دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > الفقه > متون الفقه > زاد المستقنع > كتاب البيوع

 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #6  
قديم 14 ربيع الثاني 1432هـ/19-03-2011م, 03:18 PM
الصورة الرمزية ساجدة فاروق
ساجدة فاروق ساجدة فاروق غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 6,511
افتراضي الشرح الممتع على زاد المستقنع / للشيخ ابن عثيمين رحمه الله

وَأَنْ يَكُونَ مِن مَالِكٍ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ .............
قوله: «وأن يكون من مالك» . هذا الشرط الرابع من شروط صحة البيع، أن يكون من مالك أو من يقوم مقامه.
والدليل على هذا الشرط: القرآن، والسنة، والنظر الصحيح.
أما القرآن: فقوله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، ومعلوم أنه لا يوجد أحد يرضى أن يتصرف غيره في ماله ويبيعه.
وأما السنة فقول النبي صلّى الله عليه وسلّم لحكيم بن حزام: ((لا تبع ما ليس عندك)) [(1)]، فنهاه أن يبيع ما ليس عنده، والمراد ما ليس في حوزته أو ما ليس قادراً عليه، كما سيأتي إن شاء الله في الشرح.
وأما النظر فلأنه لو جاز أن يبيع الإنسان ما لا يملك لكان في ذلك من العدوان والفوضى ما لا تستقيم معه حياة البشر، فلا يمكن أن يسلط الناس بعضهم على بعض في بيع أموالهم.
قوله: «أو من يقوم مقامه» يعني من يقوم مقام المالك وهم أربعة أصناف: الوكيل، والوصي، والولي، والناظر، هؤلاء هم الذين يقومون مقام المالك.
فالوكيل هو من أُذن له بالتصرف في حال الحياة، كرجل أعطى شخصاً سيارته، وقال: بعها، فهذا وكيل يصح أن يبيعها؛ لأنه قائم مقام المالك بالتوكيل؛ ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم وكّل في البيع والشراء[(2)]، وهذا دليل من السنة.
الوصي وهو من أمر له بالتصرف بعد الموت، مثل أن يوصي شخص بشيء من ماله إلى زيد، فهذا الموصى إليه يجوز أن يتصرف فيما وصي فيه بما يراه أصلح، وهو ليس بمالك، ولكنه قائم مقام المالك.
الناظر هو الذي جعل على الوقف، أي: وكل في الوقف، مثل أن يقول رجل: هذا البيت وقف على الفقراء والمساكين، والناظر عليه فلان ابن فلان، فهذا ـ أيضاً ـ يصح تصرفه مع أنه ليس بمالك، لكنه قائم مقام المالك، ونسمي هذا ناظراً، وقد وقف عمر ـ رضي الله عنه ـ ما ملكه في خيبر، وقال: تليه حفصة، ثم ذوو الرأي من آله[(3)]، فحفصة جعلها عمر ـ رضي الله عنهما ـ ناظرة على وقفه.
الولي: هو من يتصرف لغيره بإذن الشارع.
والولاية نوعان: عامة وخاصة.
فالعامة ولاية الحكام، كالقضاة مثلاً، فإن لهم ولاية عامة على الأموال المجهول مالكها، وعلى أموال اليتامى إذا لم يكن لهم ولي خاص، وعلى غير ذلك.
أما الولاية الخاصة فهي الولاية على اليتيم من شخص خاص، كولاية العم على ابن أخيه اليتيم، وجعلنا هذا وليّاً ولم نجعله وكيلاً؛ لأنه استفاد تصرفه عن طريق الشرع، والوكيل والوصي والناظر عن الطريق الخاص بالمالك، أما الولي فولايته مستفادة من الشرع.
