(23 -26) {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ * قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ *}.
يقولُ تعالى مُبَيِّناً أنَّه المعبودُ وَحْدَه، وداعياً عِبادَه إلى شُكْرِه وإفرادِه بالعبادةِ: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ}؛ أي: أَوْجَدَكُم مِن العَدَمِ، ومِن غيرِ مُعاوِنٍ له ولا مُظاهِرٍ، ولَمَّا أَنْشَأَكُمْ كَمُلَ لكُمُ الوُجودُ بالسَّمْعِ والأبصارِ والأفئدةِ التي هي أنْفَعُ أعضاءِ البَدَنِ، وأَكْمَلُ القُوَى الْجُسمانيَّةِ، ولكنَّه معَ هذا الإنعامِ {قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} اللَّهَ؛ قليلٌ منكم الشاكرُ، وقليلٌ منكم الشكْرُ.
{قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ}؛ أي: بَثَّكُمْ في أَقطارِها، وأَسْكَنَكُم في أَرجائِها، وأَمَرَكم ونَهَاكُم وأَسْدَى عليكم مِن النِّعَمِ، ما به تَنْتَفِعُونَ.
ثم بعدَ ذلك يَحْشُرُكم ليومِ القِيامةِ، ولكنَّ هذا الوعْدَ بالجزاءِ يُنْكِرُه هؤلاءِ الْمُعَانِدُونَ، {وَيَقُولُونَ} تَكذيباً: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}؟ جَعَلُوا علامَةَ صِدْقِهم أنْ يُخْبِرُوا بوقتِ مَجيئِه، وهذا ظلْمٌ وعِنادٌ، فإِنَّما العلْمُ عندَ اللَّهِ, لا عندَ أحَدٍ مِن الخلْقِ، ولا مُلازَمَةَ بينَ صِدْقِ هذا الخبَرِ وبينَ الإخبارِ بوقتِه؛ فإنَّ الصدْقَ يُعْرَفُ بأَدِلَّتِه.
وقدْ أقامَ اللَّهُ مِن الأَدِلَّةِ والبَراهينِ على صِحَّتِه ما لا يَبْقَى معَه أَدْنَى شَكٍّ لِمَن أَلْقَى السمْعَ وهو شَهيدٌ.
(27 -30) {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ}.
يَعنِي أنَّ مَحَلَّ تكذيبِ الكُفَّارِ وغُرورِهم به حينَ كانوا في الدنيا، فإذا كانَ يومُ الجزاءِ ورَأَوُا العذابَ منهم {زُلْفَةً}؛ أي: قريباً، ساءَهُم ذلك وأَفْظَعَهم، وقَلْقَلَ أفْئِدَتَهم.
فتَغَيَّرَتْ لذلك وُجوهُهم، ووُبِّخُوا على تَكذيبِهم، وقيلَ لهم: هذا الذي كُنْتُم به تُكَذِّبونَ، فاليومَ رَأَيْتُمُوهُ عِياناً، وانْجَلَى لكم الأمْرُ، وتَقطَّعَتْ بكم الأسبابُ، ولم يَبْقَ إلاَّ مُباشَرَةُ العذابِ.
ولَمَّا كانَ الْمُكَذِّبُونَ للرسولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ الذينَ يَرُدُّونَ دَعوتَه، يَنْتَظِرونَ هَلاكَه، ويَتَرَبَّصونَ به رَيْبَ الْمَنونِ ـ أمَرَه اللَّهُ أنْ يَقولَ لهم: أنتم وإنْ حَصَلَتْ لكم أَمَانِيُّكُم وأَهْلَكَنِيَ اللَّهُ ومَن مَعِيَ، فليسَ ذلك بنَافِعٍ لكم شَيئاً؛ لأنَّكم كَفَرْتُمْ بآياتِ اللَّهِ، واستَحْقَّيْتُمُ العذابَ، فمَن يُجِيرُكم مِن عذابٍ أليمٍ قد تَحَتَّمَ وُقُوعُه بكم؟
فإذنْ تَعَبُكم وحِرْصُكم على هَلاكِي غيرُ مُفيدٍ، ولا مُجْدٍ عنكم شَيئاً.
ومِن قولِهم: إِنَّهم على هُدًى، والرسولَ على ضَلالٍ، أعَادُوا في ذلك وأَبْدَوْا، وجادَلُوا عليه وقَاتَلُوا، فأمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أنْ يُخْبِرَ عن حالِه وحالِ أَتباعِه، ما به يَتَبَيَّنُ لكلِّ أحَدٍ هُدَاهم وتَقْوَاهُم، وهو أنْ يَقولوا: {آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا}.
والإيمانُ يَشمَلُ التصديقَ الباطِنَ، والأعمالَ الباطنةَ والظاهِرَةَ، ولَمَّا كانَتِ الأعمالُ - وُجُودُها وكَمَالُها - مُتَوَقِّفَةً على التوكُّلِ، خَصَّ اللَّهُ التوَكُّلَ مِن بينِ سائرِ الأعمالِ، وإلاَّ فهو داخلٌ في الإيمانِ، ومِن جُملةِ لَوازمِه كما قالَ تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
فإذا كانَتْ هذه حالَ الرسولِ وحالَ مَنِ اتَّبَعَه، وهي الحالُ التي تَتَعَيَّنُ للفلاحِ، وتَتوقَّفُ عليها السعادةُ، وحالةُ أعدائِه بضِدِّها، فلا إيمانَ لهم ولا تَوَكُّلَ ـ عُلِمَ بذلك مَن هو على هُدًى، ومَن هو في ضَلالٍ مُبينٍ.
ثم أَخْبَرَ عن انفرادِه بالنِّعَمِ، خُصوصاً بالماءِ الذي جَعَلَ اللَّهُ منه كلَّ شيءٍ حَيٍّ، فقالَ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً}؛ أي: غائِراً، {فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ}. تَشْرَبُونَ منه، وَتَسْقُونَ أنعامَكم وأشجارَكم وزُروعَكم.
وهذا استفهامٌ بمعنَى النفْيِ؛ أي: لا يَقْدِرُ أحَدٌ على ذلك غيرُ اللَّهِ تعالى.
تَمَّتْ وللهِ الحمْدُ.