الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له
أما بعد:
فإن القراءة من أعظم سبل تحصيل العلم، وأكثرها شيوعاً ونفعاً إذا أحسن طالب العلم اختيار ما يقرأ، وأحسن القراءة وداوم عليها فإنه يبرع مبكراً ويحصل تحصيلاً عظيماً ، حتى يرى تفجر ينابيع العلم في جوفه ، ولا يدرك فضل هذه الطريقة إلا من جرب نفعها، وذاق حلاوتها فإنه لا يعدل عنها إلى غيرها
ولذلك كان أسلافنا مضرب المثل في الحرص على القراءة لما رأوا من عظيم نفعها وحسن أثرها عليهم
والآثار عنهم في ذلك كثيرة معروفة
ولعلنا نورد طرفاً من أخبارهم في ذلك في مجالس لاحقة بإذن الله
ويحسن التنبيه هاهنا لأمور:
الأمر الأول: أن يتجنب طالب العلم العشوائية في القراءة ومن صور العشوائية:
- أن يقرأ في كتاب ولا يتمه.
- وأن يقرأ في كتاب قبل حينه.
- وأن يقرأ ما لا يناسبه من الكتب.
- وأن يقرأ كتباً غيرها أهم منها وأولى مع تيسرها له.
فيصبح كالمتذبذب بين الكتب لا يحس من نفسه تقدماً يذكر في التحصيل
وغالب هؤلاء يشتكون من أمور كثيرة
منها: ذهاب الوقت وقلة الاستفادة.
ومنها: عدم تذكر كثير مما قرؤوا.
ومنها: الملل والسآمة من القراءة.
ومنها: الوسوسة في أمر القراءة، فتجد بعضهم شغوفاً بذكر القراءة وأهميتها ومع ذلك ليس له منهج يسير عليه في قراءة الكتب فيكثر من الكلام عن الكتب والقراءة وأهميتها والعزم على القراءة الكثيرة ولا ينفذ مما يعزم عليه إلا أقل القليل.
إن القراءة التي ينتفع بها طالب العلم لها سمات وميزات أهمها: وضوح المنهج لدى طالب العلم.
فتجده يرسم لنفسه خطة موصلة لبغيته فيسير على تنفيذ هذه الخطة بإحكام حتى يحصل ما يرجوه بإذن الله
ويراعي في هذه الخطة قابليتها للتنفيذ بلا إثقال مرهق ولا إقلال ممحق
ولتتضح هذه الصورة أضرب لكم مثالاً واحداً لعالم من العلماء أحسن القراءة فصار مضرب المثل في العلم وهو الإمام اللغوي أبو العباس أحمد بن يحيى الشيباني الملقب بثعلب، كان من الأئمة المبرزين في علم اللغة.
هذا الإمام أقبل على قراءة كتب الفراء فحذقها وعمره لم يجاوز الخامسة والعشرين، ثم استزاد عليها من كتب غيره ومما يتعلمه من شيوخه فصار إماماً ذا شأن عظيم لدى أهل العلم.
قال عنه ياقوت الحموي: ( إمام الكوفيين في النحو واللغة، والثقة، والديانة)
وقال الإمام أبو بكر بن مجاهد وهو أول من اختار الأئمة السبعة في القراءات: (كنت عند أبي العباس ثعلب، فقال لي يا أبا بكر: اشتغل أصحاب القرآن بالقرآن ففازوا، واشتغل أهل الفقه بالفقه ففازوا، واشتغل أصحاب الحديث بالحديث ففازوا، واشتغلت أنا بزيد وعمرو، فليت شعري ما يكون حالي في الآخرة؟
فانصرفت من عنده، فرأيت تلك الليلة النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال لي: أقرئ أبا العباس عني السلام، وقل له: إنك صاحب العلم المستطيل)
المستطيل أي المنتشر الذي يبلغ نفعه أهل التفسير والحديث والفقه.
وثناء العلماء عليه مشتهر معروف
وكان -رحمه الله - حريصاً على القراءة حتى إنه مات وهو يقرأ، كان يسير في طريق ومعه كتاب يقرؤه وقد بلغ تسعين عاماً فصدمته دابة فمات منها.
رحمه الله رحمة واسعة.
والمقصود من ذكر هذا المثال أن طالب العلم إذا رسم لنفسه خطة في القراءة وسار عليها بجد فإنه يحصل تحصيلاً عظيماً بإذن الله تعالى
وأهل العلم قد تنوعت مسالكهم في القراءة
فمنهم: من يقبل على قراءة كتب إمام من الأئمة فيعتني بها عناية بالغة حتى يكاد يحفظها لإدمانه قراءتها ومراجعتها ومعرفة مواضع المسائل فيها
كما فعل الإمام ثعلب مع كتب الفراء، وكما فعل الفقيه الحنبلي ابن مفلح مع رسائل ومسائل الإمام أحمد ، حتى كان مرجعاً فيها ، حتى إن شيخ الإسلام ابن تيمية وهو شيخه يسأله ويستفيد منه مع عظيم عناية شيخ الإسلام بأقوال الإمام أحمد وآثاره ، ولكن كان لابن مفلح في ذلك مزيد عناية مشهورة.
وكما فعل ابن القيم بكتب شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه حذقها ولخص أكثرها وله رسالة اسمها: (أسماء مؤلفات ابن تيمية)
وكما فعل الشيخ عبد الرحمن السعدي بكتب ابن تيمية وابن القيم فإنه اعتنى بها عناية كبيرة حتى إن أكثر علمه مستفاد من مدرسة شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم.
ومن أهل العلم من يجعل له في كل فن أصلاً يدمن قراءته حتى يكاد يحفظه ثم يضيف إليه من غيره بعض اللطائف والفوائد
- قال ابن فرحون: (لازمت تفسير ابن عطية حتى كدت أن أحفظه)
- وكان الزركشي يلقب بالمنهاجي لكثرة عنايته بمنهاج الطالبين للنووي.
- والعلامة الكافِيجي شيخ السيوطي لقب بذلك نسبة إلى الكافية لابن الحاجب لكثرة قراءته وإقرائه لها.
وغيرهم كثير
وفي هذا المعهد سنحرص على تقديم خطة أولية يتدرج بها طالب العلم في القراءة حتى تتضح له المسالك التي تناسبه وتلائمه ، ويعرف كيف ينتفع من قراءة الكتب ويحذر من الأخطاء الشائعة لدى كثير من القراء حتى يحصل بإذن الله تحصيلاً مباركاً نافعاً.
وهذا المسار المهم لا يتعارض مع مسار دراسة المتون العلمية والتدرج فيها بل هو رافد مهم له.
فمن أحب أن يلتحق بهذا البرنامج وهو برنامج القراءة المنظمة فليسجل اسمه هنا.
وسنقوم في هذا القسم باقتراح عدد من الرسائل والكتب المهمة مراعين في ذلك التدرج العلمي والتنوع بين العلوم والعناية ببعض الرسائل والكتب المهمة التي لا ينبغي لطالب العلم أن يغفلها.
وليعلم الطالب أن الطريق في أوله يحتاج إلى صبر ومجاهدة وطول نفَس ومران حتى ينطلق بإذن الله في مضمار القراءة مستفيداً ومفيداً.