قوله: «ولا يجوز إخراجها إلا بنية» أي: ولا يجزئ إخراج الزكاة إلا بنية ممن تجب عليه.والدليل على ذلك أثري ونظري.
أما الأثر فقوله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} [الروم: 39] ، وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى».
وأما النظر؛ فلأن إخراج المال يكون للزكاة الواجبة، والصدقة المستحبة، ويكون هدية، ويكون ضماناً لمتلف، ولا يحدد نوع الإخراج إلا النية؛ فلا بد من النية عند إخراج الزكاة، فينوي إخراجها من ماله المعين، فإذا كانت عروض تجارة نواها عروض تجارة، وإن كانت نقدية نواها نقدية، وهكذا.وبناء على هذا لو أخرج رجل الزكاة عن آخر بدون توكيل فإنها لا تجزئ؛ لعدم وجود النية ممن تجب عليه.وظاهر كلام المؤلف أنها لا تجزئ، وإن أجاز ذلك من تجب عليه الزكاة وهذا هو القول الأول.ودليله أن النية إنما تكون ممن خوطب بها، والدافع قبل أن يُوَكَّلَ ليس أصلاً ولا فرعاً، ولذلك فإنها لا تجزئ؛ لأن النية لا بد أن تقارن الفعل.
والقول الثاني: أنه إذا أجاز ذلك من تجب عليه الزكاة، فإنها تجزئ.ودليله أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أجاز لأبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ الدفع لمن جاء إليه، وقال: إنه فقير، مع أن أبا هريرة ـ رضي الله عنه ـ كان وكيلاً في الحفظ فقط، وليس في الإعطاء، فأجازه النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ ولأن منع التصرف لحق الغير، فإذا أجازه ورضي فما المانع من قبوله لكن تبقى مشكلة النية، فيقال: بأن النائب قد نوى، وهذا النائب لو أذن له المالك قبل التصرف صح، فكذا إذا أذن له بعد التصرف كان صحيحاً، وهذا هو الأقرب، ولكن القول الأول هو الأحوط.وإنما نص المصنف على النية لئلا يقول قائل: إنها كالدين لا تجب النية فيه، فلو كان عليك دين لإنسان عشرة دراهم، ثم أعطيته الدراهم، ولم تنو شيئاً كان وفاء.
مسألة: هل يشترط التعيين، أي: عن المال الفلاني؟ مثال ذلك عندي ألف درهم، ومائة دينار، وعروض تجارة فأخرجت عشرة دراهم بنية الزكاة، ولم أعين، ومثال آخر عندي خمس من الإبل، وأربعون شاةً فأخرجت شاة بنية الزكاة، ولم أنوها للإبل أو الغنم، فالفقهاء قالوا بالإجزاء، مع أنهم يقولون: تجب في عين المال، لكن لها تعلق بالذمة.
مسألة: لو قال قائل: إن الله تعالى يقول: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وإذا دفعها شخص عن آخر ليرجع بها لم تؤخذ الزكاة من مال صاحبها؟
فالجواب: أن يقال: إن المقصودَ إخراجُ ما يجب، وأما قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} فهو لبيان أن الزكاة فيما يملكه الإنسان.
وَالأْفْضَلُ أَنْ يُفَرِّقَهَا بِنَفْسِهِ .........
قوله: «والأفضل أن يفرقها بنفسه» أي: الأفضل أن يفرق من تجب الزكاة عليه زكاة ماله بنفسه أي: يباشر ذلك، وذلك لثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن ينال أجر التعب؛ لأن تفريقها عبادة.
الوجه الثاني: أن يبرئ ذمته بيقين، فإن الوكيل قد يتهاون بعض الشيء في إعطائها من لا يستحق أو في المبادرة بصرفها، أو يتهاون فتتلف عنده، أو غير ذلك.
الوجه الثالث: أن يدفع عنه المذمة، لا سيما إذا كان غنياً مشهوراً، ولا يعرف الناس له وكيلاً فيذمونه، ويقولون: إن فلاناً لا يزكي.
وقوله: «الأفضل» يُعلم منه أنه يجوز أن يوكل من يخرجها عنه سواء دفعها الوكيل من ماله، أو أعطاها من تجب عليه الزكاة ليخرجها.
