اختر مجموعة من المجموعات التالية وخرّج الأقوال فيها وبيّن حالها ووجّهها ورجّح ما تراه راجحاً في معنى الآية.
المجموعة الأولى:
( 1 ) قول مجاهد في تفسير قول الله تعالى: {تماماً على الذي أحسن} ، قال: على المؤمنين والمحسنين.
تخريج أثر مجاهد:
رواه الطبري وابن أبي حاتم وعبدالرحمن الهمذاني من طريق ابن أبي نجيح عنه بلفظ : (على المؤمنين) فقط.
ورواه الطبري عن المثنى عن أبي حذيفة عن شبل، عن ابن أبي نجيح عنه بلفظ:( المؤمنين والمحسنين).
الحكم على الرواية:
طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد رواها البخاري وغيره, ورواها كبار المفسرين مثل ابن أبي حاتم والطبري, ومع قول بعضهم بأنه لم يسمع من مجاهد , إلا إن طريقه أصح الطرق عن مجاهد لكون الواسطة معلومة وهو القاسم بن ابي بزة, وهو ثقة معروف .
قال ابن المديني: (أما التفسير فهو فيه ثقة يعلمه قد قفز القنطرة واحتج به أرباب الصحاح).
قال يحي بن سعيد القطان: (لم يسمع التفسير من مجاهد, وقال الذهبي معلقا على قوله: (وهو من اخص الناس بمجاهد).
وقال وكيع: (كان سفيان الثوري يصحح تفسير ابن ابي نجيح).
قال ابن تيمية: ( ليس بأيدي أهل التفسير تفسير أصح من تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد بن جبر).
توجيه قول مجاهد:
كأن مجاهد ذهب إلى أن (الذي) بمعنى (الذين) وتكون هنا بمعنى(من), فيكون معنى الآية: بأن الله أنزل الكتاب على موسى-عليه السلام- تفضلا منه على من أحسن وإتماما لفضله عليهم, ولعله اعتمد على ما جاء في مصحف ابن مسعود-رضي الله عنه- حيث قرأ:(تماما على الذين أحسنوا).
وقد وردت أقوال أخرى في معنى الآية نذكرها باختصار:
القول الأول: إن المراد ب(الذي أحسن) الله عز وجل, فتكون(الذي) بمعنى(ما), ويكون معنى الآية: تماما على إحسان الله إلى أنبيائه مما تفضل به عليهم من النبوات والنعم, وقال بعضهم: تماما على إحسان الله إلى موسى عليه السلام, لأن الله اختصه فكان كليم الله, وكان من أولي العزم من الرسل, وغيره مما فضله الله به.
القول الثاني: إن المراد به موسى عليه السلام, فيكون (الذي احسن) هو موسى عليه السلام, لأنه أحسن في تبيلغ الرسالة, وأحسن في الطاعة...
ومنهم من قال على إبراهيم عليه السلام, ومنهم من قال على جميع الأنبياء.
الراجح:
الراجح -والله أعلم-القول بأن الكلام يعود على موسى , لأنه الظاهر من سياق الايات, ومع هذا فالآية عامة فلا يعني هذا تعارض هذا القول مع ما ذهب إليه مجاهد, كلا; فهذا القول عام يدخل فيه قول مجاهد لأن نعمة إنزال الكتاب على الأنبياء -بشكل عام-لا تختص بهم, بل هي نعمة عامة تطالهم وتطال كل من آمن بهم واتبعهم بإحسان, فمقل منهم ومستكثر, وقد يشهد لهذا اللاحق من الآية حيث قال تعالى:{وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ}.
وهو ما رجحه الطبري حيث قال:(وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قول من قال: معناه: ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا لنعمنا عنده، على الذي أحسن موسى في قيامه بأمرنا ونهينا , لأن ذلك أظهرُ معانيه في الكلام, وأن إيتاء موسى كتابه نعمةٌ من الله عليه ومنة عظيمة. فأخبر جل ثناؤه أنه أنعم بذلك عليه لما سلف له من صالح عمل وحُسن طاعة).
