بَابُ الرَّضَاعِ
مُقَدِّمَةٌ
الرَّضَاعُ: بِفَتْحِ الراءِ وَكَسْرِهَا مَصْدَرُ: رَضِعَ الثَّدْيَ؛ إِذَا مَصَّهُ.
وَتَعْرِيفُهُ شَرْعاً: مَصُّ لَبَنٍ ثَابَ عَنْ حَمْلٍ، أَوْ شُرْبُهُ.
وَحُكْمُ الرَّضَاعِ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ، والسُّنَّةِ، والإجماعِ، وَنُصُوصٍ مشهورةٍ.
فَفِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ: قَالَ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ}. [النساء: 23].
وَفِي السُّنَّةِ: مَا جَاءَ فِي الصَّحيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((يَحْرُمُ مِن الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ)).
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَثَرِهِ فِي تحريمِ التَّنَاكُحِ والمحرميَّةِ، وَجَوَازِ النَّظَرِ والخَلْوَةِ، لا وُجُوبِ النَّفَقَةِ، وَالتَّوَارُثِ، وِولايةِ النكاحِ.
وحكمةُ هَذِهِ المحرميَّةِ والصلةِ ظَاهِرَةٌ؛ فَإِنَّهُ حِينَ تَغَذَّى الرضيعُ بلبنِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ نَبَتَ لَحْمُهُ عَلَيْهِ؛ فَكَانَ كالنسبِ لَهُ مِنْهَا.
ولذا كَرِهَ الْعُلَمَاءُ اسْتِرْضَاعَ الكافرةِ، والفاسقةِ، وسَيِّئَةِ الْخُلُقِ، أَوْ مَنْ بِهَا مَرَضٌ مُعْدٍ؛ لأَنَّهُ يَسْرِي إِلَى الوَلَدِ.
وَاسْتَحَبُّوا أَنْ يُخْتَارَ المُرْضِعَةُ الْحَسَنَةُ الْخُلُقِ وَالخَلْقِ، فَإِنَّ الرَّضَاعَ يُغَيِّرُ الطِّبَاعَ.
والأحسنُ أَلاَّ تُرْضِعَهُ إِلاَّ أُمُّهُ؛ لأَنَّهُ أَنْفَعُ وَأَمْرَأُ، وَأَحْسَنُ عَاقِبَةً مِن اختلاطِ المحارمِ، الَّتِي رُبَّمَا تُوقِعُ فِي مشكلاتٍ زَوْجِيَّةٍ.
وَقَدْ حَثَّ الأطباءُ عَلَى لَبَنِ الأُمِّ، لا سِيَّمَا فِي الشهورِ الأُوَلِ.
وَقَدْ ظَهَرَتْ لَنَا حكمةُ اللَّهِ الكونيَّةُ حِينَ جَعَلَ غذاءَ الطفلِ مِنْ لَبَنِ أُمِّهِ بالتجاربِ، وَبِتَقَارِيرِ الأطباءِ وَنَصَائِحِهِمْ.
قَالَ الدكتورُ الطبيبُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ البَارُّ: وَللرَّضَاعِ فَوَائِدُ عظيمةٌ، وَمِنْ فَوَائِدِهِ الصِّحِّيَّةِ مَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}. [البقرة: 233].
فَيُقَرِّرُ المَوْلَى تَعَالَى حَقَّ الطِّفْلِ فِي الرَّضَاعَةِ، وَيُوَجِّهُ الوالِدَيْنِ إِلَى أَنْ يَتَشَاوَرُوا فِي أَمْرِ وَلِيدِهِمَا، وَيَرْبِطُ ذَلِكَ بالتَّقْوَى، وَبَعْدَ مُضِيِّ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَرْناً مِنْ نُزُولِ الآيَةِ الكريمةِ، نَادَت المُنَظَّمَاتُ الدَّوْلِيَّةُ، والهيْئَاتُ العالميَّةُ مِثْلُ هَيْئَةِ الصِّحَّةِ العالميَّةِ، الَّتِي تُصْدِرُ الْبَيَانَ تِلْوَ الْبَيَانِ، تُنَادِي الأُمَّهَاتِ أَنْ يُرْضِعْنَ أولادَهُنَّ، بَيْنَمَا أَمَرَ الإِسْلامُ بِهِ منذُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَرْناً مِن الزمانِ.
فَمِنْ فَوَائِدِ الرَّضَاعَةِ للوَلِيدِ:
1- لَبَنُ الأُمِّ مُعَقَّمٌ، جَاهِزٌ، لَيْسَ بِهِ ميكروباتٌ.
2- لَبَنُ الأُمِّ لا يُمَاثِلُهُ أَيُّ لبنٍ مُحَضَّرٍ؛ مِنَ البقرِ، أَو الغَنَمِ، أَو الإِبِلِ، فَقَدْ صُمِّمَ وَرُكِّبَ؛ لِيَفِي بِحَاجَاتِ الطفلِ يَوْماً بَعْدَ يَوْمٍ، منذُ ولادتِهِ حَتَّى سِنِّ الفِطَامِ.