فمثال الصورة الأولى: أن يقول من تجب عليه الزكاة لوكيله: عليّ مائة ريال مقدار زكاتي فأخرجها.
ومثال الصورة الثانية: أن يقول من تجب عليه الزكاة لوكيله: خذ هذه المائة مقدار زكاتي فأخرجها عني.
مسألة: ويجوز دفعها للساعي الذي يأتي من قبل الحكومة بشرط أن نثق أنها تصرف في مصارفها، فإن لم نثق فلا ندفعها، إلا أن نخاف رجوعهم علينا وطلبها إذا لم ندفعها لهم، فندفعها وإن غلب على ظننا أنها لا تصرف في مصارفها.ويكون الإثم في هذه الحالة على الساعي؛ لأنه لم يصرفها في مصرفها.
وقوله: «يفرقها بنفسه» يتفرع عليه مسألتان هما:
المسألة الأولى: هل الأفضل أن يفرقها سراً أو علانية؟الصحيح أن ينظر للمصلحة، فإذا كانت المصلحة في الإعلان أعلن، وإذا كانت في الأسرار أسر.
وإن كانت المصلحة في أن يعلن عن زكاة بعض ماله حتى يقتدي الناس به، ثم يسر في زكاة باقي ماله فليفعل؛ لأن الأصل في إخراج المال سواء كانت زكاة أو صدقة الإسرار، حتى لا يقع الإنسان في الرياء، وأنه بذلها ليقال: فلان كريم، وعليه فالمراتب ثلاث:
الأولى: أن يترجح الإظهار كما إذا كان المقام عاماً كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم لما جاءه جماعة من مضر، فجعل الناس يتصدقون علناً وأثنى النبي صلّى الله عليه وسلّم على من ابتدأ بالصدقة، بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» ولما فيه من تشجيع الأمة على فعل الخير.
الثانية: أن يترجح الأسرار.
الثالثة: ألا يترجح هذا ولا هذا، فالإسرار أفضل لأمرين:
1 ـ أنه أبعد عن الرياء.
2 ـ أنه أستر لحال المعطى والدليل على هذا أن الله أثنى على المتصدقين الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية.
المسألة الثانية: هل يُعلم المزكي الآخذَ أن هذه زكاة أم لا يعلمه؟
الجواب: فيه تفصيل إذا كان الآخذ معروفاً أنه من أهل الزكاة فلا يخبره؛ لأن في ذلك نوعاً من الإذلال، والتخجيل له.
وإن كان الآخذ لا يُعلَمُ أنه من أهل الزكاة فليخبره المزكي بأن هذا المال زكاة، فإذا كان ذلك الفقير لا يقبل الزكاة لأن بعض الناس عنده عفة لا يقبل الزكاة، فهنا نقول له: هذه زكاة لأنه إذا كان لا يقبلها فإنها لا تدخل ملكه؛ لأنه من شرط التملك القبول وهذا لا يقبل، ونقول لمن يريد نفع هذا الفقير العفيف: أعطه صدقة تطوع وأنت مأجور، أما أَنْ تدخل ملكه ما لا يريده فهذا لا يجوز.
وَيَقُولُ عِنْدَ دَفْعِهَا هُوَ وآخِذُهَا مَا وَرَدَ.........
قوله: «ويقول عند دفعها هو وآخذها ما ورد» يحتمل أن تكون «ويقول» منصوبة بالفتحة عطفاً على «يفرق»، ويحتمل الرفع على الاستئناف، أي: يقول المزكي عند دفع زكاته، ومستحق الزكاة عند أخذ الزكاة ـ هو وآخذها ـ فيقول المزكي ما ورد من الآثار والأدعية؛ ومن ذلك:«اللهم تقبل مني إنك أنت السميع العليم» . وقيل: يقول: «اللهم اجعلها مغنماً ولا تجعلها مغرماً» وهذا الحديث ضعيف.أما الآخذ فيقول: «اللهم صل عليك» أو يدعو بما يراه مناسباً؛ وذلك لأن الله تعالى قال لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [براءة: 103] أي: ادع لهم، ثم علل الله سبحانه وتعالى الصلاة بقوله: {إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} أي تسكن قلوبهم ويطمئنون ويرضون.