وقال ابن عاشور:(والمَوْصُولُ في قَوْلِهِ: ﴿عَلى الَّذِي أحْسَنَ﴾ مُرادٌ بِهِ الجِنْسُ، فَلِذَلِكَ اسْتَوى مُفْرَدُهُ وجَمْعُهُ).
( 2 ) قول محمد بن كعب القرظي: ({منادياً ينادي للإيمان}: المنادي القرآن):
تخريج الأثر:
رواه موسى بن مسعود النهدي, ورواه الطبري, ورواه ابن ابي حاتم جميعا من طريق موسى بن عبيدة عنه.
الحكم عليه:
أكثر ما وصلنا من تفسير محمد القرظي هو عن طريق موسى بن عبيدة وهو ضعيف:
جاء في الطبقات الكبيرعنه:( كان ثقة كثير الحديث وليس بحجة) .
وجاء في الضعفاء للعقيلي: قول يحيى بن معين :(موسى بن عبيدة ضعيف يكتب من حديثه الرقائق).
وقول االبخاري فيه:( ... ولكني لم أخرج عن موسى بن عبيدة ولا أحدث عنه ولقد كتبت عن مكي عن قوم وددت أني كتبت عن غيرهم من الثقات غير موسى بن عبيدة...).
وقول أحمد:(لا تحل الراوية عن موسى بن عبيدة ، قيل : يا أبا عبد الله لا يحل ؟ قال : عندي).
وقول يحيى عنه:(موسى بن عبيدة الرَّبَذي مديني ضعيف).
توجيه قول محمد القرظي:
وتوجيه قوله-إن صح عنه- يوضحه ما جاء في الأثر نفسه من قوله, حيث قال:(هو الكتاب، ليس كلّهم لقي النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم).
وقال:(ليس كلّ النّاس سمع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، ولكنّ المنادي القرآن), لذا رجح الطبري قوله فقال:(...لأنّ كثيرًا ممّن وصفهم اللّه بهذه الصّفّة في هذه الآيات ليسوا ممّن رأى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ولا عاينه، فسمعوا دعاءه إلى اللّه تبارك وتعالى ونداءه، ولكنّه القرآن. وهو نظير قوله جلّ ثناؤه مخبرًا عن الجنّ إذ سمعوا كلام اللّه يتلى عليهم أنّهم قالوا: {إنّا سمعنا قرآنًا عجبًا يهدي إلى الرّشد}).
والقول الآخر في المراد ب(المنادي):
قول ابن عباس، وابن جريج، وابن زيد، ومقاتل, وجمهور المفسرين, حيث قالوا أنه النبي صلى الله عليه وسلم.
الراجح:
الراجح والله أعلم- أن لا تعارض بين القولين إنما هو من اختلاف التنوع, فالذي دعا ورفع صوته إلى الإيمان هو النبي -عليه الصلاة والسلام-فأما من سمعه مباشرة مما كان على عهده: فلا إشكال في الآية من جهتهم, أما من لم يسمعه مباشرة لكن سمعه بواسطة; فهؤلاء أيضا لا إشكال من جهتهم, فهم كما قال البي-عليه الصلاة والسلام- فيما رواه مسلم:(وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ), وأيضا ما جاء في سنن ابي داود من قول النبي عليه الصلاة والسلام:(تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن سمع منكم), وقوله كما عند البخاري:( بلغوا عني ولو آية) وقوله كما عند الترمذي:(نضر الله امرأً سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه)وغيرها.
فمن لم يسمع من النبي-عليه الصلاة والسلام-مباشرة سمع من ورثته وهم العلماء, ومن سمع القرآن فكأنما سمع النبي-عليه الصلاة والسلام- لأن ما بلغه النبي-صلى الله عليه وسلم- نزل عليه وحيا من كلام الله وهو القرآن, مع ما أوتي من الحكمة.
