رسالة في تفسير قوله تعالى: (ومن شر غاسق إذا وقب) سورة الفلق
الغاسق في اللغة فاعل من غَسَقَ: وهو من السيلان والانصباب أو الإظلام.
غَسَقَتْ عَيْنُهُ: دَمَعَتْ، وَقِيلَ: انصبَّت، وَقِيلَ: أَظلمت.
وغَسَق اللبنُ غَسْقاً: انْصَبَّ مِنَ الضَّرْع.
وغَسَقت السَّمَاءُ: انصبَّت وأَرَشَّتْ.
وغَسَق الجرحُ: أَيْ سَالَ مِنْهُ مَاءٌ أَصفر؛ وأَنشد شَمِرٌ فِي الْغَاسِقِ بِمَعْنَى السَّائِلِ:
أَبْكِي لفَقْدِهمُ بعَينٍ ثَرَّة، ... تَجْري مَساربُها بعينٍ غاسِق
أَيْ سَائِلٍ وَلَيْسَ مِنَ الظُّلْمَةِ فِي شَيْءٍ.
وغَسَق الليل: انْصَبَّ وأَظلم؛ وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ، رَضِيَ الله عنه:
حِينَ غَسَق اللَّيْلُ عَلَى الظِّراب
أَيِ انْصَبَّ اللَّيْلُ عَلَى الْجِبَالِ وأظلم.
أما المراد بالغاسق في قوله تعالى:
(ومن شر غاسق إذا وقب) اختلف فيها اهل التفسير على أقوال:
القول الأول: الليل إذا دخل وأظلم، لقوله تعالى:
(أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل)، وعليه قال الشاعر:
إن هذا الليل قد غسقا واشتكيت الهم والأرقا
وقد نقل هذا القول عن ابن عباس والحسن ومحمد بن كعب القرظي ومجاهد والضحاك وخصيف وغيرهم من الصحابة والتابعين، ويدخل في هذا القول بأنه النهار إذا دخل في الليل.
وقد قال قتادة أنه: إذا ذهب، وقد قال ابن جرير الطبري عن هذا القول:
(ولست أعرف ما قال قتادة في ذلك في كلام العرب ، بل المعروف من كلامها من معنى وقب : دخل.)
فأمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده أن يستعيذوا من شر الليل إذا أقبل لما يكون فيه من انتشار الشياطين ولأهل الفساد والأرواح الشريرة والحيوانات المؤذية والسباع ويقل المغيث إلا الله سبحانه وتعالى.
وقيل: أطلق على الليل غاسق لأنه أبرد من النهار، وليس من الظلمة، نقل هذا القول عن الزجاج، وقد قال ابن القيم عن هذا القول:
(ولا تنافي بين القولين. فإن الليل بارد مظلم. فمن ذكر برده فقط، أو ظلمته فقط: اقتصر على أحد وصفيه.
والظلمة في الآية أنسب لمكان الاستعاذة. فإن الشر الذي يناسب الظلمة أولى بالاستعاذة من البرد الذي في الليل. ولهذا استعاذ برب الفلق الذي هو الصبح والنور: من شر الغاسق، الذي هو الظلمة. فناسب الوصف المستعاذ به المعنى المطلوب بالاستعاذة.)
القول الثاني: هو كوكب وقيل: ذلك الكوكب هو الثريا أي: النجوم، وقد أمر بالاستعاذة منها لما يكثر من الأسقام والطواعين عند وقوعها وترتفع عند طلوعها، وقد نقل هذا القول عن أبي هريرة وابن زيد وروي في هذا القول خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال ابن جرير الطبري: ولقائلي هذا القول علة من أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم . وهو ما حدثنا به نصر بن علي ، قال : ثنا بكار بن عبد الله بن أخي همام ، قال : ثنا محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبيه ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ( ومن شر غاسق إذا وقب ) قال :
" النجم الغاسق " .
وهذا الأثر ضعيف الإسناد، ف محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف ضعيف الحديث، وقد قال ابن كثير رحمه الله في هذا الحديث:
(وهذا الحديث لا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم).
القول الثالث: هو القمر إذا كان آخر الشهر، وقد أمر بالإستعاذة منه لما يجيء بعده من السحر، فأهل الريب يتحينون غيبوبة القمر، قال الشاعر:
اراحني الله من أشياء أكرهها منها العجوز ومنها الكلب والقمر
هذا يبوح وهذا يستضاء به وهذه ضمرز قوامة السحر
والضمرز: الناقة المسنة والعجوز الغليظة، وعمدة هذا القول حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب ، عن خاله الحارث بن عبد الرحمن ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن عائشة قالت : أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيدي ، ثم نظر إلى القمر ، ثم قال : "يا عائشة تعوذي بالله من شر غاسق إذا وقب ، وهذا غاسق إذا وقب" ، وللحديث روايات أخرى.
وقيل: المراد هو القمر إذا خسف ودخل في الخسوف، وقد ضعف ابن تيمية هذا القول فقال:
(قال ابن قتيبة : ويقال الغاسق القمر إذا كسف واسود . ومعنى وقب دخل في الكسوف وهذا ضعيف فإن ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعارض بقول غيره وهو لا يقول إلا الحق وهو لم يأمر عائشة بالاستعاذة منه عند كسوفه بل مع ظهوره وقد قال الله تعالى : { وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة } فالقمر آية الليل .)
وقد رجح كثير من أهل التفسير القول الأول، وأدخلوا القول الثالث فيه، لأن القمر آية الليل وتابع له، ومنهم أدخل الثاني وهو النجوم كذلك، فهي لا تضيء إلا بالليل، وقد أعاد ابن جرير الطبري جميع الأقوال لأصلها اللغوي وجمع بينهم فالغاسق هو المظلم، فالليل مظلم، والقمر مظلم في أصله وعند غيابه آخر الشهر، والنجم إذا غاب مظلم.
وقد كان لشيخ الإسلام ابن تيمية نظرة أخرى في هذه المسالة فقد قوى شر القمر على شر الليل فكان الإستعاذة من شر القمر أقوى من شر الليل، قال بعد إيراده قوله تعالى:
(وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة) قال:
(فالقمر آية الليل. وكذلك النجوم إنما تطلع فترى بالليل فأمره بالاستعاذة من ذلك، أمر بالاستعاذة من آية الليل ودليله وعلامته، والدليل مستلزم للمدلول، فإذا كان شر القمر موجودا فشر الليل موجود وللقمر من التأثير ما ليس لغيره فتكون الاستعاذة من الشر الحاصل عنه أقوى ويكون هذا كقوله عن المسجد المؤسس على التقوى : " هو مسجدي هذا " مع أن الآية تتناول مسجد قباء قطعا ).
المصادر:
1. جامع البيان عن تأويل آي القرآن (تفسير الطبري) لابن جرير الطبري.
2. تفسير معالم التنزيل للبغوي.
3. تفسير القرآن العظيم لابن كثير.
4. مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية.
5. التفسير القيم لابن القيم.
6. تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن لمحمد الأمين الشنقيطي.
7. تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي.
8. زبدة التفسير لمحمد سليمان الأشقر.
9. كتاب لسان العرب لابن منظور.