وعلى هذا، فإذا وكل إنسان إنساناً في بيع شيء فباعه صح، مع أن الوكيل ليس بمالك، ولكنه قائم مقام المالك، لكن يجب على الوكيل أن يتصرف بما يراه أصلح، فإذا كانت السلعة تزيد فإنه لا يبيعها حتى تنتهي الزيادة، بخلاف الذي يتصرف لنفسه فإنه يجوز أن يبيع السلعة بما هو دون، والفرق بينهما أن المتصرف لغيره يجب أن يتصرف بالأحظ، والمتصرف لنفسه يتصرف بما شاء، فمثلاً لو أعطيت هذا الرجل مسجلاً يبيعه، فصار الناس يزيدون في المسجل حتى بلغ مائة أو مائتين، فلا يجوز له أن يبيعه والناس يزيدون فيه حتى يقف السعر، لكن لو باعه مالكه بمائة ريال وهو يساوي مائتين جاز؛ لأن المالك يتصرف لنفسه، وذاك يتصرف لغيره.
وانظر إلى هذه المسألة وهي التصرف للغير بالأحظ، حتى في العبادات، فالإمام يجب أن يصلي بالناس حسب السنة، وغيره يصلي ما شاء، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ((إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف، وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء)) [(4)].

فَإِن بَاعَ مُلْكَ غَيْرِهِ أَوْ اشْتَرَى بِعَيْنِ مَالِهِ بِلاَ إِذْنِهِ لَمْ يَصِح وَإِن اشْتَرَى لَهُ فِي ذِمَّتِهِ بِلاَ إِذْنِهِ وَلَمْ يُسَمِّهِ فِي العَقْدِ صَحَّ لَهُ بِالإِجَازَة، وَلَزِمَ المُشْتَرِيَ بِعَدَمِهَا مُلْكاً......
قوله: «فإن باع ملك غيره» لم يصح؛ لأنه ليس المالك لفوات الشرط وهو الملك، فلو باع ملك أبيه أو ملك ابنه لم يصح.
فإن قال قائل: أليس الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: ((أنت ومالك لأبيك)) [(5)]؟ قلنا: بلى، لكن إذا أراد الأب أن يبيع ملك ابنه فليتملكه أولاً ثم يبيعه ثانياً؛ لأنه قبل تملكه مِلْكٌ لابنه، فنحن نقول: لا مانع، تملك هذا المال، ثم بعه، أما أن تبيعه، وهو على ملك ابنك بدون إذنه فلا تملك ذلك.
قوله: «أو اشترى بعين ماله بلا إذنه لم يصح» مثاله: إنسان أعطاك دراهم، وقال: خذ هذه الدراهم وأوصلها إلى فلان، فأنت الآن أمين مرسل، فمررت بالسوق ومعك هذه الدراهم فاشتريت سلعة بهذه الدراهم، أي: قلت للبائع: اشتريت منك هذا الثوب بهذه الدراهم، إذاً اشترى بعين المال، فالبيع لا يصح؛ لأن شراءه بعين المال كبيعه عين المال، فكما أنه لا يجوز أن آخذ كتاب زيد وأبيعه كذلك لا يجوز أن أشتري بعين ماله، فالشراء بعين المال هو بيع لعين المال في الواقع، وعلى هذا فلا يصح، وظاهر كلام المؤلف أن هذا لا يصح، وإن كان فيه مصلحة، وظاهر كلامه ـ أيضاً ـ أنه لا يصح وإن أجازه المالك لفوات الشرط.
والصحيح أنه إذا أجازه المالك صح البيع، والدليل على ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وكل عروة بن الجعد ـ رضي الله عنه ـ أن يشتري له أضحية وأعطاه ديناراً، فاشترى أضحيتين بدينار واحد، ثم باع إحداهما بدينار، وُكِّل بأن يشتري أضحية فاشترى أضحيتين، وهذا فيه مصلحة لا شك، ثم باع واحدة من الأضحيتين بدينار، وهذا فيه مصلحة أيضاً، فرجع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بديناره وشاة فقال (ص): ((اللهم بارك له في بيعه)) [(6)]، فكان لا يتجر في شيء إلا ربح فيه ببركة دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعلى كلام المؤلف يكون هذا التصرف غير صحيح، ولكن الصحيح أنه جائز ونافذ إذا أجازه المالك.