وَالأْفْضَلُ إخْرَاجُ زَكَاةِ كُلِّ مَالٍ فِي فُقَرَاءِ بَلَدِهِ وَلاَ يَجُوزُ نَقْلُهَا إِلَى مَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ ..........
قوله: «والأفضل إخراج زكاة كل مال في فقراء بلده» وذلك لوجوه:
أولاً: أنه أيسر للمكلف؛ لأن في نقلها من بلد إلى آخر مشقة وكلفة.
ثانياً: أنه أكثر أماناً؛ لأن في السفر عرضة لتلفها.
ثالثاً: أن أهل البلد أقرب الناس إليك، والقريب له حق، الأقربون أولى بالمعروف.
رابعاً: أن فقراء بلدك تتعلق أطماعهم بما عندك من المال، بخلاف الأبعدين، فربما لا يعرفون عنك شيئاً.
خامساً: أنك إذا أعطيت أهل بلدك، يغرس بينك وبينهم بذرة المودة والمحبة، وهذا له أثر كبير للتعاون فيما بين أهل البلد.
وقوله: «في فقراء بلده» ليس على سبيل التعيين بل وغيرهم من المستحقين للزكاة.
وقوله: «الأفضل» يدل على أنَّ إخراجها في غير فقراء بلده جائز، ولكنه مفضول.
وهنا يجب أن تعلم أنه إذا كان الفقراء خارج بلدك أحوج، أو كانوا أقارب فهم أولى، لكن يجب أن تعلم أيضاً أن هذا إذا كان البلد قريباً لا يسمى السَّيْرُ إليه سفراً، أما إذا كان بعيداً فقد قال فيه المؤلف:
«ولا يجوز نقلها إلى ما تقصر فيه الصلاة» أي: لا يجوز أن تنقلها إلى بلد بينه وبينك مسافة قصر، وهي على المذهب ثلاثة وثمانون كيلو متراً تقريباً، فالبلد الذي بينك وبينه هذه المسافة لا يجوز أن تنقل زكاة مالك إليه، ولو كان الفقراء فيه أشد حاجة ما دام في بلدك من يستحق الزكاة.وظاهر كلام المؤلف أنه لا يجوز ولو لمصلحة، أو شدة ضرورة، أو ما أشبه ذلك.فتبين بذلك أن هناك ثلاثة مواضع:
أولاً: بلدك، وهذا هو الأصل، وهو الأفضل بالنسبة لإخراج الزكاة.
ثانياً: البلد القريب من بلدك، وهذا جائز، لكنه مفضول ما لم يترجح لمصلحة أخرى.
ثالثاً: البلد البعيد الذي فوق مسافة القصر، فهذا لا يجوز.
وهذا الأخير ليس فيه دليل واضح فإنهم استدلوا بحديث معاذ ـ رضي الله عنه ـ حين بعثه النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى اليمن وقال له: «أعلمهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم» والإضافة تقتضي التخصيص؛ أي: فقراء أهل اليمن؛ ولأن الأطماع تتعلق بهذا المال.
وقال بعض العلماء: يجوز نقلها إلى البلد البعيد والقريب للحاجة أو للمصلحة.
فالحاجة مثل ما لو كان البلد البعيد أهله أشدُّ فقراً.
والمصلحة مثل أن يكون لصاحب الزكاة أقارب فقراء في بلد بعيد يساوون فقراء بلده في الحاجة، فإن دفعها إلى أقاربه حصلت المصلحة وهي صدقة وصلة رحم.
أو يكون ـ مثلاً ـ في بلد بعيد طلاب علم حاجتهم مساوية لحاجة فقراء بلده.
وهذا القول هو الصحيح وهو الذي عليه العمل؛ لعموم الدليل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] أي: للفقراء والمساكين في كل مكان.