3- يَحْتَوِي لبنُ الأُمِّ عَلَى كِمِّيَّاتٍ كافيةٍ مِن البُرُوتِينِ، وَالسُّكَّرِ بِنِسَبٍ تُنَاسِبُ الطفلَ تَمَاماً، بَيْنَمَا البُرُوتِينَاتُ الموجودةُ فِي لَبَنِ الأبقارِ، والأغنامِ، وَالجَوَامِيسِ عَسِيرَةُ الهضمِ عَلَى معدةِ الطفلِ؛ لأَنَّهَا أُعِدَّتْ لِتُنَاسِبَ أَوْلادَ تِلْكَ الحَيَوَانَاتِ.
4- نُمُوُّ الأطفالِ الَّذِينَ يَرْضَعُونَ مِنْ أُمَّهَاتِهِمْ أَسْرَعُ وَأَكْمَلُ مِنْ نُمُوِّ أُولَئِكَ الأطفالِ الَّذِينَ يُعْطَوْنَ القَارُورَةَ.
5- تَقُولُ تقاريرُ هَيْئَةِ الصحَّةِ العالميَّةِ لِعَامِ 1988 م: إِنَّ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ مَلايِينِ طِفْلٍ قَدْ لَقُوا حَتْفَهُمْ؛ نَتِيجَةَ عَدَمِ إرضاعِهِم مِنْ أُمَّهَاتِهِمْ.
6- الارْتِبَاطُ النفسيُّ والعاطفيُّ بَيْنَ الأُمِّ وَطِفْلِهَا.
7- يَحْتَوِي لبنُ الأُمِّ عَلَى العناصرِ المختلفةِ الضروريَّةِ لتغذيةِ الطفلِ وفقَ الكميَّةِ، والكَيْفِيَّةِ، وعناصرِ التغذيةِ الثابتةِ، وَتَتَغَيَّرُ يَوْماً بَعْدَ يَوْمٍ وفقَ حاجاتِ الطفلِ.
8- يُحْفَظُ لبنُ الأُمِّ تَحْتَ دَرَجَةٍ مِن الحرارةِ المعقولةِ، يَسْتَجِيبُ تِلْقَائِيًّا لِحَاجِيَاتِ الطفلِ، وَيُمْكِنُ الحصولُ عَلَيْهِ فِي أَيِّ وَقْتٍ.
9- الإرضاعُ مِن الثديِ هُوَ أَحَدُ العواملِ الطبيعيَّةِ لمنعِ حملِ الأُمِّ؛ وَهِيَ وَسِيلَةٌ تَمْنَعُ مِن المُضَاعَفَاتِ الَّتِي تَصْحَبُ استعمالَ حبوبِ مَنْعِ الحملِ، أَو اللَّوْلَبِ، أَو الحُقَنِ.
وَذَكَرَ الدكتورُ أشياءَ كَثِيرَةً مِن الفوائدِ، نَكْتَفِي مِنْهَا بِهَذَا الْقَدْرِ، وَلا نَمْلِكُ إِلاَّ أَنْ نَقُولَ: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}. [النَّمْل: 88].
978 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا قالَتْ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
مُفْرَدَاتُ الْحَدِيثِ:
- لا تُحَرِّمُ: مِنَ التحريمِ.
- المَصَّةُ: بفتحِ الميمِ وتشديدِ الصادِ المُهْمَلَةِ، هِيَ الْوَاحِدَةُ مِن المَصِّ، يُقَالُ: مَصَّ اللبنَ يَمْصُّهُ مَصًّا: رَشَفَهُ وَشَرِبَهُ شُرْباً رَقِيقاً، مَعَ جَذْبِ نَفَسٍ.
مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ:
1 - الرَّضَاعُ المُؤَثِّرُ بانْتِقَالِ نَفْعِهِ مِن المُرْضِعَةِ إِلَى الرَّضِيعِ - هُوَ مَا أَنْشَزَ العَظْمَ، وَأَنْبَتَ اللَّحْمَ، وَأَمَّا المَصَّةُ وَالمَصَّتَانِ فَلا أَثَرَ لَهُمَا فِي تكوينِ الطفلِ، لذا لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ تَأْثِيرٌ فِي الْحُكْمِ.
2 - الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ المَصَّةَ والمَصَّتَيْنِ لا تُحَرِّمَانِ؛ لأَنَّهُمَا يَسِيرَتَانِ، وَالمسألةُ فِيهَا أَقْوَالٌ للعلماءِ وخلافاتٌ بَيْنهمْ، سَيَأْتِي تَحْقِيقُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
3 - مَفْهُومُ الْحَدِيثِ: أَنَّ الرَّضَاعَ الْكَثِيرَ يُحَرِّمُ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ حَدِيثِ ((يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ)). إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
4 - عَدَمُ تَحْرِيمِ المَصَّةِ وَالمَصَّتَيْنِ؛ فَلا يَكُونُ التحريمُ إِلاَّ بخمسِ رَضَعَاتٍ؛ لحديثِ عَائِشَةَ الآتِي قَرِيباً إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.