فإن قال قائل: هل يجوز للإنسان أن يقدم على بيع ملك غيره بدون إذنه؟
قلنا: يجوز بقرينة، والقرينة هي أن أعرف أن صاحبي يريد أن يبيع بيته، فجاء إنسان واشترى البيت بمائة ألف، وهو يساوي تسعين، وأنا أعرف أن صاحب البيت يريد بيعه فيجوز لي أن أبيعه بمائة ألف؛ لأن هذا فيه مصلحة، فالرجل يريد أن يبيع بيته بتسعين فإذا جاء إنسان يشتريه بمائة فهذا مصلحة فيجوز أن أقدم على التصرف، وإلا فالأصل منع الإقدام على التصرف؛ لأنه ملك غيرك، لكن إذا رأيت المصلحة في ذلك فلا بأس.
وقوله: «اشترى بعين ماله» هذه أقل شأناً من الأولى؛ لأن الإنسان لا يهمه أن يأخذ هذا الدرهم أو هذا الدرهم، فإذا اشترى بعين ماله فالمذهب أن ذلك لا يصح؛ لأنه كبيع عين ماله؛ لأن العقد وقع على عين الدراهم المملوكة لغيره.
ولكن قد يقال بالفرق؛ لأن المشتري بعين ماله إذا أعطى صاحب الدراهم دراهمَ لا يهمه أن يعطيه دراهمه الأولى أو دراهم بدلها.
قوله: «إن اشترى له» أي للغير.
قوله: «في ذمته» أي: لا بعين ماله؛ لأن العقد إذا كان في الذمة لم يقع على ملك غيره لكن الممنوع أن يتصرف في ملك غيره، وأما الذمة فهي أوسع.
قوله: «بلا إذنه ولم يسمه في العقد صح له» أي: للغير.
قوله: «بالإجازة ولزم المشتري بعدمها» أي: بعدم الإجازة.
قوله: «ملكاً» أي: للمشتري.
وصورة المسألة: أعلم أن فلاناً يريد أن يشتري ساعة فوقفت على صاحب الساعات واشتريت لفلان في ذمتي وهو لم يوكلني، ولم يأذن لي، ولم أقل للبائع: اشتريت لفلان، ثم قلت للرجل الذي اشتريت له: إني اشتريت لك ساعة، فإن أجاز فالملك له، وإن لم يجز فالملك لي.
مثال آخر: أعرف أن فلاناً يريد أن يشتري شاة للدرِّ، أي: ليحلبها، فاشتريت له شاة ممن يبيع الغنم، ولم أقل: إنها لفلان ولم أسمه في العقد، ثم قلت لصاحبي الذي اشتريت له: اشتريت لك شاة، فقال: قبلت ذلك، فهي لمن اشتراها له، واللبن الذي حصل بعد العقد للذي اشتراها له، لأنه نماء ملكه.
فإن قال: لا أريدها فهي للمشتري، فتلزمه.
ولهذا قال: «ولزم المشتري بعدمها» أي بعدم الإجازة.
«ملكاً له» أي للمشتري، ويتملكها من العقد، وعلى هذا فيكون اللبن للمشتري، وهذه الصورة هي الصورة الوحيدة التي يصح فيها التصرف الفضولي على المذهب.
فإن اشترى له بعين ماله لا في ذمته فإنه لا يصح البيع، بأن قال للذي يبيع الغنم: أعطني بهذه الدراهم شاة ونواها لفلان فإن العقد لا يصح؛ لأنه اشترى له بعين ماله لا بذمته، وكذلك لو سمَّاه فقال لصاحب الغنم: اشتريت منك هذه الشاة بمائة لفلان، ثم اقتاد الشاة وأوصلها إلى فلان، فقبل بذلك، لم يصح البيع؛ لأنه سماه في العقد، وهو إذا سماه في العقد صار شراؤه له بالوكالة، وهو لم يوكله، ولهذا قالوا: إذا سماه في العقد لا يصح البيع؛ لأنه إذا سماه في العقد فقد نزَّل نفسه منزلة الوكيل، والواقع أنه لم يوكله.
