم لا يشدّد فيها كتشديد مرويات الأحكام، ولا تؤخذ بتساهل مطلق؛ فالتساهل يؤدي إلى الوقوع في أخطاء وأوهام قد يكون لبعضها أثر في بعض المسائل العلمية في التفسير والحديث والفقه.
ولذلك ينبغي لطالب العلم أن يكون متيقظاً فلا يقبل كل ما يقرأ في التاريخ والسير والتراجم على علاته، وأن يكون على معرفة بأحكام مرويات التاريخ ومناهج العلماء فيها.
وشرح ذلك يطول، لكن تلخيصه أن مرويات التاريخ والسير والتراجم يُنظر فيها من ثلاث جهات: من جهة المصدر، ومن جهة الإسناد، ومن جهة المتن الذي هو الخبر.
1. فأمّا المصدر ؛ فيراد به أصل منشأ الخبر، فقد يكون كتاباً وقد يكون رجلاً أخبارياً، فإن كان ثقة لا يدلّس عن الضعفاء؛ فتُحمل مروياته في التاريخ على أصل القبول ما لم يكن فيها نكارة أو مخالفة وتُجعل عهدتها على مصدرها.
ولذلك قد يذكر بعضهم خبراً من غير إسناد ويُحمل على القبول ولا سيّما إذا احتفّت بالخبر قرائن تدلّ على صدقه، كأن يدلّ تظافر الأخبار على تقويته، أو يكون المصدر صاحب اختصاص بموضوعه، معروفاً بالتثبت والتيقظ.
ولذلك يذكر بعض أهل العلم في التاريخ والسير والتراجم أخباراً عن مصادر من غير إسناد وظاهر صنيعهم أنهم يحملونها على القبول المجمل على عهدة صاحبها، وهو قبول موقوف على عدم وجود ما ينقضه، ولا يُحتجّ به على مخالف أقوى منه.
ومصادر الأخبار على مراتب؛ فمنهم ثقة متثبت، ومنهم صدوق مقارب، ومنهم مخلّط، ومنهم حاطب ليل يجمع الغثّ والسمين، ومنهم متّهم بالكذب.
فلا يسوّى بينهم في أحكام أخبارهم.
وفقه هذا الأمر يكشف لطالب العلم منهج العلماء المحققين في مرويات الأخبار.
2. وأما الأسانيد فهي على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: أسانيد مقبولة في التاريخ إما صحيحة وإما حسنة ، فهذه حجة في التاريخ ما لم يكن لها علة.
الدرجة الثانية: أسانيد معتبرة؛ فلا يحتجّ بها ولا تهمل، وهي ما كان من رواية الضعفاء غير شديدي الضعف من ضعيفي الضبط ومجهولي الحال، والأسانيد التي فيها انقطاع يسير ومراسيل الثقات.
والدرجة الثالثة: أسانيد غير معتبرة، وهي التي تكون من رواية المتروكين من الكذابين والمتّهمين بالكذب وكثرة التخليط في الروايات.
فأخبار الدرجة الأولى في أعلى المراتب.
وأخبار الدرجة الثانية معتبرة لا تهمل، وجرى عمل كثير من العلماء على حملها على أصل القبول ما لم يكن فيها مخالفة أو نكارة.
وأما أخبار الدرجة الثالثة فالأصل فيها الردّ وعدم القبول إلا ما كان من انتقاء بعض الثقات الأثبات فهي أخف حالاً وإن كانت لا يحتجّ بها.
ولذلك إذا رأيت خبراً في إسناده بعض المتروكين فانظر إلى تلميذه الذي رواه عنه؛ فإن كان من الأثبات المتيقظين فهو قرينة تدل على أنه انتقى هذا الخبر من مروياته الكثيرة، وإن كان الراوي عنه ضعيفاً فلا يتشاغل به، وقد يكون إنما ذكر للعلم به أو لفائدة عارضة.
- كما انتقى ابن سعد من مرويات الواقدي فما انتقاه ابن سعد أحسن حالاً مما تركه، وإن كان لا يُحتجّ به.
- وكما انتقى سفيان الثوري من مرويات الكلبي، ولمّا سئل عن روايته عنه قال: (أنا أعرف بصدقه من كذبه). رواه ابن عدي في الكامل.
وهذا دليل على أنه كان ينتقي من مروياته.
فإن قيل: كيف تُحمل بعض الأخبار على أصل القبول من غير إسناد، ثمّ تردون ما يروى ببعض الأسانيد الضعيفة؟
قيل: العلماء الأثبات الذي يذكرون الأخبار بصيغة الجزم من غير إسناد نحمل أخبارهم على أصل القبول، ونتوسط فيها؛ فلا نحتجّ بها على مخالف أقوى منها، ولا نهملها، وتعليق أولئك العلماء إياها بصيغة الجزم قرينة على حكمهم عليها بالقبول، وهو حكم معتبر لمكانة مصدرها.
وأما المرويات التي يذكرها بعض العلماء بالأسانيد الواهية وإن كان المصدر ثبتاً فليس فيها دليل على قبولها، فهو قد ذكر الخبر وأحال على الإسناد، إلا أن يظهر من كلامه احتجاجه بالخبر، فتكون قرينة معتبرة لمكانته العلمية، وإن كانت لا ترقى إلى درجة الاحتجاج.
3. وأمّا متون الأخبار في التاريخ والسير والتراجم التي تروى بالأسانيد المعتبرة والتي مصادرها من الثقات الأثبات فمحمولة على أصل القبول ما لم يكن فيها نكارة أو مخالفة.
ويتساهل في مرويات المناقب ما لا يُتساهل في مرويات المثالب لأن المثالب فيها قدح في عرض مسلم لا يُقبل القدح فيه بغير حجة، وهذا أصل مهمّ تردّ به كثير من الروايات الضعيفة في المثالب.