أما إضافة الضمير «هم» في حديث معاذ فيحتمل أن تكون للجنس؛ أي: فقراء المسلمين، كما هي في قوله تعالى:{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} ...} إلى أن قال: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31] ، ويحتمل أن تكون للتعيين والتخصيص، لكن نظراً لأن نقل الزكاة من اليمن إلى المدينة ـ مثلاً ـ فيه شيء من الصعوبة والمشقة فصار توزيعها في اليمن أرفق وأنفع، وأيضاً ما الدليل على التفريق بين مسافة القصر وغيرها، ما دمت نقلتها عن بلد تتعلق فيها الأطماع؟فإن قالوا: إن ما دون مسافة القصر في حكم الحاضر، فيقال: هذا في حكم الصلاة.
مسألة: حكم زكاة الفطر حكم زكاة المال بالنسبة للنقل إذا كان هناك حاجة أو مصلحة.
مسألة: قبض عمال الإمام للزكاة من أهلها ونقلهم لها إلى بلد آخر، لا بأس به؛ لأنها قبضت في بلد المزكي، والإمام نائب عن الفقراء.
فَإِنْ فَعَلَ أجزَأت، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي بَلَدٍ لاَ فُقَرَاءَ فِيهِ فَيُفَرِّقُهَا فِي أقْرَبِ البِلاد إِليهِ........
قوله: «فإن فعل أجزأت» أي: إن نقلها إلى مسافة القصر فأكثر أجزأت، ولكنه يأثم.
فإذا قال قائل: القاعدة عندنا أن المحرم لا يجزئ.فنقول: التحريم هنا ليس عائداً على الدفع، بل عائد على النقل وإلا فقد دفعت إلى أهلها فتجزئ، ويكون آثماً للنقل.
والتحريم الذي يقتضي الفساد هو ما عاد على عين الشيء مثل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة بعد العصر» فإن صلى فلا تصح صلاته إلا ما استثني، فهناك فرق بين أن يتعلق التحريم بنفس العبادة، وأن يتعلق بأمر خارج عنها.
قوله: «إلا أن يكون في بلد لا فقراء فيه فيفرقها في أقرب البلاد إليه» هذا مستثنى من قوله: «ولا يجوز نقلها إلى ما تقصر فيه الصلاة» .
والضمير في قوله: «إلا أن يكون» يعود إلى «المال» بدليل قوله: «والأفضل إخراج زكاة كل مال» ، يعني إلا أن يكون المال في بلد لا فقراء فيه.
وقوله: «لا فقراء» هذا مبني على الأغلب، والعبارة العامة أن يقول: إلا أن يكون في بلد لا مستحق للزكاة فيه، من أجل أن يشمل جميع الأصناف؛ لأنه قد لا يكون فيه فقراء، ويكون فيه مستحق بغير الفقر.
وقوله: «فيفرقها» : بالرفع؛ لأن الفاء هنا استئنافية، وليست عاطفة، والمراد به من عليه الزكاة.
وقوله: «في أقرب البلاد إليه» : وجه ذلك أنه عدم المستحق في الموضع الذي يجب فيه دفع الزكاة فسقط الوجوب فيه، فيفرقها في أقرب البلاد إليه؛ لأن الأقربين أحق من الأباعد، وكما لو قطعت الكف فإنه يسقط السجود عليه في حال الصلاة؛ لأن المحل الذي يجب السجود عليه قد زال، ويحتمل أن نقول: يجب عليه أن يضع طرف الذراع على الأرض؛ لأن المقصود هو الخضوع لله عزّ وجل.وظاهر قول المؤلف: «يفرقها في أقرب البلاد إليه» وجوب ذلك، وهذا الذي مشى عليه الأصحاب.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا تعذر في بلده فإنه يفرقها حيث شاء؛ لأنه سقط الأصل، وإذا سقط الأصل لم يتعين شيء، ولأن أهل البلد أغنياء لا تتعلق أطماعهم بالمال، وغير أهل البلد لا يعلمون عنه شيئاً، ونظير ذلك أن المرأة المحد يلزمها البقاء في بيتها، فإذا جاز لها الانتقال عن البيت لضرورة فإنها تعتد حيث شاءت، ولا يلزمها أن تعتد في أقرب بيت إلى بيتها الأول.وقال بعضهم: تكون في أقرب بيت إلى بيتها الأول، كالزكاة إذا تعذر المكان الأصلي صرفت في أقرب بلد.