والقول الثاني في المسألة، أنه يصح كما ذكرناه في السابق، من أن تصرف الفضولي إذا أجازه من تُصُرِّفَ له فهو صحيح، وقد ذكرنا الدليل والتعليل.
وإذا لم يجز لزم المشتري، فلا يملك المشتري أن يرده على البائع ويقول: أنا اشتريته لفلان، ولكنه لم يقبل، فالبائع له أن يرفض ويقول: أنت اشتريت مني على أنك أنت المشتري فيلزمك.
فإن قال قائل: هل الأولى أن يقبل المُشْتَرى له ذلك العقد أو الأولى ألاّ يقبل؟
قلنا: الأولى أن يقبل، لا سيما إذا علمنا أن هذا المشتري إنما اشتراها اجتهاداً لا تغريماً وإخساراً، فإنه لا ينبغي أن يجازى المحسن بالإساءة؛ لأنه ربما يكون ثمن السلعة باهظاً جدّاً، وهذا المشتري ليس عنده مال، فالأولى للمُشترى له أن يقبل ولو كان عليه بعض الغضاضة.

وَلاَ يُبَاعُ غَيْرُ المساكِنِ مِمَّا فُتِحَ عَنْوَةً كَأرْضِ الشّامِ وَمِصْرَ وَالعِرَاقِ بَلْ تُؤَجَّرُ ....
قوله: «ولا يباع غير المساكن مما فتح عنوة كأرض الشام ومصر والعراق» ذكر المؤلف هذا تفريعاً على اشتراط كون البائع مالكاً.
فقوله: «المساكن» الدور فتشمل البناء والأرض، البناء: المساكن، والأرض هي الأرض البيضاء التي ليس عليها بناء، أو أرض البناء التي بُني عليها، فهذه الأرض أو هذه المساكن إذا باعها بأرضها فالبيع غير صحيح، وإن باع المساكن فالبيع صحيح في الأراضي التي فتحت عنوة.
ومعنى عنوة، أي: قهراً وقوة.
وقوله: «كأرض الشام ومصر والعراق» إذا قيل: الشام عند العلماء فإنه يشمل سوريا وفلسطين والأردن وكل ما كان شمال الجزيرة العربية، فأرض الشام ومصر والعراق لا يباع فيها إلا المساكن، وأما الأرض نفسها فإنها لا تباع؛ لأن عمر ـ رضي الله عنه ـ وقفها[(7)]، والوقف لا يباع، فعمر ـ رضي الله عنه ـ لما فتح هذه الأمصار، رأى أن قسمها بين الغانمين يحرم الأجيال المستقبلة من أجيال المسلمين، فرأى أن يقفها، ويضرب عليها خراجاً، أي: كالأجرة يؤخذ منها كل سنة فصارت وقفاً، والوقف لا يجوز بيعه، وهذا الذي مشى عليه المؤلف.
وأما المساكن في هذه الأراضي فتباع؛ لأن المساكن ملك للساكن فهو الذي أقام البناء حتى استقام، فله ثمن هذا البناء الذي أقامه فيصح العقد عليه، أما الأرض فلا.
قوله: «بل تؤجر» الحمد لله لم ينسد الباب، نقول: لا تبعها، ولكن أجرها، والأجرة لك؛ لأن الأجرة في مقابل المنفعة لا في مقابل العين، فلهذا جاز تأجيرها، ولم يجز بيعها، وهذا القول ضعيف جدّاً[(8)].
والصواب: أن بيعها حلال جائز وصحيح، وسواء المساكن أو الأراضي، وينزل المشتري منزلة البائع في أداء الخراج المضروب على الأرض، وكان هذا فيما مضى، أما الآن فلا خراج ولا وقف، لكن لا بد أن نفهم الحكم الشرعي.
أما الأمر الواقع فالناس يتبايعون الأراضي والمساكن والبساتين من غير نكير، بل هو شبه إجماع، ولهذا يعتبر هذا القول ضعيفاً جدّاً، فالصواب جواز بيع المساكن والأرض.
