الباب الثاني: أحكام المياه
لمّا كانت الطهارة شرطاً لصحة الصلاة ، وكان الماء هو أصل التطهّر من الحدث والخبث كانت دراسة أحكام المياه من أوّل ما ينبغي للمتفقّه العناية بها ليعلم ما يجب عليه استعماله واجتنابه من المياه، وما يجزئ وما لا يجزئ في التطهر.
الفصل الأول: أقسام المياه
للماء تقسيمات متعددة باعتبارات مختلفة، ولهذه التقسيمات أهميتها في معرفة الأحكام المترتبة على كلّ قسم.
1: الماء الطهور والماء النجس
ينقسم باعتبار حُكمه إلى ماء طَهور وماء نَجس.
فأمَّا الماء الطَّهور: فهو الماء النقيُّ من النجاسات، سواء أَكان باقيًا على أصل خلقته أم نُقِّيَ من النجاسة الحادثةِ فيه على الصحيح من قولي أهل العلم.
فمثال الأول: ماء البحر.
ومثال الثاني: المياه المعالجة بالتطهير.
والماء الطهور هو الذي يصحّ التوضؤ به والاغتسال منه.
وأمَّا الماءُ النَّجس: فهو الماءُ الذي تغيَّر لونُه أو طعمه أو ريحه بنجاسة تَحْدُثُ فيه.
وقد روي في هذا المعنى حديث ضعيف الإسناد صحيح المعنى، وهو ما أخرجه ابن ماجه من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( إنَّ الماء لا ينجِّسُه شيء إلا ما غَلَبَ على ريحه وطعمه ولونه )).
وفي رواية للبيهقي: (( إنَّ الماء طاهرٌ إلا إنْ تغيَّر ريحه أو طعمه أو لونه بنجاسة تحدث فيه)).
قال البيهقي: (والحديث غيرُ قويٍّ؛ إلا أنَّا لا نعلم في نجاسة الماء إذا تغير بالنجاسة خلافاً).
وقد حكى النووي في المجموع اتفاق المحدثين على ضعف هذا الحديث.
لكن معناه صحيح لا خلاف فيه.
قال الشافعي: (هذا الحديث لا يثبت أهل العلم مثله إلا أنه قول العامّة ، لا أعرف بينهم فيه خلافاً).
وقال حرب بن إسماعيل: (سئل أحمد عن الماء إذا تغير طعمه وريحه ؟
قال: لا يتوضأ به ولا يشرب، وليس فيه حديث، ولكن الله تعالى حرم الميتة فإذا صارت الميتة في الماء فتغير طعمه أو ريحه فذلك طعم الميتة وريحها فلا يحل له)ا.هـ
ذِكْرُه للميتة من باب التمثيل للتنبيه على علَّة التحريم، وسائر النجاسات حكمها حكم الميتة في هذا الباب.
وقول الإمام أحمد: (وليس فيه حديث) : أي حديث صحيح يحتج به.
· أنواع المياه الطاهرة:
كلُّ ماءٍ نَقِيٍّ من النجاسات فهو طاهرٌ يصحُّ التَّطَهُّر به، والمياه الطاهرة أنواع منها:
1: ماء المطر، وما كان بسببه من السيول والغدران والينابيع.
قال الله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهوراً}
وقال تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ}
والغُدْرانُ جمع غَدِيرٍ وهو ما تبقَّى من ماءِ السَّيلِ في منخفَضٍ من الفلاة.
ذكر ابن قتيبة وابن سيده أنه سُمِّي غديراً لأن السَّيلَ غَادَرَه أي خَلَّفَه وَمَضَى، فهو قِطعة من السيل غادرها السَّيلُ في مكان منخفضٍ حبَسَها عن الجَرَيَان.
وكان من تدبير بعض العرب أنهم يحفرون في الأرض حُفَراً كبيرة حتى إذا نزل المطر وفاضت الشعاب والوديان اجتمع في تلك الحُفَرِ ماءً فنَقَعَ فيها، فينتفعون به مُدَّةً؛ يشربون منه ويسقون أنعامهم، ويُسَمُّون تلك الحَفَائرَ مصانعَ، وواحدتُها حَفِيرَةٌ ومَصْنَعَةٌ وصِنْع.
