سورة الأعلى
قال محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (ت: 1393هـ): (سورة الأعلى
قوله تعالى: {سنقرئك فلا تنسى* إلاّ ما شاء الله} الآية [الأعلى: 6-7].
هذه الآية الكريمة تدلّ على أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ينسى من القرآن ما شاء الله أن ينساه، وقد جاءت آياتٌ كثيرةٌ تدلّ على حفظ القرآن من الضياع، كقوله تعالى: {لا تحرّك به لسانك لتعجل به * إنّ علينا جمعه وقرآنه} [القيامة: 16-17]، وقوله: {إنّا نحن نزّلنا الذّكر وإنّا له لحافظون} [الحجر: 9].
والجواب: أنّ القرآن وإن كان محفوظاً من الضياع، فإن بعضه ينسخ بعضاً، وإنساء الله نبيّه صلى الله عليه وسلم بعض القرآن في حكم النسخ، فإذا أنساه آيةً فكأنّه نسخها، ولا بدّ أن يأتي بخيرٍ منها أو مثلها، كما صرّح به تعالى في قوله: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها نأت بخيرٍ منها أو مثلها} [البقرة: 106]، وقوله تعالى: {وإذا بدّلنا آيةً مكان آيةٍ والله أعلم بما ينزّل} الآية [النحل:101].
وأشار هنا لعلمه بحكمة النسخ بقوله: {إنّه يعلم الجهر وما يخفى} [الأعلى: 7].
وقوله تعالى: {فذكّر إن نفعت الذّكرى} [الأعلى: 9].
هذه الآية الكريمة يفهم منها أنّ التذكير لا يطلب إلاّ عند مظنّة نفعه؛ بدليل (إن) الشرطية.
وقد جاءت آياتٌ كثيرةٌ تدلّ على الأمر بالتذكير مطلقاً، كقوله: {فذكّر إنّما أنت مذكّرٌ} [الغاشية: 21]، وقوله: {ولقد يسّرنا القرءان للذّكر فهل من مدّكر} [القمر الآيات: 17].
وأجيب عن هذا بأجوبةٍ كثيرةٍ:
منها: أنّ في الكلام حذفاً؛ أي: إن نفعت الذّكرى، وإن لم تنفع، كقوله: {سرابيل تقيكم الحرّ} [النحل: 81]. أي: والبرد، وهو قول الفرّاء والنحاس والجرجانيّ وغيرهم.
ومنها: أنها بمعنى (إذ). وإتيان (إن) بمعنى (إذ) مذهب الكوفيّين خلافاً للبصريّين.
وجعل منه الكوفيّون قوله تعالى: {اتّقوا الله إن كنتم مؤمنين} [المائدة: 112]، وقوله تعالى: {وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} [آل عمران: 139]، وقوله تعالى: {وعلى الله فتوكّلوا إن كنتم مؤمنين} [المائدة:23]، وقوله: {لتدخلنّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين} [الفتح: 27].
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: ((وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون)).
وقول الفرزدق:
أتغضب إن أذنا قتيبة حزّتا ... جهاراً ولم تغضب لقتل ابن خازم
وأجاب البصريّون عن آيات: {إن كنتم مؤمنين} بأنّ فيها معنى الشرط، جيء به للتهييج. وعن آية: {إن شاء الله} والحديث بأنّهما تعليمٌ للعباد كيف يتكلّمون إذا أخبروا عن المستقبل. وعن البيت بجوابين:
أحدهما: أنّه من إقامة السبب مقام المسبّب، والأصل: أتغضب إن افتخر مفتخرٌ بحزّ أذني قتيبة، إذ الافتخار بذلك يكون سبباً للغضب، ومسبّباً عن الحزّ.
الثاني: تغضب إن تبيّن في المستقبل أنّ أذني قتيبة حزّتا.
ومنها: أنّ معنى: {إن نفعت الذّكرى} الإرشاد إلى التذكير بالأهمّ، أي: ذكّر بالمهمّ الذي فيه النّفع دون ما لا نفع فيه.
فيكون المعنى: ذكّر الكفار -مثلاً- بالأصول التي هي للتوحيد، لا بالفروع؛ لأنها لا تنفع دون الأصول، وذكّر المؤمن التارك لفرضٍ -مثلاً- بذلك الفرض المتروك، لا بالعقائد ونحو ذلك؛ لأنّه أنفع.
ومنها: أنّ (إن) بمعنى (قد). وهو قول قطربٍ.
ومنها: أنّها صيغة شرطٍ أريد بها ذمّ الكفار واستبعاد تذكّرهم. كما قال الشاعر:
لقد أسمعت لو ناديت حيًّا ... ولكن لا حياة لمن تنادي
ومنها غير ذلك.
والذي يظهر لمقيّد هذه الحروف -عفا الله عنه- هو بقاء الآية الكريمة على ظاهرها، وأنه صلّى الله عليه وسلّم بعد أن يكرّر الذّكرى تكريراً تقوم به حجّة الله على خلقه مأمورٌ بالتذكير عند ظنّ الفائدة، أمّا إذا علم الفائدة فلا يؤمر بشيءٍ هو عالمٍ أنّه لا فائدة فيه؛ لأنّ العاقل لا يسعى إلى ما لا فائدة فيه.
وقد قال الشاعر:
لما نافعٌ يسعى اللّبيب فلا تكن ... لشيءٍ بعيدٍ نفعه الدّهر ساعياً
وهذا ظاهرٌ، ولكنّ الخفاء في تحقيق المناط.
وإيضاحه: أن يقال: بأيّ وجهٍ يتيقّن عدم إفادة الذكرى، حتى يباح تركها؟
وبيان ذلك: أنه تارةً يعلمه بإعلام الله به، كما وقع في أبي لهبٍ، حيث قال تعالى فيه: {سيصلى ناراً ذات لهبٍ * وامرأته}الآية [المسد: 3-4].
فأبو لهبٍ هذا وامرأته لا تنفع فيهما الذّكرى؛ لأن القرآن نزل بأنهما من أهل النار، بعد تكرار التذكير لهما تكراراً تقوم عليهما به الحجّة، فلا يلزم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد علمه بذلك أن يذكّرهما بشيءٍ؛ لقوله تعالى في هذه الآية: {فذكّر إن نفعت الذّكرى}.
وتارةً يعلم ذلك بقرينة الحال، بحيث يبلّغ على أكمل وجهٍ، ويأتي بالمعجزات الواضحة، فيعلم أنّ بعض الأشخاص عالمٌ بصحّة نبوّته، وأنه مصرٌّ على الكفر عناداً ولجاجاً. فمثل هذا لا يجب تكرير الذّكرى له دائماً، بعد أن تكرّر عليه تكريراً تلزمه به الحجّة.
وحاصل إيضاح هذا الجواب: أنّ الذّكرى تشتمل على ثلاث حكمٍ:
الأولى: خروج فاعلها من عهدة الأمر بها.
الثانية: رجاء النفع لمن يوعظ بها، وبيّن الله تعالى هاتين الحكمتين بقوله تعالى: {قالوا معذرةً إلى ربّكم ولعلّهم يتّقون} [الأعراف: 164].
وبيّن الأولى منهما بقوله تعالى: {فتولّ عنهم فما أنت بملومٍ} [الذاريات: 54]، وقوله تعالى: {إن عليك إلاّ البلاغ} [الشورى: 48]، ونحوها من الآيات. وبيّن الثانية بقوله: {وذكّر فإنّ الذّكرى تنفع المؤمنين} [الذاريات: 55].
الثالثة: إقامة الحجّة على الخلق، وبيّنها تعالى بقوله: {رسلاً مبشّرين ومنذرين لئلاّ يكون للنّاس على الله حجّةٌ بعد الرّسل} [النساء: 165]، وبقوله: {ولو أنّا أهلكناهم بعذابٍ من قبله لقالوا ربّنا لولا أرسلت إلينا رسولاً} الآية [طه:134].
فالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا كرّر الذّكرى حصلت الحكمة الأولى والثالثة، فإن كان في الثانية طمعٌ استمرّ على التذكير، وإلاّ لم يكلّف بالدوام. والعلم عند الله تعالى.
وإنما اخترنا بقاء الآية على ظاهرها -مع أنّ أكثر المفسّرين على صرفها عن ظاهرها المتبادر منها، وأنّ معناها: فذكّر مطلقاً إن نفعت الذّكرى، وإن لم تنفع-؛ لأننا نرى أنه لا يجوز صرف كتاب الله عن ظواهره المتبادرة منه إلا لدليلٍ يجب الرجوع له.
وإلى بقاء هذه الآية على ظاهرها جنح ابن كثيرٍ حيث قال في تفسيرها: أي ذكّر حيث تنفع التّذكرة. ومن هنا يؤخذ الأدب في نشر العلم، فلا يضعه في غير أهله، كما قال عليٌّ رضي الله عنه: ما أنت بمحدّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلاّ كان فتنةً لبعضهم. وقال: حدّثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذّب الله ورسوله.
تنبيهٌ
هذا الإشكال الذي في هذه الآية، إنما هو على قول من يقول باعتبار دليل الخطاب -الذي هو مفهوم المخالفة-، وإمّا على قول من لا يعتبر مفهوم المخالفة شرطاً كان أو غيره كأبي حنيفة فلا إشكال في الآية.
وكذلك لا إشكال فيها على قول من لا يعتبر مفهوم الشرط كالباقلاّنيّ، فتكون الآية نصّت على الأمر بالتذكير عند مظنّة النفع، وسكتت عن حكمه عند عدم مظنّة النّفع، فيطلب من دليلٍ آخر، فلا تعارض الآية الآيات الدالة على التذكير مطلقاً). [دفع إيهام الاضطراب: 347-352]