والتعديلُ مَقْبولٌ مِن غيرِ ذِكْرِ السَّبَبِ؛ لأنَّ تَعْدادَه يَطُولُ، فقُبِلَ إِطلاقُهُ بخِلافِ الجُرْحِ فإنَّهُ لا يُقْبَلُ إلا مُفَسَّرًا؛ لاختلافِ الناسِ في الأسبابِ المُفَسِّقَةِ. فقَدْ يَعْتَقِدُ ذلك الجارِحُ شَيْئًا مُفَسِّقًا فيُضَعِّفُهُ، ولا يَكُونُ كذلك في نَفْسِ الأمرِ أو عِندَ غَيرِهِ، فلهذا اشتُرِطَ بَيانُ السَّبَبِ في الجَرْحِ.
قالَ الشيخُ أبو عَمْرٍو: وَأَكْثَرُ ما يُوجَدُ في كُتُبِ الجَرْحِ والتَّعْدِيلِ: فُلانٌ ضعيفٌ أو مَتْرُوكٌ أو نَحْوُ ذلك، فإن لم نَكْتَفِ به انْسَدَّ بابٌ كبيرٌ في ذلك.
وأجابَ: بأنَّا إذا لم نَكْتَفِ به تَوَقَّفْنَا في أَمْرِه لِحُصولِ الرِّيبَةِ عِنْدَنا بذلك.
قُلتُ: أمَّا كلامُ هؤلاءِ الأئمةِ المُنْتَصِبينَ لهذا الشأنِ فَيَنْبَغِي أن يُؤْخَذَ مُسَلَّمًا مِن غيرِ ذِكرِ أَسبابٍ، وذلك للعِلْمِ بمَعْرِفَتِهِم واطِّلاعِهمْ واضْطِلاعِهِم بهذا الشأنِ، واتِّصافِهِم بالإنصافِ والدِّيَانَةِ والخِبْرَةِ والنُّصْحِ، لا سِيَّما إذا أَطْبَقُوا على تَضْعِيفِ الرَّجُلِ أو كَوْنِه مَتْرُوكًا أو كَذَّابًا أو نحوَ ذَلِكَ، فالمُحَدِّثُ الماهرُ لا يَتَخالَجَهُ في مِثلِ هذا وَقْفَةٌ في مُوافَقَتِهِم لصِدْقِهم وأَمانَتِهم ونُصْحِهم، ولهذا يَقُولُ الشافِعِيُّ في كثيرٍ مِن كَلامِهِ على الأحاديثِ: "لا يُثْبِتُهُ أَهْلُ العِلْمِ بالحَدِيثِ"، ويَرُدُّهُ ولا يَحْتَجُّ به بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ. واللهُ أَعْلَمُ.
أما إِذَا تَعارَضَ جُرْحٌ وتَعْدِيلٌ فيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الجَرْحُ حِينَئِذٍ مُفَسَّرًا، وهل هو المُقْدَّمُ؟ أوِ الترجيحُ بالكَثْرَةِ أو الأَحْفَظِ؟ فيه نِزاعٌ مشهورٌ في أصولِ الفقهِ وفروعِهِ وعِلْمِ الحديثِ، واللهُ أَعْلَمُ.
ويَكْفِي قَوْلُ الواحدِ بالتعديلِ والتَّجْرِيحِ علَى الصَّحِيحِ، وأمَّا رِوَايةُ الثقةِ عن شَيْخٍ فهل يَتَضَمَّنُ تَعْدِيلَهُ ذلك الشَّيْخَ أَمْ لا؟ فيه ثلاثةُ أقوالٍ... ثَالِثُها: إنْ كانَ لا يَرْوِي إلا عن ثِقَةٍ فتَوثِيقٌ وإلا فَلا، والصحيحُ أنه لا يَكُونُ تَوْثِيقًا له حتى لو كانَ مِمَّنْ يَنُصُّ على عَدالَةِ شُيوخِهِ، ولو قالَ: "حَدَّثَنِي الثِّقَةُ" لا يَكُونُ ذلك توثيقًا له على الصحيحِ؛ لأنه قد يَكُونُ ثِقَةً عِنْدَه لا عِنْدَ غَيْرِه، وهذا واضحٌ، وللهِ الحَمْدُ.