ثم هذا الوقف ليس وقفاً خاصّاً، حتى نقول: إن الأوقاف الخاصة لا تباع إلا أن تتعطل منافعها، فهذا وقف عام على المسلمين عموماً، فليس له مستحق خاص، وإذا كان كذلك كان منع المسلمين من تداوله بالبيع من أشق ما يكون على الناس، ورفع الحرج معلوم في الشريعة الإسلامية.
مسألة: لم يذكر الماتن بيوت مكة، لكن ذكرها الشارح؛ فبيوت مكة لا يجوز بيعها ولا إجارتها، فهي أضيق مما فتح عنوة، ودليلهم حديث ((رباع مكة حرام بيعها، حرام إجارتها)) ، ولكنه حديث ضعيف لا تقوم به حجة[(9)]، وهذا لو عمل الناس به لكان فيه إشكال كبير، لكن فَرَّج الفقهاء الذين يقولون بالتحريم للناس فقالوا: فإن لم يجد ما يسكنه إلا بأجرة لم يأثم بدفعها، والإثم على المؤجر؛ لأنه لا يستحق ذلك، وهذا في مكة، فما بالك بالمشاعر التي يتحتم على الإنسان أن يبقى فيها، فيكون بيعها أولى بالتحريم؛ ولهذا لا شك أن الذين بنوا في منى أو مزدلفة أو عرفة، غاصبون وآثمون؛ لأن هذا مشعر لا بد للمسلمين من المكوث فيه، فهو كالمساجد، فلو جاء إنسان إلى مسجد جامع كبير وبنى له غرفة في المسجد، وصار يؤجرها، كان حراماً، والآن منى مشعر يجب على المسلمين أن يبقوا فيها، والمبيت فيها واجب من واجبات الحج، فإذا جاء إنسان وبنى فيها وصار يؤجرها للناس فهو لا شك غاصب، آثم، ظالم، ولا يحل له ذلك، وهو أشد إثماً ممن يبيع المساكن في مكة؛ لأن المساكن في مكة لا يلزم الإنسان أن يبقى فيها، إذ يجوز أن يبقى في الخارج وينزل.
واختار شيخ الإسلام جواز البيع دون الإجارة لقوله تعالى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] ، وقيل: يجوز بيعها وإجارتها وهذا مذهب الشافعي، وحجتهم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قيل له عام الفتح: أتنزل غداً في دارك؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من دار أو رباع ؟![(10)] وعقيل هو الذي ورث أبا طالب، وظاهر هذا الحديث أن بيوت مكة تملك، وإذا ملكت جاز بيعها، وجازت إجارتها، وما ذهب إليه الشافعي وغيره هو الذي نصره الموفق في المغني، وأيده بأدلة كثيرة وقال: إن الصحيح جواز البيع والإجارة في بيوت مكة، والعمل على هذا القول، وأما القول بأنه لا يجوز بيعها ولا إجارتها فهو قول ضعيف، وأما ما ذهب إليه شيخ الإسلام فهو وإن كان فيه شيء من القوة، فإنه يمكن أن يجاب عنه بأن الآية في أمكنة المشاعر، فهذه لا شك أنها لا تملك.
فصارت البلاد ثلاثة أقسام:
الأول: ما يجوز بيعه وإجارته.
الثاني: ما تجوز إجارته دون بيعه.
الثالث: ما لا يجوز بيعه ولا إجارته.
فالذي فتح عنوة تجوز إجارته دون بيعه، إلا المساكن، ومكة لا يجوز بيعها ولا إجارتها، وبقية الأماكن يجوز بيعها وإجارتها كأرض المدينة وبيت المقدس وبقية الأراضي.
وقوله: «ولا يباع غير المساكن مما فتح عنوة» يؤخذ منه أنه يجوز بيع الأرض والمساكن مما فتح صلحاً، وهو كذلك؛ وذلك أن أرض العدو إما أن تفتح عنوة، وإما أن تفتح صلحاً على أنها لهم ونقرها معهم بالخراج، وإما أن تفتح صلحاً على أنها لنا، فإن كانت لهم فهي ملكهم يتصرفون فيها، وإن كانت لنا فهي ملكنا نتصرف فيها، هذا إذا كانت صلحاً، أما العنوة فقد بينا حكمها.
وَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ نَقْع البِئْرِ وَلاَ ما نَبَتَ فِي أرْضِهِ مِنْ كَلأٍ وَشَوْكٍ، وَيَمْلِكُهُ آخِذُهُ، ..
قوله: «ولا يصح بيع نقع البئر» نقع البئر هو ماء البئر الذي نبع من الأرض، فلا يجوز بيع هذا الماء؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: ((الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار)) [(11)]؛ ولأن هذا الماء لم يخرج بقدرة الإنسان؛ بل بقدرة الله عزّ وجل، فقد يحفر الإنسان بئراً عميقاً ولا يخرج الماء فليس من كَدِّه ولا فعله، بل هو سبب، فلذلك لا يملكه، وإذا كان لا يملكه فإنه لا يصح بيعه، أما إذا ملكه وحازه وأخرجه ووضعه في البركة، فإنه يجوز بيعه؛ لأنه صار ملكاً له بالحيازة.
إذا قلنا: لا يصح بيع نقع البئر، فلو جاء إنسان وَرَكَّبَ على بئري ما يستخرج به الماء، فهل لي أن أمنعه؟
الجواب: إذا لم يكن في ذلك عليّ ضرر فليس لي أن أمنعه، وإن كان علي ضرر فإن لي أن أمنعه.
والضرر مثل أن أتضرر بكونه يتخطى ملكي إلى البئر، أو بكونه يطلع على عورات النساء، أو بكونه يقلل الماء علي.
فالمهم أنه إذا لم يكن علي ضرر فإن الواجب علي أن أمكنه من أن يضع على بئري ما يستقي به الماء.
قوله: «ولا ما نبت في أرضه من كلأ وشوك» الكلأ هو العشب، والشوك الشجر، فما ينبت في الأرض بفعل الله ـ عزّ وجل ـ فإنه لا يجوز لي أن أبيعه؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: ((الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار)) [(12)] فلا يصح بيع ما أنبته الله ـ تعالى ـ في ملكي من كلأ أو شوك.
فإن كنت أحتاجه لرعي إبلي أو بقري أو غنمي فأنا أحق به، ولي أن أمنع منه؛ لأنني أحق به، أما إذا كنت لا أحتاجه فليس لي أن أمنع من يريد أخذه، إلا إذا كان يلحقني في ذلك ضرر فلي أن أمنعه؛ لأنه لا يمكن أن يُرتَكب الضرر لمصلحة الغير وصاحب الأرض أحق به.
وقوله: «ولا ما نبت في أرضه» علم منه أن ما أنبته الإنسان في أرضه فله بيعه، كما لو غرس نخلاً أو شجراً، أو زرع زرعاً فإنه ملكه له أن يبيعه.
فما نبت في أرضه من الزرع والشجر في بيعه تفصيل:
أولاً: إذا أنبته هو فهو ملكه، ويجوز بيعه، لكن الزروع لا بد أن تشتد كما سيأتي إن شاء الله.
ثانياً: إذا كان من عند الله لم يتسبب فيه، فإنه لا يجوز؛ لأن الناس شركاء فيه وهذا هو القول الأول[(13)].
القول الثاني: أنه إن استنبته فهو له يملكه، ويجوز بيعه، وإلا فلا، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، ومعنى استنباته أن يحرث الأرض حتى تكون قابلة للنبات إذا نزل المطر، أو أن يدع الأرض لا يحرثها لزرعه الخاص ترقباً لما ينبت عليها من الكلأ والحشيش؛ لأنه الآن باختياره أن يحرث الأرض ولا تنبت إلا ما زرعه هو.
وهذا أشبه ما يكون بالصواب كما قلنا في أحواض الماء التي يعدها لاستقبال الماء، فإذا جاء الماء ونزل فيها صار ملكه.