والمذهب يفرقون بين المسألتين فالحاد تعتد حيث شاءت، وفي مسألة الزكاة إذا لم يكن في البلد فقراء تفرق في أقرب البلاد، وسبق أن قلنا: إن الراجح في هذه المسألة أنه يجوز نقلها للحاجة أو للمصلحة.وعلم من قوله: «فيفرقها» أن مؤونة النقل على صاحب المال، لا من الزكاة، فإذا قدر أن الزكاة لا تحمل إلى هذا البلد الذي فيه الفقراء إلا بمؤونة، فلا تخصم المؤونة من الزكاة؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وقد وجب عليه إخراج الزكاة فيجب أن يوصلها إلى مستحقيها.
فَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ، وَمَالُهُ فِي آخَرَ أخْرَجَ زَكَاةَ المال فِي بَلَدِهِ، وَفِطْرَتَهَ فِي بَلَدٍ هُوَ فِيهِ، وَيَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ لِحَوْلَيْنِ فَأَقَلَّ،.........
قوله: «فإن كان في بلد وماله في آخر أخرج زكاة المال في بلده، وفطرته في بلد هو فيه» أي: إذا كان صاحب المال في بلد، وماله في بلد آخر، ولا سيما إذا كان المال ظاهراً كالمواشي والثمار، فإنه يخرج زكاة المال في بلد المال، ويخرج فطرة نفسه في البلد الذي هو فيه؛ لأن زكاة الفطر تتعلق بالبدن، والمال زكاته تتعلق به، فالذين يذهبون إلى العمرة في رمضان ويبقون إلى العيد الأفضل أن يؤدوا الزكاة في مكة، وكما أنه الأفضل من حيث الإخراج فهو الأفضل من حيث المكان؛ لأن مكة أفضل من كل بلد وأيضاً من حيث الأهل؛ لأن الغالب أن الفقراء في مكة أكثر وأحوج.
مثال ذلك: رجل ساكن في مكة، وأمواله التي يتجر بها في المدينة، فنقول له: أخرج زكاة المال في المدينة، وفطرتك في مكة؛ لأن زكاة المال تبع للمال، والفطرة تابعة للبدن.
قوله: «ويجوز تعجيل الزكاة لحولين فأقل» الأقل من الحولين هو حول واحد، أي: يجوز للإنسان أن يعجل الزكاة قبل وجوبها، لكن بشرط أن يكون عنده نصاب، فإن لم يكن عنده نصاب، وقال: سأعجل زكاة مالي؛ لأنه سيأتيني مال في المستقبل، فإنه لا يجزئ إخراجه؛ لأنه قدمها على سبب الوجوب، وهو ملك النصاب.
وهذا مبني على قاعدة ذكرها ابن رجب ـ رحمه الله ـ في القواعد الفقهية، وهي (أن تقديم الشيء على سببه ملغى، وعلى شرطه جائز).
مثال ذلك: رجل عنده (190) درهماً فقال: أريد أن أزكي عن (200) فلا يصح؛ لأنه لم يكمل النصاب فلم يوجد السبب، وتقديم الشيء على سببه لا يصح.
فإن ملك نصاباً، وقدمها قبل تمام الحول جاز؛ لأنه قدمها بعد السبب وقبل الشرط؛ لأن شرط الوجوب تمام الحول.
ونظير ذلك لو أن شخصاً كفر عن يمين يريد أن يحلفها قبل اليمين ثم حلف وحنث، فالكفارة لا تجزئ؛ لأنها قبل السبب، ولو حلف وكفر قبل أن يحنث أجزأت الكفارة؛ لأنه قدمها بعد السبب وقبل الشرط.والدليل على جواز تعجيل الزكاة أثري، ونظري.
أما الأثري: فما رواه أبو عبيد في الأموال بإسناده عن علي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم تعجل من العباس صدقة سنتين.