قال لبيد بن ربيعة:
بَلِينا وما تَبْلَى النجومُ الطوالع ... وتبقى الجبال بعدنا والمصانع
وسمَّوها مصانع لأنهم هم الذين صنعوها وليست من أصل خلقة الأرض، وهذا المعنى هو أحد القولين في تفسير قول الله تعالى: {وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون} والقول الآخر: المصانع: القصور والحصون التي يصنعونها، والآية تشتمل على المعنيين.
2: ماء البحر:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سأل رجلٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنا نركب البحر ونحمل معنا القليلَ من الماء؛ فإن توضأنا به عَطِشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( هو الطَّهورُ ماؤُه، الحِلُّ مَيْتَتُه )). رواه الإمام مالك وأحمد وأصحاب السنن وصَحَّحُه الألبانيُّ.
3: مياه الأنهار والجداول
عن أَبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( أرَأيْتُمْ لو أنَّ نهراً ببابِ أحدِكم يغتسِلُ منهُ كلَّ يومٍ خمسَ مرَّاتٍ ، هل يَبْقى مِن دَرَنهِ شيءٌ ؟ ))
قالوا: لا يَبقى من درنهِ شيءٌ.
قال: (( فذلكَ مَثَلُ الصلوَاتِ الخمسِ يمحو الله بهنَّ الخطايا )) متفق عليهِ.
ومياه الأنهار والجداول طاهرة بلا خلاف بين أهل العلم.
4: مياه الآبار والعيون
عن أبي سعيد الخدري قال قيل: يا رسول الله أنتوضأ من بئر بُضَاعَةَ، وهي بئرٌ يلقَى فيها الحِيَضُ والنَّتَنُ ولحومُ الكِلابِ؟
قال: (( الماء طَهور لا ينجِّسُه شيء)). رواه أحمد وأبو داوود والترمذي والنسائي وغيرهم.
وصَحَّحُه الإمام أحمد.
قال أبو داوود: سمعت قتيبة بن سعيد قال: سألتُ قيّمَ بئر بضاعة عن عمقها؟
قال: أكثرُ ما يكون فيها الماء إلى العانة.
قلت: فإذا نقص؟
قال: دون العورة.
قال أبو داوود: وقدَّرتُ أنا بئرَ بُضَاعة بردائي، مَدَدْتُهُ عليها ثم ذَرَعْتُه؛ فإذا عَرْضُها ستَّةُ أذْرُعٍ.
وسألتُ الذي فتحَ لي باب البستانِ فأدخَلني إليهِ: هل غُيِّرَ بناؤها عما كانت عليه؟
قال: لا.
قال أبو داوود: ورأيت فيها ماءً متغيِّرَ اللَّونِ.
قال البغوي: (وهذا الحديث غير مخالف لحديث ابن عمر في القلتين ، لأن ماء بئر بضاعة كان كثيراً لا يغيّره وقوعُ هذه الأشياء فيه).
قال أبو سليمان الخطابي: (قد يتوَهَّم كثيرٌ من الناس إذا سمع هذا الحديث أنَّ هذا كان منهم عادة، وأنهم كانوا يأتون هذا الفعل قصدًا وتعمُّدًا، وهذا ما لا يجوز أن يُظنَّ بذميٍّ بل بوثنيٍّ؛ فضلا عن مسلم.
ولم يزل من عادة الناس قديماً وحديثاً، مسلمهم وكافرهم، تنزيه المياه وصونها عن النجاسات؛ فكيف يُظنُّ بأهل ذلك الزمان، وهم أعلى طبقات أهل الدين وأفضل جماعة المسلمين، والماء في بلادهم أعزُّ، والحاجة إليه أَمَسُّ، أن يكون هذا صنيعهم بالماء وامتهانهم له؟!!
وقد لَعَنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من تغوَّط في موارد الماءِ ومَشارِعِه؛ فكيف من اتخذ عيونَ الماء ومنابعَه رَصَدًا للأنجاس ومُطَّرَحًا للأقذار ، هذا ما لا يليق بحالهم .
وإنما كان هذا من أجل أن هذه البئر موضعُها في حَدور من الأرض، وأن السيول كانت تَكْسَحُ هذه الأقذار من الطرق والأفنية، وتحملها فتلقيها فيها، وكان الماء لكثرته لا يؤثر فيه وقوع هذه الأشياء، ولا يغيّره؛ فسألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن شأنها لِيَعْلَموا حُكْمَها في الطَّهارة والنجاسة؛ فكان من جوابه لهم أنَّ الماء لا ينجّسه شيء، يريد الكثيرَ منه الذي صفته صفة ماء هذه البئر في غزارته وكثرة جِمَامه؛ لأنَّ السؤال إنمّا وقع عنها بعينها؛ فخرج الجواب عليها.
