سورة القارعة
قال محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (ت: 1393هـ): (سورة القارعة
قوله تعالى: {وأمّا من خفّت موازينه * فأمّه هاويةٌ} [القارعة: 8-9].
هذه الآية الكريمة تدلّ على أنّ الهاوية وصفٌ لا علمٌ للنّار، إذ تنوينها ينافي كونها اسماً من أسماء النار؛ لأنها على تقدير كونها من أسماء النار يلزم فيها المنع من الصرف للعلميّة والتأنيث.
وقوله تعالى: {وما أدراك ما هيه * نارٌ حاميةٌ} [القارعة: 10-11] يدلّ على أنّ الهاوية من أسماء النار.
اعلم أوّلاً: أنّ في معنى قوله تعالى: {فأمّه هاويةٌ} ثلاثة أوجهٍ للعلماء، اثنان منها لا إشكال في الآية عليهما، والثالث هو الذي فيه الإشكال المذكور.
أما اللذان لا إشكال في الآية عليهما، فالأوّل منهما: أنّ المعنى: {فأمّه هاويةٌ} أي: أمّ رأسه هاويةٌ في قعر جهنّم؛ لأنه يطّرح فيها منكوساً، رأسه أسفل ورجلاه أعلى.
وروي هذا القول عن قتادة وأبي صالحٍ وعكرمة والكلبيّ وغيرهم.
وعلى هذا القول فالضمير في قوله: {وما أدراك ما هيه} عائدٌ إلى محذوفٍ دلّ عليه المقام، أي: أمّ رأسه هاويةٌ في نارٍ، وما أدراك ما هيه، نارٌ حاميةٌ.
والثاني: أنه من قول العرب إذا دعوا على الرجل بالهلكة، قالوا: هوت أمّه؛ لأنه إذا هوى -أي: سقط وهلك- فقد هوت أمّه ثكلاً وحزناً.
ومن هذا المعنى قول كعب بن سعدٍ الغنويّ:
هوت أمّه ما يبعث الصّبح غاديا ... وماذا يرد اللّيل حين يؤوب
وهذا القول روايةٌ أخرى عن قتادة.
وعلى هذا القول فالضمير في قوله: {هيه} للداهية التي دلّ عليها الكلام.
وذكر الألوسيّ في تفسيره أنّ صاحب الكشاف قال: إنّ هذا القول أحسن. وأنّ الطّيّبيّ قال: إنّه أظهر، وقال هو: وللبحث فيه مجالٌ.
الثالث: الذي فيه الإشكال، أنّ المعنى: {فأمّه هاويةٌ} أي: مأواه الذي يحيط به وبضمّه هاويةٌ، وهي النار؛ لأنّ الأمّ تؤوي ولدها وتضمّه، والنار تضمّ هذا العاصي، وتكون مأواه.
والجواب على هذا القول: هو ما أشار له الألوسيّ في تفسيره من أنّه نكّر الهاوية في محلّ التعريف لأجل الإشعار بخروجهم عن المعهود؛ للتّفخيم والتهويل، ثم بعد إبهامها لهذه النكتة قرّرها بوصفها الهائل بقوله: {وما أدراك ما هيه * نارٌ حاميةٌ}.
قال مقيّده -عفا الله عنه-: هذا الجواب الذي ذكره الألوسيّ يدخل في حدّ نوعٍ من أنواع البديع المعنويّ، يسمّيه علماء البلاغة: التّجريد.
فحدّ التجريد عندهم: هو أن ينتزع من أمرٍ ذي صفةٍ آخر مثله فيها، مبالغةً في كمالها فيه.
وأقسامه معروفةٌ عند البيانيّين.
فمنه ما يكون التجريد فيه بحرفٍ، نحو قولهم: لي من فلانٍ صديقٌ حميمٌ، أي: بلغ من الصّداقة حدًّا صحّ معه أن يستخلص منه آخر مثله فيها، مبالغةً في كمالها فيه. وقولهم: لئن سألته لتسألنّ به البحر بالغ في اتّصافه بالسماحة حتى انتزع منه بحراً في السماحة.
ومن التجريد بواسطة الحروف قوله تعالى: {لهم فيها دار الخلد} [فصلت: 28]، وهو أشبه شيءٍ بالآية التي نحن بصددها؛ لأنّ النار هي دار الخلد بعينها، لكنّه انتزع منها داراً أخرى وجعلها معدّةً في جهنّم للكفار؛ تهويلاً لأمرها، ومبالغةً في اتّصافها بالشدّة.
ومن التجريد ما يكون من غير توسّط الحرف، نحو قول قتادة بن سلمة الحنفيّ:
ولئن بقيت لأرحلنّ بغزوةٍ ... تحوي الغنائم أو يموت كريم
يعني: نفسه؛ انتزع من نفسه كريماً، مبالغةً في كرمه.
فإذا عرفت هذا، فالنار سمّيت الهاوية لغاية عمقها، وبعد مهواها؛ فقد روي أنّ داخلها يهوي فيها سبعين خريفاً. وخصّها البعض بالباب الأسفل من النار، فانتزع منها هاويةً أخرى مثلها في شدّة العمق، وبعد المهوى، مبالغةً في عمقها، وبعد مهواها.
والعلم عند الله تعالى). [دفع إيهام الاضطراب: 379-382]