أي: قدم زكاة سنتين، ويعضده ما ثبت في الصحيحين «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعث عمر على الصدقة فرجع ومن معه فقالوا: منع ابن جميل، وخالد بن الوليد، والعباس بن عبد المطلب، أي: أبوا أن يعطوا السعاة الزكاة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أما خالد فإنكم تظلمون خالداً فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، وأما ابن جميل فما ينقم إلا أن كان فقيراً فأغناه الله» وهذا من باب تأكيد الذم بما يشبه المدح وهو أسلوب معروف ومنه قول الشاعر:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
=
بهن فلول من قراع الكتائب
«وأما العباس فهي علي ومثلها» .
لكن هذا الحديث هل المعنى فيه أن العباس قد عجل الصدقة سنتين، أو أن المعنى أن العباس ـ رضي الله عنه ـ لما كان ظاهرُ منْعِهِ احتماءَهُ بقرابته من النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأراد أن يضاعف الغرم عليه، ويكون هذا مثلَ قولِهِ فيمن منع الزكاة: «إنا آخذوها وشطر ماله» ؟
الجواب: الذي يظهر لي هو الثاني؛ لأن العباس ـ رضي الله عنه ـ لو كان قد عجل الصدقة لقال للسعاة: إنني قد أخرجتها أو قدمتها، ولا يقولون: منع العباس، وكانت هذه السياسةُ سياسةَ عدلٍ، وعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كان من سياسته إذا نهى الناس عن شيء جمع أهله، وقال لهم: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم ـ أي: إن الطير إذا رأى اللحم انقض عليه ـ وإني لا أعلم أن أحداً منكم عمل هذا إلا أضعفت له العقوبة، فيعاقب الناس مرة وقرابته مرتين؛ لأن هؤلاء سوف يحتمون بقرابتهم منه، وفي القرآن الكريم ما يشير إلى هذا قال الله تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} .
فالحاصل أن الذي يظهر لي: أن قوله في العباس رضي الله عنه: «هي علي ومثلها» من باب التضعيف عليه لكونه احتمى بقرابته من النبي صلّى الله عليه وسلّم، أما حديث أبي عبيد فإن صح فهو دليل مستقل لا علاقة له بهذه القصة.
وأما الدليل النظري؛ فلأن تعجيل الزكاة من مصلحة أهل الزكاة، وتأخيرها إلى أن يتم الوجوب من باب الرفق بالمالك، وإلا وجب عليه أن يخرج زكاته من حين ملك النصاب، كما وجب عليه إخراج زكاة الزرع من حين حصاده، فإذا كان هذا من باب الرفق بالمالك، ورضي لنفسه بالأشد، فلا مانع.
وقوله: «لحولين فأقل» يفهم منه أنه لا يجوز تعجيل الزكاة لأكثر من حولين.
وَلاَ يُسْتَحَبُّ........
قوله: «ولا يستحب» أي: لا يستحب تعجيل الزكاة؛ لأن الزكاة إنما تجب عند تمام الحول فإخراجها عند تمام الحول أرفق بالمالك؛ ولأنه ربما ينقص النصاب، أو يتلف ماله كله قبل تمام الحول، فلا تجب عليه الزكاة، فكان الأفضل ألا يعجلها.ولكن نفي الاستحباب لا يقتضي عدم ثبوته لسبب شرعي، مثل أن تدعو الحاجة للتعجيل كمعونة مجاهدين، أو لحاجة قريب، أو ما أشبه ذلك، فهنا استحباب تعجيلها ليس لذاته، وإنما لغيره، وهو السبب الطارئ الذي صارت المصلحة في تقديم الزكاة من أجله.
مسألة: لو عجل الزكاة لعام معين ثم نقص النصاب بعد التعجيل وقبل تمام الحول، فإن ذلك يكون تطوعاً ولا يجزئه عن غيره من الأعوام؛ لأنه نواه لذلك العام.
ولو عجل الزكاة ثم زاد النصاب فإنه تجب الزكاة في الزيادة أيضاً.
مسألة: لو أجبر على دفع المكوس والضرائب فهل يدفعها بنية الزكاة؟فيه خلاف بين العلماء:
ـ منهم من قال: يجوز أن يدفعها بنية الزكاة.
ـ وقال آخرون: لا يجوز؛ لأن هذا مما أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالصبر عليه، وإذا نوى الزكاة فإنه يدفع بذلك عن ماله فلا يتحقق له الصبر، وهذا هو الأقرب.