وهذا لا يخالف حديث القُلَّتينِ إذ كان معلوماً أنَّ الماءَ في بئر بضاعة يبلغ القُلَّتينِ؛ فأحد الحديثين يوافق الآخر ولا يناقضه، والخاصّ يقضي على العامّ، ويبيّنه ولا ينسخه).ا.هـ.
2: الماء الكثير والماء القليل
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء وما ينوبه من الدوابِّ والسِّبَاعِ؛ فقال: (( إذا كانَ الماءُ قُلَّتَينِ لَم يَحْمِل الخَبَثَ )) رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم.
وهذا الحديث صححه أئمة من المحدثين منهم ابن خزيمة وابن حبان والدارقطني وجوَّد إسناده يحيى ابن معين واحتجَّ به جماعة من الكبار.
قال أبو سليمان الخطّابي: (وكفى شاهدا على حجته أنّ نجومَ أهل الحديث صححوه وقالوا به، وهم القدوة، وعليهم المعوَّل في هذا الباب).
والقُلَّة هي الجرَّة التي يُحْفَظُ فيها الماء، سُمَّيت بذلك لأنها بمقدار ما يُقِلُّهُ الرجلُ أي يطيق حملَه.
والقلَّتان قَدَّرَها جماعة من الأئمة كالشافعي وأحمد وإسحاق ابن راهويه بنحو خَمْسِ قِرَب.
قال الترمذي بعدما روى حديث القلتين: (وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق قالوا: إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء ما لم يتغير ريحه أو طعمه ، وقالوا: يكون نحواً من خَمْسِ قِرَب).
والقِرَبُ تَتَفَاوَتُ أحجامها، لكن تُقَدَّرُ القِرْبة المتوسطة بنحو مائة رِطْلٍ عِرَاقِيٍّ، أي نحو أربعين لتراً من الماء؛ فتكون القلتان نحو مائتي لترٍ تقريباً، وهو ما يقارب خمسين جالوناً من الماء.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (( إذا كانَ الماءُ قُلَّتَينِ لَم يَحْمِل الخَبَثَ )) أتى جواباً لسؤالِ سائلٍ عن أمر معتاد من النجاسات من ولوغ بعض السباع في الماء وما ينوبه من نجاساتها فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث ؛ فإن النجاسة فيه تكون مغمورة غير مؤثرة على طهارة الماء، وفي الماء الكثير قوَّة تطهّر النجاسة وتزيلها.
وهذا هو الغالب أن الماء الكثير لا يتغير بالنجاسة التي تقع فيه؛ أمَّا إذا تحققنا أن الماء قد تغيَّر بما خالطه من النَّجاسة بحيث كانت تلك النجاسة كثيرةً غلبت على طعم الماء أو ريحه أو لونه فغيَّرته؛ فإن الماء يكون نجساً ولو كان كثيراً بلا خلاف بين أهل العلم رحمهم الله.
ومما ينبغي أن يُعْلَم أن تغيُّر لون الماء الذي وقعت فيه نجاسة له حالتان:
الأولى: أن يكون تغيّر اللون بسبب النجاسة التي حدثت فيه ؛ وحينئذ يحكم بنجاسته.
والثانية: أن يكون تغير لونه بسبب الكَدَرِ الطاهر الذي في البئر وغيره مع وجود نجاسة غير مؤثرة ؛ فإنه لا يحكم بنجاسة ذلك الماء، وإنَّما يُصَفَّى الماء من الكدر ويستعمل في الطهارة وغيرها، ويحكم بطهارته، كما في حال بئر بضاعة التي رآها بعض أهل العلم قد تغير لون مائها.
وكما يُرَى مِن تغيّر لون ماء السيل بما يكون فيه من الكَدَر؛فهذا تغيّر لا يضرّ.