القول الثالث: أن له بيعه وأن قوله: ((الناس شركاء في ثلاث)) [(14)] في غير الأرض المملوكة، أما الأرض المملوكة فإن ما نبت عليها يتبعها فيكون ملكاً له، فالأقوال إذاً ثلاثة.
قوله: «ويملكه آخذه» يملكه الضمير يعود على نقع البئر، وعلى ما ينبت في أرضه من كلأ وشوك، فلو أن رجلاً دخل على بستان شخص وحشَّ الحشيش، وقطع الشجر فإنه يكون ملكاً له؛ لأنه حازه.
فإذا قال صاحب الأرض: لماذا اعتديت على أرضي وأخذته؟
قلنا له: هو أخطأ في اعتدائه، ولكنه ملكه بحوزه، ولهذا قال: «يملكه آخذه» .



[1] أخرجه الإمام أحمد (3/402، 434)؛ وأبو داود في البيوع/ باب في الرجل يبيع ما ليس عنده (3503)؛ والنسائي في البيوع/ باب بيع ما ليس عند البائع (7/289)؛ والترمذي في البيوع/ باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عنده (1232)؛ وابن ماجه في التجارات/ باب النهي عن بيع ما ليس عندك (2187).
وقال الترمذي: «حديث حسن»، وصححه ابن حزم (5/519)؛ وصححه في «الإرواء» (5/132).
[2] أخرجه البخاري في المناقب/ باب علامات النبوة (3642) عن عروة ـ رضي الله عنه ـ.
[3] أخرجه أبو داود في الوصايا/ باب ما جاء في الرجل يوقف الوقف (2879)؛ والبيهقي (6/160). وإسناده صحيح كما في «الإرواء» (6/30).
وأصل الحديث متفق عليه من حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ دون ذكر من يلي الوقف، أخرجه البخاري في الشروط/ باب الشروط في الوقف (2737)؛ ومسلم في الوصية/ باب الوقف (1632).
[4] أخرجه البخاري في الأذان/ باب إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء (703)؛ ومسلم في الصلاة/ باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام (467) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
[5] أخرجه ابن ماجه في التجارات/ باب ما للرجل من مال ولده (2291)، عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ. وصححه البوصيري على شرط البخاري، وصححه ابن حبان (410) إحسان، عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.
وأخرجه الإمام أحمد (2/179، 204، 214)؛ وأبو داود في البيوع/ باب الرجل يأكل من مال ولده (3530)؛ وابن ماجه في التجارات/ باب ما للرجل من مال ولده (2292)، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وحسن إسناده في «الإرواء» (3/325).
[6] سبق تخريجه ص(128).
[7] سبق تخريجه ص(34).
[8] وهو المذهب.
[9] أخرجه الدارقطني (3/57)؛ والحاكم (2/53)؛ والبيهقي (6/35) عن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ وضعفه البيهقي، والذهبي، وصوب الدارقطني وقفه، وروي بلفظ: ((مكة لا تباع ولا تكرى بيوتها)) ، أخرجه الدارقطني (3/58)؛ والحاكم (2/53)؛ والبيهقي (6/35) عن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ وضعفه الدارقطني والبيهقي.
[10] أخرجه البخاري في الحج/ باب توريث دور مكة وبيعها وشرائها (1588)؛ ومسلم في الحج/ باب نزول الحاج بمكة وتوريث دورها (1351) عن أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ.
[11] أخرجه الإمام أحمد (5/364)؛ وأبو داود في الإجارة/ باب في منع الماء (3477) عن رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأخرجه ابن ماجه في الأحكام/ باب المسلمون شركاء في ثلاث (2472) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وضعفه البوصيري، وأخرجه ابن ماجه في الموضع السابق عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ مرفوعاً (2473) ولفظه: «ثلاث لا يمنعن...»، وصححه البوصيري والحافظ في «التلخيص» (1304).
[12] سبق تخريجه ص(139).
[13] وهو المذهب.
[14] سبق تخريجه ص(139).


 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
من, الرابع

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:33 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir