قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ لتحكم بين النّاس بما أراك اللّه ولا تكن للخائنين خصيماً (105) واستغفر اللّه إنّ اللّه كان غفوراً رحيماً (106) ولا تجادل عن الّذين يختانون أنفسهم إنّ اللّه لا يحبّ من كان خوّاناً أثيماً (107)
في هذه الآية تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وتفويض إليه، وتقويم أيضا على الجادة في الحكم، وتأنيب ما على قبول ما رفع إليه في أمر بني أبيرق بسرعة، وقوله تعالى: بما أراك اللّه معناه: على قوانين الشرع، إما بوحي ونص، أو بنظر جار على سنن الوحي، وقد تضمن الله تعالى لأنبيائه العصمة، وقوله تعالى: ولا تكن للخائنين خصيماً، واستغفر اللّه إنّ اللّه كان غفوراً رحيماً سببها باتفاق من المتأولين أمر بني أبيرق، وكانوا إخوة، بشر وبشير ومبشر، وكان بشير رجلا منافقا يهجو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وينحل الشعر غيره، فكان المسلمون يقولون: والله ما هو إلا شعر الخبيث، فقال شعرا يتصل فيه، فمنه قوله:
أفكلما قال الرجال قصيدة = نحلت وقالوا: ابن الأبيرق قالها
قال قتادة بن النعمان: وكان بنو أبيرق أهل فاقة، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من دومك الشام فجعله في مشربة له، وفي المشربة درعان له وسيفان، فعدي على المشربة من الميل فنقبت وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال: يا بن أخي، تعلم أنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا وذهب بطعامنا وسلاحنا، فقال: فتحسسنا في الدار وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ولا نراه إلا على بعض طعامكم، قال: وقد كان بنو أبيرق قالوا: «ونحن نسأل» والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل، رجل منا له صلاح وإسلام، فسمع ذلك لبيد فاخترط سيفه ثم أتى بني أبيرق فقال: والله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة، قالوا: إليك عنا أيها الرجل، فو الله ما أنت بصاحبنا فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها فقال لي عمي: يا بن أخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بهذه القصة، فأتيته عليه السلام فقصصتها عليه، فقال: انظر في ذلك، فلما سمع بذلك بنو أبيرق، أتوا رجلا منهم يقال له: أسير بن عروة فكلموه في ذلك، واجتمع إليه ناس من أهل الدار، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة على بينة، قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته، قال: عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح فرميتهم بالسرقة عن غير بينة، قال: فرجعت وقد وددت أن أخرج عن بعض مالي ولم أكلمه، فأتيت عمي فقال: ما صنعت؟ فأخبرته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الله المستعان، فلم نلبث أن نزل القرآن إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ الآيات. فالخائنون بنو أبيرق، والبريء المرمي لبيد بن سهل، والطائفة التي همت: أسير وأصحابه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقال قتادة وغير واحد من المتأولين: هذه القصة ونحوها إنما كان صاحبها طعمة بن أبيرق، ويقال فيه: طعيمة، وقال السدي: القصة في طعمة بن أبيرق لكن بأن استودعه يهودي درعا فجحده إياها وخانه فيها وطرحها في دار أبي مليل الأنصاري، وأراد أن يرميه بسرقتها لما افتضح، وأبو مليل هو البريء المشار إليه، وقال عكرمة: سرق طعمة بن أبيرق درعا من مشربة ورمى بسرقتها رجلا من اليهود يقال له: زيد بن السمين.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وجملة هذا يستدير على أن قوم طعمة أتوا النبي وكلموه في أن يذب عن طعمة ويرفع الدعوى عنه، ودفعوا هم عنه ومنهم من يعلم أنه سرق، فكانت هذه معصية من مؤمنيهم، وخلق مقصود من منافقيهم فعصم الله رسوله من ذلك، ونبه على مقاله لقتادة بن النعمان بقوله: ولا تكن للخائنين خصيماً
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وطعمة بن أبيرق صرح بعد ذلك بالارتداد وهرب إلى مكة، ونزل على سلافة فرماها حسان بن ثابت بشعر، فأخذت رحل طعمة ورمت به في الأبطح وقالت:
اخرج عنا، أهديت إليّ شعر حسان، فروي: أنه نزل على الحجاج بن علاط وسرقه فطرده، وروي أنه نقب حائط بيت ليسرقه فانهدم الحائط عليه فقتله، وروي: أنه اتبع قوما من العرب فسرقهم فقتلوه). [المحرر الوجيز: 3/15-18]