قال الله تبارك وتعالى { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }القصص 83
جاءت تلك الآية عقب ذكر الله تعالى قصة قارون وما آتاه الله من نعيم الدنيا وما ختم له فيها بخسف داره وملكه وسلطانه وفي الآخرة أشد عذابًا وأبقى نسأل الله العافية .
وابتدىء الكلام باسم الإشارة لتشويق السامع لمعرفة المشار إليه .
والدار الآخرة هي الجنة التى قال الله تبارك وتعالى في وصفها في الحديث القدسي الذي رواه البخاري ومسلم ولفظه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وفي بعض رواياته: ولا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل.
والدار هي محل السكنى ووصفت بالآخرة لأنها الدائمة التى لا دار بعدها وقد ذكرت الجنة هنا بهذا الاسم لمناسبة ذكر دار قارون التى خسف الله بها الأرض لمقابلة تلك الدار الزائلة بالدار الخالدة ،
والدنيا مهما بلغ المرء فيها من النعيم لا يساوي مثقال ذرة من نعيم الآخرة عن سهل بن سعد – رضي الله عنه قال : قال رسول الله صل الله عليه و سلم : لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء .وقال الله تبارك وتعالى {وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَزُخْرُفًا ۚ وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ }
فتأمل نعيم الدنيا بكل ما فيها وقدر ما يحصل المرء من لذاتها لا يساوى شيئًا مقابل نعيم الآخرة ومقابل غمسة واحدة في نار جهنم ففي صحيح مسلم من حديث أنس رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( يؤتي بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيصبغ في النار صبغة واحدة ويقال له يابن آدم هل رأيت نعيمًا قط ؟ هل رأيت خيرًا قط ؟هل مر بك نعيم قط ؟ فيقول لا والله ما رأيت نعيم قط ولا رأيت خير قط
أنساه شقاء العذاب كل نعيم ورخاء ولذلك فسيتمنى الكافر أن ينجو من عذاب النار ولو قدم لله ملء الأرض ذهباً كما قال الله تبارك وتعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ }[آل عمران:91]
تلك الدار الآخرة ، الجنة ، منتهى النعيم الذي لا يفنى ، يجعلها الله تعالى لمن ؟
{ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا }
والعلو في الأرض هو التكبر عن الحق وعلى الخلق وهو الطغيان في الأعمال وقال الكلبي، ومقاتل: استكباراً عن الإيمان، وقال عطاء: علواً أي استطالة على الناس وتهاوناً بهم. وقال الحسن: لم يطلبوا الشرف والعز عند ذي سلطان.
والكبر من الأخلاق الرذيلة التى بغضها الله تبارك وتعالى قال الله تعالى { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}.(لقمان
) وكذا قوله تعالى { لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} النحل
والكبر سبب طرد ابليس من رحمة ربه قال الله تعالى{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ }الأعراف
ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر كما ذكر في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أصل كل الشرور وسبب كل طغيان وفي مقابله التواضع والخضوع للحق وما تواضع عبد لله إلا رفعه الله وزاده عزًا وشرفا وما تكبر عبد إلا أعقبه الله ذلًا وهوانًا
وكيف يتكبر من عرف أصل خلقته وعلم فقره وضعفه مقابل غنى ربه خالقه وكيف يتكبر من علم تقلب الأيام والأحوال وأن كل ذلك بيد الملك { قلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
والفساد والفساد : ضد الصلاح ، وهو كل فعل مذموم في الشريعة أو لدى أهل العقول الراجحة و قال الكلبي: هو الدعاء إلى عبادة غير الله. وقال عكرمة: أخذ أموال الناس بغير حق. وقال ابن جريج ومقاتل والثوري: العمل بالمعاصي وقيل هوقتل الأنبياء والمؤمنين وانتهاك حرمتهم .ولا خلاف في تلك المعاني فكلها يكمل بعضها بعضا وهي أمثلة لأنواع العمل بالفساد في الأرض
ومعنى{ لا يريدون }كناية عن أنهم لا يفعلون ،فهم ليس لهم إرادة في ذلك فكيف إذا يعملون على الإفساد والعلو في الأرض والتكبر على الخلق ،و لزم في مقابل ذلك، أن تكون إرادتهم مصروفة إلى اللّه، وقصدهم الدار الآخرة، وحالهم التواضع لعباد اللّه، والانقياد للحق والعمل الصالح وهؤلاء هم المتقون الذين جعل الله العاقبة لهم .
قال الله تعالى {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }
وَالْعَاقِبَةُ أي حالة الفلاح والنجاح، التي تستقر وتستمر
"والعاقبة للمتقين"، أي: العاقبة المحمودة لمن اتقى عقاب الله بأداء أوامره واجتناب معاصيه.وقال قتادة: الجنة للمتقين. .
وفي معنى التقوى قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : (( التقوى هي الخوف من الجليل ، والعمل بالتنزيل ، والقناعة بالقليل ،والإستعداد ليوم الرحيل )).
و قال ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى : (( اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ )) (آل عمران :102)
قال :أن يطاع فلا يعصي ويذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر.
وشكره يدخل فيه جميع فعل الطاعات ومعنى ذكره فلا ينسي ذكر العبد بقلبه لأوامرالله في حركاته وسكناته وكلماته فيمتثلها ولنواهيه في ذلك كله فيجتنبها .
وقال طلق بن حبيب رحمه الله :التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال :تمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما يكون حجابا بينه وبين الحرام فإن الله قد بين للعباد الذي يصيرهم إليه فقال : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) فلا! تحقرن شيئامن الخير أن تفعله ولا شيئا من الشر أن تتقيه.
ولهذا علم من هذا الحصر في الآية الكريمة، أن الذين يريدون العلو في الأرض، أو الفساد، ليس لهم في الدار الآخرة، نصيب فليتأمل عباد الله تلك المعان ولينظر كل منا في قلبه وإراداته وما يحب وما يطمع
فقد يبدو من مظهرك وسعيك يا طالب العلم أنك تريد الدار الآخرة ولكن قلبك يريد بهذا العلم الظهور والتفوق على الأقران
وآخر يريد أن يكون أفضل من جاره في المال والولد وآخر يريد الجاه والسلطان وأن يسوس الناس عبيد له
ولقد علم أن الطريق إلى الله تعالى يقطع بالقلوب لا بالأبدان ((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ )).
فوجب على المؤمن الساع لله والدار الآخرة أن يكون همه رضا ربه ولا يكون همه الغنى والعلو في الأرض ولا يطمع في الدنيا بل يأخذ منها قدر حاجته وكفايته وأن يريد الخير بعباد الله فيحمل في قلبه حب الخير للخلق جميعًا ولا يعنى ذلك عدم السعي في الدنيا والعمل وبذل الأسباب بل كل ميسر لما خلق له وعلى المرء السعي والكسب ابتغاء رضوان الله وابتغاء الإنفاق في سبل الخيرات وفي هذا فليتنافس المتنافسون .
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير المرسلين
________________________________________________
تفسير القرآن العظيم ، يَحيى بن سلاَّم بن أبي ثعلبة البصري (ت: 200هـ- جمهرة العلوم
معانى القرآن ، أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) .جمهرة العلوم
تفسير ابن كثير - برنامج آيات
تفسير السعدي - برنامج آيات
تفسير ابن عاشور - برنامج آيات
تفسير البغوي - برنامج آيات