والغالب على الماء القليل أنه يتغير بالنجاسة التي تحدث فيه فينجس بذلك، وأما إذا لم يتغيَّر الماء بتلك النجاسة فالراجح من أقوال أهل العلم أنه طاهر غير نجس؛ لأن العلَّة هي تغيّر الماء بالنجاسة التي تحدث فيه؛ فإذا لم يتغيَّر الماء بسبب تلك النجاسة فإنه يحكم بطهارته، وهذا قد يُتَصَوَّرُ في النَّجاسةِ اليسيرة جداً إذا أُلْقِيَت في ماءٍ دون القُلَّتينِ ولم يتغيَّر طعم ذلك الماء ولا لونه ولا ريحه.
وحديث عبد الله بن عمر المتقدم فيه فائدة مهمة للمؤمن، وهو أنه إذا أتى على ماء كثير لم ير تغيّره بالنجاسة فإنه يحكم بطهارته ويتوضأ منه وهو مطمئن النفس مرتاح البال لطهارته.
وأما من خالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم فتحرَّج من استعماله وشكَّ في طهارته فإنه مذموم على مخالفته، بل قد يبتلى بالوسوسة إذا كان هذا دأبه.
وقد روى الإمام مالك في الموطأ وعبد الرزاق في المصنف عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج في رَكْبٍ فيهم عمرُو بن العاص؛ حتى وردوا حَوْضاً؛ فقال عمرو: يا صاحب الحوض! هل تَرِدُ حوضَك السباعُ؟
فقال عمر: (يا صاحبَ الحوضِ لا تخبرنا؛ فإنا نَرِدُ على السِّبَاع وَتَرِدُ عَلينا).
قال النووي: (وهذا الأثر إسناده صحيح إلى يحيى بن عبد الرحمن لكنه مرسل منقطع ، فإن يحيى وإن كان ثقة فلم يدرك عمربل ولد في خلافة عثمان، هذا هو الصواب).
وقال يحيى بن معين: (يحيى بن عبد الرحمن بن خاطب، بعضهم يقول: سمعت عمر، وهذا باطل، إنما هو يحيى بن عبد الرحمن بن خاطب عن أبيه سمع عمر).
وهو يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة القرشي، من فقهاء المدينة في زمانه، وهو ثقة في الرواية، وأكثر ما يروي أخبارَ عمر من طريق أبيه، ولو جزمنا أن الواسطة بينه وبين عمر في هذا الحديث أبوه، لكان الإسناد صحيحاً، لكن لمَّا لم يُسمِّ الواسطة حكمنا بضعفه للانقطاع، ومعناه صحيح.
قال ابنُ المنذِر: (أجْمَعُوا على أنَّ الماءَ القليلَ والكثيرَ إذا وقَعتْ فيه نجاسة فغَيَّرَتْ للماءِ طعمًا أو لونًا أو ريحًا: أنه نجسٌ ما دامَ كذلك).
3: الماء المطلق والماء المضاف
الماء عند الفقهاء على نوعين:
أحدهما: الماء المُطْلَق، وهو الماء الباقي على اسمه وهو ما يصحّ التطهر به.
والنوع الآخر: الماء المضاف، كماء الورد وماء الزعفران ونحوهما فهذا لا يسمى ماء بإطلاق، وإنما بحسب ما يضاف إليه، ولا يصحّ التطهر به لأنه ليس بماءٍ مُطْلَق.
فهذا مراد الفقهاء بالماء المضاف، فلا يدخل فيه ماء البحر وماء السيل وماء العين وماء القربة ونحو ذلك لأن كلَّ ذلك ماءٌ مطلقٌ اصطلاحاً، والإضافة هنا إنما هي لبيان مصدره أو نوعه أو ظرفه، ولذلك يصح أن يسمى ماءً بلا إضافة، بخلاف ماء الورد ونحوه فهو ملازم للإضافة.
قال ابن المنذر: (أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الوُضوءَ لا يَجوزُ بماءِ الوردِ، وماءِ الشَّجَرِ، وماءِ العُصْفُرِ، ولا تجوزُ الطهارةُ إلا بماءٍ مُطْلَقٍ، يَقَعُ عليه اسمُ الماءِ).
3: الماء الطَّهور والماء الطاهر
قسم بعض الفقهاء الماء إلى ثلاثة أقسام: طهور وطاهر ونجس.
فالطهور: هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره، وهو الماء النقي الذي يصح التطهر به.
والطاهر: هو ما كان طاهراً في نفسه غير مطهر لغيره، ومثلوا له بماء الورد وماء الزعفران.
وتفريقهم بين الطهور والطاهر له اعتبار لغوي؛ فإن صيغة (طَهُور) تفيد التعدّي في اللغة فهو مع كونه طاهراً في نفسه فهو مطهر لغيره، ولذلك وصف الماء في القرآن والسنة بأنه طهور أي طاهر في نفسه مطهر لغيره ، ولم يوصف بأنه طاهر.
قال تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهوراً} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في ماء البحر : ((هو الطَّهور ماؤه)).
قال أبو منصور الأزهري: (الطَّهورُ من المياه ما يُتَطهَّر به أو يُطَهَّرُ به ثوبٌ وغيرهُ، عُلِم أنه طاهرٌ في ذاته مُطّهِّر لغيره، والطَّاهِرُ الذي طَهُر بنفسه، وإن لم يُطَهِّر غيره، والطَّهورُ لا يكون الا طاهراً مُطَهِّراً)ا.هـ.
وأما وصف الشيء بأنه طاهر فهو لا يقتضي أنه مطهر لغيره، ويصح أن يوصف الماء بأنه طاهر باعتبار أنه نقي من النجاسة.
ومن هذا أيضاً وصف المتوضيء بأنه طاهر وكذلك الثوب إذا كان نقياً من النجاسات يقال فيه: "ثوب طاهر" ، ولا يقال: "ثوب طهور".
وأما التراب فلأجل أنه يتيمم به فيصح وصفه بأنه طهور كما في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)).
قال ابن قدامة: (ولو أراد به الطاهر لم يكن فيه مزية لأنه طاهر في حق كل أحد).
فهذا بيان الفرق اللغوي بين الطاهر والطهور، ومن الفقهاء من لا يفرّق في وصف الماء بين الطهور والطاهر.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية وابن مفلح أن لبحث هذه المسألة فائدتين:
الأولى: أنّ المائعات لا تزيل النجاسة.
والثانية: أن المائعات لا تدفع النجاسة عن نفسها؛ بخلاف الماء والتراب.
وقولهم إن المائعات لا تزيل النجاسة ليس على إطلاق فإنّ الدباغ مائع من المائعات وهو طهور يزيل النجاسة كما صحّ من حديث ابن عباس وحديث ميمونة رضي الله عنهم.
وكذلك السوائل المطهّرة تزيل النجاسة وهي من المائعات ليست بنجسة ولا بماء مطلق.
وتقسيم الماء إلى طهور وطاهر ونجس فيه خلاف، والصواب فيه ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره أن الماء الطاهر ليس بماء مطلق فلا يصحّ أن يكون قسيماً للطهور.
فالماء المطلق طاهر وطهور ، وأمّا الماء المتغيّر بشيء طاهر حتى يسلبه اسم الماء فليس بماء مطلق، وإنما هو ماء مضاف كماء الورد وماء البلاقلاء وماء الزعفران.
والماء المتغيّر بنجاسة تحدث فيه ماء نجس.
o حكم ما يخالط الماء
ما يخالط الماء على أنواع:
النوع الأول: ما يغير لون الماء وطعمه حتى يخرج عن اسم الماء كالمرق والخل والحبر والعصير ونحو ذلك فهذا لا يصح الوضوء به بلا خلاف بين أهل العلم.
النوع الثاني: ما لا يغير لون الماء بعامّة ولا يسلبه اسم الماء، وذلك مثل الحصى والطين والملح والأعواد التي تكون في الماء والطحالب التي تكون في بعض الغدران والبرك والأنهار، وتغير لون الماء قليلاً بسبب الأوعية التي يحفظ فيها كالقِرَب والجرار ونحوها؛ فهذا التغير اليسير الذي لا يسلب الماء اسمه لا يؤثر في صحة التطهر به بلا خلاف بين أهل العلم.
وما يُلقى في الماء من الأشياء الطاهرة كالحديد والخشب وغيرها إذا كان لا يغير لون الماء حتى يسلبه اسمه فهو باقٍ على حكم الأصل وهو صحة الوضوء به، وأنه ماء مطلق؛ فأما إذا تغير لون الماء بعامة حتى صار شيئاً آخر غير الماء المطلق كغُسَالة الأصباغ ونحوها فهذا يلتحق بالنوع الأول، ولا يصح التطهر به.