القسم الثالث فصاحة المتكلم:
وتعريفها: ملكة يقتدر بها على التعبير عن المقصود بكلام فصيح في أي غرض كان، معناه أن يستطيع اللسان التعبير عن المعاني المختلفة بالأساليب المختلفة بحسب اختلاف الأحوال، لكل مقام مقال.
والبلاغة في اللغة الوصول والانتهاء، يقال: بلغ فلان مراده , إذا وصل إليه، وبلغ الركب المدينة , إذا انتهى إليها، وتقع في الاصطلاح وصفا للكلام والمتكلم فقط , ولا توصف بها الكلمة الواحدة، لا يقال: هذه كلمة واحدة بليغة , ليست من الفصاحة.
لكن يقال كلام بليغ , ويقال: متكلم بليغ؛ لأن البلاغة تتعلق بالأساليب , لا بالكلمات المفردة، بخلاف الفصاحة فتقع في الأسلوب وفي الكلمة المفردة , وفي المتكلم نفسه، فالقسم الأول هو بلاغة الكلام، وهو مطابقته لمقتضى الحال، أي أن يكون الكلام مطابقا للمقام الذي دعى إليه، إذا كان المقام مقاما يقتضي إسهابا وإطناباً فجاء الكلام ملبياً لرغبة المقام، فهو كلام بليغ، إذا كان المقام يقتضي إيجازا واختصارا , فجاء الكلام ملبيا لذلك , فهو بليغ، إذا كان المقام يقتضي إسهابا وإطنابا , فحصل فيه الإيجاز , فهذا غير بليغ , إذا كان المقام يقتضي إيجازا فحصل فيه إطناب فهذا غير بليغ، (مع فصاحتهم) لا يشترط فيه أيضا أن يكون فصيحا، وهذا طبعا في البلاغة كلها لابد من شرط الفصاحة .
والحال يسمى بالمقام , هو الأمر الحامل للمتكلم على أن يورد عبارته على صورة مخصوصة أي: الحال هو المقام الذي أنت فيه , إذا كان المقام الذي أنت فيه يقتضي نوعا من الكلام فأديته على وفق ذلك الكلام، فهذه هي البلاغة، والمقتضى الذي هو مقتضى الحال يسمى الاعتبار المناسب , وهو الصورة المخصوصة التي تورد عليها العبارة، هو ما يناسب كل مقام، فلكل مقامٍ مقال، خطاب الغبي يختلف عن خطاب الذكي , وخطاب طالب العلم يختلف عن خطاب الجاهل، وخطاب الكبير يختلف عن خطاب الصغير.
فإذن هذه مقامات مختلفة، مقام الإنكار يختلف عن مقام الإقرار، الذي تريد أن تخبره بخبر وهو خالي الذهن لا تحتاج إلى أن تؤكد له، والذي تخبره بالخبر وهو ينفيه لابد أن تؤكد له، فإذن المقام مختلف تماماً، مثلا المدح حال يدعو لإيراد العبارة على صورة الإطناب، مقام المدح، إذا أردت أن تمدح إنساناً فهذا المقام يقتضي إطناباً؛ لأنك تريد رفعه وزيادة قدره , فلا تقتصر ولا توجز , ولا تذكر كلمة واحدة، إذا قلت: فلان هذا رجل , وسكت , المعنى كمل , لكن المقام يقتضي زيادة، فلذلك المدح يقتضي الإطناب.
وذكاء المخاطب حال لظهور إيراد الكلام في صورة الإيجاز , فإذا كنت تخاطب عربيا ذكيا فذلك يقتضي أن تؤدي له المعنى الذي تريده بأقصر عبارة يفهمها على وجه لبق، إذا كنت تخاطب غبياً , أو من لا يفهم العربية أصلا فستضطر لخطابه للنزول إلى مستواه هو، فتخاطبه على مقتضى مستواه، مستواه هو، أنت فيه روح إلى كذا وأنت فيه.. هذا ليس من العربية , لكنك تنزل إلى مستوى المخاطب فتخاطبه بذلك الكلام، فيكون بليغا حينئذ؛ لأنه هو الذي يقتضيه الحال في الخطاب مع ذلك الإنسان، فكل من المدح والذكاء حال، وكل من الإطناب والإيجاز مقتضى , فمطابقة المقتصى للحال هي البلاغة، وإيراد الكلام على صورة الإطناب أو الإيجاز هو مطابقته للمقتضى.