( 3 ) قول طاووس بن كيسان: (الحفدة الخدم ):
تخريج الأثر:
رواه الطبري عن ابن بشار عن عبدالرحمن, عن زمعة عن ابن طاوس عن أبيه.
الحكم على الأثر:
عبدالله بن طاوس ممن روى عن طاوس أبيه فأكثر, لكن الأثر فيه زمعة بن صالح وهو ممن اختلف حكم المحدثين فيه, فقد جاء في كتاب الكامل في ضعفاء الرجال:
قال عنه يحيى:(زمعة بن صالح ضعيف), وقال فيه في مرة أخرى:(زمعة صويلح الحديث ).
وقال البخاري فيه:( زمعة بن صالح المكي يروي عن سلمة بن وهرام ، وابن طاوس) ، وقال : (يخالف في حديثه) , وقال أحمد بن حنبل فيه: (ضعيف الحديث) .
قال عَمْرو بن علي: (زمعة بن صالح فيه ضعف في الحديث، وقد روى عنه عَبد الرحمن وسفيان الثَّوْريّ، وما سمعت يَحْيى ذكره قط، وشيوخ من البصريين قد رووا عن زمعة مثل عَبد الرحمن وأَبُو داود وبشر بن السري وأَبُو عامر، وَهو جائز الحديث مع الضعف الذي فيه).
وقال ابن حماد:يقول السعدي:(زمعة بن صالح متماسك)
ونذكر ما ورد من اقوال أخرى في المراد من (حفدة):
القول الأول: قال أصحابه بأن المراد هم الولد وولد الولد، قاله ابن عباس وعكرمة وابن زيد والضحاك، والحسن.
القول الثاني: بنو امرأة الرجل من غيره، وهو قول ثان لابن عباس، وقاله ابن زيد والضحاك.
القول الثالث: الأختان أو الأصهار، قاله ابن مسعود, قاله وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير, وأبو الضحى والنخعي.
توجيه القول:
لعل طاوس اعتد على المعنى اللغوي للكلمة , فقد قال ابن قتيبة الدينوري:( {بنين وحفدةً} الحفدة: الخدم والأعوان...وأصل الحفد: مداركة الخطو والإسراع في المشي. وإنما يفعل هذا الخدم. فقيل لهم: حفدة، واحدهم حافد، مثل كافر وكفرة.
وقَالَ أبو عبيد القاسم الهروي: (في حديث عمر رضي الله عنه
في قنوت الفجر قوله: وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك بالكفار ملحق.
قوله: نحفد، أصل الحفد الخدمة والعمل، يقال: حفد يحفد حفدا)., فهو تفسير بظاهر لغة العرب.
وقال الطبري:(...والحفدة في كلام العرب: جمع حافدٍ، كما الكذبة: جمع كاذبٍ، والفسقة: جمع فاسقٍ، والحافد في كلامهم: هو المتخفّف في الخدمة والعمل، والحفد: خفّة الرجل العمل، يقال: مرّ البعير يحفد حفدانًا: إذا مرّ يسرع في سيره...).
الراجح:
ما جاء عن طاوس يعد من أجمع الأقوال في المراد ب(حفدة), فمن تأمل الأقوال السابقة علم أن لا منافاة بينها البتة, بل يمكن القول بأنها تفسير بالمثال لما قاله طاوس, ويؤيد ذلك ما ذكرنا من استخدام الكلمة في لغة العرب, وعلى هذا فجميع من ذكروا في القوال هم في الغالب ممن يسارع في خدمة الشخص ويحرص على ذلك , خاصة ولده وولد ولده.
لذا رجح الطبري هذا القول خاصة إن الاية لم تعين نوعا من الحفدة دون نوع آخر, كما إن الاية في سياق الامتنان, فالأولى أن تكون على عمومها حتى تحصل كمال المنة على الجميع, خاصة عند وجود نوع دون باقي الأنواع لدى البعض.